لا يسع مجلة (الكلمة)، وهي تنشر هذه المختارات من أعمال الكاتب المصري الكبير سعيد الكفراوي غب رحيله – وقد اختارها ورتبها نجله الفنان التشكيلي عمرو الكفراوي- إلا التأكيد على مكانتها الفريدة بين أعماله، وهي أعمال تقف بين أفضل ما كُتب عن القرية المصرية بواسطة كتابها الكبار.

نصوص مختارة من:

قصص سعيد الكفراوي

سعيد الكفراوي

 

حكايتان عن الصبي الجليل
1- الجمل يا عبد المولى الجمل
2- زبيدة والوحش

الجمل يا عبد المولى الجمل
في الحلم .. يمتطي الصبي الجليل «عبد المولى» ظهر الأتان (لم يكن يعرف أنه ملاقيه) ينتقل من غرب المرج حتى مدق المسير، فتتجلى له الدنيا – في الحلم – كوكبًا دريًا. والشمس مستوية في العلا على رأسه؛ حيث رآها تبحر بشراع من نار، تبحر وهي تفارقه محنة للقلب.

مضى عليه وهو واقف قمران، وثلاثون شمسًا، هبت فيها ريح رضية أول الأمر، لاهبة وخائنة مع آخر الشموس.

لا يعرف ما الذي دفعه للانتظار؟!

(كأنه ينتظر تجليه).

يلوح مراوغًا في فضاء الظهر، دافعًا بالمخاوف إلى قلبه.

عنق طويل من عظام ووبر، ينتهي برأس صغير دقيق. فيه عينان واسعتان مخيفتان.

(لم أستطع أن أقاومهما، وهربت من خوفي بستر عيني حتى لا أرى ما أرى).

شفة مشقوقة كأنما ضُربت بسكين، تلتقط من أعلى الشجر خضرة الفرع، وتلوكه أسنان كحب الذرة.

(لو أنني لم أمتطِ ظهر الأتان وأفارق غرب المرج، وانتظرت أرقب عينَي السمكة التي تحدقني من جدول الماء وتبدو مبتسمة، لو أنني ما تهورت وفارقت أمي التي تنتظرني من أول النهار على عتبة الدار، تضع يدها على عينها وتنظر إلى بعيد وتسأل: ما الذي أخَّر الولد؟).

يدفع بعنقه المقوس سور اللبن فينهدم، وينتشر غبار الهدم كدخان. يصنع لنفسه طريقًا ينفذ منه طالبًا الولد.

ظهر بجسمه الكبير على السكة مهرولًا، فحوم سرب القطا يهف بأجنحته ناحية الماء.

(يطلبني ويجد في أثري. مهرولًا بأخفافه الأربعة التي تنطبع على تراب السكة، وكلما نظرت ناحيته اضطرب قلبي، وفارقني أماني. يخرج من بين الشجر ويقصدني. وأنا مقيد فوق ظهر الأتان التي حرنت ورفضت السير. أسمع، «بقاليله» كالطبلة في قطعة الظهر الأحمر).

(جمل الدار هو جميل الدار).

أطلقها مستغيثًا صرخة مدوية:

- الحقوني، جمل الدار هيموتني.

انتبه من منامه على لحظة من يقظة – تلك اليقظة التي نصفها نوم ونصفها إدراك – أحس بيد توضع على جبهته. هل كانت يد «مضاوي» أخته التي تنام جنبه، أم يد الحنون «أمينة» أمه؟

سمع صوتًا لم يميزه: «اسم النبي حارسك وصاينك.. بيحلم».

كان لزامًا عليه أن يعود من لحظة الإفاقة – التي نصفها إدراك ونصفها نوم – ليرى ذا الأخفاف والسنام العالي يأتي نحوه بقوة وانتظام.

ترك الأتان واستلم جسر النهر يعدو تحت سماء مكشوفة، يحدق فيه الجمل، وتضيق بينهما المسافات. خُيِّل للصبي أنه شُلَّ، وأن قدمه مغروسة في أرض مروية.

- الجمل هيموتني.

تمنى بشغف أن يرى إنسيًّا. رجلًا على النهر. انحرف على اليمين وتجاوز خط السنط، وحديقة البرتقال، وعبر القنطرة.

سمع في البعيد – في الحلم – صوت الأذان يأتي من جامع «أبو حسين» فاندفع ناحيته.

انزلقت قدمه فهوى مستندًا على يده. لهاث الجمل في قفاه وخطوه لم يعد يفصله عن المطارد إلا أشبار.

فوجئ بسيدي «أبو حسين» يقف على باب مسجده.

- سيدي أبو حسين.

قالها ملهوفًا ممدود اليد كالمحتاج.

يتجلى في جبة من الجوخ الأزرق، وعلى رأسه عمامة هائلة، ملفوفة بشال أخضر في لون الزرع، تحيط وجهه لحية طويلة من هيبة بيضاء..

- الحقني يا مولانا، الجمل هيموتني.

