تعاني قصيدة النثر العربية الحديثة، بصراحة، ومن دون مقدمات طويلة، التحريم الشعري العنيف لأنّها تمثل خطراً على الشعر، كما اعتادت أن تفهمه وتمارسه الأجيال الشعرية السابقة.
أمرؤ القيس، طَرَفة ابن العبد، المتنبي، أبو العلاء المعري، بشار بن برد، الحلاّج، لوتريامون الفرنسي، وباسترناك الروسي، ووولت ويتمان الأمريكي وأمثالهم لعنهم زمانهم، لأنَّ أفكارهم كانت تطوّر واقع مجتمعهم، ويعني ذلك أنّ الشاعر يلتزم بقضايا عصره مؤثراً فيها بنحو أو آخر. إنَّ أسماء شهداء الكلمة، قديماً وحديثاً، يفوق عدد جلاديهم، كما أنّنا، إذا بحثنا في السجلات الذهبية للسادة، سنجد أنَّ عدد الخدم يفوق، أيضاً، عدد الضيوف.
رُفض قَصص أمريء القيس "الفاحش" الجامع بين فن ابن ابي ربيعة وروح الفرزدق.
وقتل طَرَفة بن العبد وهو في السادسة والعشرين. فشعره يمتاز بما فيه من حسية واضحة تجمع بين اللهو واللذة ويعمد إليهما من لا يؤمن بشيء بعد الموت ولا يطمع من الحياة إلاّ فيما تتيح له من نعيم بريء من الإثم والعار على ما كان يفهمهما عليه هؤلاء الناس. في شعر طَرَفة بن العبد تحررٌ فكري وحزنٌ بيّن ويأسٌ وميلٌ إلى الإباحة المقصودة. هذه الشخصية تمثل رجلاً فكر والتمس الخير فلم يصل لأيّ شيء، وهو صادقٌ في يأسه، صادقٌ في حزنه، صادقٌ في ميله إلى هذه اللذات التي يؤثرها. إنَّ هذا الشعر صحيح لا تكلف فيه ولا انتحال، وهو لا يشبه وصف النّاقة المعروف قبل وقت طرفة بن العبد ولا يمكن أن يتصل به، وهو من الشعر النادر الذي نعثر به من حين إلى حين في تضاعيف هذا الكلام الكثير الذي يضاف إلى الجاهليين، فنحس حين نقرؤه أنّا نقرأ شعراً حقا فيه قوة وحياة وروح ومعاصرة قريبة.
وفي شعر المتنبي آثارٌ من معاني الإسماعيلية وألفاظهم، فسُجن. مع أنه، كما قال أبو العلاء المعري، "أشعر المحدثين". وابن جني يمدحه وسمّاه باسم "شاعرنا". وقد أثر ابن عربي في الإسماعيليين ممن ألفوا الكَتبَ العديدة في اللغة الفارسية. إنَّ التفسير المقروء على نحو واسع بين الإسماعيليين هو تفسير ابن عربي الذي اعتبره العديد مِنْ الإسماعيليين واحداً منهم إلى اليوم. وتُؤلّفُ مجموعة المؤلفين الإسماعيليين الكاملة في اللغة الفارسية في القرنين السابع والثامن الهجريين بل شملت الإسماعيلية في بلاد فارس أحد أكثر إمتدادات تعاليم ابن عربي البارزةِ على خريطة الإسلام العالمية. ومن هنا فإنَّ مسألة حرية التعبير الشعري ترتبط بمسألة ثقافية وسياسية أكبر وأخطر هي مسألة الشعوبية، والعروبية، ومفهوم التفسير والتأويل في الأديان كافة.
زعم البعض أنَّ المتنبي قد "أفسد" كثيراً من معاني الشعر بغلظة الألفاظ، بل كان النحاة يعيبون كثيراً من عباراته لتعديه على العربية. وبيّن أبو هلال العسكري في "كتاب الصناعتين الكتابة والشعر، أو المختصر في صناعتيّ النظم والنثر" شتى أنواع الخطأ في شعره وفي شعر غيره من الشعراء القدماء. وزعم عباس محمود العقاد، في العصر الحديث، أنَّ أصالة المتنبي "غير كثيرة" في شعره من بعد فترة شعر الشباب.
