مقدمة
كان للتطور الذي حدث في النصف الثاني من القرن العشرين في حقل مناهج النقد الأدبي أثر بيّن في انشغالنا ـ نحن العرب ـ بالترجمة ومن ثم بالتطبيق الأدبي لتلك المناهج ـ غير مبالين بما أصاب نظرية الأدب من تحولات جذرية، وتحديدا فيما يخص النوع الأدبي، واكتفينا بالمفهوم العام الذي طرحته الحداثة تحت مصطلح "النص" مدّعية أن جميع تحققات الأدب يمكن أن تدرج اختلافاتها النوعية، في مجملها، تحت هذا المصطلح. وكان لهذا الراي وجاهته من ناحيتين، الأولى: أن حدود الأنواع الأدبية لم تعد، على المستوى الإبداعي، تتمتع بالصرامة التي كانت لها من قبل. والأخرى: أن الأدب ـ ظاهريا ـ لغة، وجميع تلك المناهج خرجت من عباءة اللسانيات، بالتفاوت الملائم لاختلافاتها في المسافة التي تفصل بين المنهج والمقولات اللسانية. غير أن الإشكال الذي نطرحه هنا أن بعض الأنواع الأدبية لا تستغرقه تلك المقولات، ولا ما تفرعت إليه من مناهج. ومن قبل كانت نظرية الأدب التقليدية قد قفزت، هي الأخرى، على خصوصية ذلك البعض. وبغض النظر عما أحدثته المناهج النقدية الحديثة فيما نحن بصدده، فهو سهل يسير، إذ كانت الانتقالات بين المناهج سريعة وربما مفاجئة بشكل لا يتناسب مع ادعاء كونها "نظرية أدبية" حداثية(1)، فأول شروط النظرية أن تتمتع بقدر من الاستمرار في الزمن مناسب لما تقوم عليه من منطق باعتبارها نظرية، إضافة إلى أن تمتلك مجردة أصلا من الظاهرة موضوعها، لا من مادتها الأولية، وهي مادة متحولة ضرورة. إنما الإشكال في النظرية الأدبية التقليدية التي نظرت في نصوص الأدب باعتبارها لغة متميزة، ثم رفعت هذه التمايزات إلى مرتبة تجريدية أولى هي "النوع الأدبي" ثم ضمت الأنواع الأدبية جميعا تحت المفهوم الأكثر استغراقا في التجريد، أعني مفهوم: "الأدب". وقد كان لابد من إسناد لهذا المفهوم الأخير حتى يمتلك قوته المنطقية، فأسند إلى المذهب الأدبي مسألة مطابقته للواقع الأدبي، فكان "الأدب" محاكاة لنموذج أعلى (الكلاسيكية)، وتعبيرا عن عواطف النفس وخلجاتها (الرومانسية)، وعن المجتمع وقضاياه (الواقعية)، بغض النظر عن المذاهب الأخرى التي قطعت مع الواقع وانقطعت عنه كما هو الحال مع الفن للفن والرمزية.. إلى آخره.
وجاءت المناهج الحديثة لتجد علاقة الأدب باللغة قائمة على وجود وسائط واقعية، فاحتجت بكون الأدب لغة متميزة وحسب، وقطعت مع هذه الوسائط وأسندتها إسنادا جديدا للغاية، أعني إلى العلم الخاص بهذه اللغة: علم اللغة العام، تاركة مقولات نظرية الأدب الأخرى على حالها، بكل ما منّ عليها التاريخ من صمت رفعها إلى مرتبة المسلّمات. هذا وذاك في ظل غياب مُرّ لمساهمة التراث العربي في نظرية الأدب التي استوردناها في جملة ما استوردنا مذ نشأت علاقتنا الثقافية بالغرب نشأة لا اختيار لنا فيها بفضل النزعة الاستعمارية لهذا الغرب. صحيح أن تراثنا لم يعرف مصطلح "نظرية الأدب" ولا محتواه، ولم ينزع إلا إلى التجريد الأقرب للواقعة الأدبية تحت نوعي: الشعر والنثر، تاركا للإبداع الأدبي سلطة تنويع الاثنين بحسب الحاجة أيا كانت صفة هذه الحاجة. إلا أن ما قاله العرب في هذا النوع وذاك زعيم بأن يقدم لمن أراد معطيات معرفية تفي، إن لم يكن ببناء نظرية أدبية عربية، فبمشاركة الآخرين في هذا البناء. وبخاصة أن بعض تلك المعطيات ـ في زعمنا ـ ذات خصوصية شديدة الحداثة قياسا إلى الحداثة الغربية نفسها، لعل أهمها أن الشعر يبلغ من اختلاف لغته عن اللغة إلى مرتبة يباين معها الأدب والأدبي، ليؤسس وجوده فنيا بالمعنى التشكيلي لكلمة فن. وبغض النظر عن هذه المهمة الملحة، فالمهم، أن الأوان قد آن لاستعادة النظرية ومشكلاتها مرة أخرى، وحتى جنايات خطابها على موضوعاته، وبخاصة بعدما نعى الناعون النقد وأدبيته باحثين في الثقافة والثقافي عن نقد آخر، هو نقد للذات الجمعية أكثر منه للأدب، يتيح استمرارهم في مهماتهم. إنه لتاريخ طويل من التنظير للشعر باعتباره نوعا أدبيا، لم يلتفت أثناءه أحد إلى أننا نمارس قدرا غير هين من السلطة على الشعر، فثمة تعريف للأدب سابق عليه ولابد، ولا مجال لاختلاف تعريف الشعر معه وإن ضحينا ببعض خصائص هذا الأخير. ويتفرع عن تعريف الأدب تعريف النوع الأدبي الذي يجب على تعريف الشعر أن يندرج فيه واحدا من تجليات صوابه أو قرائن هذا الصواب، وإن ضحينا ـ مرة أخرى ـ ببعض آخر من خصائص الشعر الذي ما إن نخلص إلى تعريفه حتى تتحكم بنا أداته وما رسخ عنها في ذهنية المتكلمين بها عما يجب أن يكون عليه شعرها. أما الغريب المريب فكوننا نكرر خلف بلاغيينا في علم البيان أن دلالة المطابقة لا مدخل لها في البلاغة، وإذا كانت البلاغة قد حصرت قضيتها في دلالة اللفظ من حيث المطابقة وعدمها، وانفسحت بظاهراتها البيانية إلى التأسيس الفردي، وليس العرفي، لدلالة اللفظ، فإن التوسع بالبلاغة باتجاه الشعرية النصية يضعنا على مسافة اختلاف وتمايز ليس مع اللفظ فحسب بل مع اللغة بعامة، حيث تُسْقِط أداتيتَها عنها وتندفع بذاتها لتكون غاية في ذاتها، وهكذا جوهر كل الفنون. ولعلنا لا نبالغ في ذهابنا إلى أن الجاحظ كان أول من قال بهذا الذي نراه، عندما أطلق مقولته الأكثر شهرة: "إنما الشعر صناعة، وضرب من الصبغ وجنس من التصوير". إنها لخطوة معرفية على جانب كبير من الأهمية جرفها النزوع الاستطرادي عند الرجل ثم طمرتها ـ تماما ـ ثنائية اللفظ والمعنى بخصوصيتها الدينية في تراثنا العربي، حتى صار كل طرف فيها يدعي الرجل له بكثير من التأويل أو قليله، بينما ظاهر لفظ الرجل على قدر من الوضوح جعله، في حقيقته، بمنأى عن التأويلين معا إلى حد كبير. إننا لنذهب مذهب الجاحظ وننتصر لاتجاهه، فالشعر ـ بالقوة وبالفعل ـ ضرب من الصبغ وجنس من التصوير، وبالتالي فهو فن أكثر من كونه نوعا أدبيا. وانطلاقا من هذا التحول في فهم الشعر يجب أن يكون التنظير له في ذاته، قبل النظر إليه في علاقاته بغيره من أنواع الأدب، وحتى أنواع الفنون على السواء. وفي هذا السبيل لابد ـ أولا ـ من مقاربة عدد من المفاهيم التي نرى أنها مفاهيم على درجة من الخطورة على حرية المنظر الشعري.
مفاهيم خطرة
يمكن تصنيف لغة خطاب ما إلى لغات منها اللغة حاملة الموضوع، وهي لغة مراقبة بدقة، وأخرى شارحة لها، وارتباطاتها الوظيفية بها تجعل حركتها التدليلية مرسومة سلفا، وأخيرا لغة تربط بين وحدات الخطاب، وهي الأكثر خطرا على الإطلاق، فلا هي محددة وظيفيا، ولا هي منضبطة موضوعيا. ومفردات هذه اللغة الأخيرة حين تتردد في الخطابات المتنوعة داخل حقل معرفي بعينه، تمتلك بشكل سري قوة الاصطلاح، بالرغم من مفهومها العرفي، ومن ثم يكون لها دور لا نتورع عن وصفه بالتخريبي في توجيه الخطاب الذي ترد فيه توجيها ربما نافى مقاصده.. وفي الخطاب الأدبي الفلسفي (الخاص بنظرية الأدب) والنقدي (النظري والتطبيقي على السواء) يمكن تمييز ثلاث مفردات امتلكت تلك القوة الاصطلاحية، ومن ثم وجهت الخطاب الأدبي توجيها بلغ الغاية من الخطورة، وهي: الأداة، والموضوع، والمعنى.
