شارل بودلير أقرب إليه من أبي تمام
عبد الإله الصالحي يقترح فلسفة جديدة في الشعر والحب والوطن
يبدو أن الشاعر المغربي المقيم بباريس عبد الإله الصالحي قد ترك قصيدته تنضج على نار هادئة، هو الذي بدأ الكتابة والنشر منذ منتصف الثمانينات، قبل أن يخرج في أول موكب شعري له مخفوراً بوعول النثر ومعمّداً بماء السرد في صياغة قلقه الشعري. "كلما لمستُ شيئاً كسرتُه" هو العنوان الذي اختاره الصالحي لديوانه الصادر مؤخرا عن دار توبقال بالدار البيضاء عساه يفضح منذ الغلاف "الرعونة" التي تميز كتابة الصالحي الشعرية. رعونةٌ مستحبة تحتفي بالشظايا وتمتدح اليأس بل وتجعل الشاعر يُسرف في لمس الأشياء والأحلام والنوايا مستمتعاً بما يخلّفه مزاجه الشعري الكاسر من حطام. حطامٌ شعري أزهرت فيه العديد من القصائد المتمردة والمنكسرة، لكن النظيفة تماماً من أوهام الحب والحنين. "صحيح أن العواطف تطعن غالباً من الخلف / لكن من الأفضل مباغتة الحنين في المهد". أما المنفى فلا أثر له في ديوان شاعر أمضى خمس عشرة عاما من عمره تحت سماء بودليرية خفيضة. وحدها الهجرة تتقدّم كحقّ مقدس كما يقول في قصيدته "شكراً جزيلاً جيل دولوز": "الهجرة حقٌّ مقدّسٌ، قلتَ ذات مرّة / لم يقلها أحدٌ قبلكَ ولم يجرأ على ترديدها أحدٌ بعدكَ / في هذه البلاد التي تزوجناها عن حبٍّ / أنا ومحمد وعبد القادر وفاطمة / وعربٌ آخرون تضيق بأسمائهم المغْبرة هذه القصيدة". من حسن حظّ الصالحي أنه لم يتسرّع في نشر ديوانه إلا بعد أن نال نصيبه من القلق والوحدة كاملاً، لذا سيورد تسجيلاته الشعرية متخففاً من نبرة التبرم والشكوى: "سبعمائة ألف امرأة تعشن وحيدات في باريس / أعمارهن تتراوح بين الثلاثين والأربعين / عازبات أو مطلقات أو أمهات. / كان صوت المذيع في غاية الحياد / وهو يلوك هذا الرقم العادي من تفاصيل المدنية الحديثة / مختتماً نشرة الأخبار. / سبعمائة ألف امرأة وحيدة / يا رجل / وأنت تعذب نفسك أمام شاشة الكمبيوتر منذ ساعتين / باحثا عن جملة مناسبة تعكس بؤس العيش بدون امرأة". تسجيل شعري ساخر لرجل لم يكفّ صوته عن "الحياد" وهو يقدّم نشرات الأخبار في راديو "مونتي كارلو" حيث يشتغل كمذيع. صوت لا يكفّ عن أن يكون كذلك مهما دنا من نار الشعر. ورغم أنه لا حياد مع القصيدة، إلا أن الصالحي يتبنى حياداً متعاطفاً وهو يرصد الهشاشة الإنسانية في عوالم غير شعرية تماماً. عوالم يجِدُّ في البحث عن مداخل شعرية لها.. في قصيدته عن بنات الليل في فضاءات الرباط المعتمة، لم يتبنّ الشاعر أية نبرة أخلاقية، كما لم يكتب انطلاقاً من غرائزه. بل على العكس ظلّ محايداً وصديقا لنفسه ولهن، وكتب بحياد طبيب ألِف غرس أصابعه، بالرأفة الصارمة ذاتها، في أكثر الجراح تعفنا: "إنهن أمامكَ: يانعات، مَرِحات ومتّقدات / وبما توفر لديهن من قدرة على التجاوب. / بمئتي درهم والقليل من الطيبوبة / يهبنكَ أجمل ما في العالم". لا يكتب الصالحي بمزاج مغتربٍ هيمان يكاد يقتله الحنين لتتمّ استعادة الوطن في قصائده على نحو رومانسي. بل إن الوطن والبلاد والمغرب أوجهٌ لعملة واحدة يتلمّسها بخبرة صيرفي قبل أن يكسر كل شيء. تكسير واع يريد منه الشاعر إعادة ترتيب الأشياء وتسميتها بمسميات جديدة: "في القطار السريع بين الرباط والدار البيضاء / بكينا بحرقة على البلاد / تبادلنا تُهماً خفيفة / وسمينا الإحباط مراكش". هكذا يتراجع الشوق ويغيب الحنين، لتصير البلاد مجرد غصة في الحلق. بلادٌ يكرهها أبناؤها باعتدال، يكرعون جفاف أعمارهم في حاناتها المعتمة. لا شيء يبدو صادقاً وصريحاً، باستثناء الصغيرات العابرات اللواتي يقايضن الفرح بمائتي درهم: "عندما تدخل فندقك في الهزيع الأخير من الليل / وحيداً، مخرَّباً / تتأمل مليا النافذة الموصدة / وتتأكد فجأة أن أولئك الصغيرات العابرات / أصدق شيء في هذه البلاد". بلادٌ يتشبث بها الشاعر رغم كل شيء. صحيح أن أبناء الجنرالات والوزراء وقادة الأحزاب اقتنعوا مبكراًَ بأن "الوطن فكرة مربحة"، لذا احترفوا ممارسة السياسة باسمه في فيلات سرية بضواحٍ تحرسها الكاميرات والكلاب المدربة، لكنه يأبى إلا أن يزاحمهم: "بنزق المعدمين أزاحمكم / بدمي الملوث / وفهمي الضيق للأشياء". ورغم إحساسه بالتفاهة وهو يزاحمهم في "هذا الفندق الضخم محتسيا بيرة عادية بسبعين درهما"، إلا أنه لن يتردد في مساءلتهم كما يجدر بشاعر يعتبر كتابة الشعر ممارسة سياسية: "أنتم في غاية الواقعية وتفهمون كيف أن تسعين في المائة من الشبان يفكرون في الهجرة / وأن أغلب الفتيات لا يملكن سوى أجسادهن لسدّ الرمق. / تفهمون أيضاً لماذا يفجّر الفقراء أنفسهم / ويحرقون المسافة إلى جنة تحتكرونها أنتم هنا على هذه الأرض". في الكتاب تمجيدٌ صاعقٌ للموت، لكن موت الشاعر يجب أن يكون جديراً به: "تعبنا من الشعراء الذين يحتضرون ببطء في المصحات / وأولئك الذين دفنوا أنفسهم في الوزارات والمؤسسات التعليمية". بل حتى "السم فكرة بليدة / والحبوب المنومة فكرة متقادمة". إذن، "ما رأيك في مسدس / أو بندقية صيد على طريقة همنغواي؟". وعلى طريقة ريتشارد بروتيغان، لمَ لا؟ بروتيغان، الشاعر الأمريكي الذي افتتح الصالحي ديوانه بمقطع من كتابه "إجهاض"، شاعرٌ قاده قلق التأمل إلى الكحول والبارانويا قبل أن يطلق رصاصة على رأسه ليتخفّف من صداع العيش. والصالحي إذ يستحضره منذ البداية فإنما يستدعي قرابةً شعرية تطلّ قسماتها من بين قصائده. قرابة مع شاعر ينجح في القصائد تماماً كما قد ينجح في الانتحار. قرابة الشعر عند الصالحي تتقدم على كل القرابات الأخرى. فهو لن يفاخر بالإرث الشعري للأسلاف