يختلف النص الرحلي الذي كتبه الصحافي والكاتب محمد باهي عن بقية النصوص الرحلية التي كُتبت بأقلام عدد من الكتاب العرب ممن افتُتنوا بأضواء مدينة الأنوار ومعالمها الثقافية والتاريخية التي تزخر بها باريس الساحرة. وما يُميّز النص الرحلي الذي خلفه الراحل محمد باهي، هو طعمه المُتفرد ووفرة تجاربه وتعدد أنماطه، فهي رحلة غنية بالوصف السردي، والتي لا غنى عنها في أي نص رحلي.
ورحلة محمد باهي تأخذنا إلى اكتشاف باريس السفلية، ومنعرجاتها السردابية باريس المدافن وأنفاق الميترو، وباريس العمران والهندسة الراقية، باريس الذاكرة والحلم والتاريخ. في نصه الرحلي الذي يعيد تركيبه وتقديمه في نص سردي عبدالرحيم مؤذن. يأخذنا محمد باهي ليصف لنا باريس بكونها تنتسب إلى الماء قائلا «وكما حدث في الطوفان الذي أعاد صياغة العالم، من جديد، حدث الأمر نفسه لـ» باريس» التي خرجت من صلب الماء، وكان السطر الأول في سفر المدينة من توقيع الماء.. على الذي يريد الاقتراب من باريس، أن يبدأ الكلام بالنهر. يقول باهي «إنها انقلابات جيولوجية رسمت معالم الطوبوغرافية الباريسية خلال العصرين الجليدي الثالث والرابع. هكذا كانت باريس، في تلك العصور، ذات طقس استوائي، شديد الحرارة، انتشرت عبر جنباته أشجار النخيل فضلا عن الصفصاف وحيوانات ثديية وكائنات أخرى انقرضت بفعل التقلبات المناخية المختلفة خلال القرون التالية. وعند تجوال الزائر لهذه المدينة، وهو يمر بمعالمها الشهيرة مثل قوس النصر، أو مقبرة العظماء، ومنطقة «مونمارتر»، وكنيسة نوترادام دي باري» و»برج إيفل» أو الساحات الشهيرة.. أقوال: عند تجوال الزائر بهذه المعالم المختلفة عليه أن يرهف السمع لهدير الأمواج المتلاطمة، وحفيف الرياح، وعليه أن يضيق جفنيه لاختراق طبقات الضباب في ذلك الزمن البعيد.
مضيفا انه بسبب هذا الصراع بين الماء والطين تحولت «باريس» إلى أرخبيل وسط هذه المياه المتلاطمة، رافقتها جزر متناثرة بدأت في الظهور مثل جزيرة «مونمارتر»، شمالا، ثم أرخبيل «تروكاديرو» وامتداد تلة «شايو». ومن أعلى «مونمارتر»، وهي أعلى المرتفعات، يمكن النظر إلى جهات باريس، ما دام هذا المرصد الشهير يخول لنا مسح «باريس» في جهاتها الأربع بمعالمها الشهيرة مثل «البانتيون» ( مقبرة العظماء ) وقباب الكنائس، وقوس النصر، برج إيفل، برج مونبارناس الزجاجي القاتم، والذي ينتصب مثل بصقة شيطانية وسط المدينة بالقرب من محطة القطار القديمة.
نهر الأساطير
ويضيف باهي، أن انحسار الماء أمام زحف البناء المنظم، والمعمار الجمالي « المهندم»، لم يمنع من غياب اللوحة المائية في مواسم محددة إلى اليوم. وسوف تبدو لنا تلة «مونمارتر»، في يوم شتوي، أو خريفي، تحت عباءة الضباب الكثيف، خاصة إذا كان مختلطا برطوبة عميقة، صخرة حقيقية تنتصب وسط المياه… بينما تبدو عمارات شوارع « كليشي» و»بانتيون» المتناثرة على السفح الجنوبي بهذه التلة بسطوحها الغارقة في الغبار الضبابي مثل سفن مختلفة الأشكال والأحجام تزدحم وسط مياه راكدة، وتظهر بعض القباب والأعمدة الناشزة كما لو كانت صواري بهذه المراكب الهاجعة. أما بالنسبة لكتلة برج «مونبارناس» ببنائها الزجاجي البشع الذي ينتصب مثل بصقة شيطانية، كما سبقت الإشارة، وسط المدينة بالقرب من محطة القطار القديمة، فكانت تبدو حقا أقرب إلى صارية ضخمة لسفينة هائلة وراء قبة «البانتيون»، وكأنها شراع لباخرة غاريقة.
ويرى محمد باهي أن نهر السين، هو نهر الأساطير المنتشرة على ضفتيه.. وهي لا عد لها ولا حصر وأشهرها أن مياهه تدفقت من أرداف كبير الآلهة، الإلاه «جوبيتير».
