«كل وجدان كبير هو إبن لمعرفة كبيرة» ليوناردوا دافينتشي
1- ترشيف الدخول:
لم تكن الفلسفة يوما ما خالية من الطابع الذاتي، وكان للدلالة الشعرية دائما أكبر الحضور خاصة وأن حضور الفلسفة عندما توجه طعناتها للميتافيزيقا يصفونها بأنها ضرب من ضروب الشعر.
فإذا كان للفن من هدف سامي فهو إشباع فهم القارئ ودغدغة حساسيته وإشباع ذوقه الفني. أما الفعل الفلسفي فيهدف إلى ممارسة البحث عن الحقيقة قصد الوصول إلى المعرفة الحقة، وقد قال في ذلك الفيلسوف شوبنهور : "إن الإنتاج الشعري لا يتطلب منا سوى أن نندرج مع صاحبه لكي نتذوق فنه ونتجاوب معه، بينما يرمي الإنتاج الفلسفي إلى قلب أسلوبه في التفكير رأسا على عقب".
إن العمل الشعري عبارة عن التفكير والتأمل عبر الصور اللفظية التي تقدم الأوضاع الحياتية للإنسان على شكل مواقف.
لقد وصل الشاعر زين العابدين اليساري في ديوانه "العربي على موائد اللغة" (1) أن يقدم لنا الشاعر فيه ملخصا في مجموعة من الأزهار، في حين لم يكتف الفيلسوف فيه إلا برحيق تلك الأزهار.
يا صورتي لست صورتي، ولا أنا أنتِ
نحن شخصان في شخص واحد
متوحد في اسم واحد أحمد (قصيدة أسئلة القلق) ص. 23.
إن هذا القلق الوجودي يبرره ما أصبحت عليه الفلسفة وهي تأخذ من الواقعة الفردية أسباب حيازتها على طابعها الشكلي والشامل.
إن العودة إلى الإنسان أصبحت بديلا معرفيا، فبعد أن أخفق الموجود عن التعبير عن ذاته واكتفت الآلهة بالنظر إلى صورتها فقط، شكل الجسد مركز النص الشعري وإن كان تجليه غير مباشر.
فالأنا الشعرية في قصيدة نافذة تأخذ صيغة تشكلها بشكل عميق في الأنا الصوفية التي تؤكد أن العلاقة العمومية بين الذات والآخر لا تتحقق في النص الشرعي إلا بموضعة الأنا الشعرية في عمق وحدة الوجود.
أيا صورتي
ايا صورتي
أحملك وتحملينني
والطريق إلى الله
يتدلى من الجسد .. نافذة (2) (ص. 22)
الشاعر هنا يعري الكلمة حيث يمزج الصورة بالدلالة الصوفية التي تنقد النص الشعري من جفافه الاستدلالي وبعده المنطقي.
2- الدهشة الشعرية:
ـ هل ينتظر المتلقي للشعر أن يمارس الشاعر فعل الدهشة في عملية التلقي ؟
ـ هل يحقق فعل الدهشة للعمل الفني خاصية تجاوز العادي والمكرور ؟
إن الدهشة تعمل على تحريك نمطية العلاقة الوجودية بين الإنسان والأشياء، لكن من الخطأ أن نقارن عمق الفكرة لدى الأديب بعمقها لدى الفيلسوف. ففي الأدب ننشد المتعة لا الحقيقة وننتظر اللذة الفنية لا الأدلة العقلية أو البراهين المجردة.
إن الشاعر زين العابدين اليساري لا يعبر في جل قصائده سوى عن شيء واحد بصور مختلفة، فهو يتحقق في عالمه الشعري كذات، بما أن الفعل التخيلي عنده هو الذي يحدد أناه ويؤطر تحركاتها في فضاء النص كما في فضاء اللاشعور.
اقطف من فمي ما شئت
ورتب لي بين أحشائك
تابوتا من حجر،
سأموت فيك متى شئتَ
لأحيى عند سقوط المطر.
إن هذه الحلولية في الشيء أصبحت بمثابة شخصية واعية في النص تفهم ذاتها على أساس تعرُّف الذات اتجاه الشيء بما هو متشكل في لحظات التقائه بالطبيعة، يضطلع بشرح معنى الحياة ويتأوله في الكشف الصوفي لهذه العلاقة التي تنحو إلى إدراك الماهية في بؤرة الوجود. إن القلق الوجودي الذي تنتجه لنا قصيدة "أسئلة القلق" لا تحدد فقط خوف الإنسان وتمرده على الموت ولا تعطشه المطلق وإنما تكشف ما ينتاب أنا الشاعر من قلق سيكولوجي لا يمكن إلا أن يضعها في سياق علاقتها بمجموع العام.