أولا: مفهوم الأداة
إن التعبير بأن الشعر فن أداته اللغة يؤسس لخطورة نوعية على فنية الشعر، إذ إن للأداة غاية وظيفية نفعية أكثر منها إبداعية، وهذه الغاية تحدد سلفا طرائق عملها ونظام هذا العمل والغاية منه، تحديدا بالغ الدقة، إلى حد أن أي خروج عليه يعطل، ليس الغاية منها فحسب، بل يعطلها هي نفسها عن الفاعلية، فتصبح بلا جدوى. ولا شك لدينا في أن اللغة أداة وظيفية ومحتوى لنواتج تلك الوظيفة، غير أن الإشكال الذي يطرحه "الشعر"، والشعر وحده من بين أنواع الأدب، إذا كان نوعا أدبيا، في ارتفاع صفة النفعية عن تلك الوظيفة. ولا يحسبن القارئ أن الوظيفة الشعرية عند "جاكوبسون" قد حلت هذا الإشكال، إذ إنها مجرد وظيفة مهيمنة، أي أنها تتحقق مع بقاء الوظائف النفعية الأخرى، بما لا ينفي عن اللغة أداتيتها، بل يؤكدها، إذ إن الاختلاف بين حدين لا مجال لتضايفهما في نسق واحد مطلقا. وقد نحتفظ من جاكوبسون بالاهتمام المنتج للوظيفة الشعرية، فقط، رافضين حضور وظائف أخرى، ومن ثم مفهوم "المهيمنة". وفعلا فالوظيفة الشعرية تنتج عن عكوف اللغة على ذاتها حتى لتكاد تكون الرسالة الشعرية حالة فريدة للمعجم، بمعنى أن قدرة النظام اللغوي معطلة تماما عن إنجاز ما وضع له من وظيفة نفعية، وذلك على الرغم من حضوره، ولكنه الحضور غير الفاعل. ومن ثم تتحول اللغة الشعرية عن مفهوم الأداة منقطعة عنه تماما.. ثمة استفهام أخير أكثر من كونه ملاحظة أخيرة عن عكوف الرسالة على ذاتها واهتمام عناصرها بنفسها: هل تظل رسالة بهذه الخصوصية مُعَرّفة بطبيعة هذه العناصر أم يجب تعريفها وفقا للعلاقات الجديدة التي تستحدثها؟
ثانيا: خطورة مفهوم الموضوع
الموضوع تصور ذهني عن مرجع واقعي، سواء كانت صفة الواقعية هذه مادية أو نفسية أو اجتماعية. وافتراض موضوع للنص الشعري يحيله ضرورة إلى ذاك التصور المرجعي، بشكل يعيدنا إلى مفهوم الأداة ووظيفيتها، بما يوجه شعرية النص باتجاه جاكوبسون الذي رفضناه من قبل. نعم، إن لكل ممارسة موضوعها الذي تشتغل على تحقيقه، ولكن للممارسة الشعرية ـ ككل الممارسات الفنية ـ قانونها في التعامل مع الموضوع. إن الشعر يتشكل نصا عبر مقاربة نوعية للموضوع، مقاربة تعمل على محو مرجعياته وإعادة تأسيسها عبر لغة ـ كما سبق القول ـ لا تقصد إلا ذاتها. ولغة، بهذه الطبيعة، لن تنتهي إلى كمال نصها إلا وقد استبرأت لجمالياتها من أية آثار خارجية للموضوع، ليتطابق من ثم إنتاج دلالة النص الشعري وبناء موضوعه، وهذا التطابق حالة نوعية فريدة لا توجد إلا في حالة الفن.
ثالثا: خطورة مفهوم المعنى
إن من يبدأ بالموضوع لابد له من الوصول إلى معنى يمثل تصوره عن الموضوع، وهذا ما تؤديه اللغة. ومن هنا ارتباط خطورة الموضوع على الشعر بخطورة المعنى عليه ضرورة. فحديث المعنى في الشعر ينصرف إلى نوع من إعادة إنتاج الموضوع (الواقعي) عبر أداء لا يتميز إلا بكونه أداء نوعيا. وقديما قال عبد القاهر أن إعادة النظر في الشعري يضاعف معناه، ومضاعفة المعنى أو تعدده يؤكد على القيمة الشكلية للشعر، ما دام المعنى لا يثبت لاختلاف النظر إليه. ولغة هذه طبيعتها لا يمكن النظر إليها من زاوية المعنى، وإلا أهدرنا تمايزها واختلافها. إن معنى الشعري يظل يرف في فضاء نسيجه لا تقبض منه القراءة إلا على بعض وصفه، ليظل قيمة فائضة عن كل قراءة، وهذا هو الاختلاف الماهوي بين اللغة في عموم مفهومها وبين اللغة الشعرية في خصوصية تجليها نصا فنيا على وجه التحديد.
تراثنا وتأسيس فنية الشعر
لم يتوقف أحد إزاء غياب نظرية الأدب أو فلسفة الأدب في التراث العربي، على الرغم من حضور المفردات: فلسفة ـ نظرية ـ أدب، في تراثنا العربي الإسلامي، فللغياب دلالته كما للحضور دلالته، بل ربما كان الغياب عين الحضور الدالّ، ومن ثم فلا عجب أن خطاب المسلمات (المصطلح الفلسفي) هو الذي عني بمفردات هذه النظرية أو الفلسفة، وتحت غطائه تبلور خطابها الأدبي، فنحن نذهب إلى أن الثقافة كل متحد، لا يمكن تصور خطاب بمعزل عن التناص (التفاعل) المعرفي مع الخطابات الأخَرى. وإن اتهام البعض للتراث العربي بالفلسفة اليونانية والذي لم يبرأ منه علم عربي من النحو إلى البلاغة والنقد ـ ولنضف إلى هذا الاتهام ذهاب البعض الآخر إلى البراءة المطلقة للتراث العربي منه ـ لهو تعبير عن عدم فهم لماهية الثقافة (باعتبارها البنية الضامة لكل أنواع الخطابات المعرفية) ولفعلها (باعتباره تداخلا معرفيا ناتجا عن تعاضد الخطابات في الإنتاجية الدلالية لكل خطاب). إن الثقافة ـ كما سبق القول ـ كل متحد، وكونها كلا يعني شموليتها، وكونها متحدا يعني بنيويتها، وكونها هذا وذاك يعني ـ ولابد ـ أن فهم عنصر (خطاب) ما مرتهن إلى علاقته (الوظيفية) بالعنصر (الخطاب) الآخر. وتأسيسا على حضور كل خطاب في الآخر حضورا علائقيا، فقد كان أسلافنا يرون في انشغال الفلسفي بالمقولاتي (النظري) مبررا للانتقال بخطابهم أبعد تجاه غاياتهم، بدلا من تكرار كثير من المعلوم من الثقافة العربية الإسلامية بالضرورة. وإننا لنذهب إلى أن نظرية الأدب وجدت مقولاتها العامة في الخطاب الفلسفي، وتجلياتها الخاصة في الخطاب البلاغي والنقدي. وقد أسس الخطاب الفلسفي لمسألة فنية الشعر، لا أدبيته، وتردد صدى هذه الفنية في الخطابين النقدي والبلاغي العربيين، إلا أن اضطراب المفاهيم وعدم وجود آلية لضمان دقة الاصطلاح أوجدا كثيرا من الخلط، كما في هذه الثنائيات:ـ
أولا: تعبير أم تخييل
لا ينتهي التداخل بين ما هو علمي وما هو عرفي تداولي في الخطاب عن اللغة، وما يتفرع عن أداءاتها من فنون وآداب، عند حد التداخل، بل إن العرفي التداولي ليتكئ على هذا التداخل ليمتلك ـ غصبا ـ صفة العلمية، وهكذا نجد تعريفات للأدب والأدبي، أيا كان نوعه، بكونه: "تعبيرا عن.." وأيا كانت الكلمة التي نخصص بها هذا التعبير، فسوف يظل محكوما بالغاية التي تحدد موضوعه، أكان شعورا (عن النفس) أم قضية (عن المجتمع)!! والقول بأنه تعبير خيالي لا ينفي الموضوع أو يحل الإشكال، فسيظل الخيالي مؤولا بالواقعي (الموضوعي) ولابد.. وفي المعجم، التعبير: الوصول إلى المعنى بعبور اللفظ ومثله، كالرؤيا فتعبيرها تفسيرها، والجميع أصله عبور النهر من ناحية إلى أخرى، يقول "ابن منظور": "عَبَرَ الرؤيا يَعْبُرُها عَبْراً: فسّرها وأخبر بما يؤول إليه أمرها.. وعَبَرْت النهر والطريق من هذا العِبْر إلى ذلك العِبْر، فقيل لعابر الرؤيا: عابر لأنه يتأمّل ناحيتي الرؤيا فيفكر في أطرافها ويتدبر كل شيء منها.. وعَبَّر عما في نفسه: أعْرَب وبيَّن.. والاسم العِبْرَة والعِبَارة والعَبارة"(2) ولعل المطابقة الشائعة بين العبارة وهي المعنى وبين الجملة أو الجمل تلفتنا إلى شرط الوضوح الذي يجعل من فعل التلفظ إنتاجا للمعنى وكأن لا فرق، الأمر يطبع وصف التعبير أو العبارة بالمخيل مثار حيرة واضطراب، فإن خصصناه باللفظ أدى للتناقض، وإن خصصناه بالمعنى خرجنا من دائرة الأدب. للفلاسفة المسلمين في هذا الإشكال القول الفصل، فقد وضعوا الموضوع في المركز من تمييزهم بين الصدق والكذب، ثم كأنهم نظروا في الشعر فوجدوه غير صادق مطلقا، ومن ثم نفوا الموضوع عن دائرته نفيا كاملا، ووضعوا مقالتهم الشهيرة "قول مخيّل مخصوص بوزن وقافية". إن عبارة: قول مخيّل، تقطع ما بين موضوع القول والقول من علائق، ثم تقيم القول في ذاته ما دام لا يمكن قياسه إلى سواه أو تأويله بغيره. يقول الشيخ الرئيس "ابن سينا" في أول كتاب الشعر من كتاب "الشفاء"، وللموقع دلالتهضرورة: "نقول نحن أولا: إن الشعر هو كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية"(3) ويكرر الشيخ الرئيس أنه لا نظر للمنطقي في الشعر إلا من حيث كونه مخيلا. وقد يظن ظانّ أن "المحاكاة" ـ وقد وردت في الخطاب الفلسفي العربي ـ تعيد الموضوع إلى الشعر، وليس الأمر كذلك، فالمحاكاة التي وردت عن أرسطو لم تكن محاكاة موضوعات وإنما محاكاة أفعال، يقول "مجاهد عبد المنعم مجاهد" بصدد المحاكاة عند أرسطو: "إن المحاكاة ـ إذن ـ هي محاكاة فعل لا محاكاة واقع أو محاكة خلق أو محاكاة شيء ثابت، ولهذا جعل أرسطو التراجيديا محاكاة فعل جليل يمثل الفاعلين.. ولما كان الفن محاكاة للفعل، فإنه الفعل القائم على الرجحان أو الضرورة، ولهذا فالمؤرخ والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أو منثور، بل هما يختلفان بأن أحدهما يروي ما وقع، على حين الآخر يروي ما يجوز وقوعه، ومن هنا كان الشعر أقرب إلى الفلسفة وأسمى مرتبة من التاريخ لأن الشعر أميل إلى قول الكليات"(4).. هذا التقريب بين الشعر والفلسفة من جهة والتاريخ والواقع من جهة أخرى، ثم إقامة التباين والاختلاف التامين بين الجهتين على قاعدة الكليات التي يتعاطاها كل من الفيلسوف والشاعر ينفي عمل الاثنين من دائرة الواقع وموضوعاته، ومن ثم تسقط مقولة التعبير فيما يخص الشعر على وجه التحديد، ويصبح أكثر استغراقا في صفة التخييل باعتبارها ماهية له.
