ذكرياتي .. لميعة عباس عمارة

عبدالرزاق عبد الواحد

 

(1)

وَيا لميـعةُ ، يا أزهى بَيادرِهـا

يا زرعَ بيتي، ويا قنديلَ جيراني*

يا أطولَ النّخلِ في ميسانَ أجمعِها

وَيا أعَـزَّ الحَلا في تمَر ِميسـانِ!

يا بنتَ خاليَ ما أبقى الزّمانُ لنا

ممّا حَدَوناهُ من رَكبٍ وأظعـانِ ؟

تُرى أأنبـأكِ العرّافُ ليلَتَهـا

أنّا سَنُصبحُ في السـتّين سـيّانِ؟

أنا هنا بينَ أهلي شبهُ مغترِبٍ

وأنتِ فردٌ بلا أهـلٍ وأوطــانِ !

(أنا وعبد الرزاق عبد الواحد ، من بيت شعرٍ واحد .

أنا أرقُّ منه وأغزَل .. وهو أوفرُ عطاءً وأجزل!)

 (لميعة .. في إحدى مقابلاتها الصحفية )

*

أنا الآن بإزاء حالة خاصة. شاعرة احتواني وإياها سقف بيت واحد منذ أيام الطفولة المبكرة .. لميعة عباس عمارة .. ابنة خالي الوحيد .

لكي أرسم للميعة صورة دقيقة ، لابد أن أؤشر في ذكرياتي هذه أنها الإبنة الكبرى لأب له أربع أخوات، هو أخوهنّ الوحيد .. وأن والدها كان من أمهر الصاغة في العراق .. بل لقد بلغت بعض نقوشه على الفضة والذهب حدَّ الإعجاز . وكان إلى جانب ذلك من أمهر الخطاطين، حتى أن أول دواوين إيليا أبي ماضي كانت عناوين قصائده بخط عباس عمارة ، فقد كانا صديقين حميمين أثناء إقامة خالي الطويلة في أمريكا.وكان عباس عمارة شاعراً مرهفاً بالعامية والفصحى .. يتقن أكثر من أربع لغات قراءة وكتابة ، وحديثاً طليقاً .. برغم أنه لم يتخطَّ المرحلة الإبتدائية في دراسته . وكان من أمتع الناس حديثاً ! . ولأنّ خالي عباس عمارة كان وحيد أهله ، ولأنه كان كثير السفر والإقامة خارج العراق .. فقد أقام في القاهرة ، وشمال أفريقيا ، بالإضافة إلى إقامته الطويلة في باريس وروما، ثم أمريكا التي امتدت إقامته فيها قرابة عشر سنوات .. لهذا كله .. ولأن لميعة كانت مدلّلته بين جميع أهل بيته، فقداحتلّت موضع الصدارة في البيت دون منازع !

هنا لابد لي أن أ شير إلى أن بيت جدّي عمارة، الذي هو والد أمّي ، ووالد خالي عباس أبي لميعة ، كان مسكن العائلة كلها .. سواء في بغداد أو في العمارة أوائل انتقالنا إليها . لقد كان في البيت جدي وجدتي ، وبناتهما الأربع اللائي كانت والدتي المتزوجة الثانية بينهنّ .. ثم والدي ، وهو ابن أخي جدّي .. ربّاه في كنفه . وكان والدي غالباً ما يرافق خالي في سفره للعمل معه . تأتي بعد ذلك عائلة خالي ، وكانت تتكون آنذاك من خالي وزوجته ، وابنتيه لميعة ومليحة ، وابنه رجاء –  رحمه الله -.. أما إخوتي وإخوة لميعة الآخرون ، فما كانوا قد ولدوا بعد ..