إن لكل موقف إنساني دلالته الميتافيزيقية المتعالية، فالشاعر هنا ملتزم بعودته الحلولية في سياق ما يُنبته المطر، فالذات تحضر أمام العالم كشيء قابل للتحلل والنماء، كما يحقق هذا النماء في النص بعدا إستيطيقيا يجعل من الفعل الفني حقيقة معرفية لها موضوعها ووحدتها المرتبطة بوحدتها الزمنية.
إن معاني قصائد الشاعر اليساري لا تأتي إلا من الحقل الفلسفي الذي منحه رؤية عميقة لم يردد معها البعد الجمالي إلا تكاملا مع البعد الفكري ولم يؤثر هذا البعد الفكري المهيمن على النصوص والمقومات الجمالية للشعر كالانسياب والغنائية والموسيقى الداخلية.
لقد صرح الشاعر نوفاليس Novalis أنه بقدر ما يكون هناك شعر أكثر تكون هناك حقيقة أكثر:
plus il y a de poésie plus il y a de vérité.
ـ فهل واصل العمق الفلسفي في قصائد اليساري عمل الشعر ؟
ـ أين يتموضع شعر اليساري؟ وما هي حدود خريطته في إنشاد القصيدة وصناعة متخيل مكتوٍ ب بنار التفلسف؟ .
لاشك أن شعر اليساري يقف في خط الاستواء وتحت المطر الدائم بين الصورة الشعرية وحالة الإمتلاء والاكتمال لتحرير الكلمة من قفص السؤال.
فما دام الشعر يعلن في غير ما مرة أنه تعبير عن نمط حياة كلية أكثر من كونه نمطا معرفيا فالولوج إلى العالم الشعري لزين العابدين اليساري يندرج ضمن عوامل القول الشعري على شكل منظومة لاوعية تتلخص في القول المتمترس في اللاوعي، باعتبار الديوان قصيدة واحد قيلت في زمن متقارب نظرا لطغيان الحالة النفسية المبثوثة في النصوص والمتسمة بحالة وعي الوجود ومحكومة بالمرجع الثقافي الذي جعل الزمن مصاغا باعتباره عبئا ثقيلا سجن الصورة الشعرية في الأسئلة الشرعية المتسائلة حول الذات، أما مفهومي النار والماء بالديوان فلم تكونا حاضرين بشكل اعتباطي(باعتباره قائدا بين رجال الإطفاء)، بل وظفهما الشاعر وجعل منها وجها آخر يتناوبان في تفسير الوجود،الوجود العام والوجود الخاص، بحيث حضرا فساعدا الشاعر على الانعتاق من القبضة الصارمة لوجوده المادي وكأن الجسد الذي يتدلى من تلك العلاقة الصوفية بين الذات وأناها إنما هي تذكر الجسد لذكرى فرحه بحلول النفس بين جنباته وهو يشرط إقامتها به عبر نفيها التام لالتزامه بالإنصات لنداء الحقيقة.
والجسد كتابنا
لا يقرأ طلاسمه غيرنا أحد
فهل أنتَ أنا
أم أنا أنتَ
أم كلانا في طريق
عند باب المساء (ص. 22، قصيدة "الضوء المسائي").
3- تقطير الوجود :
إن شعر اليساري شعر فلسفي بشكل لا إرادي، الحقيقة هنا تحتاج إلى الخيال كي تتجلى كما تحتاج إلى اللغة كي تتحقق، فالسلوك اللغوي بالديوان يخبر عن المحتويات الثقافية الخاصة بعوالم الشاعر وهذه العوالم لا تدرك إلا داخل النسق الثقافي المحيط بالشاعر بدءا بالوحدات الإدراكية البسيطة وانتهاء بالمكونات الثقافية العامة التي من وظائفها الأساسية التحكم في الواقع الجمالي وفي تلقيه نظرا لتوفر الذات المتلقية على طاقة تحدد بشكل آلي أنماط البناء الخاصة بكل محفل فني.
إن الأنا الشعرية هنا تهجس بالبعد المعرفي، فالذات فضاء للمعرفة وتلاقح الذات بالموضوع.
