راجت في المجتمع الفلسطيني مؤخرا نكتة تقول أن الحكومة الجديدة تفكر في تغيير اسم مدينة "البيرة" المجاورة لرام الله، وربما تطلق عليها اسم "زمزم" أو "الشراب الطهور" مثلا. وما كان نكتة منذ سنة تقريبا، صار حقيقة اليوم. فقد وردت إلينا الأخبار وفيها أن مديرية التربية والتعليم في نابلس اتخذت قرارا في 10/2/2007 بافتراس جميع نسخ كتاب "قول يا طير ..." الموجودة في المدارس الفلسطينية. وهذا الكتاب الذي أصدرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت بالعربية سنة 2001 يحتوي 45 حكاية شعبية قام بجمعها وتدوينها كل من إبراهيم مهوّي وشريف كناعنة، وهما باحثان وأستاذان جامعيان مشهود لهما بالكفاءة العلمية المميزة. ومن مساخر الأيام أن المجتمع الفلسطيني، مثله مثل بقية المجتمعات العربية، ابتُلي بالداء الطالباني، فقد انصرف "أولياء الأمور" عن الاحتلال الإسرائيلي إلى إقامة الحد على كتاب لطيف وجميل ومسل كطائر القطا عنوانه "قول يا طير ..." .
مصائب الزمان
إن هذا المسلك المعادي للثقافة يبرهن، مرة جديدة، أن سالكيه منخورون بسوس الأمية حتى نقي العظام، وها هم لا يتورعون عن تبشيرنا بعصر جديد من الرثاثة والعياء. ومن غير الواضح، إلى حد ما، أين تبدأ مسؤولية وزير التربية والتعليم ناصر الدين الشاعر، أو مسؤولية وزير الثقافة عطا الله أبو السبح، وأين تنتهي. ومهما يكن أمر هذه المسؤولية، فإن عهد وزير الثقافة (8 أشهر فقط) شهد توقف مجلة "الكرمل" عن الصدور، ومعها مجلة "أقواس" ومجلة "دفاتر ثقافية". وقد باتت مجلة "الشعراء" على حافة الإقفال أيضا. وفوق ذلك لم تتمكن وزارته من عقد، أو حتى تسهيل عقد الدورة العادية لمعرض فلسطين الدولي للكتاب، لأن الثقافة لديه تعني مطاردة الراقصات، علاوة على المغنين لأنه، على الأرجح، لا يُحسن استذاقة الغناء بضروبه المختلفة، إنما يحب من الأصوات الأهازيج والأناشيد فحسب.
أما الوزير ناصر الدين الشاعر ورهطه فربما "أثارت" حياءهم قصة "نص نصيص"، وبالتحديد الفقرة التي تروي حكاية أخت الغول (الغولية) والرجل الذي عانى الأهوال للوصول إليها طالبا مساعدته في إخصاب زوجتيه، وعندما رآها من الخلف كانت "رادة بزازها على ظهرها وقاعدة بتطحن. مص من بزها اليمين واليسار ولَهَم حفنة من طحيناتها. قالتلو: مصيت من بزي اليمين صرت أعز من أخوي اسماعين. ومصيت من بزي اليسار صرت أعز من أخوي نصار. ولَهَمت من طحيناتي صرت أعز من وليداتي". وأعطته ما يساعده على إحبال امرأتيه. إن هذه الحكاية شائعة جدا في بلاد الشام قاطبة، والأكيد أن والد الوزير الشاعر و"سيدو وسيد أبوه كمان" تربوا على هذه الحكايات. فهل عاشوا دهورهم مخدوشي الحياء؟ لا شك في أن حادثة إهدار دم كتاب بعد إقامة الحد عليه قصة تروى فعلا، وتثير الحياء أمام الأمم الراقية . ومن مصائب هذا الزمان أن فلسطين تكاد تخلو من شبانها وشاباتها، بينما البعض مشغول بمنــع السباحة عند شواطئ غزة، وفرض الحجاب على النساء، وإغلاق دور السينما، ومنع عمار حسن من إقامة حفلة غنائية في قلقيلية، وإطلاق النار عليه في نابلس، وتهديده بالقتل بسبب الغناء. وهذا ما جعـل محمود درويش يحذر، بغضب، من مظاهر الطالبانية الجديدة في فلسطين. والأنكى من ذلك أن كتاب "قول يا طير ..." يُمنع في المدارس الفلسطينية، وهي ليست ملكا لأحد، بينما كتب أيمن الظواهري تباع في كل مكان.
القصاص للخصوم
مثلما فاز أبو حامد الغزالي في المنازلة مع المعتزلة، ومثلما حاقت الهزيمة بالطهطاوي وشبلي الشميل وفرح أنطون وسلامة موسى ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وطه حسين على أيدي أبو الحسن الندوي وأبو الأعلى المودودي، ها هما حسن البنا وتقي الدين النبهاني ينتصران في فلسطين، يا للعجب، على خليل السكاكيني وإبراهيم طوقان وأبو سلمى وادوارد سعيد وإبراهيم أبولغد وهشام شرابي ومحمود درويش وجميع من سار في ركابهم. إنه استبداد غريب، بل طغيان، لأن المستبدين لا يقتلون الناس ما لم ينازعوهم السلطة. فإذا نازعوهم إياها نزعوا رؤوسهم عن أكتافهم. بينما أقل خلاف مع شيوخ الحسبة، وهم أزارقة هذا العصر، يصبح كفرا وارتدادا. وعند ذلك يرتفع زعيقهم طالبين إقامة الحد ثم إيقاع القصاص بخصومهم. وهذه المرة أقاموا الحد على كتاب جميل اسمه "قول يا طير" .