صناعة الدهشة . كيف تفسر قصيدة النثر العالم ؟!
( الاستيعاب والاختزال كنموذجين للوعى الفنى )
د. صلاح فاروق
يعود قدر كبير من الجدل حول قصيدة النثر إلي قدرتها علي صناعة الدهشة ، وهو ما يمكن أن نسميه في عبارة أخري : القدرة علي إعادة تفسير المألوف في ضوء جديد ؛ أو رؤية جديدة لعقل مغاير. وعلي هذا النحو يمكن لنا أن نتابع قدراً كبيراً من تجليات قصيدة النثر بوصفها نماذج مبتكرة تعيد تأسيس علاقة شاعرها بالعالم من خلال إعادة النظر في المفردات المكونة لهذا العالم , وكذلك من خلال إعادة النظر في ظواهره المادية .
وفي هذا الشأن يمكن لنا أن نعيد التفكير في نماذج الوعي الفني الرئيسة التي قدمت قصيدة النثر نفسها في ضوئها . وفي صدارة هذه النماذج نموذجان متعارضان من ناحية الشكل , ومتعارضان كذلك في بعض السمات الداخلية المميزة لتركيبهما العضوي .
أعني علي وجه التحديد ما يمكن أن نسميه نموذج الاستيعاب ؛ أي استيعاب العالم وإعادة توظيف عناصره التقليدية لإنتاج وعي جديد بالعالم . أما النموذج الثاني من هذين النموذجين الرئيسيين ـ النموذج المضاد علي ما أشرت ـ فيمكن أن نسميه : نموذج الاختزال ؛ أي اختزال العالم في صورة علاقة واضحة تكشف عن موقف الشاعر من المجتمع , كما تكشف عن طبيعة تفاعلاته مع ظواهره المتحولة .
أما عن النموذج الأول , فقد اتخذ طابع السرد المتصل , وتميز بكثرة تحولاته الداخلية من ناحية , وبقدرته علي توظيف أشكال فنية أخري , بما في ذلك بعض السمات المائزة للقصيدة الكلاسيكية . ولذلك , فهذا النموذج في منحاه العام تميز بالتكثيف الداخلي للغته , وباستعصائه علي التأويل وفق مراجع فنية أو حياتية محددة . ويمكننا في هذا الشأن أن نذكر تجربة أنسي الحاج وكذا تجارب عباس بيضون ووديع سعادة , فأكثرها متكئ علي السرد المتصل لعالم القصيدة , وهو السرد الذي يعمل علي الإحاطة بموضوع القصيدة أو تيمتها الرئيسة من كل جوانبها , لذلك فالإسهاب في التفاصيل المتعلقة بالموضوع أو بالتيمة هو السمة البارزة في تشكيل القصيدة , مع إفادته طيلة الوقت من منجزات البلاغة التقليدية في صناعة فواصل داخلية تحفظ التوازن بين أقسام القصيدة وتعيّن تحولاتها الداخلية . وعلي سبيل المثال يمكننا أن نقف أمام هذا المقطع , من قصيدة أنسى الحاج " كان دائماً هو هذا " التي تتخذ الحب عنواناً رئيساً للكشف عن تجربتها الداخلية ، يقول :
" نغني الحب لأنه نداء عذابنا لا لأنه سعادتنا . نغنيه علي أمل أن يقع سوانا فيه فننتقم . كيف يكون الحب سعادتنا , فرحتنا , ولابد أن يكون أحد العاشقين فريسة للآخر ؟! لم أعرف محرضاً علي الموت طلباً للراحة أكثر من الحب . حتي آلام المرض المبرّحة لا إخالها ( وليسامحني المرضي المتألمون علي هذا الادعاء الذي أعرف أنه غير صحيح ) أقوي من هواجس الغيرة وخوف أن يكون العاشق ملعوباً عليه , أو هو أوشك أن يفقد بعض حظوته . لا أعرف أشد يأساً من الشعور بفقدان موجات الاتصال المتكافئة بين عاشقين . ولا من رعب الفراق .
لا أعرف محرضاً علي التخريب ( تخريب المعشوق وتخريب الذات ) أقوي من الإغراء أو الجمال , باعثَي الحب . لا أعرف مصدراً للسقوط , للذلّ , أقوي من عذاب الحب . لم أنتحر يوماً كما انتحرت كلما أحببت . " ( 1 )
وما يدل عليه المقطع بوضوح ـ علي قصور الاستشهاد بمقطع صغير من قصيدة متطاولة كهذي ـ يدل علي محاولة الذات فهم قضية الحب , أو الشعور بالحب , ووسيلتها المختارة في هذا الشأن استحضار كل التفاصيل المتعلقة به , بما في ذلك الحالات المتعارضة . وكما يمكن أن نلحظ فإن الذات الشاعرة تجعل عنوان هذه المحاولة ـ محاولة الفهم ـ الغناء(نغنى الحب) وهو عنوان يبدو مخالفاً في طبيعته للسمت الشكلي الذي يتخذه التعبير اللغوي (السرد المتصل) فإذا كان السرد يعمل علي الإيضاح وبسط كل الاحتمالات علي طاولة البحث , أو طاولة التأمل , فإن العنوان المشار إليه يتكئ علي الإيجاز , وصناعة عمل لغوي مكافئ للعالم الشعري بما في طبيعته من استعارة . ومن ثم فإن السمت المنطقي للتعبير / الخطاب الشعري يلتف علي منطقيته ـ بكل ما فيها من حجج واحتجاجات ـ ليعود إلي نقطة المركز في صناعته ؛ أي عنوان التجربة الشعرية وباعثها ( نغني الحب ).
ولنا أن نلحظ أيضاً في هذا الشأن أن مثل هذا النموذج الاستيعابي للعالم يمثل بنفسه مصدر الشعرية , أو مصدر الدهشة في تجربة القصيدة , بداية من مخالفة التوقع لكل قارئ ينتظر خطاباً شعرياً موجزاً , مبنياً علي الغموض ؛ أي يقبل الخضوع لتأويل وحيد ، ومروراً بتوظيف علامة المجاوزة الأكبر ( الكناية ) في قدرتها علي استيعاب وإعادة إنتاج الصورة البلاغية التقليدية للتشبيه والاستعارة . والأهم في ذلك قدرتها علي صناعة حالة مزاجية عامة , تدمج القارئ في توتراتها الداخلية , وتجعله يلمس تفاعلاتها المحتملة من داخله , لا من اللفظ الخارجي المعبر عنها .
علي أن نضع في الاعتبار أن النموذج الذى تمثله قصيدة أنسي الحاج إنما هو نموذج الخطاب العقلي للمنطق ؛ الخطاب الذى يتخذ سمت الجدال والحجاج ( الشعرى ) سبيلاً لتأكيد موقفه في لون من الحياد , وإن يكن التحليل الداخلي يكشف عن انحياز هذا الخطاب لموقف الذات الشاعرة ؛ إذ يعمل علي استدراج قارئه إلي الاقتناع بمنطق الذات الشاعرة .
وفي المقابل , فإن النموذج الذي نراه في قصيدة وديع سعادة يختلف في تخليه عن موقف الحياد , لصالح عودته إلي تبني صوت الذات الشاعرة المباشر ؛ الصوت الذي يجادل عن نفسه , ويبحث عن تأثير العالم المادي في داخله . ومن ذلك افتتاحه لقصيدته (استعادة شخص ذائب) حيث يقول :
" هذه البحيرة ليست ماء . كانت شخصاً تحدثت إليه طويلاً ، ثم ذاب !
ولا أحاول الآن النظر إلي ماء بل استعادة شخص ذائب .
كيف يصير الناس هكذا بحيرات , يعلوها ورق الشجر والطحلب ؟!
قطرة قطرة ينزل الموت علي بابي
ومركب يتوقف من أجلي تحت الشمس
وجالية فقيرة من الرعشات تعود إلي الرمل .
