قول يا طير، وقول يا رئيس

زكريا محمد

حسنا فعل الدكتور الشاعر، وزير التربية، بالعدول عن القرار المتعلق بسحب نسخ كتاب (قول يا طير) من مكتبات المدارس وإتلافها. فهذا يدل على أنه وعلى أن حركته، حركة "حماس"، قد أدركا حساسية الموضوع، فتراجعا. أي أنهما تعلما الدرس. وتعلم الدرس ليس أمرا سيئا، فهو من ضرورات السياسة والقيادة. ويمكن لي أن أقول أن قيادة "حماس" قد أظهرت، منذ مجيئها للحكم، قدرا عاليا من انعدام الحساسية تجاه فئات الشعب الفلسطيني المختلفة. فمنذ اليوم الأول عمد أنصارها إلى نزع العلم الفلسطيني عن مقر المجلس التشريعي، ووضع علم "حماس" مكانه. كانت هذه خطوة أقدمت عليها عناصر مندفعة. لكن هذه العناصر كانت تعكس، في العمق، شكا ما من "حماس" تجاه الوطنية الفلسطينية الحديثة، التي صيغت بوضوح في عهد "م. ت. ف" وعرفات. ولم تكن المشكلة تكمن في شك "حماس". فلها الحق، كممثلة لقسم من الشعب، أن تعيد طرح موضوع الهوية الفلسطينية من جديد. لكن ما لا تملك الحق فيه هو أن تظن أن نجاحها في الانتخابات إعلان عن قبول المجتمع الفلسطيني بتصورها للهوية الوطنية. فأن تضع "حماس" علمها مكان العلم الفلسطيني يعني أنها تفرض رؤيتها للهوية الوطنية على الشعب كله. ومن الواضح أن هذا لا يستقيم. فالهويات لا تغير أو تعدل جذريا بين ليلة وضحاها، أو عبر انتخابات بلدية أو تشريعية تحدث لمرة واحدة. فبناء الهويات أو تعديلها عملية بطيئة جدا، تتم بالتدريج، آخذة بعين الاعتبار إحساس الشعب كله بموقعه وطاقته، ومعرفته بأعدائه وحلفائه، وإدراكه لمحيطة. فلم يخترع عرفات الهوية الفلسطينية الحديثة، بل صاغها عبر تلمس الشعب بغالبيته لكل هذه الأمور. أي أن الهوية تبنى في أعماق الناس بالتدريج، قبل أن تحول على صياغات محددة.

مشكلة "حماس" تكمن في اعتقادها أن انتصارها الانتخابي عنى انتصارا لتصورها هي للهوية الفلسطينية. وهذا غير صحيح تماما. من أجل هذا فهي تصطدم بين الحين والحين بفئات محددة من الشعب. فوق ذلك فإن تصور "حماس" للهوية الفلسطينية ليس مكتملا. فهو يحمل عناصر متضاربة. في كل حال، لعلنا نرى في الموقف من كتاب (قول يا طير) جزءا من مشاكل تصور "حماس" للهوية الفلسطينية. فهي تغلب العنصر الديني في هذه الهوية على العنصر الوطني. وفوق ذلك فهذا العنصر الديني لديها ذو طابع محافظ جدا. إنه من ناحية متشكك في الحداثة، ومعاد للقيم الشعبية من ناحية. ففي هذا التصور يصبح اللباس الشعبي الفلسطيني أمرا مكروها يجب أن يحل محله لباس يدعى بالشرعي، رغم أن لا شرعية له أو فيه. كما أن الغناء والرقص الشعبي، أي الدبكة الرجالية والنسوية، تقع في تضاد مع هذا التصور. وها نحن نبصر أن الخراريف الشعبية لا تجد لها مكانا فيه أيضا! لكن بحجة خدش الحياء!!

يقولون لنا أن في الخراريف كلام (يخدش الحياء)! ويا لحيائهم يا أصدقائي! تخدشه كلمات يقولها الناس ويسجلها كتاب، ولا يخدشه إسالة الدم في شوارع غزة ورفح منهم ومن معارضيهم! ولو طبقنا معاييرهم للزم أن نتلف ثلثي التراث العربي، بما فيه كتب الفقه الأشد تقديسا عند هؤلاء. وأثناء كلمة الدكتور الشاعر التي ألغى فيها القرار، مؤكدا أنه شخصيا لم يتخذ هذا القرار، كان شاب ملتح من "حماس" يوزع ورقة مطبوعة بعنوان: (مقتطفات من كتاب قول يا طير)، كي يقنع الناس أن الكتاب يستحق أن يتلف. ومن بين المقتطفات التي أوردتها الورقة: (الله يلعن أبو أصحابك! شو دينها هاي) و(يلعن أبو أصحابها والله العظيم لاقعد أشخ فيها)!! هذه هي النماذج التي منع الكتاب بسببها. أترون كم هي جارحة للحياء!. وقد كانت توزع على الناس والدكتور الشاعر يحلف أغلظ الأيمان أنه حريص على الأدب الشعبي، وأنه لم يأمر بسحب الكتاب. كان يقول ذلك وتنظيمه يوزع مثل هذه الأوراق التافهة. ولو غيرنا كلمة شخ بكلمة بال لما كان خدش إحساس أحد، رغم أن الشعب بكاملة يقول: أشخ!!! كل ما نأمله الآن أنهم استوعبوا الدرس. فمسألة التربية والمناهج والمدارس أمور تتعلق بالإجماع الوطني. ولا يحق لوزير أو رئيس وزراء أو رئيس سلطة أن يتخذ فيها القرار فارضا رأيه على المجتمع. ليكن له رأيه. أما الحكم بإلغاء الأدب الشعبي ومنعه مثلا، وهو مكون من مكونات الهوية، فليس من حق الشاعر، أو الناثر، أو التاجر أو اللحام، أو بائع الحمص. الحكم عليه مسألة جماعية، تخص الشعب كله. نأمل أن الدرس قد استوعب، واتسعت عقول قيادات "حماس".