ثانيا: معنى أم صورة
كلمة "المعنى" انتقلت نقلة نوعية من لغويتها العامة: المقصد، إلى اصطلاحيتها الخاصة: الدلالة، ولكن هذه الأخيرة ظلت مستباحة لمداخلات الأولى عليها. ومن ثم تجب مقاربة معنى كلمة "معنى" معجميا، يقول "ابن منظور": ".. ومعنى كل شيءٍ: محنتُهُ وحالُهُ التي يصيرُ إليها أمرُه. وروى الأزهريّ عن أحمدَ بنِِ يحيى قال: المعنى والتفسيرُ والتأويلُ واحدٌ. وعنيتُ بالقول كذا: أردتُ. ومعنى كلُّ كلامٍ ومعناتُهُ ومعنيَّتُهُ: مقصدُهُ، والاسمُ: العناءُ. يقالُ: عرفتُ ذلك في معنى كلامِهِ ومعناةِ كلامِهِ ومعنيِّ كلامِهِ"(5).. يُلاحَظ فيما سبق اضطراب معجمي حول كلمة "معنى"، فمرة يسند القصد إلى المتكلم وأخرى إلى الكلام، وهو اضطراب ناتج عن وحدة غائبة عن الخطاب بإمكانها أن تنسق الإسنادين ضمن الإطار التواصلي الذي يحدث فيه الكلام، فالمعنى تحقق قصد المتكلم في ذهن المستمع بواسطة كلامه، وبالتالي يكون المعنى ناتج كلام يعبر عن قصد المتكلم، فهو ـ أي المعنى ـ مرتهن إلى المتكلم وقصده من كلامه الذي لا ينطوي، والحال هذه، إلا على آليات إنتاج ذلك القصد، وكأن حديثنا عن معنى الكلام ليس أكثر من مجاز مرسل (علاقته السببية). ثمة تطابق بين قصد المتكلم ومعنى كلامه (الناتج في ذهن المستمع) يؤدي إلى هذه التسويات بمفاهيم اتصالية:
قصد = رسالة = معنى
نفسي = لغوي = عقلي
الأمر الذي يؤدي إلى تطابق في مستوى آخر بين الفاعلين حيث تختفي الرسالة تماما متى حدث هذا التطابق بينهما:ـ
المرسل = المرسل إليه
وكأننا ـ مع هذا التطابق الغريب ـ بإزاء الدائرة الكلامية لفردينان دي سوسير في شرحه لتطابق العلامة اللغوية، حيث لا يجب أن تثير الصورة الصوتية التي ينتجها المتكلم في ذهن المستمع إلا التصور الذهني الذي وجه المتكلم لاختيار تلك الصورة.. غير أن المعجم يقارب معنيين آخرين لكلمة "معنى"، وهي: التفسير والتأويل، وإذا كان المعجم يوجهه، في تقديم معاني مدخلاته، مبدأ الترادف، فهذا لا يعني إطلاقا ألا يفيض معنى المفردات الشارحة عن هذا المبدأ باتجاه خصوصيتها واختلافها. وقد أزعم أن كلا من: "التفسير" و "التأويل" يمثلان اختراقا ولو نسبيا في التطابقات السابقة، إلا أنها تقع على مسافة منه ولا تقطع معه، إذ إنها جميعا طرائق عمل للحصول على المعنى بالفهم السابق. أما حين يكون الكلام مخيلا، فالحديث عن قصد قائم قبل الأداء ومحاكم إليه هذا الأداء، من قبيل المستحيل عقلا وواقعا، فاللجوء إلى التخييل ينشأ عن موضوع لا وجود له (مجرد حافز)، وما لا وجود له لا مجال فيه للعقل بل مجاله التخييل وآلته الخيال، ونتاجه ليس موضوعا بل صورة هذا الموضوع، بالفهم التشكيلي لكلمة "صورة"، ومن هنا نفهم قول الشيخ الرئيس: "إن الشاعر يجري مجرى المصور"(6)، ويصر ابن سينا على هذا التقريب بين عمل الشاعر وعمل المصور حتى في ضرب الأمثلة(7). ولعلنا نأتي ـ هنا ـ على مقولة الجاحظ العظيمة مرة أخرى: "إنما الشعر ضرب من الصبغ وجنس من التصوير"، ولنأخذها على ظاهرها، فلم يكن الجاحظ بالرجل الذي يُغْْمِضُ عبارتَه ولا بالذي يُعَقِّدُ أسلوبَه فما أبعده عن ذينك العيبين. وظاهر اللفظ يؤكد على أن الجاحظ ينتقل بالشعر ولغته من دائرة ثقافية إلى أخرى مباينة لها تماما، فينقله من دائرة الزمنية أو جماليات المسموع إلى دائرة المكانية أو جماليات المرئي، وبالتالي يؤسس لما هو أبعد من الإشكالية التي وضعوه فيها، أعني "قضية اللفظ والمعنى"، إنه يؤسس لجماليات إبداع وتلق مختلفة ومتميزة، صحيح أن الرجل لم يتابع مقولته، لكنه قالها وعلينا نحن أن نتابعها..
ثالثا: نظم أم تشكيل
يلتحق بمفهوم الصورة التأمل داخلها، من حيث هي نظم أو تشكيل، وإذا كان الشعر على ما قال به الجاحظ فن تشكيلي: صورة ولون، فهل تظل مقولة النظم هي الأكثر ملاءمة لوصف العلاقات الداخلية في العمل الشعري. هذه المقولة تستدعي الحديث عن الشيخ عبد القاهر الجرجاني ونظريته في النظم. أساس نظرية النظم عند عبد القاهر قضية إعجاز القرآن، فبعض المعتزلة، ومنهم الجاحظ، لم ير راي أكثرهم أن إعجاز القرآن الكريم بالصرفة، أي بصرف الله من تحداهم به عن أن يأتوا بمثله مع قدرتهم على ذلك، فالإعجاز ـ إذن ـ ليس في نفس القرآن الكريم، بل في منزله عز وجل. وقد عز على ذوي العقول الراجحة من المعتزلة أن تُسَطَّحَ القضية بهذا الشكل، فرأوا أن إعجاز القرآن الكريم بنظمه نافين مفهوم الصرفة تماما. بدأ ذلك الجاحظ وتوفر عبد القاهر الجرجاني على منح هذا الرأي أول مؤلَّف كامل هو: "دلائل الإعجاز"، ولعل في عنوان الكتاب ما يدل على الهدف منه هذا الذي أشرنا إليه. وللنظم ـ في اللغة ـ دلالته، يقول "ابن منظور": "النظم: التأليف، نَظَمَهُ يَنْظِمُهُ نَظْماً ونِظاماً فَانْتَظَمَ وتَنَظَّمَ. ونَظَمْتُ اللُّؤْلُؤَ أي جمعتُه في السَّلْكِ. والتنظيمُ مثله، ومنه نظمتُ الشعرَ ونظَّمْتُه، ونَظَمَ الشَّيْءَ على المَثَلِ. وكل شيء قرنته بآخر أو ضممت بعضَه إلى بعض فقد نظمته.. ونظامُ كل أمرٍ مِلاكُه.. والانتظام: الاتساق"(8) ويمكن ترتيب هذه المعاني بدءا من المادي، فمنه ولد كل معنى، ووصولا إلى العقلي على الترتيب:
1 ـ النظم: الجمع والضم (اللؤلؤ).
2 ـ النظام: السلك الذي ينظم فيه.
3 ـ التأليف، ويمثل الواسطة بين المادي والذهني.
4 ـ نظم الشعر: عروضه.
5 ـ النظام: بنية كل أمر.
6 ـ الانتظام الاتساق.
إن المعاني المادية قدمت لعبد القاهر فكرة القانون (السلك/ النحو) الذي ينظم ويؤلف بين المختلفات (اللؤلؤ/ المفردات) ثم تقدم له المعاني العقلية (التأليف ـ ملاك الأمر ـ الاتساق) ما يترتب في الذهن من خصائص لهذا النظام أو النظم. ويبدو أن الرجل المعاني المادية لكلمة النظم باللفظ، وألحق الأخرى بالمعنى، ما دامت القضية التي حكمت النقد الأدبي العربي وكانت لها مداخلاتها على قضية الإعجاز هي: اللفظ والمعنى، فتوتر حديثه بين المزية النحوية وتخص مواضع الألفاظ، وبين الدوافع وراء هذه المزية وهي ترتيب تلك المواضع وفقا لترتيب المعاني في الذهن، وهنا يقولون أنها ـ أي تلك الدوافع ـ تخص "المعنى"، ويحاول الشيخ أن يفك ألغاز هذه الثنائية باقتراحه مفهوم "صورة المعنى"، ولكنها ـ في زعمنا ـ ازدادت به تعقيدا.. عموما، وخارج تلك الثنائية الملغزة، فإننا نفهم من الشيخ أن النظم نسق نحوي حر تتعاضد فيه الكلمات والجمل، فتنتج من الدلالات ما لا تنتجه إذا اختلف النسق. وهذا تصور متقدم للغاية عن مركزية مفهوم العلاقات في مقاربة النص، أيا كان هذا النص، جماليا فيما يبدع الناس، أو معجزا فيما أنزل الله سبحانه وتعالى. بداية، فالمقولة صحيحة، وتعميمها كذلك صحيح، غير أن لكل خطاب لغوي مقاصد توجه نظمه، فخطاب غائيته تتعدى بنيته الداخلية لتتحقق خارجه، سيختلف تماما عن خطاب غير غائي يعكف على داخله لا يكاد يتعداه. وعدم التمكن من التقاط المفارق بين هذا الخطاب وذاك سيضع صحة المقولة السابقة بين قوسي تحفظ فيما ينتج عن تمثيلاتها الأدائية. وقد كانت وقد جمعت التمثيلات الجرجانية على صواب تلك المقولة بين الخطاب القرآني والخطاب الشعري جمعا أسقط، في سورة الحجاج، الخصوصية الغائية التي للأول، ولم يلتفت إلى انتفائها عن الخطاب الآخر.. إن ما يوضع تنظيرا حجاجيا ليس كما يوضع تنظيرا مطلقا، فالحجة ستوجه التنظير في مقاربة الموضوع في الوضع الأول، أما في الوضع الآخر فليس إلا الموضوع وخصائصه يقاربه التنظير حرا من أية قيود على مقاربته. وإن ما لكلام الله (لكتابه) عز وجل من مقاصد جلية في الغاية من التنزيل، وهي غاية مطابقة لإعجازه، ما ليس لكلام خلقه (أو كتابتهم) الذي إن وجدت له مقاصد فلا تتطابق مع جمالياته، وعلى هذا فلا يمكن حصر العلاقات، في أدءاتنا البشرية، في نسق نحوي وإن تمتع بالحرية والمرونة اللازمين للإبداع. إننا مع جدارة مفهوم النظم الجرجاني، ولكن جدارته بالنص القرآني، وسيكون التعميم من قبيل الخطأ في حق الرجل نفسه فضلا عن الخطأ في ماهية الشعر تحديدا.. وبالمناسبة فهل يمكننا أن نتساءل: لم أطلق عبد القاهر الجرجاني على أحد كتابيه (في البلاغة): دلائل الإعجاز، وعلى الآخر: أسرار البلاغة؟ وما الفارق بين محمول العنوانين دلاليا؟ وهل من مقصد للمؤلف وراء هذا التباين؟.. لا أعتقد أن أحدا تبلغ به الجرأة حد الطعن في وعي الرجل بالاختلاف، وفي قصده لهذا الاختلاف، غير أن التقدم بالبلاغة العربية باتجاه بعينه وضع بعضا من جهد الرجل في دائرة المسكوت عنه، وتطوّرت الدائرة، وحتى اتسعت، لتصبح بمثابة اللامُفَكَّرِ فيه.. أما العنوان الأول: دلائل الإعجاز، فيدل بذاته على شيء من الحجاج حول قضية الإعجاز، يقدم لها الرجل كتابه باعتباره دلائل على صواب ما يذهب إليه فيها، وإذ علّق أمر الإعجاز بالنظم، فلا بأس أن يرى الرجل الميزة كل الميزة في السلك الذي ينظم، أي النحو، وفي التصرف بالمنظوم فيه على الهيئة التي تجعله على ما هو عليه.. يقول "عبد القاهر": "معلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب من بعض"(9) ثم يصرح بموقفه الفكري قائلا: ".. كل شيء كان له مدخل في صحة تعلق الكلم بعضها ببعض لا ترى شيئا من ذلك يعدو أن يكون حكما من أحكام النحو ومعنى من معانيه"(10)، وبالرغم من هذا المذهب النحوي في النظر، فإن عبد القاهر تند عن مذهبه مقالة يمكنها أن تضيء على نحو آخر وخاص التبس بالنحو العام عند الشيخ نجد فيها: ".. وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يَدُلَّك اللفظ على معناه الذي يَقْتضيه موضوعُه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دِلاَلة ثانية تصل بها إلى الغرض. ومَدَارُ هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل"(11) إن هذه القالة التي تناقلناها فرحين بين الأزمنة المتوالية لقراءة عبد القاهر الجرجاني تثير في فضائها العديد من الأسئلة التي تستشكل على يقينية الرجل في الحديث، منها:
1 ـ لماذا لا تصل إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده؟
2 ـ ما هذا المعنى العرفي الذي تجد له دلالة أو معنى ثانيا؟
3 ـ لماذا الكناية والاستعارة والتمثيل (التشبيه)، أي علم البيان؟
صحيح أننا ما زلنا مع الجرجاني في نظرية النظم، ولكن إجابة الأسئلة تقع في اختلاف الأسرار عن الدلائل، والبلاغة عن الإعجاز، وهو المسكوت عنه في نشوة التقاء ريتشاردز بعبد القاهر في مسألة المعنى ومعنى المعنى..