وزوجة خالي –أم لميعة –بنت الرئيس الروحاني الأكبر لطائفة الصابئة آنذاك .. وكانت من أجمل من تقع عليهنّ العين من النساء، وأهيَبهنّ مظهراً وحديثاً!. وهكذا فقد جمعت لميعة الكثير من جمال أمها وهيبتها، ومن موهبة أبيها وذكائه ولباقته .. معجونة كلها في مزاجية حادة ،وعصبية مفرطة ، تصل حدّ الرّعاف (نزف الأنف الدموي ) كل يوم تقريباً .. فيدخلون رأ سها تحت حنفية الماء في عزّ الشتاء لكي يتوقف النزيف ، مما أثّر على صحة لميعة عموماً بعد ذلك .

بكل هذه المؤثرات ..مضافة إلى شخصيتها النافذة، والمتسلطة برغم طفولتها ، استطاعت لميعة أن تسيطر على البيت كله .. حتى كبار السن فيه ! . وكانت من شدة العناد أنها لم تكن تـنثـني عما تريد ، كائنة ما كانت النتائج .

على الرغم من أن لميعة لم تكن تكبرني بأكثر من ثلاث سنوات، فقد استطاعت بسرعة فائقة ، وفي سنّ مبكرة جداً ، أن تلفت إليها الأنظار ..ثم أن تحتل بعد ذلك مكانة مرموقة على صعيدَي الإبداع والدراسة ، وعلى صعيد الحياة الاجتماعية كذلك

ما أزال أذكر حتى الآن أن أمّي وخالاتي كنَّ يتطلّعن بانذهال مفعم بالمحبة ، إلى فم لميعة وهي تتحدث .. وكنَّ يحفظن الكثير مما كانت تقول ، ويتمثّلن به ، لاسيما أبيات الشعر الشعبي الساخرة التي كانت لميعة ترتجلها في جميع المناسبات ! . لقد كان هذا الإرتجال الذي أحسست – على طفولتي –  أن لميعة ، إن لم تجد له المناسبة اللازمـة، سعت هي إلى خلقها ، كان يمنحها تفوقاً مضافاً ، بالإضافة إلى ما كانت عمّاتها يتناقلنه من شعرها ، ومن أحاديثها في زياراتهنّ للأهل والأقارب ، مما يضفي هالة عليها حيثما ذهبت .

في طفولتي المبكرة ، كان خالي –رحمه الله –شديد الحفاوة بي .. يحبني حباً يكاد يميزني به حتى على أطفاله . قال أهلنا لأنني كنت أول ولد في العائلة .. وقالت أمي لأنني كنت أثير الإنتباه بطرافة تصرفاتي أيامها . المهم أن نتيجة اهتمام خالي بي ، وإيثاره إياي ، كنت أدفع ثمنهما كل يوم بسبب غيرة ابنة خالي مني ! . حدثـتـني أمي –رحمها الله –ذات يوم ، قالت : ” كنت أقتطع من الخرجية التي يبعثها أبوك ديناراً ديناراً .. جمعتها لأبني لكم ذلك البيت *..ما كنت أحتمل أن أراك لا تستطيع حتى أن ترفع يدك دفاعاً عن نفسك ، وأنت تُضرب كل يوم !”. وكنا آنذاك قد انتـقلنا من بغداد إلى محلة (السرّية) في لواء العمارة.

الغريب أنني لا أكاد أتذكر صورة واضحة للميعة في السنوات الأخيرة من إقامتنا في العمارة .. بينما صورة أختها ( مليحة ) واضحة في ذاكرتي كل الوضوح . ربما لأن مليحة في مثل سني .. وكنا نلعب معاً ، ونختلط بأبناء وبنات محلتنا معاً . وعندما كنا أنا ومليحة في العاشرة ، كانت لميعة في الثالثة عشرة .. أي أنها بلغت السن التي اختلفت همومها عن همومنا ! . . وعند لميعة ، ربما تغيرت بأبكر من هذه السن . المهم أن تذكّري للميعة ينقطع شريطه وأنا ابن التاسعة .. ثم فجأة ينهض واضحاً ، شديد الوضوح ، وأنا طالب في الصف الثالث المتوسط ببغداد .. يومها كانت لميعة طالبة في كلية البنات .