بين الشاعر وأبو الحمص
لكن علينا أن نشير، كي نكون منصفين، إلى أن من مهد الأرض لقرار وزير "حماس" هو وزراء "فتح". لقد أكمل الشاعر ما فعله الدكتور أبو الحمص. لكن من يريدون أن يدخلوا قضية (قول يا طير) في سياق الحملة المتواصلة لإرغام "حماس" على الركوع السياسي، والاعتراف بإسرائيل وقرارات الرباعية، لا يريدون تذكر هذا. لقد حول الدكتور أبو الحمص، نائبا للوزير ثم وزيرا، وزارة التربية إلى معسكر لتخريج الأصوليين والمتطرفين. عليه لم تكن "فتح" مقدسة وعلمانية، ثم خلفتها "حماس" غير المقدسة الأصولية. ليس الحال كذلك أبدا. ليست "فتح" نورا و"حماس" ظلاما. وأذكر قبل سنوات، عندما كانت بنتي في الصف السادس، أن الدرس الأول في كتاب القراءة العربية للصف السادس كان عن (سورة مريم). وكان الكتاب يقدم السورة بشكل ديني لا لغوي. فقلت لصديق لي: هناك طلاب مسيحيون في المدارس، ولا يجوز أن نرغمهم على قبول وجهة النظر الإسلامية في مريم والمسيح. ثم ذهب صديقي إلى نائب وزير التربية أيامها وطرح عليه الموضوع، فقال له: نحن وضعنا هذا الدرس عمدا، كي يفهموا ما هو الصحيح!!! أي أنه وضع الدرس من أجل إرغام الطلبة المسيحيين الفلسطينيين على مخالفة عقيدتهم الدينية، والقبول بالعقيدة الإسلامية. أي انه يريد أن يفرض على المسيحيين الفلسطينيين عقيدة المسلمين الفلسطينيين. هكذا تكلم وكيل الوزارة يومها!!

يومها لم يتظاهر أحد ضد مثل هذا الوكيل الذي صار وزيرا. لم يهتم احد بمثل هذه الأمور. أما الآن فجزء من المظاهرين كان همهم مهاجمة "حماس" سياسيا، لا الدفاع عن قول يا طير. أنا مشيت في المسيرة من المنارة إلى وزارة التربية. لكنني مشيت من أجل الأدب الشعبي، ومن أجل الحرية والعقل، لا من أجل الهجوم السياسي على "حماس". أنا لا أقبل أن أضع نفسي في موقع من يزيد الضغوط على "حماس" لجعلها تركع وتعترف بإسرائيل.

فليسمحوا لي
ثم ليسمحوا لي أن أذكر بعضهم أنه حدثت عدة أمور مريرة في الأسبوع الماضي، لكن أحدا لم يقف ليحتج على السلطة وعلى قيادتها التي لم تتحرك. ففي البداية تم الدوس على نابلس، وتصرفت القيادة كأنه لا علاقة لها بالأمر. ثم اقتحم مقر المخابرات في "ام الشرايط" ولم يصدر حتى بيان عن الحادث. كأنه من المشروع لإسرائيل أن تفعل ذلك. ثم أعلن السافل بن أليعيزر أنه لم يقتل المصريين في عام 1967 بل قتل الفلسطينيين لكن أحدا لم يحتج. بل إن الرئيس ماض في خططه للقاء أولمرت، رغم هذا التصريح!!
لقد حصل كل هذا أمام أعيننا ولم يتحرك الرئيس. ونحن لم نتحرك لنقول له: توقف يجب أن ترد على هذا السافل بن أليعيزر، وان تعد العدة لتقديمه لمحاكمة دولية. لم نقف لنقول له هذا. جيد أن نقول للشاعر أن (قول يا طير) هو تراثنا وجزء من هويتنا. لكن كان علينا أن نقول للرئيس: قول يا طير، يا رئيس، للسافل بن أليعيزر ولو كلمة واحدة. قول يا رجل!. إذا أردتم هزيمة المتطرفين غير العقلانيين في "حماس" وخارجها، فيجب أن تدفشوا هذه القيادة حتى تبدي قدرا من المقاومة. أما هكذا، وهي تتصرف كالأموات، فسوف نتحول كلنا إلى مجانين!