الموقف العقلاني من التراث ومجزرة قول يا طير

جميل السلجوت

والآداب الشعبية من حكايات ونوادر وأقوال وأمثال، وأغان هي إفراز لإبداعات الشعب بمجمله. وتدوين هذه الابداعات، وإخضاعها للبحث والدراسة في مراحلها المختلفة واجب أخلاقي ووطني وإنساني أيضا. فإذا كانت "ألف ليلة وليلة" وغيرها قد دُوّنت في عصر الخلافة العباسية، مع ما تحويه من استعمالات للغة العامة، ومضامين جنسية واضحة، فمن غير المعقول ومن غير المنطق أن يتم إعدام الحكايات الشعبية العربية في القرن الواحد والعشرين، في مناطق السلطة الفلسطينية، وبأوامر من وزارة فلسطينية، وبأيد فلسطينية. فالتراث الشعبي جزء هام من الهوية الوطنية لأي شعب، بل إنه أحد مكونات هذه الهوية، فمن لا ماضي له لا حاضر ولا مستقبل له أيضا. والموروث الشعبي بشقيه القولي والمادي هو إرث حضاري للشعب، والتنكر لهذا الإرث الحضاري هو استجابة مقصودة أو بدون قصد لطروحات الأعداء الذين يرون في الشعب الفلسطيني مجرد تجمعات سكانية، وهم بهذا ينفون عنه صفة كونه شعب.
وإعدام كتاب "قول يا طير" هو تساوق مع ما فعلته حركة طالبان في أفغانستان عندما دمرت التماثيل البوذية في بلادها، بحجة محاربة الوثنية، وهم يتناسون مثلا أن المسلمين بدءا من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، مرورا بدولة الخلافة وحتى أيامنا هذه لم يدمروا التماثيل الفرعونية في مصر على سبيل المثال، ولسبب بسيط أنها حضارة المصريين في مرحلة سابقة، ومع الفارق ما بين الفعلتين " إعدام الكتاب وتدمير التماثيل "، حيث أن الحكايات الشعبية الواردة في الكتاب بعضها يحمل مفاهيم دينية، كبقية موروثنا الشعبي.
ففي العام 1992 حسبما أذكر وعندما أقيم مهرجان القدس الثقافي والذي شاركت فيه فرق فلكلورية من مختلف أنحاء الوطن، وقف أحد الأساتذة في إحدى جامعاتنا المحلية ليُحرم الاحتفالات الفولكلورية معتبرا إياها خروجا عن الدين ومحتجا على استعمال مصطلح " التراث الشعبي " ورددت عليه بأن التراث مأخوذ من الفعل ورث يرث فهو تراث وميراث، وديننا الحنيف هو تراثنا الديني الحضاري الذي توارثناه أبا عن جد، فالوحي نزل على خاتم المرسلين صلوات الله عليه، والدين اكتمل في عصره، ونحن توارثناه من بعده، كما أن تراثنا الشعبي مجبول بالمفاهيم الدينية لأن ثقافاتنا الشعبية هي ثقافة دينية، فعلى سبيل المثال تفتتح أمهاتنا وأخواتنا وزوجاتنا وبناتنا أغاني الأفراح بـ "المهاهاة" قائلات:
وهاي يا ناس صلوا على النبي
وهاي بدل الصلاة صلاتين
ويفتتح آباؤنا وأخواتنا ونحن السامر بالقول:
وأول ما نبدي ونقول
والحذر يصلي ع الرسول
وهكذا .... فما كان من ذلك الأستاذ إلا أن وقف معترفا بعدم معرفته المسبقة بهذا الموضوع، وأنه كان عنده فهم خاطئ للمصطلح، فحظي باحترام الحضور.
 
اللهجة العامية
اللهجة: هي استعمال خاطئ للغة، ومدى ابتعاد أي لهجة عن الفصحى دلالة على مدى بعدها عن اللغة الصحيحة. وقد اختلف الباحثون حول تدوين الموروث الشعبي بالفصحى أم بالعامية. فبعضهم ارتأى أنه يجب تدوينه كيفما سمعته من راويه دون تغيير أو تبديل، والبعض الآخر ارتأى أنه يجب تدوينه بما يسمى اللغة الثالثة، وهي اللغة الفصحى السلسة التي إذا سكنت آخرها تصبح عامية، وأنا أميل إلى الرأي الثاني، مع التنويه أن بعض الموروث الشعبي إذا ما قمت بمحاولة كتابته بالفصحى كالمثل الشعبي فإن رونقه ومعناه سيفسدان.
 
