في الصباح، بَدتْ لي عناوين (الترند) في محرك البحث غوغل مثل أشجار طحلبية. لا أتوقف عندها في الغالب. ينزلق من بينها اسم سمعت به قبل سنين بعيدة، وبقي محتفظًا بسحره المميز: "لميعة عباس عمارة". ظهر لحظتها وكأنّه طائر يسعى للفرار من طابور غريب حُشِرَ فيه قسرًا، ليحاول العثور على حفنة دفء من برد الوحشة والغربة. أهي غربة مَنْ يعمِّر طويلًا ليشهد رحيل أحبَّتَه واحدًا بعد آخر. هناك، بعيدًا عن صباحات الأهل، ومساءات الصحبة؟
لا يحتاج الأمر لذكاء كبير. رحلتْ لميعة إذنْ. سأرفض قراءة الخبر في أيِّ موقع إلكتروني: (رحلتْ الشاعرة العراقية الكبيرة.. وِلدتْ في العام..، صدرَ لها..، شاركتْ في..، هاجرتْ إلى..) ثم ماذا بعد ذلك؟ عندي أنَّ لميعة تستحق أنْ نحتفي بها بطريقة أكثر خشوعًا وتأملًا. خشوع يستحيل أن يرتجف، حتى وهو قبالة جبروت الموت. ولن يقبض بيد باردة على باقة أزهار، ليسندها عند شاهد قبر، ثمَّ يقفل راجعًا لشؤونه اليومية الرتيبة. أمَّا التأمل فهو يبارك التشبُّث بمعنى الحياة في روح الفن، لا الانكسار أمام قوانين المادة. نريد (من نحن؟) للاحتفاء أنْ يبدو بأناقة لميعة، العاشقة المعشوقة. هل سبق وأنْ رأيتم أغنية تنسكب من غيمة؟ هذا بالضبط هو شعر لميعة المولعة بالغزل الجريء:
كفَّايَ باردتانِ،
والأشواقُ يُرعِشُها ارتجافي
أينَ الشفاهُ العاصراتُ خمورَهنّ
مِنَ الشِّفافِ؟
مَنْ لي بساعدهِ يَشُدٌّ أضالعي
أنْ لا تخافي
مَنْ لِي بِكَفَّيهِ
و دِفئِهما يَمُرُّ على شِغافي..؟
في الحال أتذكر جوهرة جواد سليم "بورتريه لميعة". هو ليس أكثر أعماله شهرة بالتأكيد. وقد حصل أنْ رأيته أوّل مرة في العام 2002، حين اقتنيتُ مجموعة "أغاني عشتار" التي أنقل عنها هنا. كان البورتريه بالأسود والأبيض، مستقرًّا بألق في أعلى الزاوية اليمنى للغلاف الخلفي. وإلى يساره كُتِبَتْ جملة داخل مستطيل بطول الغلاف، كيما تبدو أكثر أهمية: "الشاعرة بريشة الفنان جواد سليم". مَنْ لا يحلم بأنْ يرسمه جواد سليم؟ لاحقًا، سأجد البورتريه بالألوان، وسأقرأ عنه مقالًا رائعًا كتبته إنعام كجه جي قبل أربع سنوات. حسنًا البداية ستكون من هنا. أقوم بتحميل البورتريه، ونسخ رابط المقال، وأرسلهما لثمانية من الأصدقاء الرائعين. أثقُ تمامًا بثقافتهم، ووعيهم. والأهم، بصدق نبلهم الإنساني. وسرعان ما توالتْ الردود. كانت كلُّ إجابة تردني منهم تمثِّل درسًا بليغًا جديرًا بالتأمل، منطقًا خاصًا، وذائقة تعرف كيف تتحسَّس الجمال الحقيقي، حتى وإنْ برقعوه بألف حجاب.
