أصدر الكاتبان الفلسطينيان العالمان د. شريف كناعنة ود. إبراهيم مهوي، كتابهما هذا Speak, Bird, Speak, Again بالانكليزية عام 1989. ثم صدر بالفرنسية بعد أن ترجمته يمنى ـ ليلى البطران عام 1997، ليعود إلى أرومته العربية الأصلية بترجمة د. إبراهيم مهوي وجابر سليمان، وقد أصدرت مؤسسة الدراسات العربية هذه الطبعة العربية المنقحة عام 2001، مزودة بمقدمة من الكاتبين المؤلفين. وإبراهيم مهوي مولود في رام الله سنة 1937، وقد تلقى دراساته العليا في الأدب الانكليزي، بجامعة كاليفورنيا. وهو يمارس تدريس الأدب العربي المعاصر في جامعة إدنبرة ـ اسكتلندا، ويعنى بنظرية الترجمة والتركيز على الأبحاث المتعلقة بالأدب والتراث الشعبي الفلسطيني. أما شريف كناعنة، فهو مولود في عرابة البطوف ـ الجليل الفلسطيني، سنة 1936، وقد تلقى دراساته العليا في جامعة هاواي، ويمارس تدريس علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في جامعة بيرزيت، ويعنى بجمع التراث الشعبي الفلسطيني ودراسته، وتحرير مجلة "التراث والمجتمع". وقد بذل هذان العالمان الأنثروبولوجيان جهودا مضنية لتوفير مادة الكتاب ـ الذي استقر عنوانه العربي على قول يا طير ـ فقابلا عددا كبيرا من الرواة الشعبيين، معظمهم من النساء، ونخلا من مئتي حكاية، خمسة وأربعين نصا، نقلوها عن سبعة عشر رواية، منهم ثلاثة رجال فقط، والباقيات نساء قرويات ليست بينهن إلا امرأة من مدينة القدس وثانية من غزة. وكانت خطة الكاتبين في اختيار الحكايات، قائمة على التشويق، وقوة الدلالة، وعدم التكرار، ولم يقتصر اهتمامهما على هذه النواحي، فقد ركزا على أسلوب السرد وطقوس الاستماع إلى الحكايات التي يزدهر موسمها شتاء، وتطيب للمجتمعين بعد العشاء. ولا تطول الحكاية كثيرا بحكم أن المجتمع الزراعي لا يتأخر في السهر كثيرا.
وقد قسم الكاتبان هذه الحكايات إلى خمس مجموعات تتصل بالفرد والأسرة والمجتمع والبيئة والكون. وكتبا دراسة تحليلية مفصلة لدواعي هذه الحكايات ودلالاتها الاجتماعية والايكولوجية ـ وهي دراسة العلاقات بين الكائنات الحية وبيئتها ـ السيكولوجية والأسطورية. وختما كتابهما بتحليل علمي لأنماط الحكاية الشعبية، وملحقين لضبط الوحدات السردية وأنماط الحكايات. ولم يكتفيا بهذا، بل عمدا إلى تثبيت هوامش في نهاية كل حكاية، للتعليق أو الشرح أو ربط الحدث بما يوازيه في السلوك الاجتماعي. كما أشارا إلى تشابه الحكايات لدى الشعوب، ومغزى هذا التشابه من حيث تقارب الخيال الإنساني في تأمله للوجود. وقد ثبت المؤلفان العالمان هذه الحكايات، كما سمعاها، باللهجة الفلسطينية الدارجة، وهو ما ألزمهما بوضع شروح لما غمض من بعض الكلام، إذ من المعروف أن الكلام العامي لا يتمتع بالثبات الذي تحظى به اللغة الفصحى. وشدد المؤلفان على نظرية سنتوقف عندها لمراجعتها، وهي أن سرد الحكايات الشعبية يكاد يكون فنا نسويا خالصا، مع اعترافهما بأن هناك رجالا قد برعوا في السرد، وقد توقفا بشكل خاص عند الراوي شافع الذي نقلا عنه أكبر قدر من حكايات الكتاب.
