انتهى الفصل المؤلم والمخجل لمحكمة التفتيش "الإسلاموية" في فلسطين التي عُقدت في فبراير (شباط) الماضي على عجل لإعدام كتاب "قول يا طير"، أحد أبرز سجلات توثيق الحكاية الشعبية الفلسطينية، وتدوين "خراريف" (أي حكايات) الأمهات والجدات، التي ما فتئتْ تلكز الخيال، في طور تبرعمه وتشكّله، وتشحذ الروح التوّاقة لكل ما هو غرائبي وفاتن، لتشرع البصر والبصيرة على الحب والجمال، منتزعة من السامعين الضحكة الصافية، كالماء الرقراق، من المواقف الكوميدية، مستنطقةً الجزع والخوف من عيونهم، مستلة من أفواههم المفتوحة على دهشة متجددة تنهيدة الراحة إذ ينتصر الخير (في صورة البطل غير الخارق القابل لأن نتماهى معه)، أخيراً، على الشرّ (مجسداً في غالب "الخراريف" في "الغول" أو "الغولة")، أو مترقبين النهاية المأمولة إذ يتزوج الأمير "سندرلته" الفقيرة!
لقد انتهى هذا الفصل المريع، لكن ذيوله وآثاره قطعاً لم تنته! وكانت حالة من الغضب والذعر قد سادت الأوساط الثقافية والفكرية في فلسطين وأنحاء مختلف من العالم العربي حين كشفت صحيفة "الأيام" الفلسطينية في مارس (آذار) الماضي عن وثيقة صادرة عن مديرية التربية والتعليم في محافظة نابلس تظهر قراراً اتخذته وزارة التربية والتعليم يقضي بـ"إتلاف" جميع نسخ كتاب "قول يا طير" الموجودة في مكتبات المدارس الفلسطينية، تحت ذريعة "وجود ألفاظ تخدش الحياء". وبحسب القرار، تُنفذ عملية "إتلاف" الكتاب على يد "كتيبة إعدام تربوية" مؤلفة من ثلاثة أشخاص (مدير المدرسة ومدير المكتبة وأحد المعلمين)، مع إعطاء مهلة أسبوع لاستكمال مهمة الإعدام! علماً بأنه من المرجح جداً ومن الوارد جداً أن يكون هؤلاء "التربويون" الأشاوس الذين أخذوا على عاتقهم مهمة إخراس لسان الطير قد تربّوا، هم أنفسهم على هذه الحكايات.. كبروا على صوت أمهاتهم وجداتهم الدافئ إذ كن يحتضنّهم في أسرتهم ليقصصن عليهم حكاية "الطير الأخضر" أو جبينة" أو "العصفورة الزغيرة" أو "نص انصيص" أو "أبو اللبابيد" أو "الشاطر حسن". وإذ ما ارتفع أزيز طائرات الـ"إف 16" الإسرائيلية في السماء الفلسطينية الواطئة، تبحث عن بيت فلسطيني تحيله مع ساكنيه إلى ركام، كان هؤلاء "التربويون الأشاوس" أنفسهم يلتزون على جسد الأم والجدة، في ما يرتفع صوت الراوية، بلسان الطير، لتقول وتقول فيطغى صوتها على أزيز الطائرات الحاقدة!
كتاب "قول يا طير: نصوص ودراسة في الحكاية الشعبية الفلسطينية"، الذي جرت محاكمته و"التنكيل" بما لا يقل عن 1500 نسخة منه، يُعدّ من أمهات الكتب التي تؤرخ للحكاية الشعبية الفلسطينية، وتعالج التراث الشفاهي الفلسطيني والإنساني، بوصفه أحد أوجه الثقافة الجمعية/ المجتمعية. يضم الكتاب، الذي أعده الأكاديميان إبراهيم مهوي (أستاذ الأدب العربي المعاصر ونظرية الترجمة في جامعة إدنبرة باسكتلنده) وشريف كناعنة (أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في جامعة بير زيت بفلسطين) خمساً وأربعين حكاية (خرافية) من مئتي حكاية جمعها الباحثان من أفواه "رواة"، نساء في معظمهن. وكان الكتاب قد صدر في نسخته الأولى باللغة الإنجليزية عام 1989، ثم تُرجم إلى اللغة الفرنسية في العام 1997، قبل صدوره باللغة العربية (اللهجة الدارجة الفلسطينية) عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في العام 2001، حيث ترجمه وحققه كل من إبراهيم مهوي وجابر سليمان.
