بين وهج الشارع ومسرحيات الأنظمة
عادة ما نحب المدن لبهائها وسحرها الذي يترك أثرا جماليا في النفس، أو نحبها لإرثها الثقافي والتاريخي الذي يأسر العقل قبل القلب فتشدنا رائحة الأماكن العتيقة.. لكني أحببتُ غزة لكثرة ما نزفتْ!! غزة... هذا الوجه الشاحب الذي تعلقتُ به منذ سنين وأرّختُ لوجعه في رسائل تتحدى النار والحصار بدأتُ كتابتها منذ ثلاث سنوات عندما اشتد الحصار وأُغلقت المعابر، ومُنعت عنها كل أسباب الحياة من ماء ورغيف وكهرباء.. غزة هاتان العينان الغائرتان في محجري تاريخ مليء بالنكبات والأيام السوداء بداية بوعد بلفور المشؤوم، ومرورا بمجازر دير ياسين وصبرا وشاتيلا ووصولا إلى محرقة غزة.. غزة هذه القضية الطاعنة في اليتم والتي تفضح عجزنا كلما تعلق الأمر بالعزة والكرامة، وتؤكد هزيمتنا كلما خضنا معركة الشرف الرفيع. غزة... أحس أني أعرفها مدينة مدينة.. شارعا شارعا.. حارة حارة.. حجرا حجرا، بل أني أتحسسها كل يوم خيمة خيمة.. وجها وجها، وقد كنتُ منذ سنوات أكتب رسائل من غزة على لسان فاطمة ترسلها إلى زوج غادر تربتها وتركها وأطفالها وقضيتها بين أحضان خيمة متهاوية.. رسائل تكتب من خلالها خيبتها في زوج خرج ولم يعد، وإخوان لم ينتصروا لها، رسائل تصور بشاعة وجبروت عدو يخنق الجنين في بطن أمه حتى لا يكون من يرث القضية.. سكنتني شخصية فاطمة إلى درجة أني لم أعد أميز بين ملامحها وملامحي وبين نبضها ونبضي، ولازلت أذكر شهادة طبيب جراح مصري يقضي معظم وقته في غرفة العمليات، قرأ بعضا من هذه الرسائل وتأثر بها فقال: "كاتبة هذه الرسائل لا يمكن أن تكون إلا فلسطينية!" تذكرتُ هذه الشهادة وأنا أقف على انتفاضة الشارع العربي غضبا لما يجرى في غزة وسخطا على هذه المحرقة التي أقامتها إسرائيل لأطفال غزة وباركتها أمريكا بأسلحة حارقة، وقلتُ في نفسي " هذه الوجوه الثائرة لا يمكن إلا أن تكون فلسطينية ".. غضب الشارع العربي أكّد أن فلسطين تسكن قلب كل عربي، ومحرقة غزة لغت الحدود الزائفة وعَبَرت على الجنسيات الواهية، وهبّ الشعب العربي كرجل واحد لأجل وقف هذه المجزرة التي أتت على كل معالم الإنسانية مطالبين بتحرك رسمي واضح... غضب الشارع أرْبك الأنظمة العربية وجعلها تتحرك ذات اليمين وذات الشمال وتخبط خبط عشواء، ولم تدر ما تفعل سوى أن تلجأ إلى مسرحيات المنحدرات العربية ـ عفوا ـ أقصد القمم العربية، ولم تكتف بقمة عربية واحدة مهلهلة ـ كما تعودت عند كل كارثة عربية ـ بل كانت القمة الأولى في قطر.. ثم تناسلت هذه القمة الكسيحة إلى قمم أخرى هنا وهناك، ولكنها لم تكن كافية لحفظ ماء الوجه الذي ضاع بين أنقاض غزة، وتحت الأشلاء المتناثرة لأطفال وشباب ونساء ذنبهم الوحيد أنهم من عرق عربي يأبى الانحناء، ويرفض الاستسلام والخروج من الديار، وتسليم الأرض لأنها العرض... قمم خرجت ـ كالعادة ـ بشجب وتنديد وشبه قرارات خاوية لم ترق إلى مستوى غضب الشارع، ولم تكن في اتجاه آرائه. السؤال الذي يحيرني دائما وعند كل كارثة عربية.. لماذا هذا التباين الكبير بين رأي الشارع ورأي الحكام؟! أليس من المفروض أن يكون هؤلاء الحكام قد خرجوا من رحم هذا الشعب الثائر؟! أم أنّ الرحم واحد والحضن هو الذي اختلف؟!
