أولا: عن الشعر والقصيدة
(1)
المشاعر رفيقة التجارب التي لا تنفك عنها. واللغة تنقل التجربة - عبر الكلام - باهتة وباردة، وأن كانت أحياناً تحاول وصف المشاعر التي لها عالمها الخاص.. بعيداً هناك.. في أعماق الإنسان، حيث يقيم لاوعيه وحيث يستقر الضمير وكل المشاعر والرغبات المكبوتة.
هناك حيث الكل ملتصق بالروح التي لا يراها أحد، ولا يعرف كنهها أحد.
(2)
الإحساس والحساسية الشديدة تجعل الشاعر يعيش المشاعر بدلاً من أن يدفنها في جب اللاوعي - هي التي تميز روح الشعر. وكل من يتذوق الشعر ويستعذبه.. ويبحث عنه، ويستمتع به وينفعل له، يمتلك تلك الروح.. روح الشعر.. وان لم يمتلك موهبة الشاعر، وكذلك الحال في كل فن.
(3)
الشاعر وحده هو الذي يستطيع قولبة المشاعر، والإفصاح عنها، وإيصالها في الكلمات المخاتلة العاجزة، في حد ذاتها، عن التعبير عنها لولا موهبة الشاعر. لذلك نكثر الإشارة عند الحديث عن الشعر، إلى "الذي لا أحد يراه"، والى «المجاهل التي تقطعها القصيدة.. مجاهل لا يمكن إدراكها» محمد بنيس.
(4)
روح الشعر عند ذي الموهبة قد تشتغل على الفخار، أو الأحجار أو النحاس، أو الألوان، أو الخيوط، أو الأوتار وآلات الموسيقى، أو الأصوات، أو الحركات، أو الكلمات. إنها منتجة الفن ومبدعته.
(5)
الحروف القليلة العدد تصنع أكواناً من النصوص، وسماوات من التراكيب، يعلوها الفضاء الشعري، الذي لا يخترقه إلا الشعراء.
حيث يجد كل إحساس للشاعر تركيباً يناظره، ويختص به وحده.. تماماً كما لا يشبه أحدٌ أحدا. تتنزل الكلمات على المشاعر بعد أن تتأملها وتنصت إليها في عالم الصمت السحري. حيث الغموض والكثافة التي تعبرها القصيدة لتستوي سواداً على بياض أو أنشودة تلقى أو تُغنى.
(6)
القصيدة «باعتبارها عملا إبداعيا لا يمكن تصورها إلا على أنها انبثاق، لأنها في انبعاثها من الشاعر إنما تصدر كاملة البنية مستقلة التكوين، وهي بالنسبة له رسالة جميلة تتواكب عناصرها الصوتية واللفظية والتركيبية والإيقاعية متآنية، فهو يعالج كل هذه المستويات دفعة واحدة وبطريقة مركبة، بحيث يبدو العمل الشعري في النهاية وليد زمن إبداعي واحد. واذا كان الشاعر العظيم الأعشى، صناجة العرب، قد قال انه ينظم القصيدة في عام ويهذبها في عام، فما ذلك إلا لان البيت الواحد في القصيدة الكلاسيكية يكاد يكون قصيدة مستقلة. وطبقا للدكتورة ريتا عوض في مقالتها القيمة "البنية الصورية في الشعر الجاهلي":
لعل من أبرز تعريفات الصورة الشعرية في العصر الحديث تعريف الشاعر والناقد الإنجليزي عزرا باوند لها بما هي تلك التي تمثل مركباً فكرياً وعاطفياً في لحظة من الزمن. فقدم مفهوماً للشكل الشعري مناقضاً للأسلوب السردي في الشعر الذي دعا إليه ليسنج، فأصبحت القصيدة بالنسبة إلى باوند تدرك إدراكاً لحظياً، أي إدراكاً غير متعاقب في الزمان، وهو ما سمي في النقد الحديث بالتشكل المكاني للغة الشعرية".
