الهولنديون يرون في لوحته مقابر سومرية وصخور بابلية وكنائس هدأت فيها الأجراس. والعراقيون، أبناء جلدته، يتهامسون عن ضياع الفنان وتآكل روحه بالمنفى. في حين يرى أصدقائه القليلون أن لوحته تشبهه، مبهرة ومليئة بالأسئلة، فيها الكثير من المشاعر الدافئة استبقاها الفنان لنفسه في الظل، متكدسة في حقيبة سفر أو سرير مهجور أو غصن تسلل من شباك. قد لا يفيد كثيرا البحث في لوحة "بشير مهدي" عن معاناتنا، عن مأساوية ما يحدث في شرقنا المنهك والمضطرب، فلوحته لا تحاكي الواقع أو تحاول إفهامنا، ولكنها تشير بأدواتها إلى حالة وجودية نلمسها ولا نعرفها، وتدعونا للبحث عن التفاصيل والاستمتاع بالتيه كبداية لمعرفة الطريق، بمعنى أن الأشياء التي نبحث عنها في لوحته، لإرضاء فضولنا، قليلة وغامضة، علينا اقتفاء أثرها في وحشة المنافي الباردة وأن لا نجزع إن لم نظفر بشيء. لوحة بشير مهدي تحتشد بأفكار فلسفية وخبرة في النحت وإطلاع واسع في التاريخ والأدب والفن، وحياته ترتكن إلى تجارب عميقة ومواقف واضحة لا يضيره أن تتصادم مع مواقف أقرب الناس إليه، مثلما لا يضيره الإعلان عن تأثره بالفنانين الكبار وتقليده لبعض من أعمالهم. إنه فنان غير متمرد، بالمعنى العراقي للتمرد، ويعيش حياته بعزلة طويلة تخبئ شذرات من التمردات الداخلية البعيدة عن الادعاء والكذب وصعود الموجة، هناك حوادث وتفاصيل يومية في حضور اللوحة تشي بالكثير من أسرار رحلته، منها حبه الطافح للفن وحديثه الدائم عن لوحته أكثر مما يتحدث عن أبنه الوحيد، ومنها، وهي مفارقة، أنه لم يعطِ الأولوية لتسويق لوحته ونفسه، ولا يغيظه بقاء تلك اللوحات، الباهظة الثمن، في البيت معلقة أو مكدسة ومغطاة، ويعتبر وجودها (الميراث الأخير من رحلته )، وهنا نستطيع فهم خلو بيته من تلفاز واكتفائه بالتأمل في الجدران واللوحات المعلقة في أرجاء البيت.
"بشير مهدي" لم يدرس الرسم في معاهد الفن وجامعاته، لكنه بزّ الدارسين بدقته وحساباته وحفرياته الفلسفية وحبه للفن. كانت الساعات التي يستغرقها في التأمل أكثر من الساعات التي يقضيها بالعمل قدام اللوحة، وهذا يفسر عمق موضوعاته وطول المدة الزمنية التي يحتاجها لتنفيذ كل عمل من أعماله، قد تستغرق فيها اللمسات النهائية للوحة أيام وأسابيع، ومع ذلك لم نسمعه يوما يسخر من لوحات نُفذتْ على عجل أو يسم أعمال الفنانين الآخرين بالسطحية والابتذال، بل كان يحوّل جل سخرياته إلى السياسيين والمعممين. هذا البطء المشحون بالقلق على البشر والشجر والحجر، إضافة إلى إعادة رسم التفاصيل أكثر من مرة، ساهم في انحسار مساحة الكذب في تجربته الفنية وأخذ على عاتقه التأسيس للديمومة وبقاء اللوحة في ذاكرة المشاهدين وارتفاع قيمتها المادية، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن تكون الأفكار التي ينتقيها بشير مهدي عظيمة أو جديدة حتى تكون عنصر جذب في اللوحة، فكرسي عتيق وجده في مزبلة الحي الذي يسكن فيه ظهر في الكثير من لوحاته المهمة، وحبل السرّة الذي دفنته أم "بشير" في المدرسة المجاورة، مجاراة للتقاليد، تحوّل في مخيلة الفنان إلى فكرة تشكيلية ظهرت في أعماله أكثر من مرة، تارة يعمقها بمزيج الأسود والأصفر والبني وتارة يمد إليها خيوط الماضي الجميل وثالثة يرسمها بغموض في بيت مهجور للعبادة، في هم ووهم دائمين لتخليص الحفرة من زمنها وإطلاقها في عالم الإبداع.
عندما تتفق العيون على البحث عن أسرار في اللوحة فمعنى هذا وجود شيئا من ذلك، وسنجد مقالات الملف الذي بين أيدينا قد تناولت موضوعات عدة لكنها اشتركت بسيادة "الغياب" في أعمال بشير مهدي الفنية. نحن نذهب معهم في ذلك ولكن لم يأتِ ببالنا أن يكون المنفى هو الصانع أو أن الفنان اجترح جديدا، فموضوعة الغياب في أعمال الفنانين المنفيين قديمة قدم الصراع والحروب، وبشير بأدواته وتجربته ذكّرنا بها ووضعنا مرة أخرى أمام أسئلتها حتى صرنا نظن أن الغائب في اللوحة هو واحد منا، هو "موديل" تأخر عن موعده، أزعم أني رأيته مرة في الطريق المؤدية إلى لوحته. كان وجهه بدون ملامح، جامد كتمثال مهمل، نظرته مرت بجانبي محدقة في حقل ورود بعيد على أطراف مدينة "اوتريخت" الهولندية. ظننته بشير "الآخر" وقد أتعبه الوقوف وأضجرته رائحة الزيوت، فهممت أن أناديه وأعطيه حقيبته المركونة أسفل اللوحة لكنه سرعان ما غاب في أحد جدرانها الشاحبة، أدركت يومها سر طبقات لون التراب في فضاء اللوحة المليئة بمفردات الغياب، وأيقنت أن الألوان عند بشير تتهامس مع الأفكار، وأن التعاطف مع الغائب يستدرجنا للذهاب معه في رحلة البحث عن السكينة.