وعلى الرغم من أبوة نهر «السين» للمدينة، فإن ذلك لم يسمح له بالدخول إلى المدينة إلا بعد طلب الاستئذان احتراما لما صنعته مياهه من محطات فكرية وإبداعية وجمالية تزداد نصاعة عند انسيابه في المدينة العريقة. أولى هذه المحطات، بلدة «بارسيرواب» موطن غاستون باشلار.
أما المحطة الثانية، وقد أوحت بها تلك الزوارق العتيقة ذات المجدافين، بعيدا عن زوارق الملاحة الفوضوية التي تزعج السكان القريبين من الضفاف، ولكنها، في الوقت ذاته، لا تغير من إصرار «السين» على تجاوز كل ذلك الصخب الموسمي. أعود إلى المحطة الثانية بعد أن رأيت بعض الزوارق النادرة الوجود، اليوم، والتي كان يستعملها الشاعر الشهير ستيفان ملارميه هذا الأخير الذي قضى نصف حياته من الإبداع والعطاء الأدبي بالقرب من إحدى الغابات الشهيرة على ضفاف «السين».
ويغوض محمد باهي في أحشاء أخرى من أحشاء باريس عبر رحلة سردابية إلى أنفاق المترو بقوله «يتراوح عمق باطن الأرض الذي تجري فيه عربات المترو بين ثمانية وستة أمتار، غير أن مواقع معينة يتضاعف فيها العمق مرات عدة لأسباب تعود إلى طبيعة الأرض فتغوص الخطوط الحديدية إلى ثلاثين مترا، بل إنها قد تخترق ستين مترا من التشكيلات الجبسية لربوة «مونتمارتر» شمال باريس.
ويتحدث باهي عن الميترو الذي يقول عنه «لم يكن المترو نابعا من الاكتفاء بحفر الأنفاق الملائمة لذلك، بل تميز هذا التعامل مع الفضاء الباريسي برمته من خلال المزاوجة بين الظلام، أي النفق، وبين الجسور، أي الضياء، المعلقة العابرة للنهر، أو بعض المناطق الأخرى التي حملت، بالإضافة إلى الجسور، بوابات معدنية أحيانا، ومن الحجر المنحوت حينا آخر، مما يسمح للراكب باختراق أجمل مناظر باريس على ضفاف نهر السين، من قصور وحدائق وجزر يسبح فيها البجع خاصة إذا كان اليوم مشمسا، مما يتيح للناظرين اختراق النوافذ الزجاجية النظيفة نحو الآفاق القريبة والبعيدة، أيضا، بهضابها وتلالها وسهولها.
يكتب صاحب الرحلة عن باريس السرية ويرى أنها مدينة العلن ومدينة السر فـ «باريس» العلنية، حسب باهي، يعرفها بشكل أو بأخر، القاصي والداني، أما باريس السرية تظل مجهولة لدى الكثيرين لأنها تتكون من سراديب تصل إلى عشر المساحة السطحية، أو العلنية للمدينة. وفي عمق هذه السراديب وجدت مقابر وتوابيت وأضرحة وأنفاق وظلال وأشباح وجدران حملت كتابات أدبية، أو تاريخية، وجدران أخرى حملت علامات محددة ارتبطت بالثورة الفرنسية، أحيانا، وبالاحتلال النازي، أحيانا أخرى.
ولم يخل هذا الفضاء من أماكن أخرى خاصة بالنبلاء، وأخرى خاصة بالمجرمين المشهورين، أو بعض المجانين، فضلا عن مناطق خصصت للحربين الكونيتين. وانتشرت في هذا الفضاء لغات عديدة، مثل الفرنسية والألمانية، متوزعة بين المداخل العديدة لهذه السراديب ومخارجها المختلفة في أماكن عديدة حملت أسهما، أو علامات دالة على مسار معين سيسلكه الداخل إلى هذه السراديب.
ولم تقتصر هذه السراديب على فضاء الأموات، بل إنها اتسعت للأحياء من خلال مستويين:
المستوى الأول المجسد في ما تحمله هذه السراديب من عوالم غنية ومعارف متنوعة، وفوائد عديدة لا عنى عنها لـ «باريس» العلنية، وإلا أصبحت هذه الأخيرة ممتلئة ببياضات وفراغات لن تملأ إلا بالرجوع إلى «باريس السردابية».
أما المستوى الثاني فيتجسد في احترام الباريسي لهذا التراث الغني، إلى حد التقديس، عناية وصيانة، تسمح له بالرجوع إليه، كل وقت وحين، كما حدث ويحدث أيضا، في مناسبات عديدة، بل إن هذا التراث المتجدد يحظى بالزيارة السياحية، من قبل أهل باريس، مرتين في الشهر الواحد.