العالم الذي يرتاده الشاعر الياس لحود مع ديوانه قصائد باريس ( الفارابي، 2010)، لن أقول الأخير مادام فعل الإبداع مستمرا والذي لن يقف إلا بتخلي قلبه عن النبض، أقول عالم متعدد ومتشعب بقدر وصول يد باريز إلى مناطق العالم، لذا فهي مغرية وتستحق الثناء كالذي سيغدقه عليها الشاعر دون أن تصل حد الهرف؛ بحيث أن القصائد التي خصها بها غير ضيقة أي أنها لا تهمه في شخصه فقط بل فيما تغدقه على الآخرين من أعمال خيرة عبارة عن هبات تصل أحيانا إلى الغضب على المغرب الداخل النفق المظلم، ويغضب لأنها تهدده بالانتشال من الظلمة التي تعشش فيه من شدة المنافي التي طالت البلاد عن آخرها، ويكون بالتدخل انفراج بعد شد لتستقبل المعتقلين قبل أن تعيد الضغط لرفع حواجز الحدود وتدخل الشمس سطوح البلد المتلفة بالتكبيل؛ وبكلام يجزل هذا المشهد نقرأ: تأخذ دائما الظلمة وتفجرها/ ضوءا تقطرها على سطوح المغرب ورفوف المنافي ص 57
لباريز سعة صدر تطال الجميع ويظل يمتد ‘‘من الخبز حتى الصباح’’ أي من كرامة العيش إلى الحرية وهذا يستعص على أي عاصمة دونها أن تلعبه؛ مع قصائد هذا الديوان يتثبت مرة أخرى أن قصيدة الاختلاف لا تنسل إلا من أصابع شاعر الاختلاف لا غير، لماذا؟ لأنه لا يرى الأشياء على سنن بصرية عالمية ( Coes de Boer : l’interprétation détournée, tr. M-C Cécilia, CRIN, Amsterdam, 1990, p 45) إذ يراجع المهم في التفاصيل التافهة بالعمل على التحرير من القهر وحتى العنف الذي صار قرينة على ثقافة لم تتوقف من أن تحلم بأن شمس الفكر والتقدم قد سطعا منها ذات صباح عريق على الغرب منذ أن وقعت في كهوف الظلامية والاستبداد حتى باتت تتناقله كما تتنفس أي صار بداهة ولم يعد يدعو للاحتجاج، وهنا ضد هذا العنف سيتدخل إلياس لمسح أثر ما تم ارتكابه من جرائم في ‘‘ مجازر إسلامية’’ ص 74، من خلال تذكير أنها تدعى في الشرق ب (ملاحم) لكن يبدو أن الأمر أكبر من التحويل المقترح لأنه يندرج ضمن بنية فكرية قارة وغير مستعدة للتحول بمرونة، ف‘‘وراء الحجاب كما وراء اللحية، وراء المجازر حلال ...يوجد القانون، المعيار في قلب سلوك المسلم فيما يتعلق بالعبادة، لكن كذلك في نمط الحياة’’ (A-M Delcambre : l’islam des interdis, Desclée Brouwer, 2004, p 94)؛ وعند هذه النقطة لا يكتفي الشاعر بوصف المعيوش وإنما يستند على خلق، من طبيعة مختلفة حيث يعانق التخييل الذاكرة (Nadj Ouddine Bammate «l’errance, l’incorruptible… »les cahiers OBSIDIANE , autour de S. Stétié 1979, p 32)
الشاعر كمسافر مسألة يمكن التثبت منها نصيا حين يكتب ‘‘ ويحدث أني أسافر في جناحيها إلى غرف شيدتها قصوري’’ لكن بذخ الشاعر وعظمته متأت ليس من أرصدته المتعددة بل من قدرته على جعل القليل الذي يملكه وافرا كما في قوله عن الغرف التي شيدها قصورا لإقامته البهية (ص 82) الطالعة بمادة زئبقية ترادف الزوال اقصد السحابة.
