في رحيل لميعة عباس عمارة.. المشي على الشوك

سليـمان بختي

 

رحلت نخلة العراق الشاعرة لميعة عباس عمارة (1929 ـ 2021) بعيدًا عن شمس العراق ونجوم سمائه ومياه الرافدين. أسلمت الروح في سان دييغو، كاليفورنيا، الولايات المتحدة الأميركية. هي من الرعيل الشعري العراقي الرائد الذي صنع مجدًا شعريًا مضيئًا ويستضاء به. ومن قلب تلك البوتقة خرج الشعر الحر الذي غير وجه الشعر العربي الحديث. نعاها ابنها زكي مدونًا على صفحتها "إنها امتنعت عن الأكل والشراب في أيامها الأخيرة، ولكن لم تمتنع عن الابتسام. ستبقى ذكراها في وجدان كل من عرفها شخصيًا، لو عبر أشعارها أو دراساتها". وبالفعل من يعرفها شخصيًا أو عن قرب ترسخ في وجدانه وذاكرته. تعرّفت إليها في مطلع عام 2000 في منزل الروائية الراحلة إميلي نصرالله في رأس بيروت. قامة عراقية من حضور وألق. كانت تلبس عباءة سوداء، وتضع عقدًا من معدن ولؤلؤ وأقراط طويلة. سيدة لغة وسيدة مجلس. تدلع جملتها العربية حتى يرن إيقاعها. تجرأت وسألتها عن قصة حبها مع بدر شاكر السياب (1926 ـ 1964)، ولماذا لا تكتبها. ابتسمت وقالت بلهجتها العراقية المحببة ما معناه "مين ما حب بدر... ولكن كلنا أحببناه". قصة حبهما بقيت أسطورية ورمزية وحقيقية في آن. وفيها القصائد والحياة والأوهام والظنون. قالت شيئًا عن صعوبة تلبية طلبه بالارتباط بها لأنها حريصة على شخصيتها المستقلة. وهل أن البيتين الشعريين الشهيرين للسياب في "أنشودة المطر" هما لعيني لميعة: "عيناك غابتا نخيل ساعة السحر/ أو شرفتان ينأى عنهما القمر". ابتسمت ولم تجب. ثم قالت: "هو ذكرني صراحة وغير مباشرة وعبر الحوار". وأشارت إلى قصيدته "سفر أيوب للشاعر"، ومنها "ذكرتك يا لميعة والدجى ثلج وأمطار". روت لنا عن رحلة قامت بها ذات ليل من بيروت إلى الشام. رحلة مليئة بالمخاطر والغموض.
عاشت لميعة ردحًا في بيروت في زمن الحرب، وكانت لها صداقات فيها مع نجوم الشعر والأدب، ومنهم السيدة فيروز. وأقامت الندوات والأمسيات الشعرية، وأعادت طبع دواوينها فيها. وعرفت محبة الناس لها في لبنان "ما أكبر حب الناس يدللني". وهي شهدت بعض وقائع الحرب ومعاناتها وسجلتها في كتابها "البعد الأخير" 1987 في قصيدة بعنوان "الدفء البعيد في الملجأ": ما الجدوى؟ ما جدوى كل وجودي في بيروت/ مفترس هذا الحب وأعمى/ لكني يومًا ما/ في أرض ما/ سأموت.

شاهدت لميعة الحياة في بيروت كيف تولد من رحم الحرب والأحزان. فكتبت: "لقد ألفوا الموت/ أصبح شيئًا كوجه الرغيف/ وملح الطعام/ وما صدّ عاملهم عن بناء/ ولا ردّ تلميذهم عن دوام/ أذلك الشعب يموت؟ محال/ تموت الحروب، يموت الحمام". كتبت عن اجتياح بيروت في عام 1982، وكتبت في قصيدة مهداة إلى محمود درويش: "أزح يا حبيبي نظارتيك قليلًا/ ووالله من أجل عينيك محمود/ أصبحت أعشق قصر النظر". وكتبت إهداءات إلى معين بسيسو، وأمل دنقل، وطه حسين، وأبو القاسم الشابي. وكتبت في قصيدة في تكريم أمين نخلة (1901 ـ 1976) في مهرجان لم ينعقد بسبب اغتيال إسرائيل للقادة الفلسطينيين في بيروت ومنهم كمال ناصر(1973): "أمين الأرز كل النخل حبي/ وتهتف كل واحدة هو ابني".
أحبت لميعة بيروت حبًا جمًا، وأذكر حين اتصلنا بها قبل سنوات لتكريمها في بيروت أنها قالت: "تدعونني لأكرّم في مدينة روحي مزروعة فيها". وكانت الدولة اللبنانية كرّمتها بوسام الأرز تقديرًا لمكانتها الأدبية، لكنها لم تستلم الوسام بسبب الأوضاع الأمنية خلال الحرب. وكتبت: "على أي صدر أحط الوسام ولبنان جرح بقلبي ينام".
كتبت الشعر الفصيح، وكتبت الشعر العامي العراقي، وسمعتها في لندن تردد هذا البيت بناء على طلب الجمهور: "ارد إسألك بالله عليك ترد/ ربك لمّن كونك كم يوم طينك نقعه في مي الورد". أحبت لميعة اللغة العربية ودرستها وتعصبت لها ورأتها وسيلة التواصل مع المحيط العربي. أما قصائدها العامية فقد أسعدت جمهورها العراقي فيها وتحولت إلى أغنيات يرددها الناس. نذكر من دواوينها الشعرية "الزاوية الخالية" 1960، و"عودة الربيع" 1963، و"أغاني عشتار" 1969، و"يسمونه الحب" 1972، و"لو أنبأني العرّاف" 1980، و"البعد الأخير" 1987. كما جمعت لها دار الجداول في بيروت في التسعينيات مختارات شعرية مع مقدمة من ياسين رفاعية بعنوان "أنا بدوي دمي". وترجمت بعض دواوينها إلى الإنكليزية، ومنها "لو أنبأني العرّاف".

