قدم" كاليري أوترخت" معرضا لثلاثة فنانين هولنديين؛ رسامان ونحات، بينهم الفنان العراقي بشير، فكان الافتتاح يوم 6/9/2008 مناسبة لأن ترى تجاورا ملفتا للنظر بين فنانين لم تجمعهم إلا الثقافة الغربية، لقد هيمنت لوحات بشير على قاعات الكاليري الثلاث، وبدت الصالة كما لو أنها تحتفي بالفن العراقي لوحده حيث غاب الفنانان الهولنديان عن الحضور. يستمر المعرض لفترة شهر لينتقل بعدها إلى مدن هولندية أخرى. بشير مهدي الذي تعافى أخيرا من مرض، يطل علينا هذه المرة بروحية جديدة، هي تجسيده لرؤية الأفول، فيلجأ للعتمة والظلال الحادة والضوء القوي، ليضمخ فيها الأمكنة الآفلة وإنكسارات الأشياء، والمواقع الخربة، والروح المنسحبة، والبيت المطفأ الأضواء، والزوجة الغائبة إلا من فتاة صغيرة يحتضنها، ولروح المشفى وهو يشعرنا بألوانها وزهورها البيضاء بعد أن عرفناه محباً للأشياء، عاشقا للضوء، رومانسياً. هذه النقلة الجديدة منحتنا الفرصة أن نرى البعد الدرامي للأشياء، التي تتجاور فيها المفترقات دون أن تكون طبيعية أو إنسانية، لأنها الأشياء في احتدامها وشعريتها اليومية.
أربعة ثيمات يعتمدها بشير في كل لوحاته تقريباً:
الأرضية وقد أسقط عليها الملابس والأفرشة وجزأها إلى مقاطع بينها مربعات يغلب عليها اللون الأزرق .هذه الأرضية الداكنة هي العالم السفلي الذي تؤول إليه كل الأشياء فتمثل الأرضية سقفا يتلقى ما يسقط فوقه، لذا لا حركة غير حركة السكون والسقوط وقد ظهرت بتجاعيد على الأشياء.
النوافذ والأشياء من كراسي وأسرة وبقايا وقد حمأها في الضوء لتتجاوب شعريا مع مناخ الغرفة الكابي الذي غالبا ما يقترب من الليل، ولكن ليس الضوء ضوءا صناعيا، أنه الضوء الداخلي للأشياء. في هذه الأشياء تشعر أن محاورة كانت تجري معها، الآن كل شيء انتهى أدت أدوارها فانسكر بعضها وأهمل البعض الآخر وما عادت بالقوة نفسها.
الأشياء وهي مضطجعة كأنثى بعد الممارسة الجنسية، أشياء قلقة وغير مستقرة فتجدها كأنما تنفض تجربة قد مرت بها، ثمة حركة باطنية في أشيائه كما لو أنها تريد الهرب من قيودها الذاتية لكنه يمسكها بما يثقلها ويشدها إلى الأرض.
المزج بين المنظور واللا منظور في اللوحة بحيث لا تعرف أحيانا مصادر الضوء، أو الأفق الذي تدور فيه الدراما. وهنا نجده روحيا وماديا، ثمة عوالم خفية تتجاور مع عوالم مادية بارزة، المهيمنة الروحية هي الأقوى حضورا ومادة وأثرا وقوة.
