أخشى أننا كلما وضعنا الثقافة العربية على محكّ الديمقراطية، فشلتْ في الاختبار، ويبدو لي أن الإصرار على المفاضلة المستمرة بين الشعر والرواية، هو نموذج للتفكير الواحدي، الإقصائي، الذي ينبذ التعدد واختلاف الخيارات، والتنوع، وفي هذا صدورٌ عن بنية تَقْصرُ عن قبول فكرة الديمقراطية، ومستعدة دائماً للوقوع في الممارسة الفاشية.
من هذه الشرفة أحب دائماً أن أرى إلى المسائل الثقافية والاجتماعية، فامتحان الديمقراطية ليس شرطاً حضارياً لتجربتنا في الحياة فقط، ولكنه ضرورة إنسانية لمستقبلنا أيضاً، حيث قبول الآخر المختلف والمغاير وحتى النقيض، لكي نكون جديرين بمزاعمنا.
هل مات الشعر في زمن الرواية؟
لا أعرف لماذا يصادف، في حقل الأدب، أن نستخدم لغة العنف المهيمنة؟
موت الشعر، تعبير بالغ الضراوة مع أكثر الكينونات جمالاً وألفة وهشاشة. فمن يا ترى يرغب في حضور جنازة الشعر؟ شخصياً لا أرغب في ذلك. لقد سئمتُ الجنازات، خصوصاً إذا كانت جنازتي. فموت الشعر يعني أنني غير موجود، وربما سوف لن نكون موجودين عندئذ.
عنوان موضوع هذه الليلة ليس من اختياري. وهو عنوان يقترح، أولاً، سؤالاً جنائزياً، فيما يجهر، ثانياً، بتأكيد حقيقة مشكوك فيها: موت الشعر / زمن الرواية.
بالطبع لم أحضر هنا للدفاع عن الشعر، فالشعر له ربٌ يحميه. كما أنني أعتبر نفسي أكثر الناس فشلاً في الدفاع عن أي شيء. حيث سأبدو مثل محام فاشل عن قضية رابحة.
ثم من قال إن من مهمات الشاعر الدفاع عن الشعر؟
أكثر من هذا، لماذا نظن أن الشعر يحتاج إلى أحد أو أفراد كي يدافعوا عنه؟ والدفاع عن ماذا بالضبط؟ يقيناً سنكون في غنى عن أي شعر يحتاج أن يدافع عن نفسه، فالشعر أقوى وأنقى من أن يمس بهذه السهولة والاستهانة والمجانية.
الحق أنني لم أحضر حاملاً أية أجوبة، على العكس ربما جئت وفي جيوبي بعض الأسئلة وعدد من الأفكار أيضاً.
معركة متوهمة
دعونا أولاً لا نتسرع في الانجرار وراء دعوة للمبارزة في معركة متوهمة. دعونا نتساءل، لماذا يجري الأمر، كما لو أننا في مضمار سباق بين الفنون؟ أو كما لو أننا في حلبة تتصارع فيها الأشكال والأنواع الأدبية والفنية وتتناحر؟ من يقدر أن يزعم أن فناً قادرا على نفي فن آخر؟ وما الغاية من هذا الزعم؟ ثم من يستطيع أن يقرر، بثقة مطلقة، وبإعلان يخلو من أي حس بالمسؤولية، موت كينونة الشعر، هذه الكينونة القائمة بصلابة منذ قرون .. بضربة قاضية من كينونة الرواية، كينونة لم يمض على ظهورها ونموها وانتشارها غير سنوات؟
إن فكرة موت الشعر بحد ذاتها تبدو عبثية وصبيانية، وخارج سياق أي منطق نقدي.
الطريف، أيضاً، أن القول بموت الشعر، سيعني بأن أمة كان الشعر هو تاريخها، مرشحة الآن، حسب هذا السؤال، إلى فقد أحد أكثر مقوماتها الثقافية والحضارية، خضوعاً لتناحر مفتعل يُخرج طبيعة الحياة عن سياقاتها الأزلية.
عندما يعودُ عمرُ شعرنا العربي إلى حوالي مئة عام قبل الإسلام، سوف يكون الغربُ قد عرف السرد مع هوميروس منذ ثمانية قرون قبل الميلاد. حيث تبلور فن السرد في الأدب الغربي وأصبح مكوناً تأسيسياً للثقافة الغربية، فيما نحن بالكاد نتعرف على الرواية، كفن حديث، في بدايات القرن العشرين.