بداية، يجب أن نأخذ كلام الشيخ باعتباره قائما على قصد وقصد محدد بدقة. والأصل ـ فيما سبق ـ أنه خطاب ضمني عن الدلالة البيانية، أعني عدم إرادة المعنى الأصلي أو العرفي والانتقال عنه إلى أخرى، بقرينة كان هذا الانتقال أو بدون قرينة. ولضمنية الخطاب (نؤكد على قصدية الرجل إياها) فوائدها في تعميم دلالته، غير أن هذا التعميم يخصصه ـ بعد ـ بقوله: "ومَدَارُ هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل"، وبالتالي يتوتر الخطاب بين التعميم والتخصيص. وللتوتر هذا دلالته أيضا، إذ يجعل التعميم جائزا في غير علم البيان، والتخصيص واجبا في هذا العلم. كأن الرجل يذهب إلى أن الخطاب البليغ (أو المعجز) يقوم على الإمكان والاحتمالية بحسب درجات التلقي، وحين يقوم الاحتمال في خطاب تتأكد وضعية الشكل فيه. فلسنا نتأمل معاني أولا فنخرج بمعان ثوان، بل نتأمل ما يدل عليه لفظ "النظم" من شكل، بالرغم من المحاجة التي أقامها عبد القاهر لحساب ترتيب الأفاظ وفقا للمعاني التي في الذهن(12) متناسيا، وليس ناسيا، أنه في دائرة التلقي، وليس الإنتاج.. وبغض النظر عن تلك المحاجّة، فيمكننا الذهاب ـ باطمئنان ـ إلى أن النظم إخراج الخطاب على هيئةٍ (شكلٍ) خاصة (خاص)، تنتج عنها (عنه) دلالات خاصة، وإذا كان النظم شكل فإنتاجه تشكيل، ونظرا للبعد الفني في اصطلاح التشكيل نختاره على مصطلح النظم الذي يتحول إلى دلالة للأول. ولعلنا نلتفت إلى محاجة جرجانية من نوع آخر وموضوع مغاير مرتبطة بما نحن بصدده، هي محاجته في "الدلائل" حول موضوع النحو والشعر وفضل العلم بهما، فالنحو ـ أكان في المعاني أو البيان ـ هو أداة التشكيل يتصرّف بها المبدع تصرّفا لا متناهيا (وكأنه ينفي عن النحو قاعديته وبالتالي معياريته) ثم لا يكون مطلق تصرّف المبدع بهذه الأداة إلا في الشعر بدالّ الترتيب في محاجّة الرجل. إننا في غنى عن التعرض لكلمات أتى بها الرجل على سبيل القياس أو المجاز تدل على شكلانيته فهي كثيرة ومشهورة، وكأنه كان يحاول الإفلات من مقولة الجاحظ السابقة، ثم لا يفلت عن سبق قصد ونية. يقول عبد القاهر: "واعلم أن قولنا "الصورة" إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا، فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة، فكان تبيّن إنسان من إنسان وفرس من فرس، بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك، وكذلك كان الأمر في المصنوعات، فكان تبيّن خاتَم من خاتَم وسوار من سوار بذلك، عبّرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا: للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذاك. وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه فينكره منكر، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء، ويكفيك قول الجاحظ: وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير"(13) ولم يقل الجاحظ ذلك كذلك إنما قال في معرض ذم من حكم للشعر بمعناه: "وذهب الشيخ إلى استحسان المعنى، والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي والمدني. وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير"(14)إن تمثيل الشيخ للمعقول (المعاني) بالمحسوس (صورتها اللغوية) هو تمثيل يقف بعيدا عن تشبيهاته هو نفسه و كذلك ما اجتزأه من قول الجاحظ..
ـ عروض أم إيقاع
شاع في خطابنا الأدبي أن نفرق بين الاثنين، ليستقل العروض بالقصيدة التقليدية (العمودية) بينما استقل الإيقاع بقصيدة النثر، بينما الأصل في الإيقاع أنه نتاج تنظيم معين، أكان تنظيما تماثليا تماثلا نسبيا كما في العروض، أو كان تنظيما حرا كما في أداءات لغوية كثر، وليس قصيدة النثر فحسب. والعروض مفهوم إشكالي في تراثنا العربي، فلم يخضع مطلقا لعملية فحص نظري، وظل المؤلَّف فيه مجرد لائحة إرشادية أكثر من كونه ظاهرة فنية يمكن التصرف بها داخل أطره ومن خلالها وحتى خارج هذه الأطر بالقياس إليها قياسا تاما أو ناقصا. وبالرغم من شيوع الغناء والموسيقى وارتباطهما بالشعر العربي قديما، إلا أننا لا نجد أي من عروضيينا يخرج عن المحاولة الأولى للخليل بن أحمد، ناظرا في ذلك الارتباط: لم كان؟ وما مسوغاته؟ ومستجليا مواطن المشاكلة والاختلاف بين الفنيين: الموسيقى والعروض.. والغريب أن الفلاسفة المسلمين ـ وتحديدا ابن سينا ـ جاور مكانيا بين الشعر والموسيقى في كتابه الشعر، ثم فرق بينهما بحسب الفاعلين فحسب، ولم تستدع المجاورة منه قليل نظر أو كثيره فيما بينهما من مشابه، كما نص على ما بينهما من مفارق يعرفها الفيلسوف وغير الفيلسوف.
أ ـ بين النظام الصرفي والنظام العروضي
دائما ما تصنع بدايات التأليف في علم أو معرفة من الإشكاليات أكثر مما تضع من مقولات، وبداية التأليف في العروض غير معلومة إلا من خلال قصة تتناقلها الكتب، كما هو حال تأريخ العرب لكل بداية علمية أو معرفية. ووجود قصة حول نشأة علم ما ـ صادقة كانت أو مدّعاة ـ غير مقنع في معاناة الاصطلاح العلمي على هذه الظاهرة الجزئية أو تلك من العلم. فيما يبدو لنا أن العروض كعلم وضع نتيجة مقاربة نوعية لعلم الصرف، وربما أخذ الأول من الآخر صفة العلمية، إذ العروض نظام وليس علما. وعلم الصرف هو العلم الذي يدرس أبنية الكلمة من حيث شكلها، والعروض يدرس أبنية الشعر من حيث شكله كذلك، والمعيار القياسي في الاثنين: "ف ع ل"، فيقيس إليها الصرف الكمات من حيث مجردها ومزيدها، وصحيحها ومعتلها، جذرها ومشتقاتها.. إلى آخره. أما العروض فينظر في الكلمة، داخل الشعر، من حيث ساكنها ومتحركها فقط، ثم يجعل من: "ف ع ل"، جذرا يزيد عليه ويُنقص منه، كما الصرف يزيد ويُنقص، حتى يستخرج صيغة عروضية موازية للصيغة الصرفية: التفعيلة، ينتظم فيها شكل الكلمات داخل عدد من مفردات الشعر، أعني قصائده. هكذا وجدت التفعيلة كصيغة عروضية، وصار الأمر أنه كما للصرف أوزان فللعروض أوزان كذلك، والشكل بين الاثنين وجه جامع.
