حاولت في هذا الحوار، أن أكون مشاكسا بعض الشيء. لذلك اجترحت أسئلة، قد تبدو في شكلها الظاهري مدثرة بالاستفزاز، لكنها في العمق تهدف الى إماطة اللثام، وكشف النقاب عن مشاعر وهموم ومخاوف يعيشها الكاتب. كما أنها تروم مساءلة الكاتب كإنسان بالدرجة الأولى، عسى القارئ يجد ما يمتعه، وما ينتشله من بحر المفاهيم والمصطلحات.
- ماذا يمكن أن تقول عن المشهد القصصي المغربي، تراكما وأسئلة ورؤية وبناء؟
يتعلق الأمر، إذن بالتراكم النسبي الحاصل في الكتابة وفي الأسئلة التي تطرحها. إن المشهد القصصي المغربي، فعلا ذو صور عديدة ومظاهر عديدة، منها هذا الاهتمام الحاصل في كتابة العواطف والانفعالات، وهذه الرغبة العميقة في تأسيس كتابة تتجاوز المألوف.
هو مشهد يقول الشيء الكثير، من ذلك مثلا أن هناك أسماء كثيرة برزت في الثمانينات، تلتقي وتتقاطع في الوعي والتصور، وفي الفهم الخاص للنص القصصي، وأيضا في تجربة التأسيس ومساءلة الذات المبدعة. إن المشهد مشهد بانورامي، ولا يمكن أن نضع أيدينا على اسم دون آخر، فالتميز والإضافة هما الباقيان في هذا المشهد نفسه.
بالنسبة لي، من الصعب تقييم المشهد في إطاره العام، لأن ذلك يتطلب مراجعة نقدية لكل النصوص المنشورة، غير أن النقد حينما يحقب، ينسى أن يتناسى الأسماء الفاعلة، فهو نقد مزاجي، وغير متابع لحركة السوق، إنه كسول كسل أصحابه. وفي هذه الحالة، فإن أسماء الستينات والسبعينات استمرت مبدعة حتى نهاية الثمانينات.
ثم ليست المسألة مسألة مفاضلة بين أسماء وحقب، بل المسألة هي مسألة استمرار. إن هذه الكلمة هي الشاهد الوحيد على المشهد القصصي المغربي. لقد كثرت المنابر، ولم تعد ثمة أزمة نشر كما عشناها نحن في السابق، والسؤال هو من له القدرة على التميز في ظل الاستمرار؟
- كيف تجدد علاقتك بالكتابة، هل أنت تكتب لأنك تعودت على ذلك أم أنك تكتب لتفضح الواقع وتفضح ذاتك؟
أحدد علاقتي مع الكتابة، انطلاقا من كونها مجالا لمساءلة الذات المرتعبة، ومن كونها أيضا، مجالا لتفريغ العواطف والانفعالات المتراكمة منذ الطفولة الى الآن. وسيكون من البديهي أن نكرر القول بأن الكتابة عبارة عن فضح للواقع وتناقضاته، هذا تحصيل حاصل. أما هل أكتب لأنني متعود على الكتابة، فهذا يدخل في باب المهنة. لقد اخترت الكتابة، لأنها هي الخيار الوحيد الذي فرض نفسه علي في بداية حياتي، لذلك لم أجد أمامي سوى الكتابة كحل نفسي، وتعبير عن ذاتي المشتتة من مكان إلى آخر.
لا يعني هذا أن الكتابة، كمجال للابداع والتخيل والمعيش، هي نفسها هذه الأزمة الذاتية، بالعكس، فالكتابة تأسيس لعالم مفقود محلوم به، ولنقل إنها تعويض عن شروخ الجسد.
- كيف يتعايش ويتفاعل ادريس الخوري ابداعيا، ونحن نستقبل عقد التسعينات؟
يتعايش هذا الكائن الغريب، غير المرغوب فيه حتى الآن، بين مد وجزر. ثم إن لكل حقبة زمنية ذاتها وأسئلتها ايضا، إنني قليل الإنتاج قياسا إلى الآخرين، ذلك أنني أحتاط كثيرا عند نشر أي نص قصصي، باعتبار أن المرحلة في السنوات الأخيرة، أفرزت مفاهيم وتصورات وقضايا مختلفة.
