بعد يومين من نشر"الأيام" تقريراً حول قرار "التربية" إعدام كتاب "قول يا طير"، وهو عبارة عن نصوص ودراسة في الحكاية الشعبية الفلسطينية، وما رافق ذلك من استياء شعبي وجدل مازال يتسع، وفي ظل نقاش حاد في "قاعة التحرير" مع أحد الزملاء، الذي أبدى رأيه على أنه لا يمكن الحكم على الكتاب قبل قراءته، وأن سبب ما وصفه بـ"حظره" وليس"إعدامه" من المكتبات المدرسية، هو ما يتضمنه من كلمات وألفاظ جنسية لا يمكن للأطفال سماعها.. ومن ثم كان التحدي إن كان أيٌّ منّا يستطيع أن يقرأ هذه الحكايات الشعبية أمام أطفاله، رغم أننا نقوم فعلاً بإلقاء ما سمعناه من أجدادنا على مسامع أبنائنا، من "الشاطر حسن"و"نص نصيص" و"جبينة"، وحكايات الغولة، وإن اختلفت القصة من منطقة الى أخرى..
وبما أنني لم أكن أملك الكتاب سابقاً.. فقد بحثتُ عنه، لتصلني نسخة من الزميل خالد فراج من مؤسسة الدراسات الفلسطينية الصادر عنها، والتي ستقوم خلال أيام، بإعادة طباعته وتوزيعه. قرأتُ كثيراً من الحكايات، وجمعتُ أبنائي الصغار (6 سنوات)، (10 سنوات) و(13 سنة)، وقرأتُ عليهم حكاية "نص نصيص". ولمن لا يعرف، فإن نص نصيص هو ابن رجل تزوج من زوجتين، إحداهما ابنة عمّه والأخرى"غريبة"، لم يُرزَق منها أبناء .. ومن ثم علم أن العلاج بحبّتَيْ رمّان من جبل يحرسه ثلاثة غيلان .. فقرّر السفر، وبعد أن يحضر حبّتي الرمان يأكل نصف احديهما .. ويعطي النصف الآخر لابنة عمّه، والحبّة الكاملة للزوجة الغريبة، فتلد الغريبة توأمين، وتلد ابنة عمّه نصف إنسان (طفلاً ضعيفاً)، يُطلِق عليه "نص نصيص"، ولكن هذا الابن الضعيف هو القوي القادر على الصّيد، والقادر على إنقاذ إخوته من غدر الغولة..
في الحكاية فقرة، سأنقلها نصّاً.. وقد ضحك أطفالي كثيراً وأنا أحكي لهم بالعاميّة هذه الفقرة، كما جاء في النص: راح عالجبل الثّاني ما لاقى هالغول، وعمل مثل ما عمل لأخوه وقالُّه: "السلام عليكم" قالّه الغول: "وعليكم السلام. لولا سلامك سبق كلامك كان خلّيت أختي إللّي في هظاك الجبل تسمع قرْط عظامك. شو بدّك؟" حكاله. قاله: "روح عند أختي على هظاك الجبل بتدلّك". راح، لاقاها رادّة بزازها على ظهرها، وقاعدة بتطحن. قدّم، مصّ من بزّها اليمين واليسار ولَهم (أكل) حفنة من طحيناتها. قالتلُه: "مصّيت من بزّي اليمين صرت أعَز من أخوي إسماعين، ومصّيت من بزّي اليسار، صرت أعزّ من أخوي نصّار. إلْهَمِتْ من طحيناتي، صرت أعز من وليداتي. هالقيت شو بدّك؟" قالها: "بدّي حبتين رمّان أطعمهن لهالنسوان على شان يحبلن"] (مهوي إبراهيم، كناعنة شريف، "قول يا طير" نصوص ودراسة في الحكايا الشعبية الفلسطينية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية - أيلول 2001 ص89).
من وجهة نظري، وأنا أتصفّح الكتاب، وجدتُ بعض الملاحظات التي يجب طرحها؛ الملاحظة الأولى: إن كافة الحكايات، وفي بدايتها، تركز على وحدانية الله، وهذا بحد ذاته يغرس قيماً دينية سامية في نفوس الأطفال، فكل الحكايات تبدأ: "وحدوا الله".. فيرد الحضور على الراوي: "لا إله إلاّ الله".. وأيضاً"صلّوا على النبي".. فيرد الحضور: "عليه الصلاة والسلام". وأما في الرواية رقم 22 (ص171) حول الشاطر حسن، فتبدأ الرواية: كان يا مكان عالعذرا صلاة السلام.. الحضور: عليها السلام. إن بدايات الحكايات بالقيم الدينية، هي تأكيد على أن الهدف ليس إفساد الدين وإفساد الأجيال.. بل على العكس من ذلك...
الملاحظة الثانية: إن كل حكاية لها هدف خاص، فهي إما أنها تحض على الشجاعة، أو تبرز مساوئ الجبن والطمع والخوف والكره.. والحقد.. أو تحث على المحبة، وهي قيم نحرص جميعاً عليها.. والهدف في النهاية هو خلق إنسان سويّ، يتحصن بالإيجابيات ويبتعد عن السلبيات، وليكون لبنة جيدة في مجتمع بنّاء.
الملاحظة الثالثة: أنه في هذه النصوص لا يمكن فصل بعض الكلمات عن سياق النص، وتحميل هذه الكلمات أكثر مما تحتمل.. بحيث يبدو أن النص هو نص جنسي، وهذا منافٍ للحقيقة.
الملاحظة الرابعة: أن معظم الرواة من النساء، خاصة وأن الحكايات الشعبية كانت ترويها الأم أو الجدة.. ولا أعتقد أن جداتنا كنّ ينظرن إلى السياق الجنسي في هذه النصوص، بقدر ما كنَّ يحاولن غرس تربية نموذجية في أبنائنا، ذكوراً وإناثاً.
الملاحظة الخامسة: إن 99% منّا قد سمع هذه الحكايات.. كنّا نضحك كما يضحك أبناؤنا اليوم.. وكنّا نخاف كما يخافون اليوم.. وما زالت الغولة رمزاً لهذا الخوف..
الملاحظة الأخيرة: أكثر الكتابات التراثية جرأة هي ما كانت في العصرين الأموي والعباسي، عصري الخلافة الإسلامية والدولة القوية، ابتداءً من "ألف ليلة وليلة"، وليس انتهاء بـ"العقد الفريد".. ولم تُعدَم هذه الكتب؟!!!! بل أنجبت في حينها مفكرين عظماء، وقادة عظماء.. فهل نتعلم من التاريخ؟!!