ب ـ جدلية الثابت والمتحول
ولم تستقم كل القصائد، بل أبيات القصيدة الواحدة لهذا الميزان العروضي، وكانت عبقرية الخليل بن أحمد الفراهيدي أنه استطاع، بكفاءة منقطعة النظير، أن يميز بين الثابت العروضي في القصيدة وبين متحولها، بل بين ثبات هذا المتحول وتغيره، ومن هنا نزل من الوحدة الشكلية للبيت: الوزن، إلى الوحدة التأسيسية له: التفعيلة، وحدد ثابتها: صورتها الأصلية وتحولاتها، ونظر في هذا الأخير، فميز بين ما يثبت على الصورة التي تحول إليها وسماه "علة"، وما انتقل إلى الأصل فسماه "زحافا". وهكذا استقام له معظم الشعر العربي الذي كان بين يدي استقرائه(15) كل هذه المعاناة الخليلية لم تقع على شيء غير ألفاظ الشعر وشكله، لا معناها ودلالتها، وهو ما يدخل العروض عنصرا من عناصر الاختلاف في قضية اللفظ والمعنى منتصرا للفظ على معناه في شعرية الشعر أو فنيته، وهو ما لم يرد على ذهن أحد من أنصار القضيتين نقادا كانوا أو فلاسفة.. وقد يجب ذكر حد "قدامة" للشعر بأنه: قول موزون مقفى دالّ على معنى، فنرى في ترتيب عناصر الحد دلالة مسكوتا عنها، ونجد لكل عنصر فيه دلالة مسكوتا عنها كذلك (!!). وإذا كان قدامة قال كلمته في بيان حدّه، فلا زال الأمر بحاجة إلى إعادة نظر، فالعنصر الأول: قول، لا يكون كذلك إلا وهو يتضمن الدلالة على المعنى، وإلا فهو محض تلفظ، ومن ثم فمما لابد منه أن يكون لكلمة معنى معنى خاصا ولتأخيرها دلالة نوعية. إن قدامة يبتدئ بالقول بحكم مصدره (المرسل) وتنكيره للخصوص (: قول ذو ملامح خاصة ونواتج خاصة كذلك) وينتهي بالمعنى بحكم مآله (المرسل إليه) و ليس بينهما إلا الشكل: موزون ومقفى. وهذا فهم يقيم الشعر في دائرة الاتصال من جهة، ويخصص طرفيه كل بوظيفته المختلفة القصد والناتج. وكأن الرجل يرى (فيما سكت عنه) أن الشعر شكل من جهة منشئه ودلالة من جهة متلقيه، وربما أضفنا حالة ثالثة لم يكن بإمكان قدامة أن يتصور وجودها وهي كون الشعر صورة في حالة وجوده بين الاثنين: المنشئ والمتلقي. ولسنا آتين بجديد ها هنا، فقد سبق بها "أبو حيان التوحيدي" في حديثه عن الصورة اللفظية في الإمتاع والمؤانسة، فقال: ".. وأما الصورة اللفظية فهي مسموعة بالآلة التي هي الأذن، فإن كانت عجما فلها حكم (الموسيقى) وإن كانت ناطقة (الشعر) فلها حكم. وعلى الحالين فهي بين مراتب ثلاث: إما أن يكون المراد بها الإفهام، وإما أن يكون المراد بها تحسين الإفهام، وعلى الجميع فهي موقوفة على خاصِّ ما لها في بروزها من نفس القائل ووصولها إلى تفس المستمع"(16) على أن نضع الإفهام عند التوحيدي موضعه فهو يرى أنه: "إفهامان: رديء وجيد، فالأول لسفلة الناس لأن ذلك غايتهم وشبيه برتبتهم في نقصهم. والثاني لسائر الناس، لأن ذلك جامع للمصالح والمنافع. فأما البلاغة فإنها زائدة على الإفهام الجيد بالوزن والبناء والسجع والتقفية والحلية الرائعة وتخير اللفظ.. (إلى آخره) وهذا الفن لخاصة الناس لأن القصد فيه الإطراب بعد الإفهام"(17) واضح أن تصور أبي حيان للبلاغة يقع رؤية الجاحظ من حيث شكلانية كل فن ولو كانت مادته الأولية اللغة كالشعر.
جـ ـ جماليات العروض
النظر إلى العروض باعتباره علما يؤدي إلى كونه نظاما من الحركات والسكنات يتكررعلى مسافات شبه متساوية وبعدد متساو، هذا النظر تعليمي أكثر من كونه نظرا جماليا لعنصر من أهم عناصر فنية الشعر. إن العروض، ليس نظاما، بقدر ما هو مبدأ إبداعي يوجه العمل على كل من محوري الاختيار والتوزيع على السواء، عمل هذا المبدأ وفق نظام مغلق (الإيقاعية التقليدية)، أم عمل وفق نظام مفتوح (الإيقاعية التفعيلية) أم عمل وفق نظام حر (الإيقاعية النثرية).
أولا: على محور الاختيار
إن إعمال المبدأ الإيقاعي على محور الاختيار يتمتع بالأولوية على ما عداه، وإن كان هذا الما عدا دلالة المفردة نفسها، إذ ستتبقى مساحة للتصرف في المفردة دلاليا على محور التوزيع. وذلك الأمر يتخطى مسألة وزن القصيدة و/ أو إيقاعها، إلى شيء أعم وأهم منه، أعني كون اللغة الشعرية يدخل على اختيار عناصرها معايير غير دلالية، وإنما هي معايير تشكيلية في الأساس.
ثانيا: على محور التوزيع
إن المساحة التي تحدثنا عنها سلفا، للتصرف بدلالة المفردة التي تم اختيارها شكليا، ليست مساحة مرنة ولا متسعة فهي محكومة بدلالة تلك المفردة والمفردة الأخرى التي تم اختيارها وفقا للمعايير نفسها، هنا يمارس النظام اللغوي دورا مقلصا للغاية يتوقف عند حد فرض العلاقة على المفردتين، أو المفردات، واضعا باعتباره بشكل ما المبدأ الإيقاعي الذي تظل له مداخلاته النسبية على العلاقة التوزيعية، وتاركا مسألة إنتاج الدلالة لنظام آخر (ثانوي) بادئ في التشكل كمجموعة من الاحتمالات لا أكثر.
ثالثا: جمالية العروض العربي
أولى تجاوزات اللغة الشعرية للغة العامة وقطيعتها معها شكلا وبنية وإنتاجية تتمثل في دفع لغة مهمتها الأصيلة إنتاج المعنى إلى إنتاج إيقاع أيا كان نوعه ودرجة انتظامه أو تمتثله (سيمتريته) وهذا الأخير يقع على النقيض من الأول ضرورة، لماذا؟ أعني لماذا تتناقض موسقة اللغة مع وظيفتها الأصيلة؟..
هذا السؤال على قدر كبير من الأهمية بالرغم من بساطته تركيبا ودلالة، وأهميته تكمن في أن ما ألفناه أخرجته الألفة من دائرة المُفَكَّر فيه، فضلا عن أن يقع في دائرة المساءلة. إن قصد المعنى يعني العمل مع اللغة في مستوى الدرجة الصفر من الجهد، وإن أية زيادة في الجهد ستستدعي ولابد إعاقة بنسبة مطردة مع نسبة الجهد لفاعلية اللغة في إنتاج المعنى الواضح والأحادي، وربما كان الجهد المبذول اختيارا وتوزيعا لمطابقة اللغة (الشعرية) النموذج الموسيقي المختار هو جهد فائق الدرجة، ومن ثم فلا عجب أن يؤدي ذلك إلى عدد كبير من إعاقات نزوع اللغة لإنتاج المعنى بشرط صفتي الوضوح والأحادية السابقتين. وحين لا يكون المعنى واضحا وأحاديا يتقدم الشكل ضرورة، بدءا من الشكل الموسيقي وليس انتهاء به.
الآخرون وجدلية الزماني والمكاني
ثمة أمر أشكل على الكلاسيكيين (18) في قسمة الفنون بين فنون مكانية وفنون زمانية، فجعلوا الشعر فنا زمانيا وتميز ـ بالتالي ـ عن الفنون التشكيلية. ونعتقد أن هذه الصفة الفارقة بين ذينك النوعين من الفنون بحاجة إلى معاودة، فتلك الصفة تبدو لنا تغليبية أكثر من كونها حاسمة، وإلا ففي الفنون المكانية ما هو زماني من حيث تلقيها، وفي الفنون الزمانية ما هو مكاني من حيث إنتاجها. ثم إن ما هو لغوي في الفنون الزمانية كان منظورا فيه إلى اللغة الشفاهية، وكتابية هذه الفنون أو بعضها تقلب القسمة السابقة تماما.. لا اعتبار لتصنيف "سوريو" الذي وصفه د. أبو ريان بأنه "أكثر التصنيفات دقة وأقربها تعبيرا عن التداخل بين الفنون المختلفة ويعطينا فكرة واضحة عن الصلة الوثيقة بين الفنون"(19) فقضيتنا ـ هنا ـ ليست في التصنيف، بقدر ما هي قضية توصيف، وذهاب بالتداخل الذي التقطه "سوريو" إلى تعليل وجوده وإيضاح أسبابه وتحديدا بين مجموعة الفنون التي يوجد فيها ذلك التداخل. على أن هذا لا يلفتنا عن بعض الأمور المهمة في تصنيف "سوريو"، فقد وضع الأدب والشعر في مستوى ثان مكون من: الرسم والنحت ـ التلوين التصويري ـ التصوير الفوتوجرافي ـ التمثيل الصامت ـ الأدب والشعر ـ الموسيقى الوصفية(20). والملاحظ أنه مايز بين الأدب والشعر، كأنه لا يرى ـ كما لا نرى ـ أن مصطلح الأدب يغطي مفهوم الشعر، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فقد وضع ما كان يقال أنه من الفنون الزمانية مع ما كان يقال أنه من الفنون المكانية في مستوى واحد. نستخلص مما سبق أن الشعر فن، ثم هو ـ حسب سوريو ـ متميز من الأدب ومتمايز عنه، ثم هو ـ أخيرا ـ متداخل مع فنون أخرى مختلفة عنه ومتمايزة بدرجة أكبر من اختلافه وتمايزه من الأدب. وإن اجتمع الاثنان في المادة الأولية لهما، هذه المادة الحاملة لخصائصها في ذاتها والتي لا يستطيع غير الأديب أو الشاعر أن يكتشف (وبالتالي يوظف) هذه الخصائص، أو على حد تعبير "جان بارتليمي"..
ولفنون اللغة مادتها الخاصة بها أيضا، هذه المادة هي الكلمات.. على أن الكلمة بالنسبة للأديب أو الشاعر (لاحظ الفارق الذي ينتجه العطف بين الكلمتين) ليست مجرد علامة جبرية تتحدد حقيقتها كاملة في معناها، بل هي.. تحوي، عدا معناها وعدا كونها كلمة، تحوي جمالا وقيمة خاصة بها كالأحجار الكريمة التي لم تصقل بعد ولم تركب على أساور أو عقود أو خواتم. ولكل منها ـ إذن ـ صفات ملموسة خاصة بها كالشكل والذوق والنغم واللون.. فهي إما ناعمة الملمس وإما خشنة، إما ثقيلة وإما خفيفة، قاتمة أو صافية، قاسية أو حنون..(إلى آخره)(21)، ويتعرض "بارتليمي" إلى قضية اللفظ والمعنى في الشعر على وجه الخصوص فيقول: "وإذا لم يكن للمعنى أهمية كبرى، فالألفاظ ـ على عكس ذلك ـ تهم كثيرا، فالواقع أن الكلمات تتضمن قدرة غير عادية خارجة عن معناها"(22). لعلنا نتذكر ـ هنا ـ مذهب عبد القاهر في الاستعارة التي تتطلب التأويل إذ تبقى ألفاظها ماثلة في ذاتها وقد أشكل معناها إلى أن ينجح التأويل، غير أن "بارتليمي" يصل إلى أبعد من توازنات عبد القاهر فيذهب إلى أنه "إذا ما كان المعنى مركزا وغنيا لأقصى الحدود، فإن الذي يحدث أن العقل المفكر يعمل عمله ويصاب النشاط الشعري بالشلل"(23)، وهكذا يضطرد عكسيا المعنى والشعرية، فتنقص هذه بزيادة ذاك وينقص ذاك بزيادة هذه. فإذا ما وضعنا كتابية الشعر بالاعتبار، فستكون الشعرية بمثابة وجود اللغة في ذاتها (ألفاظها) نصا تقاربه القراءة ولا تستنفده، وكأن الشعر ـ في وجوده الكتابي ـ لوحة تشكيلية لا تفتأ العين تراودها عن دلالتها، بينما شعريته تتمثل في ذلك التمنع الجميل، فلا هي سافرة، ولا هي محجوبة، بل هي في منزلة بين المنزلتين تمنح ما يبقي عاشقها عاشقا وتمنع ما يحفظ عليها أسرارها. إن الشعر فن مكاني بحكم كتابيته التي تتأكد أكثر فأكثر بعدم استنفاد القراءة لشكله، فيبقى فيما صاغه الشاعر عليه وكأنه حالة تشكيلية مادتها لغة أبعد ما تكون عن اللغة بمفهومها الذي تعارف عليه الناس وسيلة لتبادل مصالحهم. وكون الشعر كذلك لا ينفي بعض الأبعاد الزمانية الناتجة عن تلقيه واكتشاف موسيقاه داخلية وخارجية، كما هو حال تلقي الصورة التشكيلية من اكتشاف إيقاع (من توع مختلف ولكنه إيقاع بالتأكيد) في مناطق بين الظل والنور، وفي نمط الخطوط بين عضوي وهندسي، وفي الألوان بين لون وآخر.