في السبعينات نشرت ثلاث مجاميع قصصية، وفي الثمانينات اثنتين. كانت المرحلة الأولى مليئة بالقلق والاندفاع نحو البوح، أما في المرحلة الثانية، فالتساؤل عن ماهية الكتابة خارج التصنيف الإيديولوجي، الذي ساد حقبة السبعينات بشكل متعسف. والآن وأنا في مرحلة التسعينات، بدأت أتراجع عن كثير من المفاهيم والتصورات السابقة، التي غمرت جيلنا (أو أنا بالأخص)، وأعتقد أن المرحلة التسعينية الجديدة، ستحمل معها أسئلتها هي الأخرى، فالإيديولوجية المتزمتة في تراجع الآن، والكلمة الأخيرة للإبداع الحقيقي.
- ماذا بقي من طفولتك وهل تلجأ إليها لتستثمرها كنص؟
بقي منها الشيء الكثير، وأعتقد أن لكل منا طفولته الشقية والعذبة إذا صح التعبير. عندما أقف الآن على عتبة الزمن أطل على ذلك الماضي الشقي الجميل. لقد كنت ذات يوم كائنا بريئا لفظته أمه وراحت، واستراحت، ثم تركته لشقائه، وهاهو يكبر ويزيد في كبره، بينما لا تفتأ طفولته ومراهقته ملتصقتين بذاكرته وبجسده.
هل استراح هذا الكائن غير المرغوب فيه والخارج عن التدجين والدائرات المغلقة الشبيهة بدوائر الماسونية؟ لا.. يريدون منه أن يكون منضبطا ومسؤولا، ولكنه ليس كذلك.
ألتجئ إلى طفولتي كلما عاودني الحنين إلى البراءة، وهاهي الطفولة ستكتمل في عملي الروائي الذي سيظهر خلال التسعين.
- بماذا يوحي إليك كتاب القصة القصيرة الجدد بالمغرب؟
يوحون لي في البداية ببشائر الموهبة والوعد المتفائل، لكنهم لايذهبون إلى نهاية المطاف، إنهم أشبه بلاعبي كرة القدم الذين يلعبون موسمين أو ثلاثة ثم يعقلون «السباط» فوق كاهلهم. إنهم كتاب واعدون ولا شك (وليس كلهم) ولكنهم مغرورون لا يقرأون، بل لا يعيشون حياتهم أصلا. بعضهم يكتب انطلاقا من نصوص أخرى وليس من حياته، بعضهم يستنسخ (حتى في مجال الشعر)، آخر مهووس باللغة وبالتجريب المفتعل، مع ذلك، هناك أسماء تكتب بصمت بعيدا عن الادعاء، فقط ينقصها الاحتكاك.
طبعا، أنا لست »»أب»« القصة القصيرة في المغرب، ولكني أقول هذا الكلام انطلاقا مما أقرأه من نصوص منشورة.
لقد أعجبت ببعض القصص الجميلة، ترجمها إبراهيم الخطيب عن الكاتب الأمريكي (بول بولز) نشرت في الملحق الثقافي لـ«الاتحاد الاشتراكي» مؤخرا، وتساءلت: لماذا لا يغوص الكتاب الشبان في المجتمع، بدلا من الهذيان والخضوع لما يسمى ب سلطة النقد؟ أمامنا أيضا نموذج بورخيس، ثم لنقرأ الياس كانيتي في "أصوات مراكش"،فهناك الكتابة العالية.
- هل أنت مرتاح للخطابات النقدية السائدة حاليا في المغرب؟
ليس كلها طبعا، فهي خطابات مستنسخة، لا علاقة لها أصلا بالنص الأدبي، وباستثناء اسمين فقط، هما محمد برادة وإبراهيم الخطيب، فالأسماء الأخرى تكاد تتشابه.أحترم هنا عبد الفتاح كيليطو البعيد عن الضوضاء النقدية السائدة، والمصطلحات المكررة، فهو يتجه إلى النص التراثي ذي البلاغة القوية، بفهم عميق، ولا يعني هذا التقليل من الأسماء الأخرى التي تجاهد لـ"تأسيس" خطاب نقدي بالمغرب. بالعكس، فهي الحاضرة بشعاراتها البراقة التي استهلكت في فرنسا، غير أنها لا تراوح مكانها، ثم إن النقاد المغاربة، يزايدون على بعضهمبكثير من الكلام، إلى درجة الخصام. انظر إلى الندوات وسترى هذه الحساسية الزائدة كما لو كان النقد ملكية شخصية!
