من عوالم ذات منجرحة

قراءة نفسية لقصيدة «سندريللا»

لميعة عباس عمارة ولعبة تفخيم وتأليه الأنا

شوقي يوسف بهنام

 

قبل الدخول في عوالم قصيدة «سندريلا » للشاعرة لميعة عباس عمارة نلفت نظر القارئ إلى التعليق الذي أثبتته الشاعرة نفسها تعليقا أو إيضاحا على خلفية القصيدة ودوافع كتابتها فتقول الشاعرة ما يأتي ” مرت الشاعرة بظروف قاسية من سنة 1963 إلى 1968 ولكنها لم تضعف ولم تتغير أناقتها وبشاشتها والقصيدة تصف حدثا وقع فعلا في 26-5-1968 “(1) . وهذا يعني ان الموقف حدث في الزمان والمكان . والتجربة فعلية .. واقعية بالتالي … ولكن القصيدة هي من باب عمل المخيلة،حيث لا علاقة بين الحدث والقصيدة الا لكون القصيدة نتاجا للموقف أو الحدث فلو لم يك الموقف لم تك القصيدة . فالقصيدة بهذا المعنى تعد تخريجا انفعاليا على شكل لغة . وعليه تعد القصيدة فعلا تخيليا كرد فعل للموقف . تعاملت‘ مع الموقف على هذا النحو الذي قمت بكتابته شعرا . هكذا قالت لميعة مع نفسها . فالقصيدة فعل لاحق ولم تذكر الشاعرة زمن أو وقت كتابة القصيدة .  والشاعرة لم تذكر ما نوع الظروف التي مرت بها . ولو كانت الشاعر قد فعلت ذلك لكانت قد هدتنا إلى مغاليق القصيدة لكن هذه الأمور متروكة للشاعرة . نحن بصدد محصلة الفعل أو الحدث . تريد لميعة ان تقنعنا انها خرجت رغم تلك الظروف التي امتدت خمس سنوات ظافرة مثل ال” سندريلا ”  . ونحن نسأل الشاعرة على سبيل الاستفهام والسؤال على سبيل الإحراج أو التقليل من الإرث الثقافي أو المعرفي لها . ماذا تعني لها رمزية شخصية السندريلا ؟ . ولا بأس من العودة إلى رمزية هذه الشخصية ؛ حيث يقول الدكتور طلال حرب عن هذه الشخصية ما يلي ”  فتاة توفيت والدتها، وعاملتها زوجة أبيها بقسوة فظهرت لها جنية طيبة وساعدتها في الزواج من الأمير . وقصة سندريلا قصة شعبية ترجمت إلى معظم لغات العالم ” (2) . ونعتقد ان الدلالة التي وظفتها الشاعرة في قصيدتها من بنية هذه الحكاية هي زواج تلك الفتاة ذات التاريخ الأسري المأساوي بالأمير . وهي رغبة كل الفتيات في الحكايات الشعبية حيث يختار الأجمل والأبهى والأسحر . ولميعة صورت نفسها هكذا بعد خروجها من محنتها وظروفها القاسية تلك . لنقرأ القصيدة ونغوص في خفايا ذاكرتها . تقول لميعة :-
سندريلا
التي تراها

يضوع‘ العطر منها ،
وتشتهيها العيون،
من بلاط الرشيد زهو عليها
وغموض من بابل، وفتون،
تتهادى، كأنها للقاء مترف
بانتظارها ” هارون ” .
(اغاني عشتار، ص 59-60)

لقد انفتح التاريخ لها .. بل إذا شئنا الدقة هي التي فتحته وراحت تفتش عن رمز تتماهى به مثلما ساعدت تلك الجنية الطيبة سندريلا لكي تتزوج بالأمير ..وها هي لميعة تشتهيها كل العيون .وتتمنى ان ينتظرها “هارون” في عصره الذهبي .  لاحظ اطلاقية العبارة في القصيدة ” تشتهيها كل العين ” وهي تعبير للدلالة على ان لدى لميعة شعور عميق بأنها فريدة نساء العالمين !!. وسنرى في المقطع التالي كيف ان لميعة تعيش الحيرة في اختيار من تتماهى بها . تقول لميعة :-
أهيَ ولادة ترى ؟
شهرزاد ؟
عشتروت ؟
يا سحرها من تكون ؟
(المصدر نفسه،ص 60)
وتستطيع لميعة ان تعدد الشخصيات التاريخية واللاتاريخية معا لكي تتماهى بها ولكي أنموذجا لها . ولكي تصل لميعة إلى الشعور بالاطلاقية الذي تتمناه ويتماشى مع نرجسيتها وافترضناه وتبنيناه نحن قامت لميعة بتقديم الحل لتلك الحيرة .. الجواب على ذلك السؤال فكان على هذا النحو :-
أنا كل اللائي ذكرت ، ولكن
أخطأ الوقت والمكان السفين
ورمتني الأقدار فوق صخور
دون ماء، ما ظللـّتها غصون .
( المصدر نفسه، ص 60-61)