الشعر باعتباره فنا
مرت بنا مشابه كثر بين الشعر والفن، وتحديدا الفن التشكيلي، بوساطة "صورة المعنى"، أي الصورة اللفظية للمعنى، عند الجرجاني إلى حد ما في الدلائل، و "الصورة اللفظية" عند التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة، فضلا عما استقر في الفلسفة قديما وحديثا من عد الشعر في دائرة الفنون من جهة والتمييز بينه وبين الأدب بالعطف بينهما من جهة أخرى. وإذا كان علينا أن نرفق بخطاب نظرية الأدب والمفهوم الأجناسي المستقر وأن نطامن من اختلافنا معه، فلنقل إن الفن دائرة أكبر تقع في جزء منها دائرة الأدب، ويكون الشعر متماسا مع الأخيرة وفي القلب من الأولى، فلا نحجر على نظرية الأدب تناوله، ولا نحصره في هذا التناول، فهو ـ في تصورنا ـ فن، وما نصه غير علامة فنية مباينة في تحقيق وظيفتها السيميائية للعلامة اللغوية، إنه أيقون، بينما العلامة اللغوية رمز، وفرق بين الأيقون والرمز كبير كما سنرى..
أولا: العلامة الفنية
لعلنا نلتفت إلى أن المخاطرالثلاثة التي افتتحنا بها الدراسة: الأداة والموضوع والمعنى، تكاد تماثل العناصر الثلاثة الأساسية للعلامة، عند بيرس، أو هي إياها، فليست الأداة إلا الممثل، والموضوع هو نفسه الموضوع، بينما المعنى يطابق المؤول. ومن ثم فلا يجب التسليم بالمفاهيم السيميائية العامة للمصطلحات الثلاثة. وبتعبير أدق سيكون لفنية الشعر مداخلاتها على تلك المفاهيم بهدف تخصيصها، فضلا عن تحييد مخاطرها وتفعيل وظيفيتها، فالعلامة عارية من الصفة تختلف ولابد في طبيعة وظيفتها (سيرورتها) التدليلية (السيميوزيس) عن العلامة الموصوفة، وتحديدا حين توصف بالفنية، فالصفة في الأخيرة، وهذه الصفة تحديدا، ستخصص التعميمات النظرية للأولى العارية من الوصف تخصيصا له تمايزاته وتميزاته، إذ تقيم تضافرا مفهوميا بين علمي الجمال والسيمياء.
ثانيا: فن الشعر بين علمي الجمال والسيمياء
يمثل الشعر، في علم الجمال، الفن الأرقى الذي يتحقق فيه عمل المخيلة في مطلق كمالها، وهو الأمر الذي يؤدي إلى قطيعة بين الشعري والواقعي، تسقط في مسافتها كل التأويلات التي يمكن أن نعيد بها العلاقة بينهما. ومن هنا كان "المفهوم الجمالي الأصيل للشعر يتمثل في كونه الفن المجاوز باستمرار، بوصفه فنا مفتوحا لا مكتملا، جماليته لا حدود لآلياتها الخالقة للإبداع"(24).
ثم لا يكتفي فن الشعر بتلك القطيعة، بل يؤسس ذاته بديلا من الواقع عبر تأسيس حسيته، أو كما يقول "بو مسهولي": جسدانيته، باعتبار القصيدة من الشعر جسدا ماديا أعضاؤه، أو أجزاؤه الكلمات والتراكيب(25) الأمر الذي يتوازى مع مفهوم أيقونية الشعر. وبين علم الجمال والسيمياء مشترك فلسفي، فلم يكن "بيرس" إلا فيلسوفا، يبحث في منطق لبناء العالم الذي نعيشه (كما هو الحال مع كارناب باختلاف في الغاية والوسيلة)، بينما علم الجمال يبحث في منطق المتعة التي نشعرها إن صح التعبير، فكلا العلمين يمكن النظر إليهما باعتبارهما منطقا يبحث في بناء الكليات القادرة على ضبط ظاهرات نعيشها، حسا أو شعورا، ضبطا منتجا ليس لمعناها، وإنما لكيفيات تولّد معناها، فحتى المتعة لا تكتمل إلا باكتشاف العلة وراء الشعور بها. والشعر، ككل عمل فني، يقوم على ثلاث خصائص هي: التجاوز ـ التكيف ـ التجلي الذاتي:ـ
1 ـ التجاوز: للعمل الفني مادة أولية لا توصف بالفنية أو أي وصف آخر، إنها مادة أولية عامة شائعة سواء في الطبيعة أو المجتمع. ووقوع الممارسة الفنية عليها غير مشروط بشيء بقدر كونه مشروطا بالتجاوز، تجاوز ما يمكن أن يكون في هذه المادة من خصائص أو تنطوي عليه من قوانين (أولية بالطبع).
2 ـ التكيف: إن تجاوز خصائص أو قوانين المادة الأولية للعمل الفني، يؤسس لفضاء مفتوح لإبداع خصائص غير قابلة للتكرار من جهة ومنسجمة فيما بينها من جهة أخرى، أي متكيف داخليا وذاتيا.
3 ـ التجلي الذاتي: يفرض العمل الفني نفسه باعتباره تجليا خالصا يفهم في ذاته.
وعلى هدي من هذه الخصائص يمكن إعادة النظر في الثلاثية المكونية التي تقدمها السيمياء للعلامة: الموضوع ـ الممثل ـ المؤول..
1 ـ الموضوع:
الموضوعات ـ باعتبارها أغراضا ـ مطروحة في الطريق، يعرفها كل من له عقل، أما الموضوعات باعتبارها أفكارا، فالعارفين بها خواص، وحين تنشأ الفكرة عن الشعور والانفعال لا عن الإحساس والعقل يتحرك مفهوم الفكرة عن مواضعه ويتوقف العقل عن فعله فيها، وتدخل ملكة التخيل كفاعلة وحيدة، وينفتح أفق الفن كأفق وحيد لاستظهار تلك التي نسميها فكرة. في هذا الصدد يمكن الاستئناس بقول د. عفيف بهنسي: إن "الفن لغة تشكيلية لأفكار عامة"(26). إن لكلمة عامة ـ من وجهة نظرنا ـ دلالة ليست مما يرد على الذهن في شيء، إنها أقرب إلى معنى "غامضة" منها إلى أي معنى آخر، إذ لا وضوح إلا مع تحديد وتخصيص، ومع التعميم والإطلاق لا يكون إلا الغموض، وبخاصة حين نتحدث عن موضوع ما أو فكرة ما. ومن ثم فإن الموضوع الفني أقرب إلى أن يكون حافزا أكثر من كونه فكرة، وهنا يتمتع العمل الفني (الممثل) باستقلاليته في ذاته، فالحافز لا يؤسس نتيجته وحتى لا يضمنها، إذ تتداخل عوامل (حوافز)أخرى في هذا التأسيس. إن الموضوع بمثابة مساحة شاغرة أو لنقل معتمة في العلامة الفنية، فهي احتمالية ونسبية إلى أقصى حد كذلك، وربما كان هذا يفسّر وصف "جوليا كريسيتيفا" الشعر بكونه نسبيا واحتماليا(27). وإذا كان الموضوع السيميائي لا إمكان لتمثيله من كافة وجوهه، فإن فن الشعر يذهب بذلك إلى البعيد الأبعد، فالموضوع الشعري موضوع مرتهن آلية مستمرة لآليتي: الإزاحة ـ الإبدال، إزاحته عن سماته في الخارج وإبداله سمات ليست مرتهنة إلى عملية تمثيل مباشر، إنما للتمثيل عبر الكل النصي.
2 ـ الممثل:
يرتهن الممثل إلى ما يمثله، فيحدد هذا الارتهان نوعه المتميز من سواه في طريقة التمثيل، وإن لم يختلف على مستوى العلاقة التمثيلية. وحين يكون ما يمثله من قبيل الكليات كما في حالة الشعر، يصبح على الممثل أن يضمّن في طريقة التمثيل موضوع التمثيل، وهكذا يختلف الممثل الفني عن الممثل بإطلاقه من صفة الفنية. لا عبرة لمادة الممثل في تصنيف أنواعه، كأن تكون خطوطا أو أصواتا (لغوية) أو نغمات، بل العبرة كل العبرة بطريقة التمثيل وكيفيته. والممثل اللغوي (: الرمز) له كيفية تمثيل ترتهن إلى مواضعة ما (عرفية في حالة الرمز ـ الكلمة أو اجتماعية في حالة الرمز ـ الرمز) وقولنا مواضعة يعني حضور المرموز إليه حضورا عاما في ذهن الجماعة الاجتماعية المتداولة له، سواء كان هذا الحضور مقلصا إلى حد المعنى أو متسعا إلى حد الموضوع (فالموضوعات معان موسّعة والمعاني موضوعات مقلّصة). ولما كانت تلك الكيفية مرتهنة كلية إلى تلك المواضعة كان عملها إحاليا بامتياز، إن على مستوى المعنى أو على مستوى الموضوع، وإن العمل الإبداعي لا يقوم على طبيعة الممثل، وإنما على ما بين الممثل وموضوعه، فتستحيل إحالة الرمز إلى موضوعه، ويصبح هو نفسه حاملا لموضوعه، كان الحمل بهذا الشكل أو ذاك، وهذا وحده كفيل بإخراجه من نوعه كرمز إلى نوع آخر. إن استحالة إحالة الممثل/ الرمز إلى موضوعه (أو معناه) يؤدي إلى إعلاء قيمته الشكلية من جهة، ومن جهة أخرى التعوض من الإحالة بمضاعفة علاقاته الممكنة بسواه، أكان من طبيعته أو من طبيعة مختلفة عنه.