لم أرتجف ، لكنني جننت . الماء بارد لكني لم أرتجف . فقط ارتعشت قليلاً . ثم جننت " ( 2 )
وما يميز الخطاب فى المقطع السابق كونه يعتمد بوضوح أكثر علي المجاوزة ؛ أي اصطناع صورة ذهنية لتيمة القصيدة أو موضوعها ( الشخص/ الذات ) ومن ثم تبني الذات الشاعرة علي هذه الصورة المبدئية ـ الصورة الرئيسة لتيمة الموضوع ـ كل رؤاها الفنية لدقائق الحدث الشعرى , وصولاً للهدف نفسه في نموذج الحاج ؛ أي الإحاطة بكل الأحوال والاحتمالات الممكنة لموضوع التجربة الشعرية أو تيمتها .
يتميز المقطع أيضاً بكونه مزج بين السرد والاختزال في تكوينه العضوي ؛ فبدأ عرض نفسه من خلال نموذج الحجاج المنطقي ( لا أحاول الآن النظر .. ) ثم قطع هذا الحجاج بثلاثة أسطر تختزل الحالة الشعرية الآنية لموقف الذات الشاعرة (قطرة قطرة ـ تعود إلي الرمل) . ثم عاد أخيراً لنموذج المنطق وطبيعته التقريرية ( لم أرتجف . لكني جننت .. ) ومع هذا المزج تجلت السمات المائزة للغة السرد ( البسط والتخلي عن لغة المجاوزة ) فيما تجلت المجاوزة في الأسطر المبينة علي الاختزال ( قطرة قطرة ينزل الموتى علي بابي ... ).
وفي الحالين , فإن مصدر الدهشة في نموذجى الحاج وسعادة ـ وهما تجليان لنموذج واحد ـ يعود إلي قدرة النموذج علي استيعاب التفاصيل , وإعادة عرضها دون موارية أو اختزال أمام عين القارئ , ليفاجأ الأخير بكونه مطالباً بمواجهة شريحة من شرائح الحياة علي حقيقتها دون تزيين ودون التمسّح باعتبارات أخلاقية , تميز بين مكونات المجتمع علي أساس القدرة علي التوافق بين هذه المكونات والأفكار العليا الراسخة في العقل الجمعي .
ولذلك , فإن هذا النموذج في كليته قد نراه استمراراً وبديلاً لنموذج الملحمة التقليدي ؛ أي بوصفه النموذج القادر علي تمثّل حالات الوجود الإنساني ما بين التفكير الأسطورى من ناحية والتفكير المنطقي من ناحية أخري , وكذلك تمثّل حالات الوجود الإنساني ما بين الخضوع لمقتضيات الإيقاع الصرف والالتذاذ بوحداته التكرارية المنظمة في جانب والسعي إلي الحرية الكاملة في اكتشاف الإيقاعات الداخلية لوجودنا البشري دون تزييف ودون تحسين أو تقبيح في الجانب الثاني .
وأمام إدراك الشعراء لهذه الطبيعة في تشكيل نموذج الاستيعاب ـ وقد نسميه الملحمة الجديدة ـ عمدوا في الأجيال اللاحقة لتجربة أنسى وسعادة ـ عمدوا إلي تأكيد القدرة علي إبراز الإيقاعات الداخلية في سياقها المقترن بحرية البحث وحرية التفاعل مع تجليات التجربة الشعرية . ويمكن لنا في هذا الشأن الوقوف أمام تجربة كل من أمجد ناصر و مريد البرغوثي , فكلاهما يعمل على وضع تجربته في إطار التنوع القادر علي إبراز حالات التناقض بين التشكيلات الفنية , ومن ثم صناعة حالة من التوافق بين المتناقضات . وهي المسئولة عن إثارة الدهشة في نفس قارئها . ومن هذه التجارب قصيدة أمجد ناصر ( تحليل قبلة ) ؛ حيث يقول :
" كيف يمكن أن يتوقف الأمر عند هذا الحد عندما تطبق الشفتان علي الشفتين ويندفع اللسانان لإيصال بريد الدم الحامي إلي أقصي الثغور ولا يتكلّل المسعى بتلك الشهقات , الانتفاضات , تقطّع الأنفاس الذي يشبه مفارقة الحياة ؟!
أهو تواطؤ نصف الرغبة , نصف السِّكْر سرعان ما يتبدّد إذ تنزلق اليد لتفتح " سحّاب " البنطلون بعدما فكت عري القميص ونفر نهدان فتيان لا يعترفان بأنصاف الحلول ؟ أتكون القبلة هذا المفتاح السري الذى تحسب أنه يفتح أي باب مهما تعقد قفله , " وضعاً " قائماً بذاته لا يؤدي إلي أي شيء عداه . أم نزوة يحسن أن تنسي . مادامت أدرجت في دفتر أعمال الليل الناقصة ، في اليوم التالي ؟
القبلة ...
القبلة ...
ما جدوى القبلة أذن ؟ " ( 3 )
وتجربة أمجد ناصر في إجمالها تتميز بكونها إحدي التجارب التي أضافت إلي مفهوم الشعرية الجديدة حسيتها البالغة . وهي الحسية التي أعادت الاعتبار إلي مفهوم الجسد , حتي جعلته عنواناً لطائفة واسعة من التجارب المعاصرة . والحسية المشار إليها لا تعني فحسب الاكتفاء بتمثيل العلاقات الحميمة للاتصال بين رجل وامرأة , وإنما تعني قبل هذا وبعده التفهّم العميق لأسباب هذه الحميمية وضرورتها وتأكيد احترام الجسد كعنوان خارجي للروح . ومن هنا يأتى مفتتح القصيدة السابقة " كيف يمكن أن يتوقف الأمر عند هذا الحد " والتساؤل في جانبه الخفي أو معناه الثانى إنما هو نقد عنيف لحالة التردد والاضطراب الذي يجعلنا نخفق في مواجهة حاجاتنا الإنسانية الطبيعية .
وهو الإخفاق الذي يعود إلي تقاليد المجتمع في إحاطة كل ما يتعلق بالجسد بهالة قداسة , لا هي تحميه , ولا هي قادرة علي إشباعه في ثقافتنا العربية ، الأمر الذي ينتهي بالمجتمع إلي أن يري في الجسد صورة كثيفة للمادة الخشنة ؛ المادة المرغوبة لكنها الممنوعة , وبالتالي يخفق مثل هذا المجتمع في تبيّن علاقة الانتشاء الجسدي بإنتشاء الروح . ولذلك ورغم أن القصيدة ترسم صورة كاملة لوضعية جنسية محتملة ، إلا أنها تنتهي نهاية مفاجئة , تكشف عن عدم تحقق المغزي من هذه الوضعية , ومن ثم تستمر أزمة الإنسان في وقوعه بين الرغبة وعدم القدرة علي تلبية تلك الرغبة , وعلي ذلك يبقي السؤال : ( ما جدوى القبلة إذاً ؟ ) .
علي أن تجربة أمجد ناصر ليست وحيدة في هذا الشأن , إلا أنها تميزت ـ على ما أشرت ـ بإخلاصها للجانب الحسي في تمثيل جسد المرأة واتخاذه عنواناً لتجربته الخاصة ( 4 ) ، ضمن تيار عام جعل جسد المرأة أو التجربة الشبقية نموذجا مستقلا من نماذج الوعى الفنى التى اعتمدتها قصيدة النثر في مقابل وبالموازاة مع نموذج آخر ، جعل من الإشراق العرفانى عنوانا لتجربته . وهو النموذج الذى خفف قليلاً من التصريح الحسي لصالح إبراز العلاقة بين الحالات الإنسانية للذات الشاعرة وحالات المجتمع الأخري ( 5 ) . ولابد هنا من القول إن تطورات قصيدة النثر وتحولاتها الداخلية جعلتها فى العقدين الأخيرين أكثر اتصالا (بمناسبات) المجتمع وقضاياه ، لتكون تلك المناسبات والقضايا ـ سواء على مستوى الساحة الكلية للوطن العربى ، أو على مستوى الأحداث الداخلية فى قطر من الأقطار ـ موضوعا رئيسا لتجربتها الشعرية ومدخلا للتعبير عن الذات الشاعرة بدلا من التركيز على عزلة تلك الذات وغربتها فى المجتمع .
