ضيوف المهرجانات، أشكال وطباع: الطويل والقصير، من له كرش والمشفوط البطن، المتأنق وغير المهتم، العصبى الغاضب الذى لا يرضيه أى شىء والمتسامح، الحليم، منشرح الصدر.. وثمة، الجاهل المغرور، والعالم المتواضع .. إنها نماذج سابقة التجهيز، مُعدة سلفا، لا يمكنك تغيير إشعاع طاقتها، سلبا أو إيجابا. مع التجربة، يدرك المرء، مع من، ومتى، يقترب من هذا الضيف أو ذاك.
بالنسبة لى، تقترن المهرجانات بضيوفها، فأحيانا، تبدو مملة، ثقيلة إذا كان روادها من النوع السمج .. وأحيانا، تأتى ممتعة، ثرية، مبهجة، إذا تواجد فيها هذا الصديق الغالى، الحميم، الأقرب للجزيرة الآمنة، ذلك أنه يتمتع بنوع فريد من السلام الداخلى، فضلا عن رحابة الثقافة وعمقها، فهو دارس للفلسفة، كتب القصة والمسلسلات التليفزيونية، أصدر مجلات عدة، ترجم أكثر من كتاب، بالإضافة لكونه، من قبل ومن بعد، ناقدا سينمائيا، يعرف تماما أصول الفن السابع، وتاريخه، كما يدرك قواعد النقد بمدارسه المختلفة، وكتاباته كلها، تتسم بذائقة متألقة، استقاها بإطلاعه على التراث العربي، واللغات الأجنبية التي يجيدها، الفرنسية، الإسبانية، الانجليزية.
إنسانيا، تتواصل الصداقة مع مصطفى المسناوي، على نحو فريد، فحين تلتقيه، بعد شهور طويلة من البعاد، يستكمل معك آخر عبارات تبادلتموها سابقا.. عندئذ، يتلاشى الفاصل الزمنى، ويتهيأ لك أنه لم يغب عنك، طوال الفترة السابقة، بل تدارك أنه تحول من صديق عمر إلى جزء من عمرك، ذلك أن فهمه الشامل، العميق، الصحيح، للعلاقات بين المشرق والمغرب العربي، في مجال عالم الأطياف، بنشأته، وملابساته، وتطوره، يغدو عنصرا أصيلا من رؤيتك.
مصطفى المسناوي، الهادئ، لا تفارق الابتسامة وجهه، قد يبدو متوافقا مع كل ما يجرى، لكن حين تعرفه عن قرب، تدرك مدى قوة عقليته النقدية، وكيف يرى الجانب الآخر من أمور لم نلتفت لها فعلى سبيل المثال، وعلى العكس من السعداء المتحمسين للإرسال التليفزيونى، طول الأربع والعشرين ساعة، من مئات القنوات، تجده يقول: المشكل أن هذا الغزو لم يعد مقبولا فحسب من قبل معظم المواطنين عبر العالم، بل أصبح مطلوبا، مرغوبا فيه، رغم تعطيله للعديد من الملكات البشرية، والعادات الاجتماعية الأساسية: لقد حول التليفزيون الكائن البشرى، الاجتماعي بطبعه، إلى كائن «متوحش»، منكفئ على ذاته، عازف على التواصل مع نظرائه من بين البشر، كما أوجد لديهم إمكانية تعويض العديد من الأنشطة الثقافية والفكرية، من قبيل قراءة الكتب والخروج لمشاهدة المسرحيات والأفلام السينمائية وحضور الحفلات الموسيقية .. إضافة إلى عمله على تعطيل ملكتي التفكير والنقد لدى المواطن وتحويله من كائن اجتماعي إلى كائن سلبي منفعل، يكتفى بالفرجة على العالم المحيط به بدل أن يستشعر ضرورة الفعل فيه .. هكذا، بدلا المشاركة، مثلا، في مظاهرات احتجاجية ضد طلبيات الواقع، صار المشاهد يحس بأنه يقوم بالواجب وبما هو أكثر منه حين يجلس في بيته ويتابع الفضائيات الإخبارية التي تقوم بنقل المظاهرات التي تنظم في مختلف أنحاء العالم وحتى في بلاده هو بالذات.
هكذا، المسناوى المتأمل، يرى الأمور، برصدها، في تفاصيلها، ويتجلى منهجه هذا، حين يتعرض للسينما المصرية، التي يقدر دورها الوطني، القومي، عندما درجت محاولات السلطات الفرنسية الاستعمارية، الرامية إلى إيجاد سينما بديلة للأفلام المصرية التي تعلقت بها أفئدة المغاربة.. لكن المشكلة في السينما المصرية، دون قصدية مارست «سلطة البداية» .. تعلق بها المشاهد على نحو أدى إلى إلغاء، أو تأجيل، ظهور سينمات محلية في مجمل البلاد العربية.
بنزاهة، ونفاذ بصيرة، يلفت المسناوي النظر إلى المخرجين المحدثين، المغاربة، بنزعاتهم الحداثية، المتأثرة بالاتجاهات الجديدة، في الدول التي درسوا فيها، مثل فرنسا وإسبانيا، جاءت بعيدة عن ذائقة جمهور يعشق أغنيات ونجوم ونجمات وميلودرامات وبوليسيات الأفلام المصرية، فضلا عن لغة الحوار المتعسفة في أفلام مغربية، مؤلفوها يكتبونها بالفرنسية، وترجمتها تتم فورا أثناء التصوير.
مصطفى المسناوى «١٩٥٣ ـ ٢٠١٥» الرقيق، المتواضع، الذى يجعلنا نتلمس الأجزاء المخفية من جبل الجليد العائم، يغادرنا فجأة، جسدا.. لكن روحه الشفافة، تظل مرفرفة على النيل الذى أحبه، وامتلأت عيونه بجماله، قبل الرحيل بدقائق.