ورغم ذلك فالغرب لم يقل بموت الشعر ولم يزعم بعصر الرواية. فيما نحن نرزح تحت شهوة قتل أشياء حياتنا لنصل إلى قتل الكلام.
حين يُعدُّ الشعرُ العربي أقدم أشكال التعبير محافظة على تاريخه اللغوي، قرنٌ ونصف قبل الإسلام. يبقى السرد هو الأقدم في التراث الأوروبي، منذ هوميروس، حيث تشكل «الإلياذة» أقدم نص أدبي مكتوب في الأدب الغربي، ليمتزج عندهم الشعر بالسرد منذ لحظة الكتابة الأدبية الأولى.
وأخشى أن يكون قول بعض العرب بموت الشعر وحلول زمن الرواية صادراً عن وهم القداسة على الجانبين:
- محاولة خلع تقديس الشعر بالسعي إلى قتله.
- وتكريس الرواية سعياً إلى تقديسها.
كما لو أننا أمةٌ لا تقدر على الحياة من غير طوطم. هذا، فقط، من جهة تاريخ الأدب.
رحابة التنوع
غير أن هذا ليس موضوعنا. الفنون ليست أحصنة سباق، يبز كل حصان سواه بالسرعة والقدرة وحجم الإنتاج والانتشار. إن تعاظم عدد الروايات وكتابها ليس علامة دالة على انتصار الرواية وهزيمة سواها من الأشكال والأنواع، مثل الشعر وغيره، ففي هذا المنطق خضوع لعقلية فاشية تمجد شيئاً وتقصي غيره بوهم الفتك حسب المزاج. وهو سلوك نقيض للروح الديمقراطية التي تجعل الحياة تسع كل أنواع التعبير بل وتحتاجها وتتطلبها أيضاً. حيث طبيعة الحياة تنهض وتتطور وتتعايش بثقة ورغبة الغنى في التنوع.
لا أعرف بالضبط ماذا يعني القول بأن الرواية تغلب الشعر، أو أن الشعر يتقدم على المسرح.
كما لا أفهم لماذا ينبغي أن يكون نوع فني نفياً لنوع آخر؟ أليس الإنسان في حاجة لكل أشكال التعبير الأدبية والفنية حسب اختلاف وتنوع وتعدد الميول والأذواق، وفي هذا التنوع نجد تمجيداً لحيوية الإنسان واحتراماً لطاقاته؟
ثمة شهوة ثقافية لا واعية لقتل كل شيء في حياتنا، كأننا لا ينقصنا إلا قتل الإبداع.
هذا السلوك يشي بالخضوع لتداول المصطلحات دون التثبت من دقتها أولاً، ومن صلاحيتها الثقافية والحضارية لحياتنا ثانياً.
هذا، فقط، من جهة رحابة الحياة للتعايش الفني بين أجناس الفنون وأشكال التعبير، غير أن هذا ليس موضوعنا أيضاً.
فالأصل في الإبداع هو حريات الصدور عن الذات الفنية، حيث يكتب الشخص ما يصدر عن حريته في التعبير الفني وحقه في ذلك. وهذا يتجاوز أوهام موت وحياة النوع الأدبي، ويرقى على تخوم النوع التعبيري.
موت الشعر.. أي موت؟
إن القول بالتصنيف الموروث بين الشعر والفنون الأخرى، امتثال للتصنيف القديم لفنون التعبير، في حين أن التطورات الثقافية الهائلة في القرنين الأخيرين جعلت هذا التصنيف نافلاً وخارج الجوهر الإبداعي للتعبير الفني الحديث.
إن مأزق الذين يقولون بموت الشعر، أنهم يأتون في اللحظة الفعالة للشعرية العربية الجديدة، حيث بدأ الشعر منذ سنوات باقتحام المغامرات نحو أكثر التجارب فتنة، مشتركاً مع فنون التعبير المختلفة، متقاطعاً معها، في اقتراحات خلاقة، يتألق فيها الشعر بوصفه طائر الفينيق الذي ينهض، قائداً العمل الإبداعي، فاتحاً أمام أشكال التعبير الأخرى أكثر الآفاق جمالاً وأجرأها قبضاً على الأمل.