وعلى سبيل المثال يمكن أن نتذكر تجربة حلمى سالم فى ديوانه " تجليات الحجر الكريم " والتى خصصها بالكامل لتناول أحداث الانتفاضة الفلسطينية وما يتعلق بها من حوادث وظواهر أخرى . ( 6 ) كذلك قصيدة سامى الغباشى " الميدان مرة اخرى " ( 7 ) التى تناول فيها مظاهرات الجامعة الامريكية بالقاهرة احتجاجا على الغزو الامريكى للعراق ، وقصيدة محمود خير الله " مائة وخمسون قتيلا فى أسرتهم " ( 8 ) التى تناول فيها اقتحام القطار لعدد من بيوت المصريين فى حادث مأساوى .
ومعنى ذلك أن قصيدة النثر تتجه إلى أن تتجاوز الحدود الفنية التقليدية بالنسبة لها لتكون عنصرا فاعلا فى المجتمع ، حتى لو كانت تعبر عن إجلالها للتدين التقليدى على ما ظهر فى تجربة لافتة لواحد من أبرز شعراء التسعينيات فى مصر ؛ أعنى الصديق على منصور ، خاصة فى ديوانه " الشيخ "( 9 ) ، مع ملاحظة أن الملحمي كميزة في هذا النموذج يتقلص ليصبح مقاطع مستقلة ، قادرة علي تكثيف مضمونها الإشارى وتفعيل دلالاتها في سياق ما تشير إليه من ظواهر المجتمع المادية .
وتعد تجربة حلمي سالم في هذا الشأن متميزة بقدرتها علي إثارة أكبر قدر من الدهشة في حيز محدود قد لا يتجاوز الصفحة أو الصفحتين ، لكنه ملتزم بشكل السرد المتصل . ويمكن القول إن سالم وكذلك عبد المنعم رمضان وعاطف عبد العزيز أفادوا من سمت الوجازة فى نموذج الاختزال علي ما سوف يأتي إيضاحه ليصنعوا بذلك توليفاً بين ملحمة النموذج الأول المعتمد علي اتصال السرد و وجازة النموذج الثاني الأقرب إلي الغنائية .
وسوف نري في موضع لاحق أن نموذج الاختزال أفاد أيضاً من نموذج اتصال السرد في صناعة قصيدة ملحمية , ولكن في ضوء خصائص الاختزال الرئيسة , سيما العناية بالوضوح وتجنب التجريد , سعياً إلي تشكيل صورة بصرية كاملة .
وعلي أيه حال يمكن أن نقف أمام هذا النموذج من تجربة حلمي سالم , وهي قصيدته " معجزات " من ديوانه " عيد ميلاد سيدة النبع " لنتبين العلاقات بين النموذجين وتفاعل التشكيل الفنى فيما بينهما حيث يقول :
" يصنعان معجزات بسيطة : يطبخان الثريد علي شمعة , يهملان مكتبة الإسكندرية , يصلحان شيش النوافذ باللمس , يعرفان أن الغريزة مشكاة في زجاجة . يصنعان معجزات بسيطة مع أنهما لم يكلما الله علي الجبل , ولم يشفيا الأعمى والأبرص , ولم يتلقٌيا " مرج البحرين يلتقيان " . جوهر الحال أنهما يستخدمان الأسنان في صناعة العلامات , هازئين بالسيمولوجيا , ثم يمشيان في الأرض مرحاً , حاملين مشكاة , وحينما يقلقهما جواسيس التكنولوجيا يتلوان " موقف بحر" , عند ذاك تضاف للمعجزات البسيطة معجزة قهوة الصبح " .( 10 )
ومفهوم المعجزات الذي تدور حوله القصيدة يصنع مفارقة مدهشة حين يؤكد في معناه (البساطة ) والاعتيادية والانتماء إلي حياة الناس , ثم يؤكد هذه المفارقة بتمثيل تجلياتها الحياتية ( الطبخ وإصلاح شيش النوافذ ) وإن يكن وجه الإعجاز فيها يعود إلي مخالفة الإلف حين يستخدم ضوء الشمعة في المطبخ واللمس في إصلاح النوافذ .
ومع هذه البساطة الإعجازية تبرز قوة الحدث / القصيدة حين تقف علي طرف نقيض في مواجهة المعجزات المألوفة ( كلام الله وشفاء الأعمي .. ) وهي بذلك تؤكد أن مصدر الإعجاز هو في حقيقته مصدر أرضي , وهو رهن بطريقتنا في رؤية الأشياء . وقد نضيف أن الاعجاز الحقيقي هو في قدرتنا الاستغناء عن إلف الناس وفي إحلال عادات جديدة تعمل علي ضبط حالاتنا الروحية والمزاجية , وفي صدارة هذه العادات قهوة الصباح التي تشير إلي سلسلة كاملة من الطقوس الشخصانية , تتصل بحرية الإنسان وتعمل علي تأكيدها .
وقد نلحظ في هذا الشأن أن قصيدة حلمي سالم أعادت اكتشاف مفهوم تقليدي " المعجزة " لتدخله بهذه الإعادة – الاكتشاف – في السياق المعاصر , ولتوضح دون عناء وبطريق غير مباشر أن ما نحتاج إليه فعلاً في هذه المعاصرة – أي لنكون معاصرين حقاً – هو أن نقارب بين مفاهيمنا التقليدية ؛ المفاهيم التي تحكم حياتنا الروحية خاصة وتحرك أفعالنا من طرف خفي , من جهة , وبين تجليات هذه المعاصرة من جهة أخري . وبلغة أخرى ، إن ما نحتاج إليه هو أن نعيد قراءة مفاهيمنا المستقرة في ضوء ما نمارسه ونفعله , لا في ضوء ما تواضعنا علي تريده دون فهم . ولا ريب أن مثل هذا المعني الذي تشير إليه القصيدة – إن صح التأويل ـ يحمل شبهة السخرية من مواضعاتنا الاجتماعية , سيما التي تخالف كل المخالفة ما نحياه أو نعيشه .
وإذا كان سالم أعاد اكتشاف مفهوم المعجزة ساخراً من المجتمع الذي يتحرك وفق تأثيراتها غير الظاهرة ـ وسالم في هذا الشأن يمثل جيلا عايش بطبيعته زمن سقوط القيم والمقولات الكبرى وبني تجربته علي التجريب غير المحدود في ظل لغة مغلقة شديدة التكثيف ـ فإن عاطف عبد العزيز يمثل جيل التسعينيات , الجيل الذي نما وعيه في ضوء العولمة وسقوط الحواجز المعرفية ، الأمر الذي جعل سؤال الهوية جزءاً مما يشغل هذا الجيل . وهذا السؤال جعل تناوله ـ تناول الجيل للمفاهيم المستقرة ـ يخلو من حس السخرية الخفي في النصوص المقدمة , وزاد علي ذلك التأكيد علي التسامح في تقبل المخالفين , بل والتعامل في جدية كاملة مع ذلك المخالف شريطة أن يعاد تفسير المواقف والمفاهيم بما يلائمها من حياتنا المعاصرة .
وفي ضوء هذا التغيير النوعي بين الجيلين قدم عاطف قصيدته " التغريبة " في ديوانه " مخيال الأمكنة " ليقرأ من خلالها التاريخ المعاصر , وليعيد تحديد مفهوم المجد والهوية وفق هذه القراءة المعاصرة لتاريخ قريب , له أكبر الأثر في تحولاتنا الجارية . يقول :
" قدماي الكبيرتان آخر ما تبقي من الأسلاف , إنهم الزرّاع , الزرّاع الذين صاروا غزاة , حتي تذوقوا النبيذ علي أبواب إنطاكية .
في الطريق إلي المجد , مروا بواد كان ينبت فيه زعتر بري , ويرعي راهب عنزتيه , كانت تحدّه بركة متسعة وقف فيها المعمدان ذات يوم يحمّم تائبيه , ثم جاءها انكشارىّ كي يغتسل من الجنابة بعد أن قتل الغلام .
