جارتنا السيدة العجوز تشطف الثلج وأنا لم أغسل شرفتي بعد. امتلأ المربع الحجري بمياه الأمطار المتدفقة، وترجرجت المرايا المثلجة عليها وأنا منشغلة برصد شجرة اللوز التي فرت الطيور من أغصانها خلال العاصفة. لم نتوقع أن يهطل الثلج في هذا الشهر الذي يبشر منتصفه بقدوم الربيع، لكن سحر الأشياء الذي زرع في قلوبنا منذ الطفولة عبر القصص الشعبية مثل "جبينة" و"نمولة" و"الشاطر حسن " علمنا أن ننتظر فتنة الطبيعة الكاسحة حين تكون خارجة عن المألوف، وأن نفتح قلوبنا للمسة الربيع الرقيقة، ولذعة الشتاء الباردة، وأن تمتعنا ألوان الصيف الكاسحة، كما تأخذ أنفاسنا تدرجات ألوان الخريف بروعتها.
هذه القصص الشعبية هي التي صاغت وجداننا الجمعي، وصنعت ارتباطنا بالأرض والمكان. كنت في سنواتي الأولى أظل جالسة على مائدة الطعام في بيتنا أنتظر أبي الطبيب كي يأتي ويفك عقدة صعوبة البلع التي تعتريني بشكل شبه يومي، فتصيب أمي معلمة المدرسة بغضب دائم لا شفاء منه، وتدفع بالنكد إلي نهاري منغصة علي فرحتي باللعب الذي يسعد طفولتي المؤقتة.
أتجمد على الكرسي مثل اللقيمات التي تجلدت داخل الصحن البارد، وأقاسي من العقوبة البيتية التي لا تجيز لي ترك المائدة دون إكمال طعامي، ولا أعرف سوى كراهيتي لتلك اللقيمات المفروضة علي. أظل مضربة عن الأكل، ومشمئزة من النظر إلى الصحن بعد أن أضحى شكله مقرفاً لشدة تحريكي لما يحتويه، فلربما يختفي وأرتاح منه. أقاسي من العقوبة الملزمة التي لا تجيز لي التحرك إلا إذا قمت بتناول ما تبقى بداخله. أواصل الجلوس ساعة أو ساعتين، وما يزيد عنها أحياناً فيضيق الكرسي بي، ويخشن قماشه تحتي، كما تتصاغر أضلاعه التي لا يمكنني القفز منها إلى أية بقعة أخرى. أظل أسيرة ومربوطة بحبال غير مرئية حتى يأتي أبي، ينصرف من العيادة، ويتناول طعامه معي. يجلس بجانبي ويأتي بالمفتاح السحري كي يفك عقدة استحالة البلع التي أضحت مزمنة ودائمة، ويبدأ في حكاية قصة "نص انصيص". ذلك القزم وحده كان يضيء عالمي، فأستزيد من حكاياته التي تمر هنيئاً مريئاً إلى زوري مع الطعام الذي يصبح فجأة مستساغاً، ولطيفاً.
نبدأ من بهلوانيات "نص انصيص"، ومن سخريته المرة من الحكام وهو يركب الحمار بالمقلوب، ويضع "الكرشة" على رأسه، ومن شطارته غير المتوقعة، وخفة دمه العفوية. أرى في العبارات أمه الحكيمة التي تصدق جنونه دائماً، رغم أن الجميع لا يؤمنون بما يقوله، وأستطيع أن أدرك في قرارة نفسي بأن أمه كانت الشعب المغلوب على أمره دائماً.
عبر مغامرات "نص إنصيص" واقتراحاته العجيبة وأفعاله غير المتوقعة تعلمت معنى معارضة السائد وعدم المشي مع التيار. ومن وضعه "الكرشة" على رأسه دون وجل، ولدغه لبعض الحروف، تغلبت على "الصورة المفترضة" التي يجب علينا اتباعها. ولم أكن إلا واحدة من أطفال فلسطين الذين روت عروقهم قصص الحكايات الشعبية، كي يعرفوا خصوصية الخيال الجمعي، وتأثيره الجمالي والفلسفي على حياتنا اليومية.
