عن لميعة

أنعام كجه جي

 

استدعاها صدام حسين وسألها: لماذا لا تكتبين؟ كان يقصد لماذا لا تمدحين. تخلصت من الموقف بذكاء واستعارت عبارة للخليل بن أحمد الفراهيدي: «الشعر يأباني جيّده». سكتَ وسكتتْ. إنه ينتظر جواباً. قالت: ربما أحتاج إلى دفعة. أي تشجيعاً. أجابها: بل تحتاجين إلى تلّة. والتلّة باللهجة العراقية تعني السَحبة، أو النَتْرة. مثل الصياد حين يشعر بأن سمكة التقطت الشص فيسحب السنارة بقوة.
الشاعرة التي ناضلت في صفوف اليسار ودخلت السجن، تعللتْ بأن نوبات الربو اشتدت عليها وعواصف الغبار في بغداد تؤذيها. لعلها أرادت أن تبتعد عن عرس الدم. وصدر قرار بتعيينها في ممثلية العراق في اليونيسكو بباريس. جاءت «لاجئة صحية»، حسب قولها، واستقبلها المستعرب جاك بيرك خير استقبال. لكنها وجدت نفسها تتصادم مع رئيسها في العمل، السفير العتيد عزيز الحاج. لقد خطفت منه الأضواء بشهرتها وسحر شخصيتها. ولم تستمر في موقعها طويلاً. عادت إلى بغداد وعاشت اضطراباتها، ثم التحقت بابنها في الولايات المتحدة، لحين انطفائها قبل يومين في كاليفورنيا.
عاشت لميعة تسعة عقود مرفوعة الرأس، تُدعى لكي تقرأ قصائدها في بلاد العرب. تقيم أمسيات شعرية في تجمعات المهاجرين العراقيين ويقتني جمهورها العريض التذاكر، يتعطّش المغتربون لأبيات الحنين وحسن الإلقاء. ولما سعت للحصول على مرتب تقاعدي تستحقه كمُدرسّة سابقة، قيل لها إن اتحاد الأدباء ينوي تخصيص مرتب لها. «تعالي خذيه». غضبت لأنها لم تطلب مكافأة شرفية، بل حق عن خدمتها الطويلة في الوظيفة. قالت: كنتُ من مؤسسي الاتحاد في الخمسينات، يوم كان الجواهري الكبير رئيساً له ... فماذا يريد مني هؤلاء؟
حصلت على مرتبها التقاعدي من وزارة التربية بعد جهد. وكان عليها، مثل كل المتقاعدين المقيمين في الخارج، أن تثبت، مطلع كل عام، أنها ما زالت على قيد الحياة لكي يستمر الصرف. جاءت «كورونا» وحرمت الناس من التنقل. صارت الاتصالات تتم عبر الشاشات. تحدثت المواطنة لميعة عباس عمارة مع القنصل العراقي هاتفياً، بالصوت والصورة، حسبما تقتضي التعليمات. وقام الرجل بواجبه وأرسل إلى بغداد «شهادة حياة» خاصة بها. لكن أحد الموظفين هناك شكك في الشهادة. تصوّر الخايب أنها ماتت من زمان. وطلب تأكيدات إضافية.
كان وقع الخبر قاسياً عليها. إن أمثالها لا يموتون في السرّ. لا يمكن للأديبة المعروفة والمحبوبة أن ترحل دون أن تشتعل أفئدة العراقيين وتضجّ وسائل الإعلام لرحيلها. تحاملت على نفسها وجلست تسجّل شريط فيديو: إلى من يهمّه الأمر. أنا لميعة عباس عمارة. ما زلت حيّة أتنفس...
لم تكمل التسجيل. ارتفع ضغطها وأصيبت بجلطة. رفضت العلاج في أيامها الأخيرة وامتنعت عن الطعام. تركت مغلفات تحوي الكثير من صورها ووثائقها وبعض مذكراتها، وصلتني بالبريد على مراحل، ومعها قلادة فضيّة من قلائدها. الصابئة أرباب صياغة الفضة. كانت وصيتها: «لا تسجنوني في الكتب وواصلوا نشر قصائدي». هذه واحدة منها:

«الحب عندي لمْ يَصِرْ بُغضاً
هل كنتُ غاضبة لكي أرضى؟
حاسبتُ أيامي فأسعدني
أنّي مررتُ بِكلّها وَمْضا
هذا الرضا وجهي وتعرفُهُ
لو مرّ عفواً بالأذى أغضى»

 

عن (الشرق الأوسط)