عبر الشتاء كاملاً دون أن يتمكن الفلاحون من التواؤم وسراويل الحرب , إذ كانوا يرفعونها علي حبال الخيمة كلما جاء الليل , حتي يتركوا لأعضائهم حق التنفس العميق .
لكنهم ـ مخافة سوء السمعة , واستجابة لنظام الطاعة الذي كان يسهر عليه الباشا إبراهيم ـ اضطروا إلي اعتياد المحدثات : تحوّرت أقدامهم لتأخذ شكل الأحذية الثقيلة , ثم دأبوا علي استهلاك الحنين .
كانوا كلما عسكروا علي ربوة , نزلوا إلي الأسواق واشتروا شاياً وتوابل , ارتادوا خمارات لها حوائط من أحجار داكنة , وعلي موائدها جالسوا نساء يرطنّ بما يكسر القلب , ويمضين دون أن تعرف لهنّ أسماء .
في الصباح البارد اصطفوا تحت النفير , كي يخبروهم أن الطريق
إلي المجد ينتهي عند هذه الشجرة , وأشاروا إلي اللوز الذي باتت بشائره .
حين عادوا إلي الديار , بدوا تحت شمس المغيب كأن قاماتهم طالت ، لمرآهم توقف الأولاد عن اللعب , وطاروا إلي البيوت بأوحالهم .
كان الرجال مرهقين , استسلموا للنعاس في حجور النساء التي ينبعث منهما خليط الروائح : من الحنّاء إلي الروث الناشف , وفي الليالي التالية استسلموا للنعاس في حجور النساء .
كان طبيعياً ـ بمضي الوقت ـ أن تتهرّأ أحذيتهم الأميرية , صاروا يتعثرون إذا مشوا حفاة في السكك , لذلك استبدلوا بها لفائف الكتان ، ثم جلسوا مقرفصين علي الجسور , يرقبون المحاريث الصدئة , ويحملون فوق أكتافهم عصيّا من أغصان غلاظ , أجل .. كانت غلاظاً بما يكفي لملء التجاويف التي حفرتها البنادق . ( 11 )
والقصيدة في إجمالها تؤكد الطابع الملحمي الذي تتخذه قصيدة النثر حين تعالج موضوعات تتعلق بالهوية , وهو الطابع الذي لا يكتفي بالشكل المفتوح للقصيدة مستوعباً كل دقائق الموضوع الذي يعالجه , وإنما يضيف إليه خصائص القدرة علي إعادة إنتاجه من خلال مساءلة مرتكزاته الرئيسة . وإن تكن المساءلة في إجمالها تخرج عن طابع الوجازة الذي يميز قصيدة النثر .
ومن هذا الباب ترصد القصيدة في صدارتها التحول العميق الذي حدث للزرّاع ( غزاة ) تحت دعوى المجد . ولنلحظ هنا أن الملحمة بطبيعتها تجعل المجد موضوعاً رئيسياً لأبطالها . ثم تتابع القصيدة فيما يشبه القصة ـ وهذا ملمح آخر من ملامح الملحمة التي تسرد قصة أبطالها ـ تتابع ما جري في تلك الرحلة ؛ مفسّرة المواقف الصغيرة التي يتعرض لها الأبطال ، علي نحو تفسيرها ـ تفسير الشاعر ـ لأسباب تحوّر الأقدام لتناسب الأحذية الثقيلة .
ومع توالي التفسيرات نكتشف ـ نحن القراء ـ أن القصيدة تقدم صورة إجمالية مغايرة للحدث التاريخي أو لموضوع معالجتها . أو هي علي وجه الدقة , تبحث فى تفسير المواقف الخافية ضمن ذلك الحدث أو ذلك الموضوع الشعري . وهنا علي وجه التحديد تتجلي شعريتها التي قد تخدع قارئها بقصصها أو بتقليدية الموضوع الذي تعالجه . أو بعبارة ثانية تتجلي شعرية قصيدة النثر علي ما يقدمه نموذج عاطف عبد العزيز ـ إضافة إلي النماذج السابقة ـ تتجلي في قدرتها علي استيعاب العالم , أياً كان ؛ قديماً أو حديثاً , وأياً كانت طبيعة الاستيعاب , سواء أكان في الشكل المرسل لخطابها أو في قدرتها علي استعارة وتوظيف ملامح فنية أقدم كذلك تتجلي شعريتها في رهانها علي تقديم رؤى مغايرة للمألوف وللمعتاد في حيواتنا , سواء أكان مفهوماً من المفاهيم , أو تقليداً من التقاليد الاجتماعية .
وفي كل الأحوال , فإنها تقدم في معالجتها لتلك المفاهيم أو التقاليد تركيزاً خاصاً علي الخفي من العلاقات المادية المكونة للمفهوم و للتقليد المجتمعي . وهي تفعل ذلك من خلال إعادة توظيف الجملة اللغوية في إنتاج عالم مغاير لعالم اللغة التقليدي ؛ أعني العالم المعتمد علي المجاز ، خاصة في جانب المشابهة البلاغية المعروفة .
وفي هذا الشأن لنا أن نلحظ أن قصيدة عاطف ـ كمثال ـ أدخلت في تكوين اللغة مفاهيمها المعاصرة , ولم تلجأ إلي المسكوكات اللغوية المعتادة , علي ما في تفسيره لفعل الزرّاع ـ الجنود إذ يرفعون سراويلهم علي حبال الخيمة ، فهو يفسر هذا الأمر باستخدام مفهوم معاصر ؛ أي مفهوم ينتمي لثقافتنا الحية هو قوله " حق التنفس العميق " ومثله قوله التالي استئنافا علي تفسيره المذكور : " لكنهم مخافة سوء السمعة " .
وإن يكن الأخير مبنيّا علي إعادة توظيف المسكوك اللغوي في التعبير عن رؤيا لغوية معاصرة . وكل ذلك ضمن توظيف اللغة في صناعة إيقاع مواز لحركة العين الباصرة . وهو الإيقاع الذي تجلي في نموذج عاطف ومن قبله نموذج حلمي سالم وأنسي الحاج , من خلال تكرار المركب اللغوي ، تكرارا يضمن تدفق الحدث الشعري ونموه , كما يضمن تماسك القصيدة حتي لا تقع في الاسترسال النثري الخالص .
أما المجاز في هذه القصيدة , المجاز التقليدي , فقد وقع يقيناً كما فى قول الحاج من قصيدته المشار إليها " أقوي من هواجس الغيرة وخوف أن يكون العاشق ملعوباً عليه " ، كذلك قول حلمي سالم ك " يستخدمان الأسنان في صناعة العلامات " . والمجاز هنا يأتي من القياس التقليدي لحركة الدلالة في اللغة , فعلي هذا الأساس لا بد من تقدير الاستعارة في " هواجس الغيرة " وكذلك الكناية في " ملعوباً عليه " , وفي " يستخدمان الأسنان في صناعة العلامات " . إلا أن المجاز هنا غير مؤثر بطريقته التقليدية , فلا هو بارز ولا هو صانع الدهشة في القصيدة ـ وإن تكن هناك بعض الاستثناءات ـ وإنما دوره يقف عند إعادة إدخال الموروث اللغوي في سياق الفهم المعاصر لتجليات اللغة .
وعوضاً عن ذلك فقد قامت قصيدة النثر , بإعادة تفسير مفهوم المجاوزة لتصب في صالح الكناية بمفهومها الواسع " إرادة الشيء مع جواز إرادة ملازمه " لتصنع من خلال هذا الفهم مشاهد موسعة لموضوعها الشعري . ومن ثم لا تقبل هذه القصيدة أن يكون أحد مكوناتها اللغوية ـ جملة أو بعض الجمل ـ موضوعا لتأويل مستقل . وإنما التأويل والتفسير كله يستلزم الوقوف عند كامل القصيدة ؛ أياً كان حجمها , وأياً كان نموذجها الفني المستخدم , سواء إن كان استيعابيا ملحاً , أو اختزاليا .