بل سيجاهر بالإعلان عن قرابة شعرية وجمالية وقودها اليأس والجسارة: "شارل بودلير أقرب إلينا من أبي تمام". قرابةٌ ليست ثمينة ولا مقدسة ما دام الشاعر سيقدمها قرباناً في أول "انتحار عاطفي": "غافلتُ صديقها وحدثتها طيلة السهرة / عن حبّي الكبير لبوكوفسكي وبروتيغان وكارفير / أفهمتها بنظرة أنني جاهزٌ للقتال من أجل لمسة عابرة". صياغةُ التصدع في العلاقة بالسلالة سوف لا تنحصر في القرابة الشعرية لتطال الأبوة أيضاً. فهذه الأخيرة ستتخفف بدورها من كل قدسية دونما حاجة إلى شعار "قتل الأب". الأمر احتاج فقط إلى وصف هذا الأب بحياد لكي يلتحق بعشيرة الخطّائين: "أبوك ورفاقه / مازالوا يمتعوننا بذلك الزواج الفريد / بين الديالكتيك وتهشيم الأثاث في منتصف الليل بعد السكر". ولأن الشاعر أبٌ أيضا، فقد أصرّ على إهداء حطامه الشعري إلى ابنه سامي ومنذ مطلع اليأس. سامي الذي يخاطبه في قصيدته "أبوة": "عندما وُلِدتَ بكيتُ / خوفاً عليك وعليّ / ويئست بحرقَة. / بلَغتَ الآن ثمان سنوات / وكلما رأيتُكَ ـ مرّةً في الشهرـ / تجدّد يأسي من الحياة". لقد تفاقمت الانكسارات واستفحل اليأس واختنقت وسط كل هذا الحطام نبتة صغيرة اسمها الحب: "كل ما تعلمناه من الحب كان في الروايات والقصص والأشعار". لذا فالشاعر يقترح فلسفته الجديدة في قصيدته "الحب عام 2003": "اللحمُ بدل العاطفة / راية القناعة / جنس قاحلٌ تضيئه التكنولوجيا". إنه تصور غير مفاجئ من شاعر يردّد بأن العاطفة كلبٌ أجرب والحب حربٌ طاحنةٌ الشعراءُ في قائمة معطوبيها. وكما لو كان الناطق الرسمي باسم معطوبي هذه الحرب يقول: "حركاتنا مُحكمة / لكننا كالعادة، نفقد التوازن خارج اللغة" فيما "يخذلنا الكحول والشعر أكثر فأكثر". كأن الصالحي يزايد هنا على الشاعر المغربي الراحل أحمد المجاطي الذي قال مرة: "تسعفني الكأس ولا تسعفني العبارة". وإذا كان المجاطي قد كتب بصيغة المفرد فإن الصالحي يكتب بصيغة الجمع. لكن "نحن" التي يستعملها تبدو كما لو أنها معارَضَة غير عروضية ل"نحن" التي تلفَّع بها الزبرقان بن بدر ذات فخر: "نحن الكرام فلا حيٌّ يعادلنا ... إنّا كذلك عند الفخر نرتفع". النحن التي يتماهى بها الصالحي في ديوانه هي "نحن" منكسرة ومفتوحة على التشظي: "ماذا لو كنّا في الواقع مجرّد شخصيات ثانوية / لا تحتمل أدنى حبكة ... رأينا أشياء لا تصدّق / ونحن في أوج الانهيار". إنه جيلٌ مطمئن إلى يأسه من الشعر والحب والوطن. جيلٌ لم تسعفه لا الكأس ولا العبارة وخذله الكحول. جيل النهايات والمناحات الخرساء. جيلٌ "يتقيأ المستقبل كلّ صباح"، لذا فهو يتقدم نحو القصيدة برصانة مخمور وإلى المعنى بحكمة مجنون وإلى الحياة بثقة ميت لكي يعلن نهايته: "جئناكم كي تتأكدوا أننا انتهينا / قبل أن نبدأ". بروكسيل