والمبدع الكبير هو مَنْ يبقينا في حالة توتر مدهش. يلعب بحيثيات النُظُم والقواعد، ليقيم عالمه البديل، العالم الذي سيعيد الاتساق لعبث التاريخ، وفوضى الذاكرة. وفي المحصلة، لمفهوم الهوية الوطنية أيضًا.
أزعم أننا نجحنا بالاحتفاء بلميعة وفقًا لأسلوبنا. وربما لمزاجنا بالتحديد. بعيدًا عن النفاق الرسمي المصاحب لحفلات التأبين، أو المواضعات الباردة للفيسبوك. لم نسعَ لفلسفة لحظة لميعة. كُنّا نتأملها ضمن مشهد أكبر. من غير أنْ يُقلّل ذلك من معناها. وربما كانت لميعة هي التي حفزتنا لتبني تلك الوجهة، فرحنا نتأمل الرَّسام والشاعرة والروائية معًا. أيُّ ثالوث هذا؟ جواد ولميعة وإنعام! جواد ولميعة من جيل، وإنعام من جيل آخر. ونحن الأصدقاء المتأمِّلون ننتمي إلى جيل مختلف. يجد الباحث والناقد فالح حسن، وهو واحد من الأصدقاء الثمانية، أنَّ أولئك (كانوا يشكّلون جيلًا يتعلّم ويُعلِّم، جيلًا يعرف كيف يتحاور). ولكنْ، هل نحن جيل حقًّا؟ قُلتُ. فأجابني بثقة تامة: بإمكاننا أنْ نكون كذلك. وبعد ساعة فقط من حوارنا، كان قد أتمّ كتابة مقال جميل عن المناسبة. وهذه السطور في الحقيقة ولِدتْ في أثناء الحديث معه. وهي حوار أيضًا مع نصِّ المقال الذي أبدعه. أتخيَّل بورتريه جواد وكأنَّه رواية يسرد فيها حكاية عن مثال، نجحتْ لميعة بجعله أمرًا ممكنًا. مثال مكتنز بدلالات جديدة، تبشِّر بظهور شخصية النسوية المثقفة، لحظة صعود الطبقة الوسطى، وقيم المدنية في العراق. بينما كانتْ إنعام كجه جي ترسم لوحتها الخاصة مثل جواد، وتلقي شعرًا بطريقتها كما صنعتْ لميعة. وما بينهما تختال لميعة بدلال تاريخي، وهبته لها الجَّدة عشتار. ولقد أورثتها سحرها أيضًا. فكانت، في كل قصيدة تنظمها، تعيد الحياة لجواد والسياب (هل رحلا حقًّا؟)، وربما أيضًا لعدد كبير ممن عشقوها. أليستْ هي حفيدة عشتار؟ بل هي هي، أو (هي إياها) كما في الحكاية الشهيرة؟ ليست موهبة الفنّان الحقّ شكلًا من أشكال الترف. إنها تستنزفه مع كل إضافة يقدمها. لأنها ببساطة تجعل ما يحرص على كتمانه خبرًا مشاعًا. ودونكم ما تعلنه لميعة، في نصّ فضّلتْ أن تسميه "براءة":
لعنة اللاعنِ يا شِعرُ عليكْ
ما الذي أوقَعَني بينِ يديكْ
كلُّ أسرارِ الورى مكتومةٌ
وخَفِيُّ الهمسِ مفضوحٌ لديكْ؟
في النهاية، لا شيء يعمل بالضد من سياق مرجعياته. والمبدع الكبير هو مَنْ يبقينا في حالة توتر مدهش. يلعب بحيثيات النُظُم والقواعد، ليقيم عالمه البديل، العالم الذي سيعيد الاتساق لعبث التاريخ، وفوضى الذاكرة. وفي المحصلة، لمفهوم الهوية الوطنية أيضًا.
لميعة..، كبرياؤك الأدبي الباذخ يليق بك. وأغانيك الممهورة بختم عشتار ستبقى مُلهِمَة. أرجوكِ. لا تُلقي (مهفّتك) الجميلة من يدك.