وهذه الخاصة علي وجه التحديد كانت سبباً في اتهام قصيدة النثر بالخلو من القيمة , خاصة إن كانت تعتمد علي رسم مشهد كامل , دون أن تنحاز في رسمها لجانب علي جانب . والخدعة هنا تكمن في ضرورة النظر إلي المشهد كله كمجاز ـ أو كمجاوزة كبري ـ تدل علي معانيها الثواني ؛ المعاني الملازمة لكنايتها ولطبيعتها القائمة علي الهدم والبناء .
ويتبقي هنا أن نلحظ ما آل إليه نموذج الاستيعاب الملحمي في قصيدة النثر , خاصة في العقدين الأخيرين , فقد تجلي في هذا النموذج الميل إلي التجريب المطلق , كشكل آخر من أشكال مفارقة القصيدة التقليدية من ناحية , والنثر غير الشعري من ناحية أخري . وفي هذا الشأن تمثل تجربة محمد آدم ورفعت سلام وعلاء عبد الهادي علامة بارزة في قصيدة النثر بعد تطعيمها بمفهوم التجريب ومنطقه الذي لا يقبل الوقوف عند حد .
ولنلحظ هنا أن الأسماء التي ذكرتها تنتمي جميعاً إلي جيل السبعينات , الجيل الذي جعل التجريب علامته الأولي وآيته الكبرى . وإن يكن من الواجب أن ننوه إلي النقلة النوعية التي أحدثها هؤلاء الشعراء في تجاربهم الشعرية . فبكلمة واحدة يمكننا القول إن هؤلاء جميعاً ـ وهم ليسوا كل جيل السبعينيات ـ أعادوا إنتاج تجربتهم الشعرية في ضوء المنجز المعاصر لقصيدة النثر .
ما أعنيه أن هؤلاء سعوا أو هم يسعون ـ إلي صناعة النص المطلق ؛ أى القصيدة التي تتحرك في كل الاتجاهات , وبمستويات مختلفة في الوقت نفسه , مضيفين إلي مفهوم الاستيعاب الملحمي القدرة علي الإفادة من كل مستويات الخطاب الأدبي , مع الحفاظ علي قدر من الغموض الفني المصاحب لكثافة اللغة . وقد تكون الملحوظة الأهم في هذا الشأن أنهم جميعاً صاروا يميلون إلي تخصيص الديوان كاملاً لمعالجة موضوع واحد ، وكل ديوان في التجربة العامة لشاعره يمثل مرحلة مختلفة من مراحل رؤية العالم الشعرية .
رأينا هذا علي وجه التحديد في دواوين رفعت سلام : إشراقات ، وهكذا قلت للهاوية , وأخيراً ـ كمثال ـ ديوانه " حجر يطفو علي الماء " ، الديوان الذي يترجم عملياً رؤية الشاعر في تصميمه الشخصي , وفي رسوماته المضافة بخطه , وفي حجمه المغاير للمعتاد من أحجام الدواوين . والعجيب في هذا الديوان أنه يعالج مفهوماً كونياً ينتمي إلى الكليات التي قيل عن قصيدة النثر أنها بعيدة عن معالجاتها المباشرة . فهو بهذه المعالجة لموضوعه ( الخلق ـ خلق العالم أو خلق الكون ) يثبت قدرة قصيدة النثر علي معالجة شتي الموضوعات واهتمامها بكل المفاهيم أياً كان مستوي انتمائها الثقافي .
والأهم في ذلك قدرتها علي تقديم تفسير معاصر . وهي من خلال هذه المعالجة ـ كإحدي تجلياتها ـ تقدم تفسيرات مدهشة للآني , أي أنها لا تقطع صلتها التاريخية بمبعث نشأتها ، كما لا تقطعها ( بتاريخها ) الثقافي . في ضوء هذا يفتتح رفعت سلام قصيدته / ديوانه بقوله :
" حجر يطفو علي الماء الهويني ؛ أيها الزمن القاسي اتئد ؛ قادم هو النسيان و السلوي وأسراب الخفافيش ؛ سراب حتي مطلع الفجر ، خراب يتمشّى وئيدا في الشوارع ، يصعد المنابر ؛ بندقية مشرعة وهراوة مرفوعة , ما الوقت ؟ كأنني لكنني علي ماء غريب .
أيها الوقت المريب ,
أوجه أم قناع
أم مراودة مسمومة .
تراود القلب العصيب ." ( 12 ) .
وتجربة الديوان في إجمالها تعالج تجليات الخلق , كفكرة ذات أصول دينية من جهة , وذات صلة بالعلم المعاصر من جهة ثانية . وبين الجهتين تأثّر الإنسان ـ كمخلوق ـ بهذه الأفكار ، سواء في حياته أو في علاقاته بالآخرين تحت مظلة من المفاهيم والقيم الحاكمة للجماعة . وفي الإجمال أيضاًَ ، يرسم الديوان صورة للتشوّش وللخلط بين العناصر المادية والروحية سواء بسواء ، وأثر ذلك علي حالات الإنسان .
أما عملية الرسم ذاتها فتشمل تعددا في مستويات الخطاب ؛ لغة وفاعلاً للخطاب , كما تشمل مستويات عدة في التعبير ؛ من التعبير اللغوي الكثيف إلي التعبير في صورة أيقونات متحولة من أول صفحة في الديوان إلي آخره . وعلي العموم , يمكن القول : إن الديوان يقدم رؤيته لعملية الخلق ويستحلي تحولاتها المختلفة , محذراً من نهاية الفوضي الوشيكة في خطاب مباشر , يختم به الديوان / النص الملحمي , حيث يقول :
" أيتها اللحظة الفارقة , اقتربنا من اللحظة الصاعقة , فاتئد في خطاك حتي يطول الطريق , هل أضعنا النجم القطبيّ أم ضعت في الأدغال والمفترقات , هكذا نحطّ علي المدائن الغاربة في اللحظة الهاربة ، فات أوان الرجوع الهوينى , كي يطول الطريق , نحطّ علي المدائن الزاهرة في اللحظة الماكرة , لا سهو أو نسيان , لا هوادة أو غفران نحن آخر الزمان " (13) .
ولعلنا نلحظ في هذا التشكيل اتكاء الشاعر علي لغة الحكمة مستدعياً سجع الكهان ليوحي من خلال التمثيل اللغوي بموقف التأمل الذي تتخذه القصيدة / الديوان من عملية الخلق . ويدعم هذا الموقف استخدام نمط آخر من أنماط الحكمة في صورة الخط المميز بالبنط الأسود الكبير
( بنط الطباعة ) في آخر جملة من الديوان ( نحن آخر الزمان ) جامعاً في هذا الخط أصوات الإنسانية المفردة علي هيئة ضمير متكلم , ليعبر عن طبيعة كينونته , أو ليعبر عن حاله في صوت عميق يبقي صداه بعد الانتهاء المادي للنص / القصيدة .
إن قصيدة النثر وهي تستخدم هذا النمط من التراكيب المتعدد ـ المطلق في حقيقة الأمر ـ تسمح لنفسها باستيعاب كل ما أنجزته الثقافة سالفاً , وعلي رأس ذلك منجز القصيدة العربية , سواء منها التقليدي أو الحداثى في صورة التفعيلة الأولي ـ تفعيلة الرواد في خمسينيات القرن الماضي أو تفعيلة خلفائهم السبعينية بكثافتها وبعمق دلالاتها ـ ويبدو أن كثيراً من شعراء قصيدة النثر التفتوا إلي هذه القدرة في قصيدتهم ، فعمدوا إلي الإفادة منها في كتابة نص ملحمي , يتناول موضوعاً واحداً , أو هو بالأحري يفسر موضوعاً واحداً , ويستجلي تحولاته الممكنة , مضيفين هذه القدرة إلي طبيعة النموذج الثاني من نماذج التشكيل الفني في قصيدة النثر ـ النموذج الذي أشرت إليه أول هذه الكلمة ـ أعني نموذج الاختزال .