- هل أنصفك النقد المغربي؟
لست متهما حتى ينصفني النقد، وكما قلت في بعض الاستجوابات السابقة، فقد تعامل معي النقد من منظور إيديولوجي صرف. كان هذا في بداية السبعينات، عندما كانت المفاهيم الإيديولوجية سائدة، أما الآن، فإن النقد البنيوي يسبح فوق النص وليس تحته.
لقد قيل عني الشيء الكثير من الأوصاف، ولم أُرد أن أَرد عليها لأنها كانت تمسني في شخصيتي أصلا، بالإضافة إلى سوءالفهم والتأويل والنوايا المسبقة. ربما كنت قد شكلت «حالة» خاصة للنقاد، وقد بدأوا يجربون أدواتهم علي وعلى غيري، ولكني أْعتقد أنني خارج عن التصنيف الجاهز. فلماذا لم يكتبوا عن مجموعة »»البدايات»« و »»الأيام والليالي« «و «»مدينة التراب»«؟ هل لأنها ليست قصصا؟ وإنني أكتب دون أن أضع النقد فوق رأسي.
- النصوص السردية التي تخرج من حين لآخر الى الأسواق، غالبا ما تظل قابعة في الصمت إلى أن يعلوها الاصفرار والغبار، هل هي أزمة نصوص؟ أم أزمة أسئلة، أم أزمة قارئ؟
ذلك راجع إلى النقد نفسه. ينشر الكاتب نصه الأدبي، بعد معاناة في الكتابة وفي النشر ثم »يخسرون« عليه خبرا صغيرا في الصحف، وبعدها يوضع في دائرة النسيان. ليست المسألة أزمة نصوص، فحركة النشر بالمغرب آخذة في الاتساع، ولكن لا يوجد لدينا نقاد متخصصون في متابعة ما ينشر، كما هو عليه الأمر في فرنسا. وباستثناء متابعات قليلة هنا وهناك، فإن النص الأدبي يبقى معلقا إلى »إشعار آخر،« ثم إن العلاقة الزبونية وانعدام الشفافية، يتحكمان في السير النقدي بالمغرب، كثيرة هي النصوص الرديئة التي رفعت إلى »سبع سماوات« لأن أصحابها محسوبون على جهات معينة ، بينما هناك نصوص أخرى، ضرب حولها الصمت. أما أزمة القارئ، فلم تعد قائمة، بدليل اتساع قاعدة القراء في كل المدن. هل أضرب لك أمثلة؟ لا داعي، فالحساسيات آخذة في الاتساع هي الأخرى.
- هل لديك طقوس معينة تكتب تحت رحمتها. علما أن لكل كاتب عالمه الخاص وزمنه الخاص؟
ليست لدي طقوس معينة أكتب تحت رحمتها، لأنني لست كاتبا محترفا على الطريقة الغربية، أنا كاتب مزاجي، قد أكتب في الصباح أو في المساء، قد أكتب في الليل، قدا لا أكتب، ولكني أكتب في ذاكرتي.
وفي المغرب، لا يمكن للمرء أن يحترف الكتابة، لأن بنية الاحتراف غير موجودة. فلا دور نشر ملتزمة معنا، حتى نعطيها ما تريد ثم نتعيش بكتاباتنا. لو كان الأمر كذلك، لتفرغت لذلك، ولخلقت طقسي الخاص.
- ما تعني لك هذه الأشياء: المرأة، السفر، المكان، الليل؟
كل عنصر من هذه العناصر له نكهته ومذاقه الخاص. إن المرأة هي كياننا الآخر الذي نفتقده في لحظات الفراغ النفسي والجسدي، هي وجهنا صقيلا ومشروخا، ممزقا وفرحا، ثوبنا الذي نلبسه كل يوم، وحبنا المفتقد، وقتنا الضائع. أما أطفالنا منها فهم صورتنا في الزمان والمكان. المرأة جرأة منا، لكن لابد من حفر مسافة بيننا وبينها، ذلك لأنها مزاجية.