حكايات الأفراد
تغطى المجموعة المخصصة للحكايات التي تركز على الأفراد، بأكبر عدد من حكايات الكتاب. إذ يبلغ عددها ثماني عشرة حكاية، موزعة بدورها على أجزاء مفصلة. فهناك خمس حكايات للجزء الخاص بالأبناء والآباء والأمهات. وهي حكاية تتناول مشكلة العقم، وقبول المرأة بأن تنجب حتى لو كان وليدها مسخا "طنجرة، أو نص نصيص" وذلك حتى لا تنعت بالعقم. أما الرجل فهو يفضل المرأة الولود على العقيم، والجديدة على القديمة ـ إذ لا بد من ملاحظة ظاهرة تعدد الزوجات ـ وتتنافس الضرائر على قلب الزوج، ويستخدمن أولادهن في معركة التنافس. وتسمح الحكاية الشعبية بالإشارة إلى غيرة الحماة من الكنة حتى لتفكر في إزاحتها لتحل محلها. ولما كان هذا أمراً مستنكراً في الدين والعرف، فان الموت حرقا عقوبة جاهزة لغشيان المحارم. على أن الكاتبين يوضحان أن الحكايات التي تركب هذا المركب، إنما هي حكايات رمزية، تنهل بسذاجة من مركبات العقد النفسية التي شرحها فرويد من غير أن يكون الرواة قد سمعوا بمدرسة التحليل النفسي.
فإذا دلفنا إلى الجزء الخاص بالإخوة، وهو مؤلف من خمس حكايات، وقعنا على مشاعر نبيلة تكنها الأخت للأخ ـ حكاية الطير الأخضر، مثلا ـ الفتاة تحرص على حماية أخيها من الخالة امرأة الأب. وهي تتمنى وتختار لأخيها أفضل عروس، وان كانت الغيرة ستدب بينهما، لا سيما إذا كانت الأخت عزباء. أما الإخوة الذكور فقد يغار بعضهم من بعض. وتنتصر الحكاية للأخ المعوق ـ نص نصيص مثلا ـ فتمنحه قوة غير متوفرة لأشقائه الطبيعيين. وله ميزة إضافية تفضله عليهم، هي طيبة القلب، ومجازاة الجحود بالمحبة والعطاء. في إشارة إلى ضرورة العدالة في تعامل الآباء مع الأشقاء والشقيقات. وأهمية الرأفة والوداد بتعاملهم فيما بينهم.
أما الجزء الثالث الخاص بانتباه الولد أو البنت إلى الزواج كحاجة اجتماعية وإنسانية، فهي خمس حكايات تبارك مبدأ البحث عن شريك العمر أو شريكة العمر، خلافا للتقاليد التي تعيب على البنت أن تبدي رغبة علنية في الزواج. ولأن الحكاية الشعبية مشتقة من هذا الواقع الاجتماعي، فقد هربت إلى الطيور والحشرات للاستعانة الرمزية بها، وإذا كان لا يجوز للفتاة أن تبدي مشاعر عاطفية علنية، أو رغبة صريحة في الزواج، فمن الطريف أن تبحث العصفورة والخنفسة عن زوج. وهو ما تؤكده أيضا حكايات الجزء الرابع من هذه المجموعة وعددها ثلاث. على أن غيرة البنات فيما بينهن ـ حكاية جبينة مثلا ـ قد تكون سببا وجيها للفت انتباه الأمير إلى الفتاة الجميلة، وهو ما جعل جبينة في غير حاجة إلى أن تعلن عن نفسها كفتاة جاهزة للزواج، وحكاية جبينة، المشهورة في بلادنا، هي الأقرب إلى حكاية سندريلا، بينما رأى المؤلفان أن هذا الشبه مع الحكاية العالمية موجود في حكاية أبي اللبابيد. وحتى لا أقع في جدال طريف مع المؤلفين، فإننا نلتقي عند أن وحدات السرد كثيرا ما تتشابه فتتلاقى الحكايات عند نقطة ثم تفترق، تبعا لثقافات الشعوب التي تتداول هذه الحكايات، وتأكيدا لما يسميه د. لويس عوض بالتراكم الملحمي، إذ تسافر الحكاية، عبر الرواة، من بلد إلى بلد، وفي كل محطة جديدة تزداد عناصر الحكاية أو تنقص. وهو أمر لا يتم بتأثير البيئة وحدها، بل يتدخل فيه مزاج الراوي ومقومات شخصيته جنسا وعمرا واقتصادا. والحكاية الشعبية مرآة للمجتمع، لا بمعنى أنها صورة ناقلة. ولكن لها شفرتها الرمزية التي قد تدفعها إلى أنسنة الحيوانات وتوظيف الجن في محاكاة الواقع.