يأتي أصحاب القول بموت الشعر في لحظة التحرر الفني من الخضوع للتصنيف التقليدي للأشكال وتخومها، وفي اللحظة التي أصبحت التخوم هي الآفاق المفتوحة على مشتركات بالغة الرحابة، حيث الشعر هو جامع النصوص، دون أن ينفي هذا وجود كافة الفنون بتنوع أشكالها، ملبية كل الحاجات الطبيعية لذائقة المتلقي بشتى تجلياته في الزمان والمكان المتغيرين.
ما علينا سوى الانتباه حولنا لنكتشف كم أن الشعر هو الروح الجوهري الشامل الذي يغمر ويتجلى في جميع الفنون التقليدية والحديثة والمستحدثة. الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في المقولات الزاعمة بموت الشعر، ونعمل على تفادي تكرار تداولها لئلا نقع في الظلم والظلام. خصوصاً إذا وضعنا في اعتبارنا حقيقة أن الشعر ليس في القصيدة فحسب، فثمة فرق شكلاني جوهري بين القصيدة بوصفها نوعاً والشعر بوصفه روحاً شاملاً.
يبقى القول بأن لظاهرة نزوع بعض الشعراء العرب نحو كتابة الرواية دلالة عميقة على الحضور النوعي للشعر في الكتابة العربية، وبأن مفهوم الشعرية بات أكثر وضوحاً بكون الشعر شيئا آخر يختلف عن القصيدة.
غالباً ما يكتب الشعر الرواية صادراً عن سيرة ذاتية فائضة على القصيدة، مما يمنح النص السردي الطاقة المتجددة بخبرة الشعر. وفي هذا إضافة نوعية للسرد وبلورة طموحة للتعبير الشعري في آفاق أكثر رحابة.
الشعر، عمقياً، هو ماء البلور الجوهري لكل نشاط إنساني في كافة حقول التعبير الفني، فأنت ستصادف الشعر في جميع أشكال التعبير الفنية من بصرية وكتابية وموسيقية.
أحب أن أكرر:
لعلّ شهوة موت أشياء الأدب والثقافة، قد وردت إلينا من المصطلحات الأوروبية دون التثبت من دلالتها في سياقاتها الأصلية.
حين أطلق «رولان بارت»، مثلاً، مقولته عن (موت المؤلف) في منتصف ستينيات القرن الماضي، كان يذهب إلى تعبير مجازي لطريقة جديدة لنقد النص بمعزل عن هوية الكاتب، داعياً القارئ إلى عدم الاتكاء أو التعويل على تأويل الكاتب لنصه.
ولم يكن يعني موت النص الأدبي بالذات أو موت المؤلف حرفياً. غير أن رغبة بعض العرب في قتل النص جعلتهم يستعيدون مصطلح (الموت) لنفي النوع الأدبي على وجه التعيين. مما يشي بأننا لا نستورد المصطلحات بجاهزيتها فحسب، بل أننا نمعن في تداولها في غير دلالاتها وبمعزل عن سياقاتها الأصلية، برغبة لا واعية في التنكيل بحريتنا الأخيرة في التعبير الأدبي والثقافي، مما يفقدنا طاقة الإبداع الذاتي.
إذن من منا يقدر أن يزعم، فنياً، بأهليته للحكم على غلبة الشعر على سواه من فنون التعبير الأخرى، والأمر نفسه في حقل الرواية.
ترى هل أن تخلف النقد الأدبي عن ريادة التجربة الشعرية وقصوره عن استيعاب ما يحدث على صعيد الكتابة الجديدة، قد دفع البعض إلى القول بموت الشعر، في وقت يكون الشعر قد بدأ يتبلور في مجمل أشكال التعبير الأدبي العربي في السنوات الثلاثين الأخيرة؟
ما إن ننتبه للحياة، حتى يقع تعبير (موت الشعر) في تناقض موضوعي فاضح.
الشعر لا يموت في وجود كائن إنساني حي في هذا الوجود.
كيف يستقيم القول بموت الشعر في حياة زاخرة بالغنى والتنوع بهذا الشكل.
لا أعرف...
إنني أطرح أسئلتي عليكم دائماً لكي أعرف.*
ألقيت هذه الورقة في ندوة الثقافة والعلوم بتاريخ - دبي04 فبراير 2013
عن الاتحاد