إلى «كُتّاب القرية»، ذهب سعيد الكفراوي (1939-2020) تقوده جدّته، لكي يتعلم شيئاً من القرآن ويفكّ الخط. قالت الجدة لشيخ الكتاب: «موّته حتى يتعلم». كل صباح يذهب الكفراوي إلى الكُتّاب، مصطحباً معه ابنة جارتهم، طفلة صغيرة فقدت بصرها. لكن الوضع لم يدُم طويلاً، فقد ماتت رفيقة الرحلة. أمر شيخ الكُتاب أن يخرج كل الأطفال في جنازة زميلتهم، الطفلة الصغيرة. شاهد الكفراوي في طفولته كل طقوس الغسل، والدفن والعزاء. يقول: «في هذه اللحظة، فكّرت في سؤال الموت، وهو منبع الألم في كل ما أكتب».
رافقت هذه الحكاية كاتب القصة المصري سعيد الكفراوي الذي غيّبه الموت الأسبوع الماضي، وألقت بظلالها على تجربته الإبداعية. أصبح الموت هو الأكثر حضوراً في قصصه، سيطرت مفرداته وطقوسه على معظم قصصه، أصبح بطله الأساسي. يتنقل صاحب «مدينة الموت الجميل» بين العجائبي والفانتازي، يرحل إلى مدن خيالية، ولكنه يعود إلى الواقعي وإلى قريته وطفولته التي لم يغادرها في إبداعه، متسلّحاً في كلّ تنقلاته بلغة فيها من الطفولة براءتها، وسخريتها من كل شيء. الكفراوي هو ابن بيئته، ابن قريته كفر حجازي قرب مدينة المحلة، كتابته ابنة أساطيرها الخاصة، يبحث فيها عن مناطق «الأحلام والمكبوت الغرائبي وعلاقة الحيوان بالإنسان».
لا يحبّ كثيراً التنظير المتعالم عن الكتابة، هو ابن القرية و«ألف ليلة وليلة»، وعديد الحزانى عند الموت، وحكايات الجدات، وموالد الأولياء، وكتب السحر، وأناشيد الفلاحين. لذا عندما سئل عن معنى الكتابة، حكى عن جدته التي كانت تمتلك بقرة لا يمكن لأحد حلبها إلّا الجدة نفسها. عندما غابت الجدة ثلاثة أيام، احتبس اللبن داخل البقرة، وكادت أن تفقد حياتها. وتجمع أهل الدار والجيرة يتفاوضون في أمر البقرة، وضرورة ذبحها للاستفادة من لحمها قبل أن تموت «فطيس». ولكن ما أن سمعت البقرة صوت الجدة قادماً من الخارج، في تلك اللحظة الحرجة وهي بين الحياة والموت، انهمر اللبن. يقول الكفراوي إن الكتابة لديه هي المسافة بين «مصدر الصوت، وانهمار اللبن».
هكذا تأتي نصوصه محتشدة بالسر، والسحر والحزن وانتظار الخواتم من الميلاد حتى الموت، والمكان ـــ كما يقول ـــ آخر المطاف ذاكرة للنسيان. ترك الكفراوي 12 مجموعة قصصية، من بينها «مدينة الموت الجميل»، و«ستر العورة»، و«سدرة المنتهى»، و«مجرى العيون»، و«كشك الموسيقى»، و«دوائر من طين»، و«يا قلب مين يشتريك»، و«البغدادية»، و«زبيدة والوحش». وجميعها أعمال عن آلام الناس، ولكنه الألم الذي يشعّ بفرح الحياة.
عن جريدة (الأخبار اللبنانية)