ثم تضيف قائلة: "تميزت القصيدة العربية القديمة بإلغاء البعد الزمني وتأكيد مكانية النص الشعري، وهو ما حولها إلى أجزاء متجاورة تشاهد معاً في لحظة واحدة من الزمان، على حد تعبير عزرا باوند في تعريفه للصورة الشعرية الحديثة، ولهذا كانت القصيدة العربية القديمة مجموعة من المشاهد المتجاورة التي يمكن تبديل مواقعها دون أن يختل البناء العام؛ أي أنها حادثة معاً وتشاهد معاً، فالتبديل هنا لا يعود تقديماً ولا تأخيراً، لأن التقديم والتأخير يفترضان التسلسل الزمني وهما أمران لا تدعيهما القصيدة العربية الممتدة أفقيا في المكان". وتقول: "ان المشهد الواحد يتكون من مجموعة متجاورة من الصور التي يستقل كل منها في بيت شعري محدد كوسيلة لفصله عن الصورة المجاورة المستقلة في البيت الشعري المجاور له. ويتأكد الاتجاه إلى تحقيق استقلالية البيت الشعري في ان امتداد المعنى في أكثر من بيت، وهو ما يسمى بالتضمين، عده العرب عيبا من عيوب النظم. وكانت القافية وسيلة وصل وفصل في آن معا.
ولكن إذا كان الزمن الإبداعي زمنا مضغوطا، فإن زمن التلقي «زمن ممتد، والأول إذا كان زمن إجمال تجميعي، فالتلقي زمن تجميعي تحليلي، وإذا كان الشاعر يتعامل مع القصيدة على النحو المركب، فإن المتلقي يتعامل معها بوجهيها من التركيب والتحليل، يتعامل معها مركبة عندما يقرؤها أو يسمعها لأول مرة، ويحللها عندما يعمل في دراستها ونقدها.
الشعر سواء كان كلاسيكيا ملتزما بالإيقاع (الوزن) والقافية أو متحررا منهما تظل فرادة الأسلوب العلامة المميزة للشاعر المتمكن، على العكس ممن لم يجد صوته الخاص وأسلوبه المميز بغض النظر عن مكانته الإعلامية بين الشعراء، إذ أن الإعلام قد يصنع شاعرا ولكنه لا يصنع الشعر.
فأي شخص تعرف إلى شعر البردُّوني أو الزبيري قادر على نسبة أي نص لكل منهما إلى صاحبه ولو لم يسبق له الإطلاع بأي شكل على ذلك النص.
وهناك شعراء كثر ونصوص أكثر، وكثير منها جميل ولكنها تفتقر إلى الأسلوب الذي يمنح الشاعر شخصيته المتفردة، وهو ما دفع الشاعر محمود درويش إلى القول بأن الشعراء المحدثين ينسجون على منوال واحد وكأنهم يكتبون على هامش قصيدة واحدة".
وامتلاك الأسلوب المتميز ليس باليسير ولا يحققه إلا فحول الشعراء، إن جاز التعبير، وان كنت اكره استخدام هذا التعبير الحيواني (الفحولة) في هذا الصدد. فماذا نقول عن الشاعرة، هل نقول فحلة؟
يقول الناقد الفرنسي وعالم اللسانيات (جان كوهن) كما جاء في كتابه بنية اللغة الشعرية: "صحيح أن الأسلوب اعتبر، في غالب الأحيان، انزياحاً فردياً، أي طريقة في الكتابة خاصةً بواحد من الأدباء. وكان (بالي) نفسه يدعوه (انحراف اللهجة الفردية)، ويعتبره (ليو سبيترز) (انحرافا فردياً بالقياس إلى قاعدة ما). وشاع تأويل عبارة (بيفون) المشهورة (الأسلوب هو الرجل نفسه) لتسير في هذا الاتجاه".
تحلل الأسلوبية النصوص الأدبية خاصة: فهي تصف أدبيتها وتبيّن الخواصّ الفنية الموجودة في الجماليات الكلامية. ولم تُغفل الدراسات النقدية الحديث عن الأسلوب، من الوجهة اللغوية، أو النحوية، أو الأدبية، أو البلاغية، أو النقدية، أو الفقهية (نسبة إلى فقه اللغة). ويقول الدكتور صبري مسلم: "ومن خلال بعض الدراسات التي طبقت الأسلوبية على الإبداع الشعري وجدنا مستوى إيقاعيا يشتغل على الوزن والقافية والإيقاع الداخلي، وهناك المستوى المعجمي الدلالي، وثمة مستوى الصورة الشعرية."