* هو نفس البيت الذي كان حادث بيعه نسغاً لقصيدة (ألواح الدم ) المشهورة التي افتتح بها مهرجان المربد عام 1986 .

* * *

(2)

انتقل أبي بنا إلى بغداد وأنا طالب في الصف الثاني المتوسط ، وبعد سنة من انتقالنا، قدمت لميعة إلى بغداد طالبة في كلية البنات .مرحلة جديدة من معرفتي بلميعة بدأت . كنت طالباً في الصف الثالث المتوسط ، وكانت لميعة  –وهي طالبة في القسم الداخلي –تقضي معظم أماسي الخميس وأيام الجمع في بيتـنا.

هنا لابد لي أن أسجل الملاحظات التالية : أولها أني – وقد دخلت سن المراهقة، وافترقت عن لميعة عدة سنوات –ما عدت أملك تلك العفوية، عفوية الطفولة في التعامل معها. لقد صار حضورها إلى بيتنا يعني عندي طقـساً خاصاً لابد أن أتهـيأ له .. مثلاً، على فقرنا الذي تعرفه لميعة، والذي تعيش هي مستوى مقارباً له، ما كنت أريدها أن تراني رثّاً بأي شكل من الأشكال .. لذا كنت أتَهـيّأ بعد ظهر كل يوم خميس لكي أكون – وأنا أ ستقبل لميعة – في أحسن ما يمكن أن أبدو عليه ! .

لميعة ما كانت ترى في عبد الرزاق شيئاً جديداً .. ربما لانشغالها بعوالمها الجديدة في الكلية ، والشعر ، والأدب .. وظل عبد الرزاق أخاها الطفل الذي لا تتردد لحظة في أن تحتضنه احتضان الأم ، وتنام معه في فراش واحد ! .

ولكن عبد الرزاق تغير ! .لم تتغير عواطفه تجاه لميعة . لقد بقيت الأخت التي يعود أمامها ذلك الطفل الذي ودّعها في العمارة .. ولكن نظرته للميعة تغيرت ! . لميعة الآن ليست تلك التي كانت تضعه في الأرجوحة النادرة التي جلبها أبوها من الخارج ، وتدفعه حدَّ أن يرى رأسه يكاد يرتطم بمرزاب البيت ، فيصرخ وهي تضحك ، وتدفعه أقوى . لميعة هذه شخصية جديدة .. جميلة .. مفرطة في الأناقة .. ثم ، وأكثر من ذلك كله ، أصبحت شخصية مشهورة..لقد بدأت مقالاتها وقصائدها في الصحف والمجلات تؤسس للميعة أخرى ! .كانت لميعة على سجيتها .. ولم أكن كذلك!. كانت تراني –  كما تعودَت –  أخاها الصغير ، وكنت .. على صغري ، وصغر إمكانياتي..أحاول أن أقف إزاءها رجلاً !