إن الأنا التي تقصدها القصيدة تتمحور حول وعي خاص للأنا بنفسها في النص الشعري والتي لا تتشكل معانيها إلا من خلال الآخر بما هو المرآة التي تشهد الأنا ذاتها فيها.
فأبعاد صورة الأنا في شعر اليساري لا تبتعد في توصيف علاقة الأنا بالآخر بعلاقة الأصل بالصورة، فالأنا أصل والآخر صورة مركبة ترى من خلالها الأنا صورتها، إن عملية المراوحة التي بين ما هو أصل وما هو صورة تجعل الأنا مرتبطة أشد الارتباط في وعيها بذاتها وعلى وعي آخر هو غيرها، يقر عند تحققه بوجود خارج الذات العارفة أو وجود كينونات موضوعية .
فالصورة بتفاصيلها الصغيرة
وعنادها الأسطوري
لا زالت تُشعل النار في راحتيها
لتقدمه للمحارب
باقة اشتعال (قصيدة باقة اشتعال: ص: 28)
فتوحد أنا الشاعر وأنا الصورة في اسم واحد أحد يجعل الذات تتطابق وتتوحد مع الآخر باعتباره يشكل حقيقة مفارقة للذات، ليتشكل وجود واحد يحمل الأول على الثاني والثاني يؤدي إلى الأول:
هذا الضوء المسائي
يذكرني بوجهي الذي رحل
وأقول لصورتي في المرآة
لا تغريك في الشفاه لآلئها
فأنت مدعوّة للسفر (قصيدة الضوء المسائي، ص. 21).
4- تجلي الأنا المزدوج:
إن وظيفة المرآة في هذا الديوان تجعل الأنا الشعرية منقسمة على نفسها، فتكون الأنا بالفعل أنا بالقوة، فتغدو ذاتا ناظرة وذاتا منظورا إليها.
فأنا الشاعر تراوغ ذاتيتها وتستدعي حضور المرأة لتتعرف على ذاتها ويكتمل بذلك وعيها بنفسها بما أنها تخلق غيرها في حال انقسامها على نفسها لتصبح هي : الأنا والآخر، فالأنا (المذكرة) عندما ترحل تدعو نصفها الآخر (المؤنثة) للسفر واللحاق بها. فالأنا الشعرية عند اليساري لا تعرّف وجود نفسها إلا بوجود الآخر الذي عملت على خلقه بواسطة المرآة، فهذا الآخر أصبح جزءا أساسيا من تعرف الأنا على نفسها واستمرارية حضورها في الوجود.
"فما دامت حياة الإنسان تعبيرا عن الأنا، فإنها تفترض وجود الآخرين ووجود العالم، ووجود الله"(2). نيقولاي برديائف إن الأنا الشعري في نص اليساري مفرد بصيغة الجمع فالشاعر يأخذ جزءا مهما من فكرته المكتسبة عن نفسه من المرجعية التي تتمثلها الأنا عن ذاتها، فالظاهر لا يظهر إلا بصورة الباطن.
وكأن العبور إلى الذات
طيش أو أغنية لا تنتهي(ص. 27، باقةاشتعال)
إن الآخر عنصر من عناصر إدراك الأنا نفسها. فمحيي الدين بن عربي يؤكد على تلك المرجعية التي يتبلور فيها الحوار القائم بين الأنا والحقيقة والآخر يقول: "كل واحد يراك من حيث هو، لا من حيث أنت، ومن رآك من حيث هو فإنما رأى نفسه".
إن الأنا الشعري عند اليساري تتحول من أنا مونولوجية إلى أنا ديالوغية تستبدل خطاب الداخل بالخطاب من الخارج، وبذلك تصبح صورة الباطن حوارية في نطاق اللغة فقط، بينما الأنا الشعري هنا يحاور الآخر لتشكيل علاقة تفضي إلى التوحد.
يقول ابن الفارض :
تحققتُ أنا في الحقيقة واحد
وأثبت صَحْوُ الجمع مَحْوَ التشتُّتِ.
إن الإدراك المتميز للذات الشعرية عند اليساري في الآخر ينشأ عند الوعي الخاص بشخصيته كباث من جهة وكمتلقي عبر المرآة من جهة أخرى.
الهوامش:
1- زين العابدين اليساري" العري على موائد اللغة" شعر" مطبعة طوب بريس، الطبعة الأولى، مارس 2008.
2ـ العزلة والمجتمع ـ ترجمة فؤاد كامل، القاهرة، النهضة المصرية، 1960، ص. 112 ـ 113
ــــــــــــ