وأبو العلاء المعري هو الشاعر - الفيلسوف الذي التزم ما لا يلزم المسلمين: في سيرته ولفظه، فحرَّم الحيوان والتزم النبات وأبى الزواج والنسل، وأراد اعتزال الناس. وأبو العلاء هو الفيلسوف الفذ الذي أنكر النبوات. يروون من أخباره أنَّ القاضي أبا يوسف عبد السلام القزويني قال: "قال لي المعري: لم أهجُ أحداً قط. فقلت له: صدقت، إلاّ الأنبياء عليهم السلام .. فتغير لونه." مع ذلك، اعترف المعري بالإله، وعرّض بالتكليف، وعارض القرآن، وهزيء بشيءٍ من أحكامه. يروون من أخباره في هذا السياق أنَّ القاضي المنازى قال:"اجتمعت بأبي العلاء المعري بمعرة النعمان، وقلتُ له: ما هذا الذي يُروى عنك ويُحكى ؟ فقال: حسدني قومٌ فكذّبوا عليَّ وأساءوا إليَّ. فقلتُ له: على ماذا حسدوك وقد تركت لهم الدنيا والآخرة ؟ فقال: والآخرة أيها الشيخ ؟ وظل يكررها".
وعاش بشّار بن برد في عصر الخلاعة والفتنة، فكان خليعاً مفتوناً بصور المدنية كما أُقتبست عن العالم الروماني والفارسي، وأوغل في الحسيات حتى لقد بلغ منها أقصى المبالغ. فبشار من تلك الفئة التي جدّدت في أساليب الشعر العربي تجديداً لم يكن أساسه الخيال، ولم يعمد إلى المعقولات الصرفة يصفها بأوصاف الذوات الحية الكائنة، بل عمد إلى الحقائق والوقائع الملموسة المباشرة حتى في مديحه وهجائه، ولم ينزع إلى تلك الأشياء الخيالية التي عكف عليها غيره من الشعراء.
ولاقى السُّهروردي "شيخ الإشراق" في سن الثامنة والثلاثين القتل نفسه الذي لاقاه سلفه العظيم الحلاّج، الذي كان قد انجذب إليه بشدة في شرخ شبابه.
إنَّ المصادر التي نهلت منها قصيدة النثر العناصر التي ركبت منها شعريتها المشرقة تتألف من التصوف، من دون أن تقتصر عليه - التصوف وخاصة مؤلفات الحلاّج، والغزالي، الذي كان لكتابه على "مِشكاة الأنوار" تأثيرٌ مباشرٌ في العلاقة بين النور والإمام، كما فهمها السهروردي. وتشتمل أيضاً على الفلسفة المشائية الإسلامية كما ترد عند ابن سينا خاصة، التي اعتبرها السهروردي أساساً ضرورياً لفهم عقائد الإشراق. كما اعتمد على الفيثاغورية والأفلاطونية وعلى الهرمسية كما نشأت في الإسكندرية ثم حُفظت ورُوجت في ما بعد في الشرق الأدني على يد صابئة حرّان الذين كانوا يعتبرون "المجموعة الهِرمسية" بمثابة كتاب سماوي لهم.
وفي العصر الحديث بيّن الشاعر الفرنسي المحدث، لوتريامون، أحد رموز قصيدة النثر، اتجاه القصيدة بوضوح شديد نحو الواقع، نحو الـ "هنا" والآن. لقد رفضت قصيدة النثر عاطفية الرومانسيين باعتبارها غير حقيقية. كما رفضت قيودهم الشكلية باعتبار أنَّ ليس هناك ما يفسرها تفسيراً منطقياً، وأنّها عائق للتعبير الكامل عن الحقيقة الداخلية. البارناسيون، الطبيعيون، الرمزيون كذلك، شجبتهم قصيدة النثر في فترات متفاوتة لأنّهم أوحوا أنَّ جزءاً من الحقيقة هو الحقيقة كلها، وأنَّ الشكلية هي بديل الإستقصاء والتجريب. وقد أُتهم باسترناك الروسي "بالشكلية"، في عهد ستالين، وأُعتبر، لذلك، شاعراً رجعياً، ضد الثورة، ونبهت دور النشر والطباعة في روسيا آنذاك بأنَّ نشر نتاجه محظور.