لميعة تتهم التاريخ والقدر .ان زمانها الحالي ليس هو الزمن الذي تستحقه . كانت تتمنى لو كانت “ولادة “قاتلة ومعذبة الشاعر ابن زيدون أو ” شهرزاد ” مروضة للملك شهريار فأصبحت تتربع على عرش قلبه بدلا من ان تكون ضحية من ضحاياه . وغير ذلك . لميعة هي حواء التي نسج التاريخ عنها اغرب قصص الغواية ..غواية الرجال ..كل العيون تشتهي لميعة إذن . على الصعيد النفسي هنا نرى مشاعر للنرجسية وتأليه الذات أو تضخم الشخصيةexpansiveness of   personality  في أقصى أشكالها . و لا ادري هل كانت لميعة واضعة في حساباتها كل هذه التأويلات والتفسيرات .أم ان لاوعي لميعة انسل دون ان تدري إلى ثنايا قصيدتها هذه ؟؟. وهنا لميعة وبعد مرورها بخبرتها تلك توجهت إلى القدر fate والزمان باللوم والعتاب فالمفروض ان تكون واحدة من تلك التي ذكرها ذلك الذي كان يواجهها عن من تكون ؟ . وكأن لميعة، هنا، أصيبت بما يسمى بعصاب القدر أو ذم القدر . وتعود لميعة في المقطع التالي لكي تتدارك هكذا إشكالية حتى لا تصاب بالإحباط  أو التقليل من تقدير الذات . ها هي تقول :-
لست أشكو
لكن سألت  عن الساق  المدمى
والساعد المجبور
وارتباكي وحيرتي حين ألقاك
وأنساق في اصطناع السرور
(المصدر نفسه، ص 61)
الواقعان ان لميعة تلجأ إلى آليتي الإنكار والتبرير معا في وقت واحد . فالإنكار يتجلى في مضيها وعزمها على عدم الشكوى لكي تبدو قوية رغم مظهرها هذا الذي اعترفت به لميعة لنا ” الساق المدمى والساعد المجبور ” ولا حاجة بنا إلى التعليق على هذه العبارة كثيرا . انه رمز لاتهام لميعة لدور السلطة آنذاك وراء حالتها تلك . وفي نفس الوقت فان لقائها بها جعلها تتصنع السرور . أي تفتعله . بمعنى ان لميعة يلفها الحزن من كل جانب . ولكن حضوره ولقائها به يجبرها على هذا الافتعال والتصنع لمظاهر ومشاعر السرور والفرح . هنا تتجلى آلية التبرير التي تمارسها لميعة في ذلك التصنع السلوكي المقصود . وعلى المدى الأبعد ومن خلال اللجوء إلى تلك الآليتين ينتهي الأمر بها أي لميعة لأن تعيش حالة خداع الذات self-deception التي تحاول لميعة من خلالها التخفيف من مشاعر القلق والانجراح الذي أصيبت بهما الذات عند لميعة .  في المقطع التالي تعيش لميعة حالة استعراض الذات self-display وهي الميل للبروز وكسب اعتراف الناس . لنرى كيف ترجمت أو وظفت هذا الميل في هذا المقطع . تقول لميعة :-
تلك داري
خرائب زينتها لفتة الفن
وانتشت من عبيري،

يمطر السقف فوق كتبي،وأثوابي
وينهل ماءه في سريري،

أينما أحتمي خرير،
وأنى أتوقى
فمهربي لخرير .
وتراني بشوشة،
أحمد‘ الله وأختال في صفاء الضمير .
(المصدر نفسه، ص 62)