ومن التجارب اللافتة في هذا الشأن تجربة سوزان عليوان من لبنان في ديوانها " كراكيب الكلام " فهو في جملته قصيدة واحدة بدون عناوين داخلية , وبدون فواصل , فالنص كله / القصيدة مسند إلي عنوان الديوان " كراكيب الكلام " . أما النص القصيدة فقد جاء علي صورة مقاطع مستقلة في ظاهرها , كل مقطع في صفحة , لا يزيد ولا يقل . والمقاطع جميعها تدور حول ( مفهوم ) المطر , بوصفه ظاهرة مادية وروحية , ذات تفاعلات مع النفس الشاعرة . تقول :
ما مضي
لن يستعاد
والقيل الذي تبقّي
لا يستحق عناء الخطوات
يا قلبي العاطل عن العالم
أيها المعطوب بعشق مدينة كانت
عبثاً حلماً وحاولنا وأحببناها
الرسائل لم تصل
والمطر يمحو ملامحنا . " ( 14 )
والاختزال المشار إليه فى 0مثل هذا المقطع يأتي من اكتفاء المقطع بنفسه فيما يتعلق بإشاراته المرجعية ، ومن ثم يجد القارئ نفسه أمام إشارات ذات طابع عمومى ن تصلح لأي شيء ، وكل شىء تقريبا . " لم يعد يجدى أسف . ما مضى لن يستعاد ، والقليل الذى تبقّى لا يستحق عناء الخطوات " . ولعلنا نلحظ فى تركيب هذا المقطع أنه أسقط الروابط المعتادة فى تركيب الجمل المتصلة .
ومع ذلك يضمن السياق لهذه الجمل بالتجاور اتصالها الوثيق ، فالأسف الذى قدمت الذات الشاعرة بعدم جدواه يفسّره صوت الحكمة التالى " ما مضى لن يستعاد والقليل ... " . ومع ذلك ، نحن لا نعرف ما الذى مضى ، ولماذا لا يستحق ما تبقى العناء . ولهذا فالإشارة من هذه الجهة عامة ؛ إلا أنها خاصة حيث ترتبط بصوت الذات الشاعرة فى تجربتها الخاصة ( الرسائل لم تصل ، والمطر يمحو ملامحنا ) . فهذا الصوت يلخص تجربته / تجاربه فى صورة ( رسائل ) مشفرة قادرة على رسم صورة لصاحبها ، لكنها لا تفصح عن أى تفاصيل خاصة بذلك الصاحب ( الذات الشاعرة ) .
و بالتالى تحتفظ هذه الرسائل بطابعها الغامض الناشئ عن الاختزال لا عن الكثافة اللغوية على النحو الذى أبدته نصوص الاستيعاب ، ولا عن التشتت الدلالى ـ أى تكاثر المراجع الإشارية المتوفرة ـ على النحو الذى أبداه نص أنسى الحاج .
ومع ذلك ، فغن الغموض فى هذه النصوص مؤقت ، لأن تفسير المراجع المختزلة مرهون باستكمال صورتها من المقاطع الأخرى . وبعبارة ثانية ، إن تركيب الاختزال فى هذه المقاطع يجعلها مفسّرة لبعضها البعض . وهذا التفسير ـ إضافة إلى اتصالها النصى على مدار الديوان تحت عنوان واحد ـ هو الذى يعطيها طابعها الملحمى ؛ وإن كانت ملحمة خاصة ، تهتم بنفس صاحبها ، وتفسر تحولاته الشخصية وعلاقاته بالآخرين على ما فى علاقة الذات الشاعرة بالمدينة وبمطرها فى هذا الديوان .
وبوجه عام ، يبدو أن نموذج الاختزال فى قصيدة النثر اختص بالتعبير عن الغربة الذاتية لشعرائه ، سواء تجلت هذه الغربة فى التعبير عن العلاقة بالمكان ، او تجلت فى التعبير عن العلاقة بالآخرين . والأغلب أن يقترن هذا التعبير باتخاذ تجليات الحب عنوانا إشاريا خاصا لرصد تجربة الشاعر فى قصيدته ز وجدنا هذا فى تجربة محمد الماغوط من رعيل قصيدة النثر الأول ، ووجدناه أيضا فى قصائد الجيل الأخير من شعرائها ( العقدين الأخيرين ) كما فى تجربة أشرف يوسف وعماد فؤاد من مصر . يقول الأخير فى قصيدته " سيمترية " من ديوانه " بكدمة زرقاء من عضة الندم " :
صبح
وزهرتان أسفل الشرفة
حين تفتحتا
كان انتهى للتو من قبلته الأخيرة
على نهدها المترع
وكانت تخفى دمعتها التى أطلت بين جفنيها
صبح
اثنان فى الفراش
وزهرتان
واحدة ولدت لتموت تحت اقدام عابرة
وأخرى ستصبح بعد زمن
أما لعائلة من الزهور . ( 15 )
ولسنا فى حاجة إلى التأكيد على أن الغربة المشار إليها تولد من الموقف / المواقف الذى تعبر عنه القصيدة . والموقف نفسه ليس أكثر من مشهد عابر ، يختزل علاقة كاملة فى صورة مقطع او مقطعين . والتجاور بينهما هو المسئول عن استكمال العناصر المحذوفة من المشهد ، سواء على مستوى العلاقات اللغوية ، أو مستوى العلاقات السياقية . ولقد نلحظ فى هذه القصيدة تحديدا أن الشاعر ترك للعلاقات السياقية أمر الغيحاء بنوع العلاقة وطبيعتها .
وبعبارة ثانية ، التجاور بين المقطعين هو المسئول عن استكمال عناصر القصة ز وهو المسئول قبله عن( صناعة ) القصة كاملة فى مستوى مواز لمستوى القراءة بعد استيعاب القصيدة وتمثّل علاقاتها . ولعلنا نلجظ أيضا أن الشاعر استخدم ما يمكن أن نسميه المعادل الموضوعى ليماهى بين العلاقة الإنسانية وتجليات الطبيعة فى صورة الزهرتين الحاضرتين داخل المشهد ، ومن ثم يقوم القارئ باستجلاء التبدلات والتوافقات المحتملة بين القسيمين ( هو / هى ـ الزهرتان ) كأن يحاول ان يعرف مع أيّ من الحبيبين ستموت الزهرة المقدر لها الموت ، ومع أيّ ستعيش الزهرة المقدر لها أن تكون أما لعائلة من الزهور .
وفى حقيقة الأمر ، يفتح مثل هذا التركيب ـ على اختزاليته أو بسببها ـ المجال واسعا أمام العين الباصرة لتسجل على طريقتها دقائق المشهد ، ولتستعيد الخطوات المحتملة التى أدت إلى ما نعرفه من المشهد . ولنلحظ هنا أن عمل العين الباصرة للقارئ مبنى على عمل مثيلتها الباصرة لدى الشاعر . وكلاهما يعمل على حركية الخيال البصرى لا اللغوى ولا الذهنى ، رغم حيادية الوصف الذى يتخذه الطابع الاختزالى فى هذه القصائد . ولذلك يمكن القول ك إن هذا النوع من قصيدة النثر يتميز بكونه صافيا ، خاليا من النتوءات ، ويعمل على استخلاص الحركة الهينة لمادية اليومى والمعاش ليستصفى من هذه المادة مشاهد هادئة ، قادرة على أن تعلق بالذاكرة .
