إلى أخي حميد في ذكراه المتجددة
لم أعد أذكر من تلك اللوحة سوى الأصابع الخمسة المفردة، عن آخرها، والتي تسربت عبرها صرخة امرأة بلغت أقصى مراحل الألم! الخامس من يونيو67. كانت الأصابع الخمسة لاتخطئ العد، والوجه المفجوع تجمدت ملامحه عند لحظة محددة، والنظرات الزائغة تتساءل باستنكار، والشعر المنفوش فرت غدائره في كل الإتجاهات ، ومزق الثوب تكشف عن صدر عار لم يسلم من العبث.. كل ذلك كان يدل على ذلك اليوم الذي لن يكون إلا الخامس من يونيو.
كان الخامس في كل الروزنامات
الخامس في كل الساعات
الخامس في كل الآهات
في كل النداءات
في كل المقامات
في اللوحة القليل ، أو الكثير، من لوحة (دولاكروا) الشهيرة :"الحرية تقود الشعوب".. أو قد يكون فيها القليل ، أو الكثير، من وجوه (غويا)- خاصة لوحة المحكومين بالإعدام- المشدوهة أمام أفواه البنادق الغائرة بكل الأحقاد! .. قد يكون هذا أو ذاك، دون أن يمنع ذلك من وصول الصرخة إلى كل أذن رائية.. كانت أقرب إلى العواء، أقرب إلى الصهيل الممتد في برية العدم.. في التخطيطات الأولية للوحة، بالفحم، كانت الصرخة المتصاعدة تمنعك من متابعة الرسم، وكل تخطيط تضعه جانبا، لاتتردد في إرهاف السمع للصرخات الوليدة،وأنت تهز رأسك بالرفض القاطع معيدا الكرة مع تخطيط آخر إلى أن انطلقت الصرخة من صلب الفجيعة، فجيعة أمة لايجمعها إلا سفح الدم . ففي ذلك فليتنافس المتنافسون.. أمة واحدة ذات رسالة خالدة في الدم.!
والغريب – ونحن في تلك السن المبكرة- أن الصدر العاري لم يذكرنا إلا بصورة الأم! كانت المرأة أما للجميع، والصدر العاري عطاء بلا حدود قد تلقمه المرأة لأي طفل من أ طفالنا ، بعفوية وأريحية.
تذكر ،أخي، تلك المرأة الفاسيىة، جارتنا بالأسفل، واسمها "للا زينب"، على ما أذكر، كيف شقت جيبها "الساتانني" الأبيض، فاندلق صدرها العاري بشعاع ضوء أعمى بصر، وبصيرة، جندي اللفيف الأجنبي الذي تراجع إلى الوراء دون أن يجرؤ على إطلاق الرصاص من يد أصابها الشلل!
مسدت " البورتريه"، من جديد، والمرأة لاتتوقف عن الصراخ.. وتتابع القول: القراءة العمودية- بعد الأفقية- للوحة حاسمة.. فالعري في لوحة " الصرخة" عرينا جميعا قبل أن يكون عري امرأة! الجسد العاري " موتيف: لاكتشاف عرينا البئيس! من منا لم يكن عاريا ،حتى العظم، صبيحة الخامس من يونيو؟! والغريب أن الجارة الفاسية هي التي غطتنا بعريها المقدس في ذلك الزمن البعيد! العري يصبح جنة ووقاية وعطاء لاينضب!
الصرخة لم تتوقف، في يوم من الأيام، بل إنها مناحة كل الأ زمنة.. تذكر القطعة الأدبية الجميلة المعنونة ب" غوطة دمشق" التي لاثثمر إلا أطيب الفواكه، وأرق الظلال، وصوت النواعير لايمل من مناغاة الماء، والطيور لاتعرف إلا لغة الغناء.. تذكر الغوطة الفائحة بكل الأطاييب ، تذكرها لاشك.. لم يعد لها أثر.. في الصفحة 25 من القراءة المصورة.. لم يعد لها أثر.. بلى .. الغوطة لم تغادر مكانها، وانتشر الخراب في كل جنباتها، وتردد نعيق البوم والغربان في كل مكان! وعلى أرضها انتشرت أكياس بيضاء انتهت بقنّات مقيدة، ضمت جتثا منتفخة، فبدت مثل زكائب قطن مهملة، رفض أصحابها حملها إلى سوق مزايدة أغلق من أمد بعيد.. بين الكيس والآخر، تناثرت جتث أطفال، بأرجلهم المعقوفة اللدنة... حفاظات، وحلمات بلاستيكية، وبقايا لعب تعض عليها الأصابع، وابتسامات، وعيون مشدوهة، وأسارير باكية، وأخرى ضاحكة... وصرخة امرأة لاتتوقف.. صرخة من الدم إلى الدم، وكلنا في الدم شرق!