رحيل لميعة عباس عمارة

يوسف أبو لوز

 

غابت لميعة عباس عمارة آخر حبّات العقد الذهبي الشعري في بغداد في خمسينات القرن العشرين، حيث قصيدة التفعيلة التي أوجدت زلزالاً في بيئة الشعر العربي الحديث على يد بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبدالوهاب البياتي، وبلند الحيدري.

كان ذلك العقد الذهبي الشعري مرتبطاً بدار المعلمين في بغداد التي تأسست في عام 1923، وفيها التقى، وتصادق، وتعارف، وتحابب ذلك الجيل الذي كان شعلة واسعة النور في مكان شعري بامتياز، بغداد الكتابة، والرسم، والموسيقى والغناء آنذاك، وآنذاك تلك هي الأربعينات والخمسينات من قرن الجرأة والتجديد والمغامرة في الأدب والفنون والنقد والمسرح.

في تلك البيئة الغنية بالتجديد والتفاؤل والانفتاح على الحداثة ظهر اسم لميعة عباس عمارة التي كتبت الشعر ونشرته قبل أن تصل الخامسة عشرة من عمرها، وعرفت دار المعلمين في بغداد شعراء التجديد والمغامرة في أواخر النصف الأول من القرن العشرين، لكنها على الرغم من كل ذلك بقيت في منطقتها الشعرية التي لم تكن تتجاوز من حيث المغامرة الشعرية، إن جاز القول، أشواق السياب والملائكة والبياتي. بل بقيت في إطار صوت كلاسيكي محافظ إلى حدّ كبير، ومع ذلك لها شخصية أدبية بغدادية معروفة، ومحترمة في الوسط الثقافي العراقي والعربي، وخاصة في لبنان من ستينات القرن العشرين أو أواخرها.

يمر من يكتب عن لميعة عباس عمارة على علاقة حب أو «شبه حب» طرفها الآخر بدر شاكر السياب، الذي يبدو أنه كان يتوسل قلب امرأة شاعرة ملهمة قوية الشخصية وقوية الحضور، ويظهر هذا التوسل في قصيدة للسياب يشير إليها دائماً من كتبوا عن هذه العلاقة النبيلة، وذلك حين يقول السياب:.. «أحبّيني، فإن جميع من أحببتُ قبلك لم يحبّوني..».
في حوار نادر ومطوّل تسأل عفاف نعش الشاعرة لميعة عباس عمارة عن قصيدة لها بعنوان «شهرزاد» وتقول عمارة أنها كتبت هذه القصيدة في السنة الثانية من الكلية، وربما تقصد دار المعلمين، وتقول إن القصيدة كانت هدية لبدر شاكر السياب... «..كتبتها له وهو أجاب عن كل مقطع. كنت أكتب بيت شعر وهو يجيبني بقصيدة كاملة، كان بيننا حوار شعري..».
في ذلك الحوار تفصح لميعة عباس عمارة عن شخصية السياب، تقول إنه كان كريماً كأي بصراوي، «رقيق القلب، زكي النفس والرائحة، رغم أنه كان يدخن كثيراً».
كان لطيف المعشر، وأحياناً عصبي المزاج ومتوتراً، التقينا أول مرة طلاباً في دار المعلمين العليا، أنا في الصف الأول في قسم الأدب العربي، وهو في الصف الثالث قسم اللغة الإنجليزية، كنا نحن الطلاب نجلس حوله لنستمتع بحديثه العذب وشعره، كان إلقاؤه رائعاً، وكان يمثل القصيدة، بدر ألقى قصيدة عصماء، وأنا ألقيت قصيدة عن المرأة الشاعرة لم يفهمها أحد غيره..».
هل ثمة حب في طويّات هذا الكلام؟.. لا أحد يعرف. غير أن المعروف عن السياب أنه عاشق سيئ الحظ، ترك وراءه شعراً جيد الحظ، ومنه «شناشيل ابنة الجلبي»، فمن هي هذه صاحبة الشناشيل.. هل هي صاحبة قصيدة شهرزاد؟ أم إنها امرأة أخرى عرفها رجل رقيق القلب.

 

عن جريدة الخليج