3 ـ المؤول:
تقترح علاقة الممثل بموضوعه مؤوِّلا عبر ركيزة، وقد قسم "بيرس" المؤولات إلى ثلاث: المباشر، والدينامي، والنهائي. وأصل صفة الدينامية عند الرجل أن المؤول المباشر يظهر عبر ممثل له علاقة بموضوع جديد، ومن ثم يستدعي مؤوّلا جديدا، وهكذا دون أمل في توقف لسيرورة توالد العلامات، ويأتي التعسف في إنهاء العملية كحتمية تداولية، وإلى أي شيء ارتكز هذا التعسف فهو ـ في المحصلة النهائية ـ تعسف محض. ولكن، هل كل الممثلات تقبل عملية التعسف بمؤولاتها (الدينامية) أزعم أن لا.. نعم، فإذا ما أمكن للممثل ـ الرمز الذي تتطابق سيرورته السيميائية مع طبيعته اللغوية أن تُحَدّ ديناميته بالسياق، فلا السياق الخارجي أو الداخلي للمؤوّل الفني قادر على هذا، إذ يتمتع بما يمكن تسميته بالقيمة السيميائية الفائضة عن أي مؤول محتمل له، هذه القيمة الفائضة هي التي تمنع الارتكان إلى أية وسيلة كائنة ما كانت لإنجاز نهائية التأويل. وحده المؤول الفني ـ إذن ـ لا إمكان للسياق معه لكي يضبط نهاية ما لدينامية المؤول الدينامي، فغياب الموضوع وحلول الحافز محله من العلامة الفنية، فضلا عن القيمة الفائضة التي لفنيته، كل هذا يؤسس لماهية العمل الفني كموجود في ذاته مستقلا عن أية مضوعات سابقة عليه وحتى عن حوافزه التي أسهمت في إنتاجه. ووجود العمل الفني في ذاته ـ إضافة إلى ما يحدثه من قطيعة مع ماضي (تاريخ) العمل الفني ـ يؤدي إلى تأسيس مسافة بينه وبين مستقبل تلقيه، أعني تأويله، فلا يتطابق ـ مطلقا ـ ممثله مع مؤوله، لتظل سيرورة وظيفته السيميائية مفتوحة بلا نهاية، وبتعبير آخر: لتظل دينامية مؤوله الدينامي تفتقر إلى إمكان إيقافها عند حد ما. على ضوء من هذا الذي سبق، فاعتبار الشعر فنا يؤسس لنوع من العلامات يخرجه من الأطر الضيقة والقريبة من المنطقية لنظرية الأدب، كما يؤسس لفرع من السيمياء له تميزه من السيمياء العامة.
ثالثا: الشعري أيقونا
حسب "بيرس" نفسه، تمتلك العلامة الأيقونية ممثلا فريدا بين النوعين الآخرين: الرمز والمؤشر، ففيه التقى الشعري (البلاغي) بالفني (التشكيلي) التقاء حيويا في دلالته على ما نحن بصدده، إذ تبدو بنيته البلاغية تقطع بينه وبين موضوعه من جهة. ومن جهة أخرى وأكثر أهمية، فإن الأيقون يبدو وكأنه في غير ما حاجة إلى مؤول وإن وجد. هكذا يبدو الأيقون، على المستوى النظري، فنيا بالقوة، بانتظار تحققه أيا كانت طبيعة مادة تحققه ليصبح فنيا بالفعل. إن الأيقون يتمتع بعدد من الخصائص تجعل الشعر، باعتباره فنا، أقرب إليه، بل كأنه هو، من هذه الخصائص:
1 ـ إحالة الأيقون تقوم على التشابه بين الممثل والموضوع.
2 ـ في الأيقون، لا يشترط في موضوع الممثل أن يكون موجودا، إنما قد يكون ممكن الوجود، وقد يكون مستحيل الوجود كذلك، "فالأيقون هو: علامة تملك طابعا يجعل منها دالة حتى لو غاب موضوعها"(28).
3 ـ الممثل في العلامة الأيقونية يملك داخله كل عناصر الشيء الممثل.
4 ـ يكون الأيقون صورة، ويكون رسما بيانيا، ويكون استعارة، أي أنه غير مشروط بنوع معين من العلامات، ولذا "فكل صيغة مكونة من قرائن (مؤشرات) ورموز (كلمات) هي أيقونة"(29).
إن طبيعة الموضوع أقرب ما تكون إلى الموضوع الشعري، كما أن طريقة الإحالة تبدو وكأنها السمة النصية المحددة لفن الشعر. هذا فضلا عن أن ذلك التنوع الذي يتمتع به الأيقون قادر على استيعاب الثنائية المعقدة التي تمثل المقوم التأسيسي للشعر، أعني كونه لغة من جهة مادته، وكونه فنا من جهة ماهيته. بديهي أن تعمل الماهية الفنية للشعر على شكلنة النص عبر شفرة نوعية وخاصة، بينما تنزع قوانين مادته باتجاه التمعني عبر النظام اللغوي، وهكذا نحصل على أهم ما يميز شعرية الشعر، أعني فنيته، وهو جدل النظام (العام) والشفرة (الخاصة) التي يقوم عليها، بما يؤدي ـ ضرورة ـ إلى الغموض مؤشرا على الوظيفة الجمالية للنص، وذلك وفقا لإيكو(30)، هذه الوظيفة التي تتجلى في ازدواجية أخرى هي بنيوية النص من جهة تجليه، وفي الوقت نفسه فضائيته من جهة تلقيه.
جمالية الشعر
التجربة الأساسية في مجال الجمال هي التجربة الحسية، ومن ثم فالإدراك الجمالي هو في جوهره حدس وتذوق وليس فهما وتصورا. والاختلاف الجذري، بين الحدس والفهم، أن الأول كلي والآخر جزئي. ومن هنا كان الفرق في النظر إلى الفن الشعري، باعتباره أدبا أو فنا، ماثلا في كون الأدبي نص نحوي (أي: منطقي) وتركيبي (أي: بلاغي)، وسمتا المنطقية والبلاغية تجعل من العملية التأويلية تتخذ مسارا محددا: تأويل البلاغي بالمنطقي، وأقصى درجات التنظير لأدبية الشعر تتجلى، في رأي "جون كوهين" ـ وهو يصلب عيني عقله على الظاهرة البلاغية فيه ـ في كون لغته خطأ قابلا للتصويب(31). وهو ـ في زعمنا ـ رأي يتمتع بصوابية مستمدة من تمثيلاته البلاغية عليه فحسب. فالتجلي البلاغي للشعر تجل لا يشمل نصه ولا يستمد من نصيته، وإنما هو موسوم بالجزئية ومستمد من النظر في تركيبية هذا الجزء أو ذاك. إذن، فالنظر إلى الشعر باعتباره أدبا يؤسس لتنظير تجزيئي له، فهو لايمتلك ما يمتلكه السرد أو الدراما من نظام كلي يمتنع معه تعريف أيهما بهذا الجزء أو بذاك الآخر. والحديث عن بنية ونصية.. إلى آخره، هو عمل نقدي على الموضوع دونما سند مستمد من ماهيته، ولذا فإن نقد الشعر ـ أيا كانت منهجيته ـ يعود إلى كفاءة الناقد أكثر من عودته إلى فاعلية منهج مقاربته. إن ما لا أكني عنه أن ماهية الموضوع تحدد نوعية مقاربته ومساراتها. كان لحصر ماهية الشعر في "الأدب"، ومن ثم "اللغة"، مبررا لسيادة مصطلح "الأدبية" أيا كان المفهوم المسند إليها. أما مذهبنا في فنية الشعر، ومن ثم أيقونية قصيدته، فيؤسس لجمالية نوعية لا ترتهن إلى نظرية الأدب ولا إلى اللغة، وبالتالي لا ترتهن إلى البلاغة وإن كان للبلاغة لها مداخلاتها، إذ مفهوم "الكلية" ـ وليس النصية، نؤكد ـ يتسع عن البلاغية كما يتسع عن النصية في الوقت نفسه، باتساعه عن الانحباس في دائرة المعنى والمناهج التي تعمل على اكتشاف آليات إنتاج هذا المعنى. ولقد تنوعت المناهج النقد أدبية وتعددت تعدد وتنوع العوامل المكونة للاتصال اللغوي. وكان الشعر الفن الوحيد الذي تمتع بما يسمى بالقيمة الشعرية الفائضة عن المنهج، وربما ذهبت إلى أن هذه القيمة هي عين ماهية الشعر باعتباره فنا، وكان الانتقال من منهج إلى آخر مطارة لهذه القيمة، ولكن التأسيس المقولات اللسانية البنيوية التي انسربت في مناهج النقد الأدبي كافة وبلا استثناء. وبدلا من مواجهة آثار تلك المقولات ومساءلتها وتحجيم دورها، انتقل النقاد عنها كلية إلى مساءلة الأنساق الثقافية التي تقوم عليها جماليات هذا النص. إذن، من اللغة إلى الفكر كانت جمالية فن الشعر الغائب الأكبر، لماذا؟ لأن مذهب "الفن للفن" هو و "الحركة الجمالية" و "الجمالية" وبإسناد فلسفي من قبل "هيجل"، كل هذا كان نتاج القرن التاسع عشر، والغرب متقدم جدا، لا ينظر وراءه إلا غاضبا، فكيف له أن يعود إلى قرنه التاسع عشر(32)، ولعلنا نكتفي بما يتفق وتصوراتنا من النظرة الغربية، في ذلك القرن، إلى "الجمالية في الأدب والفن" والماثلة فيما يلي:
1 ـ الفن للمتعة وليس لأي غاية تعليمية أو خلقية.
2 ـ مركزية الخيال (الجمالية الرومانسية).
3 ـ القيمة الأعلى في العمل الفني للشكل دون سواه.
4 ـ النزوع الموسيقي.
ولعلنا نتذكر من خطاب تراثنا في نقد الشعر ما يتوازى مع ما سبق على الترتيب:
1 ـ "أعذب الشعر أكذبه" (ومن ثم تنتفي أية غاية عملية منه).
2 ـ "الأقوال التخييلية" (الفلاسفة المسلمون).
3 ـ "الشعر ضرب من النسج وجنس من التصوير" (الجاحظ) ـ "النظم" و "صورة المعنى" (الجرجاني).
4 ـ "قول موزون مقفى" (تعريف قدامة).
لم يعرف العرب النوع الأدبي، وكان لابد أن يسندوا تصوراتهم النقدية والبلاغية إلى أساس مفهومي، ولم يكن هذا الأساس إلا "الفن"، وقد وجّه هذا المفهوم كلا من الإبداع الشعري والخطاب النقدي والبلاغي ليؤسسوا معا منظورا لا قبل لفهمه ما لم تكن صفة هذا المنظور هي الجمالية. ومن ثم فلا نعجب لهذا التطابق بين خصائص الجمالية الغربية ومقولات تراثنا عن الشعر، فهو يؤكد على مذهبنا في فنية الشعر، الذي سبق إبداعه نقده في الاندفاع باتجاه الشكلانية(33) متطورا من "الطبع" (التقليدي) إلى "التكلف" (البديعي) إلى "الصنعة" (الفنية) والتي بالغ فيها حد "التصنع"(34) بغض النظر عن المحمولات القيمية التي وُجِّهَت إليها مفاهيم هذه المصطلحات، فإن من بين دلالاتها المتضمنة فيها ولابد الإشارة إلى الخط الفني والمنتظم الذي كان يسير فيه الإبداع الشعري. إن التطور في حقل الإبداع اللغوي حين لا توجهه نظرية فيه، فإنه ولابد يتطور من ذاته بمضاعفة الجهد على الخصائص الموجودة أصلا فيه، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإنه يتطور مستثمرا الرؤى المقدمة عنه في الحقول المعرفية المرتبطة به. هذا وذاك لينسجم ذلك الإبداع ضمن خصائص ثقافته العامة. وكل ما سبق يؤدي إلى أن علينا الآن أن نتعالى على الثنائيات التي طرحتها المعارك الأولى حول "فن الشعر" واستلبتنا شرحا وتأويلا، ونستنبط الحكم التاريخي الذي غالبا ما يعبر عن خط التطور واتجاهه، وليس عن انحياز جمالي لهذا الطرف أو ذاك.