مجموعة الأسرة
وتنضوي المجموعة الثانية، تحت عنوان عام، هو الأسرة. وهذه يقسمها المؤلفان إلى ثلاثة أجزاء تشتمل على أربع عشرة حكاية. والجزء الأول هو خمس حكايات تتعلق بالعروسين، الشاب والفتاة. والمحور الرئيس لهذه الحكايات هو التوافق والانسجام. ففي حكاية "الست تتر"، كان الشاب يتزوج بعد زواجه الأول بسبب عدم انسجامه مع من اختيرت له، ولكنه حين يقود هو العلاقة الزوجية بالتراضي والوفاق، يتغلب مع شريكة عمره على الصعاب. أما حكاية "الغولة العجوز" فترصد حالة التخبط التي تعاني منها العروس في بيئتها الجديدة. وتقف هذه الحكاية في وجه من يفرضون الزوج على الفتاة. ولا تضع الحكاية شروطا لكنها تقدم العبرة من عدم نجاعة القهر والإملاء، وتنجح التجربة مع المرأة التي تثق بزوجها من غير أن تمحو شخصيتها. على أن المتاعب التي يواجهها الشاب في اختيار شريكة حياته، هي من نوع آخر، فقد يعرقل تعلق الأم بابنها ـ حكاية الشاطر حسن مثلا ـ وصول هذا الزواج بسرعة إلى محطة الأمان. وكان الحل هو في ثقة الشاب بنفسه وفي وفاء حبيبته له. ومع ذلك ليس المشهد قاتما دائما، فقد يتجاوب اختيار الأهل مع ما يريده الأبناء، كما في حكاية "شوقك بوقك". وحين يخاف الشاب من أوهام الزواج فيهرب، نرى أن عروسه تتولى أمر إعادته إلى البيت ليسود الحب والوئام. وربما كان الواقع الاجتماعي المعروف لا يشهد على حالات كهذه، إلا أن الخيال السردي ينجح في تأسيس المعادل الموضوعي للعروس من صورة المرأة الايجابية المتخيلة التي يزكيها العقل ويرشحها لبناء البيت السعيد.
أما الجزء الثاني من هذه المجموعة، وهو مؤلف من أربع حكايات، فيتعلق بأوضاع الزوجين بعد مرحلة فرح العرس. ولا تتحرج الحكاية الشعبية من الانتباه إلى المشكلات الحيوية التي قد يتعرض لها الزوجان، كفقدان الزوج لقدراته أحيانا.ولم يختر المؤلفان حكاية تشير إلى احتمال البرود عند المرأة، لكن الغرض الاجتماعي من هذا التناول هو واحد، من حيث أهمية ضرورة الاعتراف بالخلل. ومواجهة الواقع هي الخطوة الأولى على طريق العلاج.
ولكن قراءة مدققة لتعقيب المؤلفين على حكايات هذا الجزء من الحكايات، تضع القارئ في حيرة وما يشبه خيبة الأمل. فالتعقيب يركز على مسألة الضعف الجنسي لدى الزوج، بينما تكتفي الحكايات بالتنكيل بالغباء الاجتماعي. ففي حكاية "منجل" مثلا يغرر احد النصابين بامرأة بسيطة ويأخذ منها ثورا مقابل أن يمنحها اسما أفضل من اسمها، وحين يأتي زوجها ويكتشف ما أدت إليه سذاجتها، يغادر البيت ليكتشف في تجواله حالات من الغباء يفوق غباء امرأته فيعود إليها. أما حكاية "أم عيشة" فتتضمن ألوانا من الغباء تبديها أم عيشة، لكن عيشة تكشف أن زوجها أكثر غباء من أمه حتى انه يضحي بأداة ذكورته، فتقول عيشة إنها تستاهل في كل شيء إلا هذا. والواقع أن الكثير من الحكايات الشعبية ـ وهي التي تتداولها النساء فيما بينهن ـ تتضمن إشارات مرحة إلى عدم تفريط المرأة برجولة زوجها. ومع ذلك لا بد من التسليم للمؤلفين بملاحظتها أن الحكايات الشعبية تتضمن جانبا من قلق الأزواج على استمرار العلاقة الطبيعية بعد مرور الزمن والخوف من البرود أو الضعف.