(ولما لقيت نفسي في حضن سيدي. راح روعى، وعندما نظرت تجاه الجمل وجدته يقف مكانه، لحظة أن أشار له مولاي: «مكانك يا جمل» وقف الجمل مكانه وعيَّط).

الصبح قص على أمه رؤيته.

وقال لها إنه يخشى النوم حتى لا يحلم ويرى الجمل.

وضعت يدها على صدره، وقالت له: عليك نذر، والجمل في الحلم شيخ.

قال لها إنه من زمان يرى الجمل في الحلم، وإنه بات يكره جمل الدار وكل الجمال في البلد.

قالت له: وفِّ النذر ينصرف الخوف.

في العصر، جهزت سبت السمار الملون والمرسوم عليه عرائس، وحطت فيه النذر.

قرص، وبرتقال وفضلة الخير: فطيرة من الدقيق العلامة، وفي جيبها دست جنيهًا. وعلى الطريق من البلد للمقام دعت: «نذرك يا أبو حسين، اصرف عن وليدي خوفه، فالخوف في البلد من طبع النساء».

وكان الولد إذا ما عبر كوبري الرباط، وجلس على سور الحجر، رافعًا ركبته، مسندًا عليها ذقنه الصغير، محدقًا في الزراعية. ويرى على البعد قافلة الجمال، آتية في رهط مختلط، مربوطة لبعضها البعض، متوجهة لسوق الثلاثاء. وكان يرى سيقانها العالية تنحط على السكة، ويرى لعابها ينساب على الأرض في خطوط. ينهض من جلسته ويحادث صاحب الجمال: «على فين العزم؟»، ينظر إليه الرجل مستغربًا ويرد عليه: «إلى السوق».

يظل يحدق في رهط الجمال الذاهبة حتى تغيب، وبرأسه يتجسد جمل المنام.

* * *

تكررت رؤيته للحلم.

فزع بالليل.

ففزعت الجارة والجار.

أخبرت «سكينة» النسوة بالحلم فقالوا لها: أبو عبد المولى عليه نذر كبير، والرجل بطنه واسعه، ويأكل مال النبي. شخطت فيهن «سكينة» أن يخرسن، فالرجل يزكي ويتقي ويعامل الناس بما يرضي الله، وماله للفقير فيه نصيب، وحقيقة الأمر أن الولد معذور.

وإذ يسير الأب ممتطيًا ظهر الحمار، صانعًا لوايات البرسيم، ودافعًا بها لشدق الجمل الذي يشبه «الشروقة» يمر به الحاج «يوسف عبيد» راكبًا حماره. وبعد السلام يسأل:

- الولد ما له؟

- بخير.

- معذور؟

- أبدا .. غمة وتعدي .. يخاف.

- ربك المنجي..

تطبطب العصا على عنق الحمار. وتضرب رجله اليمنى جنبه. ويطلق صوتًا محزوقًا: «حا» فيركض الحصاوي مخلفا غبرة تعلو حتى الأب وجمله الذي بدأ يحادثه بصوت مسموع:

- إياك تظن نفسك شيخًا، وإلى متى ستعاود ولدي بالفزعة؟ خف عن ابني، ولا تزد من همي؛ فخزائن الأرض لا تعوضني عن ولد أهبل.

هدر البعير وأشاح برأسه، وتطلع من علاه ناحية الأب الذي قال مستسلمًا:

- مقدر ومكتوب.

في الضحى، نصبوا الفخاخ للقطا، ورموا النبقة بالحجارة. وقطفوا حب العنب من غيط «عبد الغني بدر» المجموع، ورأوا على النهر مراكب راحلة بالجرار وأحمال القصب.

في مصلية «أبو موسى» خلعوا أثوابهم ورموا بأرواحهم للنهر، سبحوا حتى البر الثاني وعادوا ثم خرجوا من الماء. قال ولد لـ«عبد المولى»:

- يقولون إنك تخاف من الجمل!

- في الحلم.

- يا ابن أمك .. حد يخاف من جمل؟

- الجمل عدو.

- أصلك خواف وابن خوافين.

ولما لم يجد هدومه سأل العيال: «أين هدومي؟» .. ضحكوا منه، والتفوا حوله عاريًا. كان وسطهم تظهر عورته، وتبدو مؤخرته مكشوفة للعيال .. صرخ فيهم: «هدومي يا أولاد الكلب» إلا أنهم أخذوا يجرسونه في زفة عيال صاخبة صائحين بصوت له إيقاع موحد: «هم يا جمل.. هم هم هم هم.. هم يا جمل.. هم هم.. هم هم..».

في الليل، شرق في المنام .. نهضت أمه واستلفت من الجارة «طاسة الخضة» ووضعتها بمائها على السطوح حتى الصباح .. شربها لما قام، وفي الليل هاجمه الجمل.

ظهر الجمعة، حضرت خالته للدار، خالته التي يلوذ بحضنها، والتي تحبه أكثر من أمه .. دخلوا «المندرة» التي تشيع بها ظلمة خفيفة وسمعها تستحث أمه:

- النار يا أمينة.