يبدو أن الشاعر المغربي المقيم بباريس عبد الإله الصالحي قد ترك قصيدته تنضج على نار هادئة، هو الذي بدأ الكتابة والنشر منذ منتصف الثمانينات، قبل أن يخرج في أول موكب شعري له مخفوراً بوعول النثر ومعمّداً بماء السرد في صياغة قلقه الشعري. "كلما لمستُ شيئاً كسرتُه" هو العنوان الذي اختاره الصالحي لديوانه الصادر مؤخرا عن دار توبقال بالدار البيضاء عساه يفضح منذ الغلاف "الرعونة" التي تميز كتابة الصالحي الشعرية. رعونةٌ مستحبة تحتفي بالشظايا وتمتدح اليأس بل وتجعل الشاعر يُسرف في لمس الأشياء والأحلام والنوايا مستمتعاً بما يخلّفه مزاجه الشعري الكاسر من حطام. حطامٌ شعري أزهرت فيه العديد من القصائد المتمردة والمنكسرة، لكن النظيفة تماماً من أوهام الحب والحنين. "صحيح أن العواطف تطعن غالباً من الخلف / لكن من الأفضل مباغتة الحنين في المهد". أما المنفى فلا أثر له في ديوان شاعر أمضى خمس عشرة عاما من عمره تحت سماء بودليرية خفيضة. وحدها الهجرة تتقدّم كحقّ مقدس كما يقول في قصيدته "شكراً جزيلاً جيل دولوز": "الهجرة حقٌّ مقدّسٌ، قلتَ ذات مرّة / لم يقلها أحدٌ قبلكَ ولم يجرأ على ترديدها أحدٌ بعدكَ / في هذه البلاد التي تزوجناها عن حبٍّ / أنا ومحمد وعبد القادر وفاطمة / وعربٌ آخرون تضيق بأسمائهم المغْبرة هذه القصيدة".
من حسن حظّ الصالحي أنه لم يتسرّع في نشر ديوانه إلا بعد أن نال نصيبه من القلق والوحدة كاملاً، لذا سيورد تسجيلاته الشعرية متخففاً من نبرة التبرم والشكوى: "سبعمائة ألف امرأة تعشن وحيدات في باريس / أعمارهن تتراوح بين الثلاثين والأربعين / عازبات أو مطلقات أو أمهات. / كان صوت المذيع في غاية الحياد / وهو يلوك هذا الرقم العادي من تفاصيل المدنية الحديثة / مختتماً نشرة الأخبار. / سبعمائة ألف امرأة وحيدة / يا رجل / وأنت تعذب نفسك أمام شاشة الكمبيوتر منذ ساعتين / باحثا عن جملة مناسبة تعكس بؤس العيش بدون امرأة". تسجيل شعري ساخر لرجل لم يكفّ صوته عن "الحياد" وهو يقدّم نشرات الأخبار في راديو "مونتي كارلو" حيث يشتغل كمذيع. صوت لا يكفّ عن أن يكون كذلك مهما دنا من نار الشعر. ورغم أنه لا حياد مع القصيدة، إلا أن الصالحي يتبنى حياداً متعاطفاً وهو يرصد الهشاشة الإنسانية في عوالم غير شعرية تماماً. عوالم يجِدُّ في البحث عن مداخل شعرية لها.. في قصيدته عن بنات الليل في فضاءات الرباط المعتمة، لم يتبنّ الشاعر أية نبرة أخلاقية، كما لم يكتب انطلاقاً من غرائزه. بل على العكس ظلّ محايداً وصديقا لنفسه ولهن، وكتب بحياد طبيب ألِف غرس أصابعه، بالرأفة الصارمة ذاتها، في أكثر الجراح تعفنا: "إنهن أمامكَ: يانعات، مَرِحات ومتّقدات / وبما توفر لديهن من قدرة على التجاوب. / بمئتي درهم والقليل من الطيبوبة / يهبنكَ أجمل ما في العالم".