لقد غيرت الحالة الجديدة للفنان بشير من سياقات حساسيته السابقة التي تعتمد الاستجابة لمعطيات الأشياء والتي كان يقتنص لها الضوء ويجلبه عنوة من الخارج لغرفته وأشيائه، لتبرز أنوارها من روح الأشياء المتألقة عبر اللون والمادة، حتى لتشعر أن حساسيته اللونية الجديدة قادرة على منحك الكثير من الراحة والتأمل، وبالرغم من انسحاب ألوانه إلى العتمة، وترصده للأشياء المتكسرة الآيلة للموت، ما يزال تدفق بشير بالروحية القديمة نفسها، محب للأشياء الأليفة، عاشق لجمالها الداخلي عارف بتفاصيلها ومدقق بنسبها. فالبيئة الفنية في هولندا وجدت تأثيراتها على الفنانين العراقيين بسير ربما للطبيعة المائية تأثير في ذلك، وربما لطبيعة الهولنديين الفلاحية وتسامحهم وروحهم المرحة، تجد ذلك في نظافة اللون وحساسيته واستثمار قيمه وتدرجاته، وصفاء البنية والكتل، ومع ذلك تجد أن اللوحة في هذا المعرض تستجيب لوضعية الفنان الصحية، ربما وهو المشغول بالهم العراقي قد وجدت لوحاته صدى مؤلما لما يحدث في العراق بعد أن فقدنا الأمل بالتغيير، وربما وهذا شيء منطقي أن لا يعيد الفنان موضوعاته إلا بعد أن يقيس أثر الزمن عليها، شأنها شأنه الإنسان لابد من شيخوخة لها، أشياء كثيرة يبثها خطاب اللوحة الدرامي وهو ينشئ لنا سياقات تعتمد المخاطبة الدرامية المباشرة، وتحاكي ليس الذائقة الأوربية، وإنمّا الذائقة الشرقية أيضا حيث ما يزال يعتمد الديكور الذي أتى عليه الخراب، والمساحات الكبيرة الخالية من المارة، والأشياء الصامتة التي دبَّ عليها القِدَمْ والتي لم تستعمل منذ فترة، والزوايا الحادة التي تتخثر فيها الأردية والكراسي، والأرضية المتربة التي تفترش لوحاته دون أثر لقدم أو يد. في إحدى لوحاته الكبيرة نجد مجموعة من الشخصيات كما لو كانوا في وليمة أو احتفال مسيحي، لوحة تستثمر طاقة الظلال والضوء بطريقة عالية حيث ركز الضوء على الفتاة الشرقية وهي تحتل وسط اللوحة بحيث تراك أينما تتحرك، أنها عين الكاميرا التي تتبع خطوات الزمن فينا، في حين أن بقية الشخوص يدورون في فلك الرؤية المحورية للفتاة. هذه اللوحة التي تنتمي لثقافة القرن التاسع عشر كانت واحدة من إضاءات بشير المهمة في البيئة الهولندية إن لم تكن ثمرة لها.
في بنية اللوحة ثمة تعامل هندسي واضح، خطوط صارمة ليركب منها المربع والمثلث ومستطيلات الضوء القادم من الطبيعة، المناخ الأوربي بطبيعة شرقية، ثمة معادلات ورياضيات تتحكم بدقة المقاسات المضبوطة، هذا التعامل الدقيق يمنحك شعورا بالتقنية والإتقان، حيث رصد انفعالات الأشياء وحركتها الذاتية وطيات الأقمشة وتناسق الأشياء وتوزيع الضوء، تفصح عن حساسية شعرية بالأشياء تبعده عن الانطباعية وتدخله في مناخ لوحة الصالة الغربية التي تدمج بين تركيبة الضوء وتركيبة النور، إنه هنا يتجاوب وغياب الروح الكلية التي تتعامل مع مكونات كبيرة في الثقافة الغربية كالموت والقبور والجماجم، فيستجيب لهيمنة جزئيات المادة للأشياء فتضفي حضورا قويا على اللوحة الحديثة، ففي الوقت الذي يتركز الضوء فيها على بقع بؤرية في اللوحة، ومنها تتوزع بقية تدرجاته على أجزاء اللوحة، يخلق كتلا أقل إضاءة من تراكم المشاعر الثانوية والتي تستطيع أن تتلمس بصريا التأثيرات الغربية عليها، فثيمة القبر، الغرف المظلمة، الأشياء المهملة، تمنح الرسام مسحة تراثية وتاريخية، أنها أشياء مجربة وليست خامة أو جديدة، أشياء مرت عليها التواريخ والممارسة وهو ما يتلاءم وسياق حياته المتقلبة، إنه هنا يكبت ويستبطن.
في هذا المعرض نجده يعتمد على ما تبقى من ضوء الأشياء الداخلي، شعرية الروح، وقد تجسد ذلك كله في لوحة القبر التي هي محاكاة لسمفونيات عالمية كثيرة حببت القبر والعيش فيه، كما لو كان حياة مستقلة قائمة بذاتها، جمجمة وأشياء، وصندوق خشبي في وضع من يتأمل العالم من داخل كوة معتمة فلا نجد غير حوار صاخب بالصمت على أفرشة مضيئة ونظيفة - تعامل بشير مع الجمجمة في لوحة رسمت عام 1997 أيضا– فالموت الذي اقترب منه كثيرا بدأ يأكل الجسد، بينما الروح تحلق وتنتشر وتنثر في الأشياء، هل هي محاكاة لنجاته من أزمة ورم الدماغ؟ أم أن أفولا ما يستجير بنا جميعا كي نوطن أنفسنا لكارثة الحياة الثانية؟.