وبالنسبة للسفر، فهو الخروج من دائرة العتمة إلى دائرة الضوء. السفر يحيينا من جديد، أحب السفر، لأنه تجديد للحياة، واكتشاف للمكان ولعل كتابي الاخير «فضاءات» يكشف عن ولعي الكبير بالسفر إلى المكان. أما الليل، فهو مأواي الأخير، بعد نهارات بيضاء.
نحن جزء من الطبيعة، لذلك تتغير أجسادنا وسحناتنا، ولم يكن الليل الا للسهر والعربدة والحماقات. في الليل يحلو الكلام، ويحلو الحب. في الليل تحلو الكتابة وكل الاشياء الأخرى.
- هل حدث أن أحسست بكراهية تجاه كتاباتك وتجاه ذاتك؟
بالفعل، يحدث أحيانا، أحس بأنني قد تسرعت في كتابة شيء ما، لم أعرف كيف تسرب إلي، ولكنه وقع. لذلك إن الكاتب قد يستشعر الندم بمجرد سماع الأصداء حوله. نفس الشعور يحدث تجاه الذات التي تجد نفسها فجأة، وهي تتناقض مع الغير، وترتكب بعض الحماقات. أتحدث هنا عن الملموس المعيش، وإذا لم يشعر المرء بهذه الكراهية المزدوجة، فإن الواقع سيتجاوزه.
- هل لإدريس الخوري أسرار وخفايا يرفض الكشف عنها، وهل له الجرأة في إعلان ذلك؟
ليست لدي أسرار لأنني لست دولة! ذلك أن قصصي هي أسراري، والجرأة في الكشف عنها، تمليها ظروف الكتابة الفنية. أما في الحياة اليومية فأنا واضح.
- هل لديك تناقضات. وماهو الشيء الذي يخيفك؟
كل كاتب له تناقضاته، أنا جد واع بتناقضاتي، يكذب عليك كاتب ما، بأنه شخص مكتمل، لا يوجد شخص مكتمل. وما يخيفني هو أن أنقرض!
- هل فكرت يوما في تطليق الكتابة؟
فعلا، خصوصا وأنها لم تسبب لي غير إزعاج الآخرين، في الثقافة المغربية، ثمة ظاهرة الحسد. كأننا نجني الملايين من وراء الكتابة، وكما قلت ذات يوم، لا توجد عندنا تقاليد ثقافية حضارية.
نحن مهووسون بالكلام وبالتنظير الفارغ، وعدم احترام الكاتب. مازال الكاتب شخصا غير مرغوب فيه اجتماعيا، لذلك أشعر في كثير من الأحيان، بلا جدوى الكتابة، وبضرورة تطليقها، لأن الجو الثقافي جد ملوث!
- هل تحب مهنة الصحافة؟
نعم، أحب الصحافة لأنها مهنة شريفة، ولو أنها تلوثت بكثير من العناصر الطفيلية. الصحافة علمتني تقاليد الكتابة، ونقد مظاهر المجتمع وسلبياته، في الصحافة يبدأ الكاتب.
- هل تعاني من أزمة مادية، وهل تكفيك أجرتك لتغطية مجمل حاجياتك؟ وماذا عن الوضع المعيشي للكتاب المغاربة؟
ديما..… إن أجرتي لا تكفيني لأنني مسؤول ماديا ومعنويا عن زوجتي وابني. وإذا مت ذات يوم، فسأترك سلالتي للضياع. نفقاتي كثيرة، لأنني غير منظم على المستوى المادي، هكذا خلقت، لكنني أعيش بشكل مستور.
وبالنسبة للوضع المعيشي للكتاب المغاربة، فوضعهم يختلف، غير أنهم كلهم، أمنوا أنفسهم ضد عوائد الدهر. بعضهم يملك فيلات وشققا وسيارات وحسابات في الأبناك. بعضهم الآخر يعيش بشكل متقشف، بينما البعض الآخر، يفكر في »»الياجور».« نحن قلة لا ننتمي الى هذه الفئة، إننا نعيش حياتنا ونضحك كل يوم.
- ماهي الصورة الراسخة في أذهان الناس عن إدريس الخوري؟
صور مختلفة، هناك من يحترمني ويحبني جدا، وهناك من يكرهني لأنني صريح في مواجهته. والناس هنا ليسوا مثقفين بالطبع، إنهم عاديون، موظفون، وأساتذة… بينما الكره الأكبر، يأتيني من طبقة معينة من المثقفين »الأخلاقيين«!