ولعل هذا ما يفسر اعتماد التركيب فى هذا النوع ـ النموذج الاختزالى ـ على تقطيع الجمل تقطيعا يوالى تكون المشاهد الحية كنقاط ضوئية على صفحة العين نقطة وراء نقطة . هذا على الرغم من أن هدوء هذه القصائد وخداعها القارئ فى سمت الحياد وعدم الارتباط بغايات نفعية واضحة ، هذا الهدوء يعقبه جرح عميق ، يترك أثرا غائرا فى النفس ، على النحو الذى تفعله قصيدة محمد فريد ابو سعدة " اتصال " من ديوانه " معلقة بشص " ، يقول :
فى الليل
أيقظه الرنين
وجاءه صوت أبيه حزينا فى التليفون
حكى لأخته فى الصباح
فربتت على ظهره مندهشةً
وقالت : إنه يفعل ذلك
منذ
وفاته ( 16 )
إن المفاجأة التى تصنعها القصيدة فى الختام تأتى من كلمة واحدة ، لا تتميز فى طبيعتها بشيء من باقى الكلمات ، سوى أنها تنتمى إلى سياق مخالف ، الامر الذى يجعل القارئ يعود على القصيدة من بدايتها ليعيد قراءتها فى ضوء تلك المخالفة . ومن ثم تتبدى أمامه سيناريوهات مختلفة ( للحدث ) الشعرى . صحيح ان أول ما قد يتبادر إلى الذهن أن الاتصال برمته يعود إلى ( الحلم ) ، وبالتالى فالحدث المادى كأن لم يكن ؛ أى لا وجه للمخالفة على ما نزعم ، إلا أن وصف الحدث المحايد ( جاءه صوت أبيه حزينا فى التليفون ) يجعله فى حكم الموجود وجودا ماديا ، ومن ثم فالحزن المضمن يعود إلى عتاب ( حقيقى ) محتمل بين الوالد وابنه .
إلا ان هذا التفسير المحتمل ما يلبث أن يجر تفسيرات أخرى ، وبالأحرى صورا أخرى تنشأ عمليا بعد قراءة القصيدة واستيعاب عهلاقاتها الجمالية ، وهى ـ أى تلك الصور الأخرى ـ ليست المشهد المرسوم عينه فى القصيدة ، وإنما هى الحوار بين الأخ وأخته ، وهى أيضا حالات الاتصال المتكرر بين الأخت وأبيها على ما نلمحه فى ربتتها المندهشة ( علامة على إلفها مثل هذا الاتصال وعدم توقعها ان يتم مثله بين أبيها وأخيها ) ، وهى أيضا جماع التفاعل الجمالى بين ما تقوله القصيدة وما يراه ويضيفه القارئ من خياله .
وبعبارة ثانية ، تكشف القصيدة عن العلاقة الروحية بين الأب وأبنائه ، كما تكشف عن الأزمة الحادة الناشئة عن حدث الموت فى نفوس الأبناء . وهنا قد تلتقى الآثار النفسية الملازمة للحدث مع آثار مشابهة فى نفس القارئ . وهذا الالتقاء هو سبب الأثر الغائر الذى تتركه قصيدة النثر من هذا النوع فى نفس قارئها رغم الاختزال الشديد للعلاقات الموضوعية واللغوية ، ورغم الاعتماد الكبير على فاعلية المخيلة البصرية للقارئ فى تبين العلاقات الجمالية التى تكشف عنها إشارات القصيدة ،
والقصيدة أيضا تكشف عن سمتة أخرى من سمات الاختزال فى قصيدة النثر ، سمة ترتبط بحيادها الظاهرى ؛ إذ تعتمد هذه القصيدة على عدم اليقين ، او الاحتمالية . وهى السمة التى نستطيع اعتبارها ترجمة مباشرة لأحد العلاقات الثقافية المسئولة عن نشأة قصيدة النثر ، اعنى سقوط اليقين المطلق وسيادة مبدا النسبية خاصة مع الانفجار المعرفى وتحول العلم بالكلية من اليقين إلى الاحتمال . هذه الاحتمالية هى التى اتكأ عليها الاختزال فى قصيدة النثر ، وقد تجلى فى صور عدة ، من أبرزها التسويف على مستوى اللغة والدلالة . ومعناه استخدام حرف التسويف ( السين أو سوف ) للتعبير عن الحدث الىتى ، فى حين تعمل القصيدة على الإيهام بالحضور الآنى للحدث ، كما تفيد من هذه الخاصية فى تأجيل دلالتها وحشد معناها إلى آخر كلمة فى تشكيلها المادى . ومن هذه النماذج قصيدة سامى الغباشى " عندما نلتقى مرة أخرى " من ديوانه " هزيمة الشوارع " حيث يقول :
سأؤجل الجنس قدر استطاعتى ...
وسأتذكر جيدا
أننى أستقبل مثقفة
وليست امرأة مجانية
لأمنح نفسى قدرا من الرقىّ
اللائق بيسارية قديمة ..،
وسأواجه حضورك الانثوى
بكوبين من الشاى المغلى .. ،
وسأتعمد أن أذكر شيئا
عن " جيفارا "
ومارسيل خليفة ، وسناء محيدلى
وكتبى التى صودرت فى المطار ..
مؤكدا ..
أننى لست تافها
كما قلت لصديقتنا
في خصامنا الأخير
فقط ..
لا أحب ثرثرة المقاهي
و أتخلّى
عن أقنعة التاريخ السياسي
أمام عريك .. ،
وأحبك . ( 17 )
لقد اعتمد الشاعر في بناء قصيدته علي ما يمكن اعتباره تأجيلاً للمعني باستخدام التسويف المقترن بالمستقبل ـ اللحظة الآنية ، وبناء علي هذا التسويف أوهم القارئ بكل ما أجله ليكتشف في نهاية القصيدة أن شيئاً مما وعدت به القصيدة / الشاعر لم يحدث . ومع ذلك فقد استطاعت أن ترسم صورة كاملة للعلاقة بين الذات الشاعرة وضمير الغائبة المشار إليه ، وكل ذلك في إشارات أو رسائل اختزالية ، تمس الإطار الخارجي أو تحدد ذلك الإطار ، وتترك لمخيلة القارئ استكمال العناصر الباقية فيه.
وعلي وجه العموم يتخذ تأجيل الدلالة في قصيدة النثر المعاصرة ( خلال العقدين الماضيين خاصة ) صوراً عدة ، منها استخدام النفى ب " لن " إلي جانب التسويق المذكور . ويقترن هذا الاستخدام بظواهر أخرى لا يتسع المجال إلى رصدها تفصيلا ، لكن يكفى أن نشير إلى استخدام الألفاظ مبهمة الدلالة ( كاستخدام : ربما ) للتعبير عن عدم اليقين ، كذلك استخدام الضمائر مبهمة المرجع للغرض نفسه ، واستخدام التشبيه التقليدي بعد إعادة توظيفه لرسم صور عامة للمشاهد موضوع القصيدة / القصائد . ( 18 ) ومن القصائد التي تمثل هذا الاستخدام قصيدة محمد آدم " غابة " من ديوانه حجر وماس ، يقول :
مثل نغمةٍ يائسةٍ
مثل حياةٍ
بلا مبررٍ
مثل سنوات مهددة بالتلف
مثل زمن مسيّج بالخسران والخيبة
مثل فقاعة هائلة تحت شراعات عملاقة لسفن تبحر إلي
مالا نهاية
تحت سماء بلا مراوح
مثل صلوات بلا رحمةٍ
واحدة
مثل أحزان كثيرةٍ نابتةٍ علي صدفة الروح
مثل صحراوات غاصّةٍ
بالضواري
أنت
أيتها الغابة
المشتبكة ( 19 ) .