أما الجزء الثالث من مجموعة الأسرة، وعدده خمس حكايات، فيتمحور حول علاقة الأسرة الصغيرة بالأسرة الموسعة، أي جوانب اتصال الزوج بأهله وأهل امرأته من جهة، واتصالها هي بأهله وأهلها من جهة ثانية. وتبرز حكاية "مقطعة الديات" أنموذجا قويا على كيد المرأة لأخت زوجها الوفية، حتى يقوم هذا ببتر يدي شقيقته ثم يكتشف أن امرأته غولة وأخته بريئة. فتنخره شوكة كرمز للتأنيب، حتى تظهر الحقيقة فيقتل الغولة ويصالح أخته التي تسترد يديها جزاء لها على معروف قدمته لحية مسحورة، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
... والمجتمع أيضاً
تشتمل المجموعة الثالثة من هذا الكتاب على خمس حكايات، ومحورها هو المجتمع. واللافت في هذه الحكايات أنها تشدد على التضامن والتعاون. ففي حكاية "أم عواد والغولة" تتفق النساء على الخروج مجتمعات إلى النبع، ليغسلن ثيابهن، ويؤنس بعضهن بعضا، لكن الصادم المؤذي في هذا النص، هو أن أم عواد حين تنفرد بها الغولة وهي بعيدة عن جاراتها، سرعان ما تضحي بابنها وتتركه رهينة عند الغولة التي تأكله فورا. صحيح أن أم عواد قد اتفقت مع زوجها بعد ذلك على نصب كمين للغولة وقتلها. لكن الولد يكون قد انتهى وأكلته الغولة .. و"يظهر" أن جدتي العمياء أن أم عواد لم ترهن الولد عند الغولة، بل الغولة هي التي احتالت حتى احتفظت بالولد. ولأن التفاؤل من طبيعة الحكايات الشعبية فان جدتي، رحمها الله، كانت تؤكد لنا أن أبا عواد قد شق بطن الغولة بعد أن قتلها، فأخرج ابنه من أحشائها ومعه سبعة أولاد كانت قد أكلتهم الغولة في مغامرات سابقة، فعادوا أحياء .. أما حكاية "بنت التاجر" فهي مصدقة لتحليل المؤلفين اللذين أكدا أهمية التضامن الاجتماعي، عندما ينقذ أبو خليل بنت التاجر ويقتل الغول. بل انه يسمح لنفسه بحكم حق الجيرة أن يزوجها في غياب أبيها. ولكن، كما يحدث مع الكثير من الحكايات، تتصل حكاية بنت التاجر هذه بحكاية سبق لي أن سمعتها في سياق مستقل. فالحكاية كما اعرفها تنتهي بمقتل الغول، أما في هذا الكتاب فان الرواة يتابعون أخبار أم الغول التي تأتي لتثأر لابنها. وربط الحكايات بعضها ببعض من الأمور الشائعة في ليالي السمر الطويلة، ولا يكلف الراوي إلا أن يقول عبارة من نوع "يرجع مرجوعنا لفلان" أو أن يقول: "فنكم بالحديث" ثم يبدأ الاستطراد. ولم يهتم المؤلفان بتحليل هذه الظاهرة في السرد لأنهما معنيان أصلا بما سمعاه. وهما بذلك أكثر إخلاصا للأسلوب الذي ميز جهد الأخوين جريم في جمع الحكايات، عندما كان الرواة هم المنبع الأصلي الذي لا يجوز للرواة اللاحقين أن يضيفوا إليه أو يحذفوا منه.