ويقول الناقد الفرنسي مولينييه "الفعل الكلامي يتسم بكونه أدبيا وهو إما أن يكون (تأثيريا) أولا يكون شيئا. فالأدبية هي انجازية مطلقة للغة إذ تتحول إلى وظيفة شعرية".
ثانيا: اثر الترجمة في نشأة قصيدة النثر في أوروبا:
سنة 1141، اجتمع رجال الدين بإيعاز من 'بيتر المحترم' رئيس 'دير كلوني' لترجمة القرآن إلى اللاتينية، قصد محاربة الإسلام'.
وظلت هذه الترجمة مخطوطة في نسخ عدة، تتداول في الأديرة مدة أربعة قرون فقط إلى أن قام 'ثيودور بيبلياندر' بطبعها في مدينة 'بال' في سويسرا في 11 يناير/كانون الثاني سنة 1543، وسميت هذه الترجمة ترجمة 'بيبلياندر' وتميزت بمقدمة لـ 'مارتن لوثر' و'فيليب ميلانختون'، تحدث عنها 'جورج سال' قائلاً: 'إن ما نشره 'بيبلياندر' في اللاتينية زاعمًا بأنها ترجمة للقرآن الكريم لا تستحق اسم ترجمة، فالأخطاء اللانهائية والحذف والإضافة والتصرف بحرية شديدة في مواضع عدة يصعب حصرها يجعل هذه الترجمة لا تشتمل على أي تشابه مع الأصل'.
ومع ذلك، شكلت هذه الترجمة النواة الأولى لباقي الترجمات الأوروبية الأخرى للقرآن الكريم. بل مارست عليها تأثيرًا قويًا إلى درجة الاقتباس منها والسير على منهجها. ثم توالت الترجمات القرآنية إلى اللغات الأوروبية بعد ذلك في الظهور.
وفي العام 1520 قام مارتن لوثر بترجمة العهد الجديد إلى الألمانية، ثم شرع في ترجمة الكتاب المقدس كلّه، لكنّه لم يتمه. وكانت لغة الإنجيل آنذاك هي اللاتينية في أوروبا كلها. وبعد ذلك التاريخ انتشرت ترجمات الإنجيل إلى كل اللغات الأوربية أو غالبيتها.
وفي العام 1704 قام المستشرق الفرنسي أنطوان جالان بترجمة ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية. وألف ليلة وليلة أو كما تعرف لدى الغرب (بالإنجليزية Arabian Nights) أي "الليالي العربية" عدد قصصها في الأصل حوالي مائتي قصة تتخللها نحو 1420 مقطوعة شعر، وترجع شهرتها الحديثة إلى ترجمة جالان، الذي صاغ الكتاب بتصرف كبير، وصار معظم الكتاب يترجم عنه طوال القرن الثامن عشر وما تلاه. وقد جرى تقليد الليالي بصورة كبيرة واستعملت في تأليف القصص وخاصة قصص الأطفال، كما كانت مصدراً لالهام كثير من الرسامين والموسيقيين .
وقد تطلبت ترجمة هذه النصوص الكبرى لغة أدبية عالية من حيث شعريتها، وسهلة من حيث بنيتها، وهو ما أزعم أنه السبب المباشر لاكتشاف الشعراء ما في النثر من إمكانيات شعرية، ومن ثم قاد إلى التجريب الذي أدى إلى ظهور قصيدة التثر في آخر المطاف.
يقول د. يوسف عز الدين ان الترجمة والتعريب أحد الأسباب النفسية التي بدأت تؤثر في الأدب الإنجليزي. وزادت الترجمة فوصلت الى اكثر من مائة كتاب في القرن السابع عشر، وبالطبع ازدادت الكتب المترجمة حتى جاء القرن الثامن عشر، فكانت القصص فيها مسحة شرقية وأثرت الترجمات حتى في الرواد منهم ديدرو وفولتير ومونتسكيو. ووصلت ترجمة جالان إلى الأدب الانجليزي بعنوان. Arabian Nights Entertainment ويضيف قائلا: قال جوليان حسب ترجمة الدكتورة سهير القلماوي: "ان الشعر الغنائي الأسباني القديم ربيب أدب الاندلسيين المسلمين، وهو المورد الذي استفاد منه الفرنسيون ومنه تنوعت أنواع الشعر في الغرب، واثر في التطور والتجديد وبقاء أسس حديثة لهذا الأدب".