فتكرار التشبيه في هذه القصيدة ، وجعله تركيباً محورياً ( مثل ... ) هو المسئول عن نمو الدلالة ، كما هو مسئول عن رسم المشهد العام لتلك الغابة . وهي قد تكون في حقيقة الأمر غابة غير التي نعرفها ، أي رمزاً للمرأة أو لغيرها من القيم أو المواد التي يراها الشاعر في مثل هذه الصورة . والمهم في هذا الاستخدام أن تكرار التشبيه ( أو أي مركب لغوي آخر ) يعمل داخل القصيدة علي استيعاب الموضوع الشعري . وكأن الشاعر بهذا الاستخدام ( التكراري ) عوّض اختزال القصيدة عن إبهام إشاريتها بمنحها أداة موازية للبسط وللتفصيل في النموذج الأساسي للاستيعاب ،
ومع هذه المقاربة بين النموذجين الأساسيين في تشكيل قصيدة النثر من حيث الأدوات والوظائف فلابد أن ننتبه إلي ما تصنعه قصيدة النثر في نموذجها الاختزالي ؛ اذ لا تكتفي بصناعة المشهد ، ومن ورائه تفسيراً مغايراً للمألوف ، وإنما تجعل هذا التفسير محاطا أو ممزوجاً بروح الأسطورة كعلامة علي مفارقة المألوف . وهو ما قد نلمحه في قصيدة محمد آدم السابقة في الوصف الأخير منها ( أيتها الغابة المشتبكة ) ، وهو ما قد نلمحه أيضا في كثير من النماذج الأخري ، و منها قصيدة " ربوة عالية " لأشراف يوسف من ديوانه " يعمل منادياً للأرواح " التى يقول فيها :
إلي أين أطيريا حبيبتي ؟
علي أية حال صرت تاريخاً مختفياً عن النظر
ولا شأن لهدير بحر ميت بذلك :
يتشبّث جوعي بضربة فأس
علي الأرض
حاملاً بعدد أصابع اليد
ما أومن به من حماقاتٍ
بمقدار ما أنا متعب وضائع في الميادين
تميل الرأس أولاً
احتراقاً لهذا الحب
الذي لولاه
لم يكن هناك مسدس متجه إلي عنقي ( 20 )
وروح الأسطورة المشار إليها في هذه القصيدة تظهر من خلال تمثّل الذات الشاعرة لحالة الطيران ، كما تظهر فى تمثّلها موضوعية التاريخ . وهما حالتان مفارقتان للواقع . وتتأكد هذه المفارقة بإسنادها إلى مراجع مشتتة الدلالة ؛ وإن تكن محددة المصدر ( البحر الميت ، علاقة الجوع بضربة فأس ، ميل الرأس واقتران حدة الحب بتهديد الموت ) . وحاصل هذا كله أن يظل السؤال الافتتاحي فى القصيدة معلقا ( إلى أين أطير يا حبيبتى ؟ ) دون أن يجد له سبيلا لفك شفراته ، رغم محاولة تفسيرها بالعودة إلى المراجع الدلالية المحتملة المشار إليها .
ويبدو أن تعليق السؤال / تعليق الحالة الشعرية ، هو المقصد من من وراء تشتيت الدلالة وإبقائها فى إبهام حتى تبرز روح الاغتراب المصاحبة لعلاقة الذات الشاعرة بعالمها من ناحية ، وبحبيبتها من ناحية أخرى . وقد نلحظ فى هذا الشأن أن القصيدة / الشاعر استعانت بكثافة اللغة فى جانب تشتتها الدلالى المعتمد على الاستعارة . على أن هذه الكثافة لم تكن وحدها المسئولة عن وضع الذالت الشاعرة فى صورتها المؤطرة بروح الأسطورة ، وإنما التجاور بين هذه الاستعارات وتبادلها التأثير خاصة مع اتصالها اللغوى المبنى على كون القصيدة كلها تشتمل على أربع جمل لغوية ، اتخذت الثالثة والرابعة منها المساحة الأكبر ، وعملتا على التنفيذ العملى لتشكيل الصورة فى وضعها الثابت فى القصيدة .
وقد نلحظ أخيرا أن هذه البنى الاستعارية تربط بين نموذجى الاستيعاب والاختزال وتجعلهما مشتركين فى هذا الجانب التشكيلى للغة ، على النحو نفسه الذى ربط الاختزال بوصفه علامات صورية قائمة على التجاور دون مجاوزة لغوية ـ ربط بين نموذج الاختزال والاستيعاب . ومعنى ذلك أن النموذجين الأساسيين فى تشكيل قصيدة النثر يتبادلان أدوات التشكيل الفنى ، ويعملان معا من خلالها على تفسير العالم وصناعة الدهشة فى القصيدة .
ولا حاجة إلى التأكيد على أن النموذجين ـ الاستيعاب والاختزال ـ معا هما ترجمة عملية للوعى الفنى الذى تعبر عنه هذه القصيدة . وهما بهذه الصفة ـ نماذج الوعى الفنى ـ يثبتان قدرة قصيدة النثر على الإفادة من الموروث الشعرى بكل تجلياته وبكل ادواته ، كما يفتحان لهذه القصيدة ـ العربية ـ آفاق التعبير إلى مدى قد لا نستطيع إحصاءه فى المدى القريب ، وذلك لكون النموذجين يحملان من المرونة والقدرة على التطويع والتجريب ما يؤهلهما معا لصدارة المشهد الشعرى زمنا طويلا فى المستقبل .
ومن البدهى أن ثمة تجليات أخرى لنماذج الوعى الفنى ، تكمل النقاش المتعلق بقدرة قصيدة النثر على صناعة الدهشة وكيفياته . وفى ذلك نشير إجمالا إلى طبيعة التصوير فى هذه القصيدة ، وتحوله كأساس من التشكيل الذهنى إلى المخيلة البصرية . ومن ناحية أخرى يمثّل التمرد على القيم الثابتة للمجتمع أو اتخاذ المرأة عنوانا رئيسا للتجربة نموذجين آخرين . غير أن الحديث عن كل ذلك يخرج عن نطاق هذه الورقة البحثية التى حددت لنفسها نموذجى الاستيعاب والاختزال موضوعا رئيسا . وقد تتاح لنا فى المستقبل ، و فى مناسبات أخرى ـ كما آمل ـ فرصة استكمال هذا الحديث على نحو أفضل وأشمل .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش وتعليقات :
1 ـ أنسى الحاج ، الاعمال الكاملة ، مج 3 ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة 2007 ، ص 240 ـ 241
2 ـ وديع سعادة ( مختارات ) ، كتابات جديدة ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة 2004 ن ص 242
3 ـ امجد ناصر ، تعويذة لخول البيت ( مختارات شعرية )سلسلة آفاق عربية 87 ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة 2005 ، ص 227 ـ 228
4 ـ وقد نذكر على وجه الخصوص فى هذا الشأن قصائده : معراج العاشق ، وغريب مكلوم بمنجل العذراء ، وسر من رآك ، ووردة الدانتيلا السوداء . انظر ( تعويذة لخول البيت ) ، سابق ، ص 139 ـ 178
5 ـ انظر فى تفصيل هذه الفكرة المبحث المعنون " بنية التجاور والتصوير الحسى " من كتابنا : تحولات القصيدة العربية فى النصف الثانى من القرن العشرين ، كتابات نقدية 168 ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاه8رة 2007 ، ص 318 ـ 343
6 ـ صدر عن سلسلة كتابات جديدة ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة 2003
7 ـ انظر ديوانه " رصيف يصلح لقضاء الليل " سنابل للنشر والتوزيع ن القاهرة 2004 ، ص 9 ـ 13
8 ـ انظر ديوانه " ظل شجرة فى المقابر " ، دار البستانى للنشر والتوزيع ، القاهرة 2004 ن ص 45 ـ 47
9 ـ صدر عن دار شرقيات ، القاهرة 2005
10 ـ حلمى سالم ، عيد ميلاد سيدة النبع ، اصوات أدبية 359 ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة 2005 ، ص 45
11 ـ عاطف عبد العزيز ن مخيال الأمكنة ، مطبوعات هامش ، القاهرة 2005 ، ص 8 ـ 11
12 ـ رفعت سلام ، حجر يطفو على الماء ، الدار للنشر والتوزيع ، القاهرة 2007 ن ص 5
13 ـ حجر يطفو على الماء ، ص 47
14 ـ سوزان عليوان ، كراكيب الكلام ، طبعة خاصة ومحدودة ن بيروت 2006 ، ص 43
15 ـ عماد فؤاد ن بكدمة زرقاء من عضة الندم ، شرقيات ، القاهرة 2005 ، ص 17
16 ـ محمد فريد ابو سعدة ، معلقة بشص ، أصوات أدبية 236 ن الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة 1998 ، ص 79
17 ـ سامى الغباشى ، هزيمة الشوارع ، إصدارات تكوين 2000 ، القاهرة 2000 ، ص 27 ـ 28
18 ـ راجع كتابنا " تحولات القصيدة العربية " سابق ، 230 ـ 272
19 ـ محمد آدم ، حجر وماس ، كتابات جديدة ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة 2002 ن ص 191 ـ 192
20 ـ أشرف يوسف ، يعمل مناديا للأرواح ، شرقيات ، القاهرة 2002 ، ص 50