ونمضي مع مجموعة حكايات المجتمع، فنصل إلى حكاية "حب الرمان" التي لاحظ المؤلفان بكثير من التوفيق أن التضامن الاجتماعي فيها يتجلى بمساعدة أصحاب الدكاكين للفتاة المقطوعة، بل إنهم لا يتوانون عن توفير المسكن الجديد لها بعد كل مسكن يتلفه شيخ الحكاية. وإذا كانت هذه الظاهرة علامة صحية على شهامة المجتمع الشرقي، فان هناك مستوى تربويا لم يعلق المؤلفان عليه، وهو أن الفتاة نجحت في الوفاء بوعدها أن تكتم سر شيخ الحكاية، فكوفئت في النهاية بعودة أولادها ورد اعتبارها. إليها، فالحكاية، بهذا المعنى، تؤيد الوفاء بالعهد وصون أسرار الآخرين.
أما حكاية الحطاب الذي تسقط حبة فول من يده في البئر فتعوضه الجن عنها، فقد سمعتها شخصيا من قبل بعنوان "يا بير اعطيني طرمستي"، حيث الشخصية الرئيسة بنت صغيرة وليست حطابا، والحكاية التي اعرف ـ وهي أجمل حكايات أمي على الإطلاق ـ تكاد تكون الصياغة الفلسطينية، مع التعديلات اللازمة، لحكاية ليلى الحمراء. وأهمية حكاية الحطاب كما نقلها المؤلفان أنها تنقل الجانب السلبي من المجتمع، مجسدا في الغيرة والحسد اللذين دفعا جيران الحطاب إلى سرقة ما منحته إياه الجن، ولا حل، لاسترداد الحق إلا القوة. لكنها قوة تربوية، بمعنى أن الحطاب يستعيد حقه بتعنيف الجيران ولكن من غير إراقة دم. أما حكاية السماك فتصلح لمجموعة علاقة المواطن بالسلطة، أكثر من صلاحيتها لمجموعة المجتمع. فالملك يطمع بامرأة السماك، ولكن قوة الحق في شخصية امرأة السماك تعيد الأمور إلى نصابها.
لقد وفق المؤلفان إلى أبعد مدى في استخلاص العبرة الاجتماعية من هكذا حكايات. ولكن يجب ألا يغيب عن الانتباه أن كل حكاية تصلح لأن ندرجها في مجموعات متعددة تخص الأفراد، والأسرة، والمجتمع والسلطة.. فالحكايات مرآة الحياة.
أين البيئة؟
تضم المجموعة الرابعة ـ وعنوانها: البيئة ـ أربع حكايات، يوجد بينها قاسم مشترك. ولكنني لا أرى أن هذا المشترك هو البيئة. حتى إن حكاية "العنزة العنيزية" التي كان يمكن أن يكون فيها حضور للبيئة، تخسر هذه الفرصة عندما تجعل الضبع هو عدو العنزة. مع أن معلوماتنا المؤيدة بحكايات الفلكلور، تجعل هذه العداوة من صفات الذئب ـ أو الذيب حسب التعبير الشعبي ـ ولا شك أن الحكاية، في الأصل، تتعلق بالذئب الذي تصف العنزات الصغيرات عينيه وأنيابه ومخالبه بالتفصيل. ثم انه أمر مجاف للمنطق أن يبدو هذا الوحش ـ سواء أكان ضبعا أم ذئبا ـ متعاونا مع النملة والبيدر والنبع والثور ليحصل على ذيل مقطوع يغش به العنزات. بينما الحكاية التي اعرف تقول أن الذيب قد استفز الحداد حتى لحق به هذا وقطع ذيله. أما التي تعاونت مع كل ما تقدم حتى تحصل على قرنين من حديد تقتل به عدوها الذي أكل أولادها، فهي العنزة، وهذا السياق أقرب إلى المنطق، حتى لو كان منطقا بأدوات فانتازية خيالية.
أما حكاية العجوز والبسّ، فهي كما أشار المؤلفان، محكومة بدورة لا ذروة فيها، وأهميتها ـ إن كان من أهمية ـ في طرافتها، وان كانت حكاية أمي تضيف لها ما يمكن أن يكون درسا، فقد ربطت القطة ذيلها المقطوع بجسمها من خلال قطعة عجين. فلما جف العجين وقع الذيل وضاع تعب القطة هباء، في إشارة تربوية إلى أننا لا نستطيع أن نغالط منطق الطبيعة. فالطائر يطير، والأفعى تزحف، والقط يدب على أربع. وما يخسره الجسم لا يسترده إلا في زمن الجراحة المعقدة التي لم تكن البشرية قد وصلت إليها أيام هذه القطة. ولو أخذت الحكاية هذا المسار لكانت اقرب إلى مجموعة البيئة فعلا، بحكم أن البيئة منحت القط ذيلا وأن هذا الذيل لا يستعاد بالضحك على النفس وبأوهام العجين.