الديكور، الحيطان، الأشياء البيتية، الأفرشة، الستائر، الأسرة، الشراشف، النوافذ، الطاولات، الكراسي، الأشياء المهيكلة، القطط،، خارج النوافذ، داخل الأسرة، الأفق، الممرات، الأبواب، الأعمدة، الطابوق، الحواف، الأخشاب المتكسرة، التلف، العثة، موت الأشياء، أنسنة الأشياء، الصدأ، كل هذه الأشياء وغيرها هي في موضع الرؤية المأساوية للوحته، ولذا نجدها تتجزأ وتتشظى، ليس رغبة في أن تكون لوحته لوحة الصالة الغربية فقط، وإنمّا لأنه لا يستطيع إلغاء أية جزئية مارست الحياة معه. لذا يقول في إحدى عنوانات لوحته: إنها جزيرتي. تماشيا مع قنوات وجزر هولندا التي يتشبع بها أي فنان. فبشير كائن حي يعيش حساسية الأشياء في نموها وذبولها.
لا تملك الصالات القديمة روحية مكانية فقط بل هي دالة على مستويات طبقية تحاول أن تنقل الحياة اليومية للصالة كجزء من احتواء العالم الخارجي في البيوت الأرستقراطية، اليوم ينقلنا بشير إلى خرائب الروح وهو يؤنسنها، إلى أمكنة غرفه القديمة وقد رسمها يوما ما ثم لما هدمت، رسمها أيضا بانكساراتها وعبثيتها وأخشابها المتدلية، هذه الرؤية الفوتوغرافية التي تؤنسن لنا الأشياء تحيلنا إلى أعماقها، إلى الطبيعة المختفية، إلى اللا طبقية، حيث اللوحة هنا لا تحاكي مشاعر فئة أو تنتمي لفئة، وهو ما يغاير فنون الصالات القديمة ويستجيب لفنون الصالات الحديثة التي أصبحت اللوحة فيها غير مرتبطة بأية طبقة أو فئة بقدر ارتباطها بحساسية الفنان وموضوعه الأثيري، وبعدها الاجتماعي. وتشعر أن لمدينة أوترخت ببناياتها وكاتدرائياتها أثراً على لوحة بشير حيث الضوء والحيطان والأعمدة ذات بيئة غربية هذه النقلة الفكرية في الحداثة الأوربية فجرت الكثير من مستويات العلاقة بين اللوحة والجمهور وأبعدت النقد عن أن يربط بين طبقة أو فئة واللوحة الحديثة، فلوحة الصالة الغربية مزيج من فن الأرستقراطية والرؤية الشخصية الموشاة بطابع البورتريت حتى لو كانت أشياء.. ثمة حوار مكاني صاخب في لوحات بشير بين أشياء الغرف والإنسان الذي سكنها أو تعامل معها، أنه يشعرنا بدراميتها في جزئياتها وفي تموجاتها اللونية، فتشعر أن كل الأشياء المرئية في اللوحة سبق وأن مارس الحياة معها، اختبرها، فهي ليست بقايا قديمة له، بل هي روحه وقد توزعت عليها، إنها أجزاء من حياته وقد دمغها بألوانه العتيقة، كما لو كانت إعادة إنتاج للوحة الانطباعية في القرن التاسع ولكن بتنفيذ مغاير .
لذا يعد بشير من رسامي الحياة اليومية للمدينة، لعل بودلير يعود إلينا بتصوراته عن أثر المدينة على اللوحة الحديثة، ثمة نغمة غير مفرحة تفرضها المدينة على الفنان الحديث إن هو حصر نفسه في أشيائها، هذه النغمة الكابية قد تفرز لوحة جميلة ومؤثرة كما هي لوحة بشير لكنها تشير إلى انسحاب الحياة من المدينة، لقد فسحت المدينة لذاتية الفنان أن تجد طريقها إلى الصالات الحديثة، خاصة في لوحة ما بعد الحداثة التي اهتمت بالمهملات والأشياء الآفلة. بنية اللوحة عند بشير تأخذ من طبيعة المدينة أشياءها وهي تتطلع لأفق الحداثة، لتلك الحال التي تجلب كل أفراد الأسرة والضيوف لرؤيتها والتمتع بها.
ثمة نغمة شعرية تفصيلية للأشياء، فبشير ليس ناثرا للحياة، إنه يقتنص اللمحة التي تجمع أشياء لوحته في لحظة بوح مشتركة، هذه الشعرية ذاتية تدرب عليها منذ زمن طويل وتشهد لوحاته عليها بتعامله مع لغة الأشياء الصاخبة والمعبرة عن دواخل مكبوتة وصاخبة، ففي انحناءات وثنيات الشراشف والستائر دراما شعرية بالرغم من أنها بيتية تنم عن دقة تصويرية هائلة للمشاعر تحبب اللوحة لنا وتدخلنا في التأمل، كيف تأتى للفنان أن يكون بمثل هذه الدقة المتناهية بحيث يقربنا من الطبيعة بحساسية شعرية تنقل الأشياء من طبيعتها العادية وهي في العالم الخارجي إلى الفنية؟.