منطق السلب مفهوم مشدود إلى الثقافة الأوروبية الحديثة وهو مفهوم تتنازعه حقول معرفية شتى إذ ينتسب إلى علم النفس الفرويدي و إلى الأدب و النقد .
فالسلب عند سيغموند فرويد نزعة تهدف إلى انتهاك سلطة الأوامر و النواهي وهو كذلك شق لعصا الطاعة و وقوف في وجه السائد وهو أخيرا تعبيرعن المكبوت و المقموع و قول للمهمش و المنسي و المحظور و نجد سبلا عديدة لأداء الممنوع و قوله (السلوك, اللغة, الإبداع, و الفن).
إن الكتابة الشعرية الحاملة لمنطق السلب تنهض على جمالية جديدة غير مألوفة, فهي مليئة بالأضداد و المتناقضات, قرأ فيها مظاهر قلق مبدعها و إحباطاته وانكساراته الكثيرة كما نكتشف فيها نزعاته إلى التمرد و الخروج و العصف بكل السلط الكابحة حتى تتحرر الذات الشاعرة من قيودها و أغلالها.
و متى عدنا إلى الشعر الأوروبي الحديث وجدنا منطق السلب ممثلا في شعريات بودلير ولوتريامون ومالرمي إذ معهم تأسست صورة جديدة للشعر و الشاعر في أن.
فالخطاب الشعري أضحى تحريفا للقيم الجمالية التقليدية و احتفاء بقيم بديلة تحتفي بالوضيع والحقير والمدنس و كأن الغاية من وراء ذلك صدمة القارئ و قلب المفاهيم الجمالية الراسخة فيه.
أما المبدع فهو (un poète maudit) شاعر رجيم تنبذه الجماعة و ينفر هو من زائف قيمها فيكتب في إطار من الوحدة و العزلة و لا يتواصل مع الآخرين لا يعترف بكل الأنساق الأدبية و الجمالية و الفكرية لان قصيدته تتأبى عن كل سياج و طوق.
إن منطق السلب في الشعر هو الذي روّج لفشل القصيدة الحديثة فنيا و دلاليا فهي كيان ملئ بالفراغ و الرفض تنفر المتلقي المتسرع و لا تشده إليها بل تعمد إلى تخييب انتظاره .
و يعود الفضل إلى رولان بارط في تنبيهه إلى منطق السلب في الخطاب الشعري الحديث – قبل أن تظهر أعمال جوليا كرستيفيا.
إذ عقد فصلا مهما في مصنفه "الدرجة الصفر من الكتابة" و وسمه ب: هل توجد كتابة شعرية ؟ و فيه حدد الخصائص التالية لمنطق السلب في الشعر الحامل لسمة الحداثة :
* لغة شعرية متهشمة مليئة بالفراغ و البياض فلا تجاوب بين اللفظ و اللفظ إنها لغة متشظية لا تقدر علي توصيل المعنى و تشظيها يقول تفكك صاحبها .
* خطاب عمودي يدل على عزلة الشاعر و انقطاعه عن جمهور القراء و بذلك يتم تعطيل طاقة التلقي فلا تروج القصيدة.
* غلبة الرعب و الفظاعة على الخطاب الشعري الحديث, فمآتي الشعر والقصيدة موصولة بالجحيم و الهاوية و مرتبطة بالسقوط و الانحدار, إنه إطار من المكابدة و العذاب و الضنى. و هذا الإطار يثبت فشل مشروع الحداثة و لا إنسانيتها لان أنساقها الكبرى لم تستطع استيعاب الشاعر فكفر بها و سعى إلى نقضها و هدها.
و لقد اقترن منطق السلب في الشعرية العربية الحديثة بشعراء معدودين: توفيق صايغ و أنسي الحاج و محمد الماغوط,إذ يشترك هؤلاء في كتابة قصيدة النثر و هي ممارسة شعرية جديدة جاءت بعد القصيدة التقليدية القائمة على نظام الشطرين و بعد قصيدة التفعيلة كما كتبها السياب مثلا.
كانت قصيدة النثر في بداياتها قصيدة مارقة تجرب أشكالا فنية طريفة و تستفيد من المنجز الشعري الفرنسي و كانت تسعى إلى التخريب و الهدم حتى تنهار الأركان القديمة, و حتى يطل الجديد المعافى و قد توسل هؤلاء الرواد بمعجم شعري مشحون بإيحاءات الجسد و الجنس, ألفاظه طازجة و غير مغسولة أو مصفاة. أما عالمهم الشعري فهو عالم مغلق مثقل بالرموز, وهو وليد تجربة عنيفة و سلبية و منكسرة فالإطار التاريخي هو إطار يلي النكبة: نكبة فلسطين يقول عنه الناقد جبرا إبراهيم جبرا: انفضح فيه الكذب و سقطت الأقنعة و تعرى الواقع الفظيع الذي كان مستورا وراء الشعارات".
أستاذ جامعي كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية تونس