وقد تجلى عمق تحليل المؤلفين في قراءتهما للحكايتين المتشابهتين، بعيرة، والقملة والبرغوث. فالخيال الشعبي ينتقد الرغبة النفعية في الإنجاب من غير تدبر أو منطق، حتى لتجازى المرأة التي تتمنى أن تلد بعرة بأنها أنجبت بعرة فعلا، وهي ليست كذلك وحسب، بل هي غول متوحشة سرعان ما ستأكل أباها وأمها والعروسين. ولا نستطيع إلا أن نثمن ما ذهب إليه المؤلفان من أن خوف الناس من البعرة المتوحشة، عائد إلى منظرها المقزز المفزع، لكنها حين تعرضت للأعميين فإنهما قتلاها بسهولة أنهما لم يريا فيها ما يخافانه. وليس معنى هذا أن العمى يأخذ معنى الجهل وأن الجهل ضروري، بل إن الحكمة على النقيض تفيد معنى أن المبصرين الجبناء كانوا عمي القلوب حتى إنهم لم يروا تلك البعرة بحجمها بينما اهتدى الأعمى بقوة البصيرة إلى أن الظلم مرتعه وخيم، والمعتدي ضعيف عندما تتوفر فينا الإرادة والعزيمة. ومن المفيد أن نتذكر أن اهتمام الخيال الشعبي بترحيل حكايات القسوة والقتل إلى الحيوانات، وهو اهتمام تربوي سيكولوجي قائم على رفض إراقة الدم البشري. ولكن لما كانت مقاومة الظلم ضرورة إنسانية فقد لجأت الحكاية إلى الرمز لتحقق الهدف من جهة، وتبتعد عن ثقافة الجريمة والقتل البشري من جهة ثانية.
في هذا الإطار تقع أيضا قصة القملة والبرغوث التي وفق المؤلفان في تحليلها من موقع التعاطف الذي يسود بين الناس أيام الكوارث، حيث نجد في الحكاية وضعا يؤكد تضامن الجماعة التي تستطيع أن تبني مجتمعا متعاطفا حيث يؤثر مصير الفرد في مصير المجموعة. مع أننا لا نخفي خيبة أملنا في النهاية المفاجئة عندما لا يفعل الناس شيئا إزاء الكوارث المتتالية، بل يكتفون بالرحيل. والسؤال: أما كان أجدى لو أطلق المؤلفان على هذه المجموعة اسم المتواليات، بمعنى أن الحدث كان يفضي إلى حدث آخر في متوالية دائرية لا تنتهي.
القدر والمكتوب
أما المجموعة الخامسة، والأخيرة، فقد أطلق عليها المؤلفان اسم مجموعة الكون. وربما كان الأقرب إلى واقع الحال أن تسمى مجموعة المقدر والمكتوب. فالحكايات الأربع التي تتضمنها هذه المجموعة، لا تتناول ـ وليس في وسع رواتها ووعيهم أن يتناولوا ـ موقع الوجود الإنساني من الكون. ولكنها أحداث تتصل بالمصادفات الجسيمة، طيبة وسيئة، التي يسخرها القدر لتمرير ما هو مكتوب على الإنسان قبل أن يولد. وقد انتبه المؤلفان إلى دوران الحكايات الأربع حول هذا المحور. فاستشهدا بالقول الشعبي: "اللي انكتب ع الجبين لازم تشوفه العين" مشيرين إلى انه تعبير شعبي مصري، وفي الحقيقة انه تعبير دارج في بلاد الشام جميعها وليس في مصر وحدها. وليست هذه نقطة خلاف على أي حال. وحكاية "اللي وقعت في البير" تؤكد هذا الجانب القدري في الثقافة الاجتماعية الشرقية. فهناك تجار عابرون يسألون امرأة بعض الطعام، وفيما تحاول أن تساعد مبعوثهم إليها، يخاف هذا من الكلب فيقفز واقعا في البئر، وتحاول المرأة أن تساعده فتقع هي أيضا. ويعاهدها التاجر ألا يتعرض لها بالأذى، حتى يمر أحد العابرين فينقذهما ويصدق روايتهما، فتكافئه المرأة في نهاية الموسم، ما يبعث الشكوك في قلب امرأته التي ما إن تطلع منه على الحقيقة حتى تشيع في البلد أن تلك المرأة كانت مع التاجر في البئر.