خاتمة: الشعر الآن وضرورة النظرية
(1) ـ شيء من التاريخ
مع بداية العصر الحديث بدأ عصر المثاقفة العربية مع الغرب، ولكن هذه المثاقفة افتقرت إلى أمرين، الأول: وجود قراءة واعية للتراث، وليس مجرد وجود تراثنا بين أيدينا. ولعلنا نلتفت إلى أن معرفتنا بتراثنا، تحقيقا ونشرا ودراسة، تمت على أيدي المستشرقين، ولغايات تخصهم هم. أما الآخر: فإن هذه المثاقفة لم تكن اختيارا حرا من مثقفينا، إذ تمت تحت سلطة احتلال، وكان ممثل الثقافة الأخرى ليس موضوعا فكريا مطروحا للفهم فقط، وإنما كان موجودا عسكريا مطروحا للمقاومة. كانت هذه الازدواجية القائمة في الأمرين السابقين، وليس في الأخير فقط، مسئولة إلى حد كبير عن كون مثاقفتنا مع الآخر الغربي كانت محض مؤثرات للآخر فينا، الأمر الذي طرح ثنائية ما زلنا نتنفسها: التراث العربي (النقي الخالص) والحداثة الغربية (النقية الخالصة) وقد آن الأوان لنخرج منها، وآن الأوان لقراءة تراثنا قراءة حرة وفاعلة وملائمة لعصرنا ولو تأوّلناه، ليس فقط، إنما تحويل ثوابته إلى معايير ضابطة لحركة مثاقفة حرة وندية مع الآخر (بكل أطيافه).
(2) ـ لماذا الفن وليس الأدب؟
ما لا يجادل فيه أحد أن النظرية الأدبية الحديثة نظرية غربية خالصة، وما لا يجادل فيه أحد ـ كذلك ـ أن هذه النظرية متمركزة حول اللسانيات، إن بشكل مباشر أو غير مباشر. ومن ثم كان النظر إلى الشعر باعتباره نوعا أدبيا سيؤدي ـ ضرورة ـ إلى بقائنا في دائرة الاستلاب التي ظللنا نراوح فيها أكثر من ثلاثين عاما، وآن لنا أن نخرج منها. وهو استلاب كانت له نتائجه ليس على مستوى الخطاب الأدبي فقط، إنما وجه الإبداع كذلك، حتى ليمكننا أن نضع هذا الاتجاه الشعري تحت اللسانيات البنيوية، وذاك الذي تلاه تحت اللسانيات التداولية، أو لنقل لسانيات الكلام. ولا شك أن اتجاها ثالثا مثل الخط الرئيسي للشعر العربي بموروثاته القريبة والبعيدة، إلا أن الاتجاهين الآخرين يمثلان تحديا جماليا له، ومن ثم لا يجب على المنظر الأدبي أن يغض عنه فكره. واختيار الفن نقطة انطلاق بمثابة خروج من دائرة الاستلاب تلك التي تحدثنا عنها، بما يسمح لنا بمساحة من الحرية نستحضر فيها تراثنا، ونستفيد فيها من منجزات الآخر، ونصوغ خصوصيتنا الجمالية، وبخاصة أننا في لحظة تاريخية تتسارع آناتها لمحو خصوصيات الآخرين.
(3) ـ قراءة التراث وحوار الآخر
الحقيقة أننا قرأنا تراثنا كما لم تقرأ أمة تراثها من قبل، لكنها كانت مجرد قراءة محققة وشارحة ومعلقة، وهي مرحلة ضرورية لابد منها، ولكنها مجرد مرحلة، أي لا يجب لها ـ أيا كانت الأسباب ـ أن تستمر، وإلا تحول إنجازنا السابق من تحقيق وشرح وتعليق إلى فعل اجترار لا أكثر، أفضل ما ينتج عنه أنه يبقي على الحياة، ولكنه أبدا لا يبدعها. إنجاز تلك القراءة يجب ـ حتما ـ أن يكون محكوما بفهم عميق للبنية الفكرية التي يقوم كل خطاب أيا كان نوعه. فثمة فيه ثابت يخص الثقافة والهوية التي ينتمي إليها، وثمة متغير أنتجته ظروف زمنية متغيرة ومتحولة. وثمة أخيرا وحدات تستثمر بعض المحتوى المعرفي للخطاب لإقامة ملاءمة بينه وبين أنواع الخطاب الأخرى، هي لا دخل لها في عملية المثاقفة. أما الثابت فيمثل المعايير التي يجب أن يقاس إليها كل وافد من أية ثقافة أخرى. بينما يمثل المتغير الوحدات التي تتفاعل مع الآخر تحت رقابة الضوابط المعيارية للثابت. هكذا يجب أن تكون قراءة التراث قراءة فاعلة وقادرة على أن تقدمه محاورا ندا للثقافات الأخرى مفيدا لها ومستفيدا منها. ولعلنا نستذكر أعلاما في النقد والبلاغة أصروا على إلحاق عنوان فرعي بعناوين كتبهم يؤكدون به على اتجاههم الفكري في تناول موضوعاتها، وكان هذا العنوان: "قراءة ثانية" أو "قراءة أخرى". هذه المغايرة التي يحملها العنوان الفرعي هي عينها استراتيجية قراءة تراثنا التي نريد.
(4) ـ نظرية الشعر
في هذه الغاية يقع هذا البحث، بادئا بالشعر لعدة اعتبارات منها:
1 ـ موقع الشعر من القرآن الكريم وعلومه، وأهمها كتب الإعجاز.
2 ـ أصالة الشعر في تكويننا الشخصي، تأسيسا على أصالته في تراثنا.
3 ـ حساسية الشعر الفائقة تجاه المتغيرات.
4 ـ واقع الشعر الآن.
لهذه الاعتبارت كان بناء نظرية للشعر متحررة من نظرية الأدب ومركزية اللغة فيها ضرورة جمالية وثقافية معا. وبناء هذه النظرية ممكن التحقق بالشروط التي سبق ذكرها. ولكن هذا أمر يثير بعض الإشكالات أختم بها.
1 ـ هل نحن بحاجة إلى نقد فني خاص بالشعر؟
2 ـ هل نقطع مع مناهج النقد الأدبي الطالعة من اللسانيات؟
3 ـ هل من الممكن الجمع بين التذوق الفني للنص الشعري والنقد الأدبي؟
هذه أسئلة، وثمة غيرها، على قدر كبير من الأهمية، ولكن الإجابة عليها تظل مرتهنة إلى قيام النظرية، فربما قدمت مقولاتها إجابة لبعضها، وربما وجهت إجابة البعض الآخر.
كلية الآداب ـ جامعة المنوفية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ على سبيل المثال لا الحصر: تيري إيجلتون: مقدمة في نظرية الأدب ـ وأن جيفرسون: النظرية الأدبية ـ وخوسيه ماريا: نظرية اللغة الأدبية ـ وغيرهم كثير ممن وضعوا مناهج النقد الأدبي تحت عنوان نظرية الأدب أو النظرية الأبية أو ما يقع في مجالهما الدلالي، في إشارة واضحة إلى وراثة النقد الأدبي لها بكل ما أحدثه ويحدثه في أبوابها من تغييرات.
(2) ـ ابن منظور ـ لسان العرب ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ المجلد الرابع ـ ص: 2782
(3) ـ ابن سينا ـ الشفاء: المنطق: 9 الشعر ـ تحقيق د. عبد الرحمن بدوي ـ الدار المصرية للتأليف والترجمة ـ القاهرة ـ 1966 ـ ص: 23
(4) ـ مجاهد عبد المنعم مجاهد ـ فلسفة الفن الجميل ـ دار الثقافة ـ القاهرة ـ (1997) ـ ص: 28، 29
(5) ـ ابن منظور ـ لسان العرب ـ مرجع سابق ـ المجلد الرابع ـ ص: 3147
(6) ـ ابن سينا ـ مرجع سابق ـ ص: 71
(7) ـ يقول ابن سينا: والشاعر يغلّط من وجهين.. كالمصور إذا صور..ـ مرجع سابق ـ ص: 71
(8) ـ ابن منظور ـ لسان العرب ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ المجلد السادس ـ ص: 4469
(9) ـ عبد القاهر الجرجاني ـ دلائل الإعجاز ـ تحقيق: محمد محمود شاكر ـ الخانجي ـ القاهرة ـ ط:5 ـ 2004 ـ ص: 4
(10) ـ المرجع نفسه ـ ص: 8
(11) ـ المرجع نفسه ـ ص 262
(12) ـ راجع: عبد القاهر الجرجاني ـ
(13) ـ المرجع نفسه ـ ص:508
(14) ـ الجاحظ ـ الحيوان ـ تحقيق: عبد السلام محمد هارون ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ القاهرة ـ (2002) ـ الجزء الثالث ـ ص: 131
(15) ـ نتحفظ من إطلاق الحكم بعد ما اكتشف د. عبد الله الغذامي البعض من الشعر الجاهلي الذي لا يدخل تحت عروض الخليل، وذلك في كتابه: الصوت القديم الجديد، بحث في الجذور العربية لموسيقى الشعر الحديث ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ 1987
(16) ـ أبو حيان التوحيدي ـ الإمتاع والمؤانسة ـ تحقيق: أحمد أمين وأحمد الزين ـ دار الحياة ـ بيروت ـ د. ت ـ ج 3 ـ ص: 144
(17) ـ أبو حيان التوحيد ـ المقابسات ـ تحقيق: محمد توفيق حسين ـ بغداد ـ 1970 ـ مقابسة 22 ـ ص: 121
(18) ـ يراجع في ذلك: د. محمد علي أبو ريان ـ فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة ـ دار المعرفة الجامعية ـ الإسكندرية ـ (1989) ـ ص: 187
(19) ـ المرجع نفسه ـ الصفحة نفسها.
(20) ـ المرجع نفسه ـ ص: 186
(21) ـ جان بارتليمي ـ بحث في علم الجمال ـ ت: د. أنور عبد العزيز ود. نظمي لوقا ـ نهضة مصر ـ القاهرة ـ 1970 ـ ص: 181
(22) ـ المرجع نفسه ـ ص: 279
(23) ـ المرجع نفسه ـ ص: 283
(24) ـ عبد العزيز بو مسهولي ـ استطيقا الشعر ـ في الأسس الفلسفية لعلم جمال الشعر ـ