حادثة لا أنساها:
في نهاية أ سبوع ما ، طلبت مني لميعة أن أوصلها إلى القسم الداخلي، بعد أن أمضت يومَي الخميس والجمعة في بيتنا . كنت آنذاك طالباً في الصف الرابع الثانوي في الإعدادية المركزية .. وكان بيتـنا في محلة الدوريين ببغداد .. ووجهتـنا باب المعظم . وركبنا باص المصلحة .. وجاء الجابي . مددت يدي إلى جيوبي متظاهراً بالدفع ، وأنا أعلم أني لا أملك فلساً واحداً ..منتظراً لميعة .. بهَـيلها وهيلمانها ، أن تبادر إلى الدفع ! ولكن لميعة بقيت ساكنة ، والجابي ينتظر ! .. وإذا بلميعة تلتـفت إلي قائلة : إدفع له يا عبد الرزاق ، فأنا لا أحمل معي نقوداً ! .لا أدري كيف كان شكل وجهي وأنا أقول لها : أنا اعتمدت عليكِ .. فليس معي نقود ! .أكثر من أربعة ركاب تطوعوا للدفع عنا ! .. ولكن لميعة رفضت بترفع كبير ، قائلة للجابي : سيصلك ثمن التذاكر بعد ساعة واحدة من وصولنا ..وسجلت اسم الجابي، ورقمه .. وأوقفتـني بباب القسم الداخلي للطالبات، ثم خرجت ومعها درهم قدمته لي مؤكدة عليّ بطريقة لا تقبل الإعتراض : إذهب الآن إلى المحطة ..إن لم تجد الجابي فسلم ثمن التذكرتين إلى المفتش ، وعرّفه باسم الجابي ، ورقمه ، ليسلمه النقود .. وفعلتُ كل ما وجهتـني إليه ! .من يومها وأنا أشعر إزاء لميعة بأنني لم أكبر بما فيه الكفاية ! .

هنا لابد لي أن أثـبّت علامة مهمة في شخصية لميعة : إنها قاطعة .. مرهفة في قطعها مثل حدّ الموسى !ذلك الإرث الطفولي من التسلط .. ضخّمه ، وصقله في الوقت نفسه ، إحساسها بتفوقها ، وبانجذاب الآخر إليها . صار ذلك التمرد اعتداداً مفعماً بالأنوثة والكبرياء . لقد كانت تقول كلمتها مثل أميرة..وتعتبرها أمراً غير قابل للنقاش . لذا ، نادراّ ما رأيتها تتلجلج أو ترتبك .. على العكس .. كنت أحياناً أختلس النظر إلى الإلتماع المنتصر في عينيها وهي تحدّد نظرتها المتعالية إلى الآخر المتلجلج أمامها ! .

عراقيـَّـة

*

تُدخّنين ؟

لا

أتشرَبين ؟

لا

أتَرقُصين ؟

لا

ما أنتِ .. جَمْعُ لا ؟؟! ..

أنا التي تَراني

كلُّ خمولِ الشَّرقِ في أرداني

فما الذي يَشُدُّ رجلَيكَ إلى مَكاني؟

يا سيّدي الخَبير بالنّسوانِ

إنَّ عَطاءَ اليوم شيءٌ ثاني

حَلِّقْ ،

فَلو طأطأتَ لا تَراني..!

* * *

ألقت لميعة هذه القصيدة في وجه واحد من كبار الشعراء العرب حاول أن يمسّ كبرياءها في أحد المرابد، فلم يعد بعدها إلى المربد حتى مات ! .

* * *

لن أنسى ما حييت يوم أقامت دار المعلمين العالية مهرجاناً شعرياً على هامش مهرجان المربد ، قدّمت فيه خرّيجيها من الشعراء ، وكان ذلك في قاعة ساطع الحصري التي غصّت يومها بالطلاب والطالبات .. وبعدد كبير من الأساتذة والضيوف ، بالإضافة إلى الشعراء والأدباء العرب.

دُعيَت لميعة إلى الإلقاء ، فصعدت إلى المنصّة ، وبدأت تقرأ بكل كبرياء قصيدتها (عراقية) .

تُدخّنين ؟ .. لا

أتشربين ؟ .. فردّد بعض الطلبة : لا !

أترقصين ؟؟

ويبدو أن الطلاب استمرأوا اللعبة ، فرددوا جميعاً :

لا ! .

سكتت لميعة .. ثم نظرت إليهم نظرة طويلة ما رأيتها قط تنظرها لأحد .. وقالت: “يوم كنت أ قف على نفس هذه المنصّة ، لألقي قصائدي .. كنتم جميعاً لم تلدكم أمهاتكم بعد . ” وغادرت القاعة تاركة الحضور وكأن على رؤوسهم الطير ! .