وواقع الأمر أنّه تكاد لا توجد حركة شعرية كحركة قصيدة النثر وجّهت بمثل هذا الوضوح نحو العالم المادي، عالم الإنطباعات الحسية، عالم الأمل والغضب واليأس الإنساني. كما تكاد لا توجد حركة خلت مثلها من أساس ديني أو أليجوري. لا ربّات الشعر ولا الوحي، ولا الحقيقة المجردة، – ولا حب الفن أو الأدب بالطبع – حفّزت شعراء قصيدة النثر للكتابة على النحو الذي كتبوا. وأهداف شعراء قصيدة النثر وكذلك الأساليب التجريبية التي أرادوا استخدامها كلها تشير إلى علاقة بالعلم أوثق منها بالأدب، وإلى اهتمام بالحقيقة المادية أعظم منه بعالم الأساطير. ومع ذلك، فشعراء قصيدة النثر، ربما أكثر من غيرهم، يتجهون نحو الأسطورة – نحو خلق الأساطير، الأساطير الجديدة، يخلقها الإنسان للإنسان، لا سيما عن الحالة الإنسانية.
منذ أول ظهورها كانت قصيدة النثر حركة تحرر، تحرر من يد الماضي الميتة، وبخاصة في الأدب والفن (وإنْ لم تكن مقصورة عليهما). لقد كان "الخيال الذي لا يعرف حدودا" المزية الخاصة بالإنسان والتي ساعدتهم في قلب، أو على الأقل زعزعة، "الروتين" السخيف المرهق الذي يرتكز عليه مجتمعهم.
الحرية، الحرية التامة، الحرية من الإستبداد السياسي والإرهاب باسم الدين أيا كان هذا الدين، هي هدف قصيدة النثر. غير أنَّ الإنسان يحلم ويعمل، يفكر ويرى. فإذا أراد الإنسان الحرية، لا يمكن لحريته أن تكون فيزيائية صرفاً، بل عليها أن تشمل أيضاً ذلك الجزء من الإنسان الذي يحلم ويستطيع أن يحلق في أجواء من الخيال هي، رغم هوجها، إنسانية أيضا. "من يحلم ينسجم ذهنه مع محيطه." إنه ليكاد يبدو أحيانا أن حركة قصيدة النثر ككل، ومواقفها النظرية العديدة، ومجاميعها الشعرية إنّما تستهدف في المقام الأول أن تقهر "السأم" الرومانسي. على المرء أن يكون في البدء حراً ومرهفاً ليدرك بوضوح أشد "المدهش" الذي يحيط بنا، والذي هو نسق حياتنا بعينه، حيث لا يرى الآخرون إلاّ الواقع اليومي المبتذل. ليس لشاعر قصيدة النثر ما هو فنتزي: ليس له إلاّ الواقع، وكلما بدا أغرب، كلما كان أكبر كشفاً وقيمة.
"الخيال الخلاق"، هذا العنصر الغنائي في الإنسان، وقدرته على صنع الأسطورة، من أجل إيجاد أسطورة جديدة بوسعها أن تكون دليلا للسعادة، لضربٍ من فردوس أرضي. وعلى الأخص الحب – لا الحب فقط كذروة الحياة، والإندماج الفيزيائي بين الحلم والواقع، بل الحب كأسطورة، كإحدى الأساطير المثيرة المدهشة التي ستحفز كل إنسان لمحاصرة المجهول.
حورب الشاعر الأمريكي المحدث وولت ويتمان في القرن التاسع عشر الميلادي، وهو القائل:
"أنا شاعر الجسد، أنا شاعر الروح
مباهج السماء لديّ، وآلام الجحيم لديّ،
أُطعم الأولى وأُزيدها على ذاتي، والثانية أُترجمها إلى لسان جديد."
إنَّ الكتابة الشعرية العربية الملائكية، عن الإنسان، قد تسلي ولكنها لا تخدم ولا تغير مفهوم الشعر نفسه. من المعقول بل من المطلوب أن يكون لكل شاعر أوزانه الخاصة. ربما نسينا أن الصوت هو العامل المكون في العمل الفني اللغوي - الشعري، بينما يقع اللحن في العمل الموسيقي.