لا يكتب الصالحي بمزاج مغتربٍ هيمان يكاد يقتله الحنين لتتمّ استعادة الوطن في قصائده على نحو رومانسي. بل إن الوطن والبلاد والمغرب أوجهٌ لعملة واحدة يتلمّسها بخبرة صيرفي قبل أن يكسر كل شيء. تكسير واع يريد منه الشاعر إعادة ترتيب الأشياء وتسميتها بمسميات جديدة: "في القطار السريع بين الرباط والدار البيضاء / بكينا بحرقة على البلاد / تبادلنا تُهماً خفيفة / وسمينا الإحباط مراكش".
هكذا يتراجع الشوق ويغيب الحنين، لتصير البلاد مجرد غصة في الحلق. بلادٌ يكرهها أبناؤها باعتدال، يكرعون جفاف أعمارهم في حاناتها المعتمة. لا شيء يبدو صادقاً وصريحاً، باستثناء الصغيرات العابرات اللواتي يقايضن الفرح بمائتي درهم: "عندما تدخل فندقك في الهزيع الأخير من الليل / وحيداً، مخرَّباً / تتأمل مليا النافذة الموصدة / وتتأكد فجأة أن أولئك الصغيرات العابرات / أصدق شيء في هذه البلاد". بلادٌ يتشبث بها الشاعر رغم كل شيء. صحيح أن أبناء الجنرالات والوزراء وقادة الأحزاب اقتنعوا مبكراًَ بأن "الوطن فكرة مربحة"، لذا احترفوا ممارسة السياسة باسمه في فيلات سرية بضواحٍ تحرسها الكاميرات والكلاب المدربة، لكنه يأبى إلا أن يزاحمهم: "بنزق المعدمين أزاحمكم / بدمي الملوث / وفهمي الضيق للأشياء". ورغم إحساسه بالتفاهة وهو يزاحمهم في "هذا الفندق الضخم محتسيا بيرة عادية بسبعين درهما"، إلا أنه لن يتردد في مساءلتهم كما يجدر بشاعر يعتبر كتابة الشعر ممارسة سياسية: "أنتم في غاية الواقعية وتفهمون كيف أن تسعين في المائة من الشبان يفكرون في الهجرة / وأن أغلب الفتيات لا يملكن سوى أجسادهن لسدّ الرمق. / تفهمون أيضاً لماذا يفجّر الفقراء أنفسهم / ويحرقون المسافة إلى جنة تحتكرونها أنتم هنا على هذه الأرض".
في الكتاب تمجيدٌ صاعقٌ للموت، لكن موت الشاعر يجب أن يكون جديراً به: "تعبنا من الشعراء الذين يحتضرون ببطء في المصحات / وأولئك الذين دفنوا أنفسهم في الوزارات والمؤسسات التعليمية". بل حتى "السم فكرة بليدة / والحبوب المنومة فكرة متقادمة". إذن، "ما رأيك في مسدس / أو بندقية صيد على طريقة همنغواي؟". وعلى طريقة ريتشارد بروتيغان، لمَ لا؟ بروتيغان، الشاعر الأمريكي الذي افتتح الصالحي ديوانه بمقطع من كتابه "إجهاض"، شاعرٌ قاده قلق التأمل إلى الكحول والبارانويا قبل أن يطلق رصاصة على رأسه ليتخفّف من صداع العيش. والصالحي إذ يستحضره منذ البداية فإنما يستدعي قرابةً شعرية تطلّ قسماتها من بين قصائده. قرابة مع شاعر ينجح في القصائد تماماً كما قد ينجح في الانتحار.