وجاء في سياق تقديم مؤسسة الدراسات الفلسطينية للكتاب أن القصص المنتقاة جاءت "باعتبارها الحكايات الأكثر رواجاً بين أبناء الشعب الفلسطيني، ولقيمتها الفنية (جمالياتها وحسن أدائها)، ولما تبرزه من ملامح عن الثقافة الشعبية في فلسطين. وكان الداعي الأساسي إلى وضع هذا الكتاب لا الحفاظ على فن قصصي نسائي كان واسع الانتشار عندما كان الشعب الفلسطيني يمارس ثقافته على كامل أرضه فحسب، بل أيضاً كي نعرض صورة علمية وموضوعية للثقافة العربية النابعة من أرض فلسطين ومن تراثها الإنساني الذي تضرب جذوره في عروق التاريخ، ولإبراز خصوصية هذه الثقافة كان علينا أن نضع الحكايات باللغة العربية الدارجة التي رويت بها، وأن نرفقها بدراسة معمقة على عدة مستويات تبرز الملامح الوطنية لهذه الثقافة، وفي الوقت ذاته تربطها بمحيطها العربي وبالثقافة الإنسانية على صعيد العالم بأكمله."
لعل الغضب يبدو مضاعفاً هنا إذا عرفنا أن "قول يا طير" لا يمكن تصنيفه ككتاب "مدرسي" أو للأطفال بقدر ما هو كتاب علمي أكاديمي تاريخي، يعد مرجعاً في أحد أبرز جوانب الثقافة الشفاهية الإنسانية، حيث صدر في طبعته الإنجليزية عن دار "بيركلي"، التي تعدّ من أعرق دور النشر العالمية، كما يستخدم كمرجع في مساقات دراسية في جامعات عالمية مرموقة مثل "هارفارد". وتعد القصص التي يضمها بين دفتيه امتداداً لإرث عالمي عمره أكثر من ثلاثة آلاف عام، بجذور تتقاطع مع الإرث الحكائي السومري والأكادي والفرعوني. وهو ما يعني أن محاكمة "قول يا طير" تتعدى الإرث الفلسطيني لتطال وحشيتها الإرث الإنساني، وهو إرث عظيم تجاوز انهيار الحضارات واضمحلال الأمم عبر التاريخ، مكتسباً شرعيته من قابليته للحياة والتجدد والإبداع، والأهم من حرص القائمين على التراث الإنساني، بوصفه لصيقاً بهوية الأمم وعنصراً معززاً لشرعيتها في الوجود، على حفظه وحمايته. (ألا سعى الكيان الصهيوني، ولا يزال، إلى اجتراح إرث له في أرض فلسطين بأي ثمن، فقط ليضفي على وجوده قيمة شرعية و"أخلاقية"؟ وحين عجز عن صنع إرثه سعى، ولا يزال، إلى سرقة إرث أهل البلاد التي اغتصبها، من لباس وطعام فولكلوري، وأغنيات شعبية متداولة، حشر مفرداته في لحنها حشراً؟!)
على الرغم من تراجع وزارة التربية والتعليم الفلسطينية عن قرارها الظلامي، وإقرار ناصر الدين الشاعر، وزير التربية، بأن "التعميم السابق (إتلاف الكتاب) كان إجراءً غير قانوني وتم إلغاؤه،" معلناً بأنه بعد التحقيق في الموضوع تبين بأن"الجهة التي أصدرت التعميم هي ليست جهة ذات اختصاص"، بحسب قوله، وبعيداً عن "تسييس" القضية لصالح جهة أو حزب على حساب جهة أخرى، فإن السؤال الذي تطرحه "الكلمة" وكل كلمة استحقت أن تكون، حرة، قائمة بسلطتها، بذاتها القائمة، المكتسبة شرعيتها من شرفها ودورها على مر التاريخ: من الذي يملك أن يقرر ما "يخدش الحياء"؟ من الذي يملك الحق في مصادرة الخيال وخنقه؟ بأي وقاحة نقرر أن نشطب إرثاً؟ بأي قدر من اللا إنسانية نقرّر أن نقطع الشريان الرئيس الذي يرفد حاضرنا المرّ، الذي تتربص به الهزيمة والانكسار، بماض يحيلنا لكل ما هو عذب وجميل، بكل ما هو إنساني ونبيل؟