ويسعى إخوة المرأة إلى قتلها، فتهرب وتتزوج في الغربة وتنجب ولدين وبنتاً وهم مقدر ومكتوب وكتبه. ويدور الزمن حتى تلتقي بأخوتها ويقص عليهم زوجها ما جرى لها، فيفرحون بها ويصالحونها.
إن مسلسل مصادفات هذه الحكاية، يؤكد الانفراج بعد الضيق. فهذه المرأة ممتحنة في طيبتها وصبرها منذ أن وقعت في البئر. وكأن مساعدتها للتاجر ستكون وسيلة القدر لزواجها وإنجابها لتكون عودتها إلى إخوتها صالحة من غير سوء. إلا أن شبكة القدر تكون أوضح ما تكون في حكاية "أبو علي وأم علي" ـ وكنت اسمعها من أبي بعنوان طريف: لولا جرادة ما وقع عصفور ـ وهي سلسلة من المصادفات التي تساعد الرجل الذي اسمه عصفور على الخروج من المأزق تلو المأزق بعد أن أقنعته امرأته جرادة أن يدعي أمام الملك انه عراف كاشف بخت. وفي الحكاية التي أحفظ، يفكر عصفور في التخلص من هذه الورطة، فيحاول ادعاء الجنون ويخرج عاريا وهو يدعو الملك أن ينزل من القصر. فينزل الملك والحاشية مذعورين وإذا بالقصر يتهدم دفعة واحدة. وهكذا يصر القدر على أن يظل عصفور عرافا في نظر الملك رغم إرادته. ولا ادري لماذا أعاد المؤلفان هذه المصادفات إلى حكمة المرأة جرادة، مع أنها مجرد مصادفات مقدرة، لا يد لها فيها، أما أنها صاحبة فكرة أن يكون زوجها عرافا، فليست هذه بفكرة خارقة، إنها محاولة للبحث عن لقمة العيش ولو بالاحتيال.
وتؤكد الحكايتان "الغني والفقير" و"معروف الاسكافي" معاني القدر والمكتوب الراسخة في الوعي الشعبي، مع إضافات وفق المؤلفان في استنتاجها تتعلق بالحظ الطيب الذي يلازم النوايا الحسنة نقيضا للمكر السيئ الذي يحيق بالأشرار. والملاحظ أن اسم معروف الاسكافي المأخوذ من ألف ليلة وليلة هو مجرد مصادفة. فالحكاية المدونة تنحو منحى آخر يتصل بعلاقة الإنسان بالأوهام وتحكمها فيه. ولكن ورود هذه المصادفات ممكن، فالحكاية الشعبية تنهل من المحيط والمؤثرات المكتسبة، وليس مستهجنا أن ينقل الرواة بعضا من الكتب الشعبية، مثل حكاية علاء الدين، أو علي الزيبق، و.. اسم معروف الاسكافي..