تراثنا بين السرقة والطمس والتشويه
يتعرض التراث الشعبي الفلسطيني إلى السرقة والتشويه والضياع،نتيجة للغزو الصهيوني لفلسطين وتشريد ملايين الفلسطينيين عن أرض وطنهم. فمئات القرى الفلسطينية تم تدميرها بالكامل، ومحو كل أثر لها. ومن تبقى جرى تحريفه وتشويهه، فعسقلان أصبحت أشكلون، وبيسان أصبحت بيت شان وبيت محسير أصبحت بيت مائير وهكذا..... وحتى على مستوى المأكولات الشعبية فإن الحمص والفلافل يقدم على اعتبار أنه أكلة شعبية عبرية. أما على مستوى الأدب الشعبي فقد تم تقديم أغنية " الدلعونا " بنفس لحنها الشعبي الفلسطيني بعد ترجمة كلماتها إلى العبرية على أساس أنها أغنية شعبية عبرية. وكذلك الثوب الفلاحي الفلسطيني المطرز تمت سرقته. وفي بداية ثمانينات القرن العشرين قررت شركة " العال " الإسرائيلية للطيران اعتماده كلباس لمضيفات الشركة على اعتبار أنه موروث شعبي عبري. والآثار الفلسطينية تمت سرقتها وعرضها في المتاحف الإسرائيلية على اعتبار أنها آثار العبريين القدماء.... والحكايات الشعبية الفلسطينية والعربية تمت ترجمتها واستبدال الأسماء العربية فيها بأسماء عبرية ونسبتها إلى العبريين. ونتيجة لتشتت الفلسطينيين فإن الأغنية الشعبية الفلسطينية قد ضاعت في أرض اللجوء، أو تم دمجها في الأغاني المحلية خصوصا في الدول العربية الشقيقة، وتم نسبها إلى هذا القطر أو ذاك.
يجدر التنويه هنا أن لا خلاف على الثقافة العربية المشتركة، لكن ضياع الموروث الشعبي الفلسطيني تحديدا يجب عدم المرور عليه مرّ الكرام نظرا لظروف الشعب الفلسطيني الخاصة، والتي تهدد وجوده كشعب ساهم في بناء الحضارة العربية والإسلامية والإنسانية.
 
الموقف العقلاني من التراث
يرى البعض أنه يجب جمع تراثنا الشعبي القولي والمادي بإيجابياته وسلبياته إذا كانت له سلبيات، وإخضاعه للدراسة والبحث، ويجب عدم استثناء أي جزء من التراث، وعقلنة التراث لا تتعارض مع التقدم العلمي والحضاري، فمثلا أن أفاخر أن أمّي وجدتي كانتا تستعملان الطابون والصاج لصناعة الخبز، فهذا ما تيسر لهما، لكن زوجتي تستعمل الفرن الكهربائي لصناعة الخبز حاليا، وهذا ما تيسر لها أيضا. وبعض الحكايات والأمثال والنكات الشعبية لها مدلولات سلبية، وهذه ظاهرة موجودة في آداب جميع الشعوب، لأن الأدب الشعبي أدب طبقي، فكل طبقة أنتجت آدابها. فالمتذيلون للمحتلين والمستعمرين والحكام الظالمين أنتجوا المثل القائل " إللي بتجوز أمّي هو عمّي " والمقاومون قالوا: " إللى بتجوز أمّي هو همّي "...وهكذا وجمع التراث بكافة جوانبه لا يعني استعماله كاملا، فالحياة في تطور مستمر، وما يخدم قضاياك المعاصرة هو الذي يمكنك أن تستخدمه لتعزيز هذه القضايا أو لفضحها وتعريتها.
وفي النهاية هذه لمحات أو برقيات سريعة حول مجزرة " قول يا طير " وفي تقديري أن الموظف أو الموظفين الذين اتخذوا قرار إعدام هذا الكتاب دون علم الوزير قد ارتكبوا هذا الخطأ الفادح نتيجة عدم وعي وعدم دراية بأهمية الموضوع، وبالتالي يجب أن ينقلوا من عملهم إلى عمل يناسب مؤهلاتهم، فكثير من وزاراتنا يعشعش فيها الفساد الوظيفي من خلال عدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب. ولمّا كنّا نثق بحكمة وقدرات وزير التربية والتعليم الدكتور ناصر الشاعر الذي يشهد له جميع من عرفوه وعملوا معه بالكفاءة العالية، فإننا نتمنى على السيد الوزير أن يأمر بإعادة طباعة الكتاب وتوزيعه، فالرجوع عن الخطأ فضيلة خصوصا وأننا لسنا في عهد محاكم التفتيش.