ولدت لميعة في الكريمات على ضفة نهر دجلة إلى جانب الكرخ، وهي تنتمي لعائلة مندائية عريقة مشهورة في بغداد (كتبت دراسة عن المندائية). وعرفت عائلتها بصياغة الذهب، مهنة يتوارثها الأسلاف الصاغة، وكان عمها زهرون عمارة أحد أشهر صاغة بغداد. أما لقب عائلتها عمارة، فمرده إلى مدينة العمارة، حيث مسقط رأس والدها. وهي ابنة خالة الشاعر العراقي المعروف عبد الرزاق عبد الواحد، الذي ذكرها في مذكراته متأثرًا بها وبحبه لها.
تخرجت من الثانوية العامة في دار المعلمين العالية في بغداد، التي تحولت لاحقًا إلى كلية التربية التابعة لجامعة بغداد. والمصادفة الأجمل أن هذا المعهد جمع في تلك السنوات باقة من أهم الشعراء: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبدالوهاب البياتي، وعبدالرزاق عبدالواحد، وغيرهم. شهدت تلك الفترة تنافسًا شعريًا خطيرًا في ما بينهم. ومن تلك البوتقة ولد الشعر الحر. حصلت على إجازة دار المعلمين العالية 1950، وعينت مدرّسة في دار المعلمين. وكتبت لميعة الشعر في سن مبكر في حياتها، وكانت ترسل قصائدها إلى الشاعر اللبناني المهجري إيليا أبو ماضي، وكان صديقًا لوالدها. نشرت لها مجلة "السمير" أول قصيدة لها ولم تتجاوز الرابعة عشرة. وكتب أبو ماضي عنها "إن كان في العراق مثل هؤلاء الأطفال فعلى أية نهضة شعرية مقبل العراق".
كانت عضوًا في الهيئة الإدارية لاتحاد كتاب العراقيين (1963 ـ 1975). وعضوًا في الهيئة الإدارية للمجمع السرياني في بغداد، ونائبة الممثل الدائم للعراق في اليونيسكو 1973 و1975، ومديرة للثقافة والفنون في الجامعة التكنولوجية في بغداد.

حملت لميعة عباس عمارة في شعرها الغزل الشفيف المضمخ بالروح وشذى العراق. وكتبت المكاشفة الرومانسية الحسية الشعورية. عرفت أن الحب لا يتجزأ في المطلق: "وما هربي منك إلا لأني شغلت بذكرك/ عن ذكر ربي". وصفها المستشرق الفرنسي جاك بيرك بأنها شاعرة الرقة والجمال والأنوثة. لبثت تتذكر أمها لأنها علمتها الصمود والوقوف رغم الصعاب "سلام لأمي التي علمتني بقسوتها/ كيف أمشي على الشوك".
عانت في منفاها الأخير مشاعر الوحدة والعزلة، ورأت النخل في حديقتها ينمو بعيدًا عن أهله وشمس العراق الحارة، وتساءلت: "كيف تعيش رغدًا في بلاد/ تسن لأهلنا فيها السيوف".
مع رحيل الشاعرة لميعة عباس عمارة، تطوى صفحة مشرقة من الشعر الأصيل الذي ينبع من كينونة الذات نحو الآخر، ويسير في تضاريس البلاد ليصنع هويته المتجددة في وجدان الناس والمكان والتاريخ والحضارة.