وقال السير هملتن كب: استقر الرأي العام على وجود تجاذب وثيق بين الشعر الغربي والشعر البروفانسي، مؤكدا "أن مسيحيي الأندلس الذين صاروا نصف عرب هم بدورهم نقلوا كثيرا من بذور الحضارة الإسلامية الى الممالك الشرقية، وشمل قسما شبيها بهذا التوسع والنقل، تاريخ الشعر الاندلسي، وكثيرا من الشعر الأسباني، مما أدى الى ظهور الزجل".
ثالثا: اثر الترجمة في نشأة قصيدة النثر في العالم العربي:
الترجمة إلى اللغة العربية قديمة قدم مدرسة الحكمة البغدادية في عهد المأمون بل أنها سابقة عليها إلى حد ما. وقد أسست الترجمات من الهندية والفارسية للمدرسة الصوفية في الأدب العربي وظهور النص الصوفي الرائع، تماما كما أسست الترجمات من اليونانية لظهور لفلسفة العربية. ولكن المترجمين لم يعنوا بترجمة الشعر إلا في وقت متأخر نسبيا، وهي الترجمات التي كان لها أثرها في تطور الشعر العربي في فنون منه تتجاوز شكله الكلاسيكي، فظهرت المخمسات والمسمط فالموشحات بتأثير الأدب الفارسي.
يقول الشاعر اللبناني محمد بيضون عن تجربته في الطريق الى قصيدة النثر: "وجدنا تحت تأثير ادونيس وترجمته سان جون بيرس، موجة من قصيدة قاموسية تنطلق او تسعى الى إدراج اللغة كلها في وزن واحد، وتحويل القصيدة الى ترجيع ايقاعي سيّال، يطمس كل التفاصيل الشعرية الأخرى من صورة ومعنى وفراغ وصمت.
وهكذا وجدنا إيقاعا صحراويا، ولست هنا في موقع الإحتجاج على هذا، ولكن أفهم ان قصيدة النثر في هذه المرحلة فاقت القصيدة الموزونة في جزالتها وملحميتها وايقاعها الجرسي. وأظن أن قصيدتي وقصائد جيلي والجيل الذي بعدنا، لم تطق هذا الإبتسار الشعري، هذا النوع من إلغاء النثر في قصيدة النثر. إلغاء الإيقاع المعاصر".
ويبدو إن المكان الفرانكوفوني (الشام) كان له أثره في انطلاق قصيدة النثر من هناك حيث يكثر الاطلاع على الآداب الغربية والتكلم بلغاتها، وحيث تخف وطأة السلطة.
تقول د. سلمى الخضراء الجيوسي في كتابها عن الشعر العربي الحديث: "ان النهضة الأدبية عند العرب قد بدأت في سوريا والشام وليس في مصر" وتضيف "كتاب سوريا ولبنان أكثر انفتاحا على التيارات الثقافية الخارجية".
ويمكن القول ذاته عن كل تحديث ادبي، ولعل السبب يرجع الى وطأة السلطة في مجتمع صارم التراتبية كالمجتمع المصري حيث تهيمن السلطة على كل المجالات وتوظف المبرزين في كل مجال، وهو ما يجعلهم قادرين على كبح كل ما من شأنه تهديد سلطتهم وهو غالبا كل جديد.
في البدء كان المفهوم الفرنسي الذي بدا واضحاً مع شعراء الحداثة اللبنانيين وضمنهم أدونيس، وحوّل هذا الشعر الى نوع من الإشتغال على اللغة والانصراف عن الحياة والأشياء والفكر كما يقول بيضون، هذا المفهوم الذي يحمل تجربة "الشعر في ذاته"، وهو مفهوم فرنسي، شاع عن طريق التجربة اللبنانية أو الذين مروا بها. وتبعتها يقظة احتجاجية تأسست على احتجاج عميق عليها. هذا الاحتجاج أتى من مصادر غير فرنسية. مصادر شعر أميركا اللاتينية: اكتافيو باث، ونيرودا او يونانية حديثة كريتسوس. أومصادر ألمانية كريلكة وسواه، أو أميركية. كل هذا الشعر يملك علاقة بقارئه، وبالتالي بالحياة والأشياء والفكر.