قرابة الشعر عند الصالحي تتقدم على كل القرابات الأخرى. فهو لن يفاخر بالإرث الشعري للأسلاف بل سيجاهر بالإعلان عن قرابة شعرية وجمالية وقودها اليأس والجسارة: "شارل بودلير أقرب إلينا من أبي تمام". قرابةٌ ليست ثمينة ولا مقدسة ما دام الشاعر سيقدمها قرباناً في أول "انتحار عاطفي": "غافلتُ صديقها وحدثتها طيلة السهرة / عن حبّي الكبير لبوكوفسكي وبروتيغان وكارفير / أفهمتها بنظرة أنني جاهزٌ للقتال من أجل لمسة عابرة".
صياغةُ التصدع في العلاقة بالسلالة سوف لا تنحصر في القرابة الشعرية لتطال الأبوة أيضاً. فهذه الأخيرة ستتخفف بدورها من كل قدسية دونما حاجة إلى شعار "قتل الأب". الأمر احتاج فقط إلى وصف هذا الأب بحياد لكي يلتحق بعشيرة الخطّائين: "أبوك ورفاقه / مازالوا يمتعوننا بذلك الزواج الفريد / بين الديالكتيك وتهشيم الأثاث في منتصف الليل بعد السكر". ولأن الشاعر أبٌ أيضا، فقد أصرّ على إهداء حطامه الشعري إلى ابنه سامي ومنذ مطلع اليأس. سامي الذي يخاطبه في قصيدته "أبوة": "عندما وُلِدتَ بكيتُ / خوفاً عليك وعليّ / ويئست بحرقَة. / بلَغتَ الآن ثمان سنوات / وكلما رأيتُكَ ـ مرّةً في الشهرـ / تجدّد يأسي من الحياة".
لقد تفاقمت الانكسارات واستفحل اليأس واختنقت وسط كل هذا الحطام نبتة صغيرة اسمها الحب: "كل ما تعلمناه من الحب كان في الروايات والقصص والأشعار". لذا فالشاعر يقترح فلسفته الجديدة في قصيدته "الحب عام 2003": "اللحمُ بدل العاطفة / راية القناعة / جنس قاحلٌ تضيئه التكنولوجيا". إنه تصور غير مفاجئ من شاعر يردّد بأن العاطفة كلبٌ أجرب والحب حربٌ طاحنةٌ الشعراءُ في قائمة معطوبيها. وكما لو كان الناطق الرسمي باسم معطوبي هذه الحرب يقول: "حركاتنا مُحكمة / لكننا كالعادة، نفقد التوازن خارج اللغة" فيما "يخذلنا الكحول والشعر أكثر فأكثر". كأن الصالحي يزايد هنا على الشاعر المغربي الراحل أحمد المجاطي الذي قال مرة: "تسعفني الكأس ولا تسعفني العبارة".
وإذا كان المجاطي قد كتب بصيغة المفرد فإن الصالحي يكتب بصيغة الجمع. لكن "نحن" التي يستعملها تبدو كما لو أنها معارَضَة غير عروضية ل"نحن" التي تلفَّع بها الزبرقان بن بدر ذات فخر: "نحن الكرام فلا حيٌّ يعادلنا ... إنّا كذلك عند الفخر نرتفع". النحن التي يتماهى بها الصالحي في ديوانه هي "نحن" منكسرة ومفتوحة على التشظي: "ماذا لو كنّا في الواقع مجرّد شخصيات ثانوية / لا تحتمل أدنى حبكة ... رأينا أشياء لا تصدّق / ونحن في أوج الانهيار".
إنه جيلٌ مطمئن إلى يأسه من الشعر والحب والوطن. جيلٌ لم تسعفه لا الكأس ولا العبارة وخذله الكحول. جيل النهايات والمناحات الخرساء. جيلٌ "يتقيأ المستقبل كلّ صباح"، لذا فهو يتقدم نحو القصيدة برصانة مخمور وإلى المعنى بحكمة مجنون وإلى الحياة بثقة ميت لكي يعلن نهايته: "جئناكم كي تتأكدوا أننا انتهينا / قبل أن نبدأ".
بروكسيل