يصف الكثيرون اللغة العربية بأنها لغة موسيقية، وأنّها انحدرت إلينا وقد اكتسبت هذه الصفة منذ أقدم عهودها أو أقدم نصوصها، ولكن أحداً لم يربط بين هذه الموسيقية وبين ما شاع لدى العرب القدماء من الأمية أو ندرة القراءة والكتابة. ان ظاهرة الموسيقية في اللغة العربية تعزى في أغلب عناصرها إلى تلك الأمية حين كان الأدب أدب الأذن لا أدب العين، وحين اعتمد القوم على مسامعهم في الحكم على النص اللغوي. ان الأدب الجاهلي قد نما وازدهر في مجتمع لا يصطنع الكتابة والقراءة، وظل هذا المجتمع العربي قبل الإسلام بضعة قرون يرعى تلك النهضة البيانية، ويعمل على ازدهارها. ولم يكن للشعر خلال هذه القرون إلا الصورة الصوتية، تتردد على الأسماع فتكسبها المران وعادة التمييز بين الكلام المشتمل على الإيقاع والنغم. ويعجب القارىء الكاتب عادة بمعاني الكلام أكثر من إعجابه بوقعه في الأسماع، في حين أن الأمي المرهف الأذن يستجيب أولا لرنين اللفظ ونغمه، وقد ينفعل له ويتأثر به تأثرا قويا وإن خلا من جمال في مضمونه ومعناه. لهذا عني الشعر العربي القديم بالموسيقى، وشغلته الأوزان والأنغام عن المعاني والتعمق فيها. ولعل هذه الظاهرة لم يقتصر أمرها على الشعر العربي القديم، بل شملت كل الأشعار القديمة للأمم الأخرى، كالقصائد الجرمانية القديمة، وأشعار اليونان في عصورهم الأولى، ونحو هذا من الأشعار التي رُويت ولم تكتب، أو التي نشأت في بيئة أمية. عني العرب إذن بموسيقية الكلام، لأنّهم لم يكونوا أهل كتابة وقراءة، بل أهل سماع وإنشاد.
من هنا فالشاعر العربي، لرغبته في إطالة القصيدة، وشدة اعتزازه بموسيقاها قد أحلّ نفسه من وحدة المعنى فيها، مكتفياً بوحدة الوزن والقوافي، ولم تسعفه ألفاظ اللغة وكلماتها في الجمع بين هاتين الوحدتين. فاللغة العربية، ممثلةً في نصوص الآداب المروية، تُعد من اللغات التي عنيت باللفظ أكثر من عنايتها بالمعنى، أو بعبارة أخرى، عنيت بموسيقى الكلام أكثر من عنايتها بمضمونه. وهو ما يرجع إلى الظروف الإجتماعية التي نشأت فيها تلك الآداب، من شيوع الأمية بين العرب، واعتمادهم على السمع والمشافهة في تلقي النصوص وتداولها.
فكان ممن تشيعوا "للفظ" و"الصياغة"، الجاحظ، وتبعه في هذا كثيرون من الذين جاءوا بعده من ناقدي الأدب ودارسيه. ذهب الجاحظ إلى أنَّ "المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي، وإنّما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك، وإنما الشعر صياغة وضربٌ من التصوير". فأسقط أبو هلال العسكري المعاني من الشعر: "ليس الشأن في إيراد المعاني". وعلّل ابن جِني عناية العرب بالألفاظ بقوله:"لأنّها لمّا كانت عنوان معانيها، وطريقاً إلى إظهار أغراضها ومراميها، أصلحوها ورتبوها وبالغوا في تحبيرها وتحسينها ليكون ذلك أوقع في السمع وأذهب بها في الدلالة على القصد، ألا ترى أنَّ المثل إذا كان مسموعا لذَّ سامعه فحفظه." وكلام القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه "المُغني" أنَّ:"المعاني لا تتزايد، وإنّما تتزايد الألفاظ". فأطلق المعتزلة كلاما يوهم أنَّ المزية في حاقِّ اللفظ.
وما يزال تصور النحو العربي لمسألة المعنى من الأمور المهملة التي عزف عنها الدارسون المحدثون لصعوبتها، وحاجتها إلى دراسات كثيرة متفرقة في الفلسفة واللغة وفروع أخرى كثيرة من الثقافة العربية، لأنّ الخبرة بالمعنى، في النقد العربي، تكتنفها الإلتباسات التي ربما رفع بعضها عبد القاهر الجُرجاني في "كتاب دلائل الإعجاز".