ويضيف بيضون قائلا: "بمقدورنا الكلام عن مشروع آخر، هذا المشروع كان عماده القبض على ما هو مبعثر، على لحظات متشظية، قول مجزوء أو أجزاء من عالم. إذا حاولنا التفتيش عن بعض عناصر هذا العالم، لقلنا أولا انها إلغاء النشيد، إنهاء النشيد بالكامل. اللغة في هذه الكتابة لا تملك أية مؤثرات، أي إكسسوار خارجي. إنها الكتابة بلغة مكبوتة عاطفيا وتتجنب بالكامل المساومة العاطفية مع القارئ. يعاد أسلبة المفردة، يتم تحييدها، يُعاد غسلها من تاريخها الدلالي، تقدم بدون أي سند للمعنى موروث. ثم هناك كتابة تحاول كتابة الشعر بلغة النثر: كثرة التشبيه والتوكيد، البرهان، كلها مظاهر نثرية، هذه العناصر، ضمن جزء من مشروع كان يتبدل ويتغير وينقلب على نفسه.
ويذهب المغربي عبدالله شريق في دراسته الموسومة "شعرية قصيدة النثر" إلى أن البدايات الأولى لقصيدة النثر ظهرت "في المشرق منذ أواخر الخمسينيات مع الماغوط وأنسي الحاج ويوسف الخال وغيرهم، تطويرا وتحويلا لتجربة أدباء المهجر." وإن كان هناك من يرى أن شعر الانكسار أو قصيدة النثر ظهر أو ظهرت مع بداية الشعر التفعيلي منذ أواخر الأربعينيات؛ بل يمكن أن نجد للشعر المنثور جذورا قديمة وحديثة تعود إلى السرد القديم، وإلى كتابات مصطفى صادق الرافعي خاصة في كتابه "رسائل الأحزان"، وكتابات المهجريين أمثال: جبران خليل جبران وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة.
ويذهب شربل داغر في كتابه "الشعرية العربية الحديثة" إلى أن قصيدة النثر "لم تكن، تاريخيا وإنتاجيا، منفصلة أبدا عن حركة الشعر الحر. فبداياتها ترقى بدورها إلى نهاية الأربعينيات مثل حركة (الشعر الحر). كما أننا نجد شعراء يكتبونها منذ بداية الخمسينيات. وفي مجلة الآداب تحديدا. إنهم شعراء من سوريا وفلسطين، لا من لبنان فقط: محمد الماغوط، جبرا إبراهيم جبرا، توفيق الصايغ، نقولا قربان، أنسي الحاج" بل يرى شربل داغر أن "ديوان سريال" للشاعر السوري أورخان ميسر، الذي نشر بعد موته في 1979، عن منشورات اتحاد كتاب العرب بدمشق، يكشف عن وجود قصائد نثرية ترقى إلى نهاية الأربعينيات".
في مقالة بعنوان "كلُّ قصيدةٍ هي جنس أدبي مستقل بذاته" يقول فريدريش شليغل فيما يمكن إسقاطه على قصيدة النثر العربية أيضا: " أطلقَ النثر في سماوات جديدة من التركيب والتعبير والصورة، بفضل الترجمات التي عرفتها اللغة الفرنسية في القرن السادس، السابع والثامن عشر. لكن الرومانتيكية؛ ثورة الخيال هذه، كانت تحمل في رحم رؤيتها الجديدة إلى الأشياء، جنين نصوص نثرية تلبي رغبة قراء يتوافدون بفضل التمدين التحديثي لباريس، ملّوا من نصوص طويلة كانت تتلاءم وظروف النص البائدة. لقد لعبت الرومانتيكية دوراً كبيراً في "تليين الشعر وتقريبه من النثر"، أو بعبارة فكتور هيغو "ألقيتُ بالنظم النبيل إلى كلاب النثر السوداء". مع أن صعود النثر هذا توافق وصعود العقل وفلسفة التنوير، والذي سيجعل من سيّد الوزن، شاعر "أزهار الشر" بودلير يتحوّل إلى شعر النثر، تجب الملاحظة هنا إلى أن "النثر في منتصف القرن التاسع عشر"، يقول جوناثان مور، "بات النوع الذي تفضله البرجوازية بوضوح. وبتحوّله إلى قصيدة النثر، كان بودلير يشاطر البرجوازية انتصارها ويوسّع حقل هيمنتها ليشمل ميدان الغنائية المقدس سابقاً".