ملاحظات أخيرة
تجدر الإشارة، وبسرعة، إلى أن هذه الملاحظات أقل من أن تكون مأخذا على الكتاب، فلنقل إنها تقاطعات في القراءة، واضعين في الاعتبار أن قراءة النصوص الشعبية تخضع لتحولات اجتماعية تتصل بالمكان والزمان. فنحن أمام نصوص شفوية لا تستقر على صيغة نهائية، وفرصة التأويل فيها مفتوحة على احتمالات عدة. ولكن أول ما يخطر لقارئ لجوج مثلي هو التدقيق في اللهجة المنتقاة لتكون لغة للحكايات. فقد كان الدكتوران مهوي وكناعنة أمينين لمبدأ نقل الحكاية بالعامية على طريقة الرواة. وهذه بحد ذاتها أمانة موضوعية، ثم أتى المترجمان مهوي وجابر سليمان ليحافظا على روح الأصل قبل أن يرحل النص إلى الانكليزية ويستعاد بالعربية. لكن إصرار القائمين على الكتاب، تأليفا وترجمة، على استخدام لهجة محددة بطريقة محددة للفظ الكلمات، كان فيه بعض الجور على رشاقة لهجاتنا المحلية. فأنا لم أفهم كيف أن الحكاية المروية بلسان امرأة مسيحية من غزة، تقول: هاظا، والأوظة. فلماذا تنقلب الضاد ظاء بهذه الغلظة؟ ـ مع احترامي لأهلنا في بعض القرى الفلسطينية الذين من حقهم أن يلفظوا الحروف كما توارثوا النطق بها ـ ولم أفهم كيف يقال: هيذ وهيذ، بمعنى هكذا وهكذا. والشائع أن نقول: هيك وهيك، والأغرب أن المؤلفين قصرا تحويل القاف إلى همزة على مدينة القدس وحدها، وذلك في مقدمة الكتاب، فكيف والحال هكذا، يتكلم أهل عكا وصفد وحيفا وشفا عمرو واللد والرملة ونابلس والخليل؟ ألا يلفظون القاف همزة؟.. لقد كان أمام المؤلفين والمترجم طريقتان: إما أن ينقلوا لهجة كل راو حسب قريته أو مدينته، أو أن يوحدوا اللهجة ما أمكن باختيار الألفاظ الأكثر انتشارا ورشاقة..
ملاحظة ثانية تتعلق بالدراسة الثمينة جدا، الهامة جدا، التي وضعها المؤلفان في متن الكتاب، فقد شددا بإلحاح مفرط على أن النساء الفلسطينيات هن حافظات هذا التراث الشفوي، ومع أنهما لم ينكرا بعض الدور لبعض الرجال، إلا أنهما ذهبا في تحليلهما إلى أن الحضور النسوي في هذه الحكايات جعل البطولة شبه كاملة للإناث. ومع انه لا يوجد مسح دقيق لهذه الظاهرة، إلا أنني ـ وأنا من مخيم يضم أناسا من الجليلين الأعلى والغربي ـ وعيت على عدد متقارب من النساء والرجال من الرواة. وربما كان خالي شخصيا، المرحوم أبو شحادة رجا بدران، المولد عام 0191 في حيفا، هو أهم أولئك الرواة حفظا وأداء. وأبطال الحكايات بمعظمهم ذكور، من الشاطر حسن إلى الشاطر محمد إلى نص نصيص إلى علاء الدين إلى موسى صاحب الديك والأربع فلوس، ناهيك عما يروي نقلا عن الكتب المدونة مثل علي الزيبق وعلاء الدين ومعروف الاسكافي. ولم اذكر أبطال السير الشعبية مثل الزير وعنتر والملك سيف والظاهر بيبرس ودياب وأبي زيد، مع قطاع خاص من الكتب حول بطولات الإمام علي كرم الله وجهه.
إن هذه الملاحظة حول جنس الراوي، تستحق ندوة ودراسة متمعنة، لأننا لا نستطيع أن نغفل أهمية الدور النسوي بطبيعة الحال. والحكايات لها نوعان من الفضاء: الموسع نسبيا حيث يضم أكثر من أسرة، ويكون الراوي رجلا على الأغلب. والفضاء المقنن بالأسرة وأقارب الدرجة الأولى وفيه قد يكون الراوي رجلا أو امرأة.
وكنت أتمنى أن ينوه المؤلفان بالطقاطيق، وهي الحكايات القصيرة جدا التي تتميز بالفكاهة الخفيفة أو الحكمة المباشرة. وهذه الطقاقيق غالبا ما تسبق الحكايات الرئيسة التي يترقبها المستمعون بشغف. ما عدا ذلك، لا استطيع إلا الانحناء والتحية أمام هذا الجهد الجبار الذي بذله العالمان الفلسطينيان الكاتبان إبراهيم مهوي وشريف كناعنة. وملاحظاتي أبديتها وعليكم رميتها!