ذلك هو دار شاعرتنا لميعة . انه كوخ قديم مثقوب السقف . ينهل ماء المطر الشتوي عليه من كل جانب . فهي لا تعرف إلى أين تتوجه لكي تحتمي من هذا الماء فلا تسمع غير خريره يزعجها من كل جانب . كل ثروتها وما تملكه في الحياة هي الكتب والأثواب وزجاجات العطور . اعتقد ان لميعة تريد ان تكون متميزة عن نساء العالم بحيازتها أعظم الكتب وأجمل الأثواب وأرقى  العطور . انها لا تفكر بالرجال .. بل برجل واحد لا غير هو الذي يعيش بل يعشعش في مخيلتها . من اجله مستعدة ان تحرق الكتب العظيمة مثلما فعل التوحيدي وتمزق تلك الأثواب الجميلة وتهرق جميع زجاجات عطورها لو يدعوها ولو لمرة واحدة إلى حيث يشاء . لميعة تعيش إذن حالة توحد صوفي، إذا صح التعبير .وليس بغريب على الشاعرة مثل تلك الخبرة لأن خلفيتها الدينية تؤهلها للدخول في هكذا خبرة . وبالفعل فأن مظاهر السعادة الصوفية تعمها وتبدو بشوشة  وتحمد الله وتختال وتزهو بصفاء الضمير . هل هناك صوفي في التاريخ لم يصل إلى مثل هذه المحصلة التي وصلت إليها شاعرتنا لميعة ؟؟. كبار الصوفية كانوا يتغنون بهذا الحال من أحوالهم . على المستوى النفسي يعتبر مثل هذا الشعور هو حالة من خداع الذات لحماية الذات من لوم الذات . رأينا كيف أن لميعة ذمت الدهر والتاريخ والزمان والقدر وها هي تعيش قنوعة … راضية ..مطمئنة .. لأنها تعيش صفاء الضمير . أليس هناك من مفارقة صارخة بين الحالتين ؟؟؟! . في المقاطع الأخيرة تتنكس شاعرتنا وتتقهقر إلى حالة الإحباط والحزن والاكتئاب واليأس بل وحتى ظهور الميول الانتحارية لديها . نحن نتساءل فنقول ان منطق القصيدة وسياقها بدأ بالمجابهة والتحدي والقوة لكن كيف تحول الأمر تحول على العكس ؟ هذا تناقض صارخ تعيشه الشاعرة كان عليها ان تتداركه لكي يبدو منطق القصيدة وسياقها منطقا متسقا منتظما . لنرى مظاهر الانتكاس النفسي الذي عاشته الشاعرة أو سندريلا القرن العشرين . فتقول :-
أمس،
في العاصف المفاجئ، أطرقت‘
إلى أي  حائط استكين ؟
جمّــد  الرعب ‘ بسمتي وحديثي
وزوَتنْي كما تشاء الظنون،

لم يكن خاطرا
سينهار شيئ
وكأني تحت الحطام الدفين
لم يرقْ لي موت كهذا
ولكن المنايا لم تستشر ما تكون

في ضحكي
سيان
واكتئابي

مللتها  ………………..الحياة (من افتراضنا)
مللت من عذابي
لو ورقا مزقتها
لو حجرا حطمتها

لكنها … أعصابي
(المصدر نفسه، ص 65-66)
كانت المقاطع الأولى هي بمثابة استعراض لخبرات لميعة الايجابية مع تلك الظروف التي ذكرتها في هامش القصيدة . بينما تمثل هذه المقاطع بمثابة تحول تلك الخبرات إلى خبرات سلبية ..مملة .. لا جدوى .. لها . ولذلك يمكن القول ان القصيدة مشطورة إلى قسمين أو نصفين كل نصف منهما يعبر عن حالة لميعة النفسية في أعقاب خروجها من محنتها تلك . وعلى الرغم من ان الشاعرة كانت متفائلة وذات نظرة ايجابية نحو الذات وكانت سعيدة بانتشار عطرها دلالة على الروح المعنوية العالية التي امتلكتها إبان أزمتها، فأن هذه المظاهر الايجابية سرعان ما تغيرت وكأني بها .. اعني هذه المظاهر ما كانت غير سحابة مرت على شتاء سماء لميعة . ولغة القسم الثاني هي الأخرى تغيرت لتعبر عن الجانب المزاجي الحزين لها . فالحيرة أخذت مأخذها من الشاعرة فهي لا تدري على أي حائط تستكين حتى تتوخى سيل المطر فكأني بكوخها حتى بلا سقف . وما من شك فأن لميعة لا تعني الكوخ بمعناه الحرفي، على الرغم من ان الشاعرة منحدرة من بيئة ريفية كما هو معلوم . واستعارة الشاعرة للكوخ هو للتعبير عن ذاتها لا غير . فحياتها الكتب والأثواب وزجاجات العطر وهذه الحياة ممتلئة بالثقة والإيمان بالله وصفاء الضمير . الا ان هذه المظاهر، كما اشرنا قبل قليل، لم تتغلب على مظاهر الحزن والاكتئاب لديها ولم تستطع إخفائها فكانت من القوة والتأثير حتى جعلها هي سيد الموقف لديها . فضحكها وبكائها سيان . بمعنى ان سعادة  الضحك لا تلغي هموم البكاء . لقد مللت الحياة حتى انها تمنت الموت . الموت ارحم من ملل الحياة هذا . لا ندري هل هذه الرغبة في الموت عند لميعة وهي ما تسمى بلغة الطب النفسي ميولا انتحارية قادتها بالفعل إلى محاولات في الانتحار بصورتها الفعلية ؟ هذا ما لا نود الدخول في تفاصيله . تلك هي نهاية هذه الشابة سندريلا القرن العشرين التي لم تلتق  بهارون قط ولا دخلت بلاطه الجميل بل بقت أسيرة كتبها وأثوابها وزجاجات عطرها . هل هذا هو اختيارها أم انه ذلك القدر اللعين الذي قذفها إلى عالمنا البائس هذا ؟؟؟ !

الهوامش :-
1-    عمارة، لميعة عباس، 1969، اغاني عشتار، المؤسسة التجارية للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ص 59 .
2-    د. حرب، طلال، 1999، معجم أعلام الأساطير والخرافات، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، ص 204 .