عادة ما نحب المدن لبهائها وسحرها الذي يترك أثرا جماليا في النفس، أو نحبها لإرثها الثقافي والتاريخي الذي يأسر العقل قبل القلب فتشدنا رائحة الأماكن العتيقة.. لكني أحببتُ غزة لكثرة ما نزفتْ!! غزة... هذا الوجه الشاحب الذي تعلقتُ به منذ سنين وأرّختُ لوجعه في رسائل تتحدى النار والحصار بدأتُ كتابتها منذ ثلاث سنوات عندما اشتد الحصار وأُغلقت المعابر، ومُنعت عنها كل أسباب الحياة من ماء ورغيف وكهرباء.. غزة هاتان العينان الغائرتان في محجري تاريخ مليء بالنكبات والأيام السوداء بداية بوعد بلفور المشؤوم، ومرورا بمجازر دير ياسين وصبرا وشاتيلا ووصولا إلى محرقة غزة.. غزة هذه القضية الطاعنة في اليتم والتي تفضح عجزنا كلما تعلق الأمر بالعزة والكرامة، وتؤكد هزيمتنا كلما خضنا معركة الشرف الرفيع.
غزة... أحس أني أعرفها مدينة مدينة.. شارعا شارعا.. حارة حارة.. حجرا حجرا، بل أني أتحسسها كل يوم خيمة خيمة.. وجها وجها، وقد كنتُ منذ سنوات أكتب رسائل من غزة على لسان فاطمة ترسلها إلى زوج غادر تربتها وتركها وأطفالها وقضيتها بين أحضان خيمة متهاوية.. رسائل تكتب من خلالها خيبتها في زوج خرج ولم يعد، وإخوان لم ينتصروا لها، رسائل تصور بشاعة وجبروت عدو يخنق الجنين في بطن أمه حتى لا يكون من يرث القضية.. سكنتني شخصية فاطمة إلى درجة أني لم أعد أميز بين ملامحها وملامحي وبين نبضها ونبضي، ولازلت أذكر شهادة طبيب جراح مصري يقضي معظم وقته في غرفة العمليات، قرأ بعضا من هذه الرسائل وتأثر بها فقال: "كاتبة هذه الرسائل لا يمكن أن تكون إلا فلسطينية!"
تذكرتُ هذه الشهادة وأنا أقف على انتفاضة الشارع العربي غضبا لما يجرى في غزة وسخطا على هذه المحرقة التي أقامتها إسرائيل لأطفال غزة وباركتها أمريكا بأسلحة حارقة، وقلتُ في نفسي " هذه الوجوه الثائرة لا يمكن إلا أن تكون فلسطينية ".. غضب الشارع العربي أكّد أن فلسطين تسكن قلب كل عربي، ومحرقة غزة لغت الحدود الزائفة وعَبَرت على الجنسيات الواهية، وهبّ الشعب العربي كرجل واحد لأجل وقف هذه المجزرة التي أتت على كل معالم الإنسانية مطالبين بتحرك رسمي واضح... غضب الشارع أرْبك الأنظمة العربية وجعلها تتحرك ذات اليمين وذات الشمال وتخبط خبط عشواء، ولم تدر ما تفعل سوى أن تلجأ إلى مسرحيات المنحدرات العربية ـ عفوا ـ أقصد القمم العربية، ولم تكتف بقمة عربية واحدة مهلهلة ـ كما تعودت عند كل كارثة عربية ـ بل كانت القمة الأولى في قطر.. ثم تناسلت هذه القمة الكسيحة إلى قمم أخرى هنا وهناك، ولكنها لم تكن كافية لحفظ ماء الوجه الذي ضاع بين أنقاض غزة، وتحت الأشلاء المتناثرة لأطفال وشباب ونساء ذنبهم الوحيد أنهم من عرق عربي يأبى الانحناء، ويرفض الاستسلام والخروج من الديار، وتسليم الأرض لأنها العرض... قمم خرجت ـ كالعادة ـ بشجب وتنديد وشبه قرارات خاوية لم ترق إلى مستوى غضب الشارع، ولم تكن في اتجاه آرائه.
السؤال الذي يحيرني دائما وعند كل كارثة عربية.. لماذا هذا التباين الكبير بين رأي الشارع ورأي الحكام؟! أليس من المفروض أن يكون هؤلاء الحكام قد خرجوا من رحم هذا الشعب الثائر؟! أم أنّ الرحم واحد والحضن هو الذي اختلف؟!