سحر باريز متنوع بحيث أن كل واحد يجد فيها مكانه، إنها في النهاية مدينة كوسموبوليتية، فهي تشمل حتى أولئك الذين تمنعهم من حق الإقامة إذا لم تأخذ إجراء تسفيرهم إلى بلدانهم بعنف؛ وهي بممارستها هذه تواصل الرقص، إنها راقصة لكن لمن؟ ‘‘للمستريحين بين المشاعر والأرصفة’’ أي من ينعمون بالرفاه والذين تستضيفهم الشوارع ليس إلا؛ وبهذا التأرجح تظل باريس مشرعة ومغلقة (ص 94) في آن باستمرار فاستحقت بذلك أن تكون متحفا للألوان البشرية، كما تبدى ذلك لنيرودا وأصاب في الوصف بحق، والممتدة من أول لاجئ إلى آخر سكران فيها برقصه حتى التلاشي (ص 81)
ثمة قلق ينضح من هذه القصائد وهو الذي نعثر عليه في ‘‘الطريق إلى غريب كامو’’ رفقة دالي، ويهم ضيفا يتعثر في الوصول باكرا مادام الطريق الذي ينخرط فيه طويل، فقط أن عبوره لا يتم من غير ترك أثر أي الاكتشافات المحفورة على الحيوات البعيدة بل والمتباعدة، فقط أن الاكتشافات معرضة للتلف ليس بفعل بروز آخر جديد بل من جراء اللامبالاة التي يفترون عنها حين ‘‘يقبلون الشفاه’’ لكن شتان بين من كان يطير وبين من يرزح تحت عبء التقدم نحو من يجرون طائرة (ص 93)، فحق للشاعر أن يضحك ولو بمرارة:
‘‘سأضحك من مداي
سأضحك حتى على سروة النهر القي
ويستلقي الموز فوق القفا
ضاحكا من بكاي’’.
‘‘الكائن يقاوم الكلية’’ كتب ليفيناس مرة (totalité et infini, 10 éd. P 51) باستثناء في قصيدة: رسم برباعيات لوتريامون، التي انتهت في المقطع الأخير إلى إغراق الكائن في لحظة حب نادرة بما هي اتحاد وتوحد ولو تبقى مرشحة للعطب بسرعة، وأما المقطع المعني فهو:
‘‘رجل وامرأة وقفا
ثغرا يتخبأ في ثغر
تركا بردهما للبحر
سطعا دفئا في كابور’’
و بذلك يكون الديوان لم يبخل علينا بشاشة ايروتيكية شفافة لن تسمح لحراس سوق القيم بمنعها أو حجزها لامتلاكها كل حظوظ الانفلات والنجاح ككل حب جدير باسمه.
شعر إلياس لحود لا يخوض في التفاصيل، يكفي أن الكلمة تنسل من كلمة من غير شهود، حتى يظل ما يجمع الواحد بالآخر لغزا بينهما لا غير[ يشهد على شغفه أو تحرقه]، وفي غمرة تحفظه بل وإصراره على عدم فهمه مما يقال، إنما يريد أن [يكفح] المتلقي أي إيهامه بأنه يقصد ما يعلن ويروم أن ينسيه أن الشعر حفاظ على مسافة، بين الشيء والعلامة، قادرة على الرفع من قيمة العمل الأدبي مادام ‘‘أن ما هو متضمن في العلامة أكثر عمقا من كل الدلالات المعروضة’’ (Deleuze : Proust et le signe, PUF 1964, p 41)، هو الذي لم يكفه قطعها باللغة بل تعداها في الجغرافية التي قادته إلى باريس ويحبل معها بديوان سيسميه : قصائد باريس؛ ‘‘القصيدة تسمع ما عاينته، القارئ، من الجهة الأخرى، دخل بعماء في القول، يبحث أن يرى في نداء الكلمات’’ (Deguy : Dormant Dormant, Gallimard, 1981 p 101 ) كي يصغي للحرقة التي شبت في من راح يغسل بدمعه [صورته الموسخة بالقبلات] ، وهذا القصد يسير على خط من يرى انه ‘‘ليس حسن الخطبة بحسب طاقة الخطيب ولكن على طاقة السامع’’[ التوحيدي: البصائر والذخائر، فقرة 484. ج 3] لذا يكون القارئ مدعوا إلى الوليمة التي تقدمها قصائد باريس كي يكتشف غنى ما هو مهدد بفقدانه ابد العمر.