أنظر إلى جارتي العجوز التي ترتدي الثوب الفلسطيني التقليدي المطرز بالغرز "الفلاحية"، وأتابعها من نافذتي. تطاريز ثوبها تحمل تاريخاً حافلاً من الرموز والأشكال، فعلى رقعة الثوب الواحد نرى تجاور النجمة الكنعانية مع شجرات السرو و"سبلات القمح"، مجاورة لرأس التنين وسيقان النخل. وعلى الصدر نلمح عروقاً للزهور والورود، بينما تشرئب الوحدات الزخرفية الملونة على جانبي الثوب كي تعطي تاريخاُ للمقاطع الزمنية، ونبذة عن الهوية الجغرافية والاجتماعية لمن ترتديه. أي روعة تصنعها أصابع النساء وهن يطرزن تاريخهن العام والشخصي على لباسهن، وكيف يمكن للأيديولوجيا كائنة ما كانت، وتحت أي لواء تتذرع به أن تمحو بصمات الناس عن تواريخهم، لكي تقترح عليهم محو تنوع التاريخ والحياة تحت حجة اللباس الواحد، والكلمة الواحدة. أي استبداد يريد محو "نص انصيص" و"الست بدور" و"الشاطر حسن" و"جبينة" من ذاكرتنا وتاريخ أطفالنا، فقط لأن فريقاً ما يريد البطش بالكلمات وبالذاكرة.
كتاب الحكاية الشعبية "قول يا طير" قام على تصنيفه وجمعه ووضعه بالإنجليزية الأستاذان شريف كناعنة وابراهيم مهوي وهما من أبرز الأكاديميين في ميدان الحكايات الشعبية والأنثروبولوجيا. صدر الكتاب مع دراسة مفصلة ومعمقة حول علاقة هذه الحكايات بالحياة والتقاليد اليومية والثقافة الشفوية. أشار فيها الباحثان إلى دور النساء المتميز في تأليف ورواية وحكاية الخيال الجمعي التي ترسم المجتمع وعلاقاته الطبقية في فلسطين. ثم ترجم الكتاب إلى الفرنسية وأعيد نشره بالعربية، مما أفسح الفرصة للحكايات كي تصير مجالاً للبحث الأكاديمي والتدريسي. وقامت وزارة الثقافة بالاتفاق مع وزارة التربية الفلسطينية بتوزيع هذا الكتاب لمدربي برنامج أدب الأطفال الذي أنشئ في المدارس بشكل ريادي من قبل الجانبين. فلا يخفى على أحد أن فلسطين حصلت على قصب السبق في مضمار تدريس أدب الأطفال، ضمن منهاج التعليم المدرسي الرسمي، عبر مشروع طموح لم يكن هنالك ما يوازيه في الدول العربية. وعبر المشروع ذاته لنشر أدب الأطفال وتعميمه أقامت وزارة الثقافة الفلسطينية منذ أكثر من خمس سنوات وبمساعدة من دول أوروبية مانحة 73 مكتبة للأطفال في المدن والقرى وأماكن التجمعات السكانية: في غزة والضفة الغربية، وهو عدد غير مسبوق حتى في الدول العربية التي لا ترزح تحت نير الاحتلال، ومصاعبه الجمة التي يفرضها على الحياة اليومية.
بالاختصار، وزع الكتاب لمرشدي دورات أدب الأطفال وللمعلمين في مكتبات المدارس كي تتم الاستفادة من ذخيرته العلمية الثقافية.عام 2005 نالت فلسطين تكريماً خاصاً من اليونسكو تكرست فيه الحكاية الشعبية الفلسطينية كواحدة من أولى معالم التراث الشفوي الإنساني الذي يتحتم على البشرية جمعاء المحافظة عليها. وتأتي الآن وزارة التربية والتعليم في فلسطين (أعيد تعيين الوزير في حكومة الوحدة الوطنية الحالية) كي تشطب قرارها الأول بالحصول على الكتاب، عبر إتلافه وحرقه نهائياً، كي لا يعثر عليه أحد. وإن تم التراجع الشكلي عن هذا القرار تحت ضغوط هائلة مارسها المثقفون والأكاديميون وأصحاب الكلمة، فما الذي يضمن أن لا يتعرض التراث الشعبي كله للحرق بشكل منهجي؟ ثم كيف يمكن لوزارة أن تهدر المال العام الذي أنفق على توزيع آلاف النسخ من هذا الكتاب دون أن يعرف أحد بما يجري لولا أن صحيفة يومية حصلت على نص قرار الإتلاف ونشرته بعد شهر من صدوره. ومن الذي يضمن أن لا يتم التنصل حالياً مما يجري كي يتم الإجهاز على كل ما يمكن الوصول إليه من حكاياتنا وتراثنا الشعبي؟ هل بالإمكان أن يحرق "نص انصيص" وأن يباد لأسباب أيديولوجية؟
أخاف أن يكبر لدينا جيل جديد في فلسطين لا يحب ألوان غطاء رأس جارتنا العجوز، ولا تطاريز ثيابها الملونة بقوس قزح من تاريخنا القديم. جيل تعرض على بعضه شرائط "عذاب القبر" كي توهمه بأن "نص انصيص" لم يوجد أبداً في الحياة.