دخلت أمه تحمل إناء الفخار، مصفوفة عليه قوالح لها شكل الهرم، طابت نارها واستقرت حمراء كعين العفريت .. وضعت أمه إناء النار وسط البحراوية ورمت فيها البخور فتصاعد برائحة ذكَّرته برائحة المقام.

كان يجلس بجوار الجدار، يده في عبه وينتظر .. تلتقط أذناه أصواتًا بعيدة من مكبر للصوت معلق على مئذنة المسجد، فيما تهب زمتة الظهر، ويهب صهد النار على وجهه .. نظر أمه تخرق عين العروسة الورق وجسمها بإبرة، وسمع خالته تتمتم بأدعية غريبة على سمعه .. تستجير بالله في جرأة لم يعهدها. كأنها تراه بالقرب منها، يحتل إحدى زوايا «المندرة».

- ارفع عن ابني خوفه فنحن ناس في حالنا.

صاحت في الولد:

- قم يا عبد المولى خطِّ النار.

نهض مذعورًا ومع خطوته الأولى سمعها:

- الأولى باسم الله.

وخطا النار الثانية .. فسمعها تقول:

- والثانية باسم الله.

وخطا النار الثالثة.. فسمعها تقول:

- والثالثة باسم الله.

«حتى خطوت النار السابعة فوجدتني في دنيا من دخان، لها رائحة المسك، وبها تجثم المخاوف، ورأيتني أمد يدي لشيخي الذي يخرج من الدخان بعمامته الخضراء ولا يبتسم، ضاع مني وجهه لما سمعت خالتي تصيح بصوت له نغم قراءة التعاويذ».

- السابعة رقيتك واسترقيتك من عين حاسد شافك ولا سمى .. فرقت عيني وعين خلق الله على الله .. رب المشارق، رب المغارب، ولا يغلب الله غالب .. ربي يأخذ بيدي «وتغير صوتها واختلج، وخُيِّل إليَّ أنها انفصلت عنَّا وكأنها تحادث أشباحًا تلبد في الأركان».

وعادت تتمتم:

- العين الغبية، الخائنة الردية، قابلها سليمان النبي تعوي عواء الذئب، تنبح نباح الكلاب، قال: اطلعي يا عين الأذى من جسد الصبي كما افترق الندى عن طلع الشجر .. يفك ويزيح عن بدنك يا عبد المولى يا ابن أمينة .. حجاردة، بجاردة، من كل عين سارجة، طقت الحجر واطفأت سراج النور، ولمعت في الظلام بالأذى .. يفك عنك الهم والغم، ويمنع عنك الخوف والضيق. رقيتك من عين مشحونة بالمناجل، باسم الله الشافي المعافي».

رمت بالملح في الأركان، وألصقت عروس الورقة في جدار الطين.

وكنت وسط الدخان خائفًا من أمي وخالتي، ألوذ بالجدار حين رأيته أمامي يجتر غذاءه في تؤدة، يحدق ناحيتي بعينين مستقرتين وكأنما جاء على رائحة البخور والرقى. نظر ناحيتي فصرخت .. انتبهت خالتي وأمي فصاحتا: «الجمل .. الجمل».

كان بلا مقود، يحرك فكيه في حركة رتيبة ومنتظمة، وينظر تجاهنا. وكنت أرفع ثوبي، وأبدو بعورة مشكوفة، أنتفض من خنقة الدخان ورؤية الجمل المفاجئة.

قبضت خالتي على حفنة من الرماد وألقتها في وجه الجمل وصاحت فيه:

- حل عنا يا لعين، فالولد حيلة.

الصبح سرح مع أبيه.

أخذه الرجل حتى مناخ الجمل وقال له: «انظر يا عبد المولى. جمل لا يؤذي». حاول هو الاقتراب لكنه خاف، ولم يرد أبوه أن يضغط عليه، وتركه وذهب إلى ذيل الأرض البعيد.

لعب حول المربط وحاذر الاقتراب من المناخ. طارد فراشة محوّمة وخاب في الإمساك بها.

حدق تجاه الجمل. يقف تحت النخلة بطوله، وعنقه الممتد حتى سطح الخص المقام على المربط.

رآه يتحرر من قيده، خالعًا الوتد المربوط فيه.

ينطلق عابرًا القنطرة بجسده الأشهب وظهره العالي من غير عدة.

فوجئ الصبي فحدق فيه وأسلم ساقيه للريح طالبًا جسر المصرف. فيما يقطره الجمل.

- الحقني يابه.

اندفع يعدو بعزمه، والكيان الهائل يجد في أثره ولأخفافه صوت كمطرحة العجين.

كان عبد المولى يلهث مكروش النفس وقلبه يدق بصدره، يحدق في الفراغ الممتد أمامه ويشعر بتلك المصيبة التي تطارده:

- الحقني يابه .. الجمل .. الجمل.

صاح الأب:

- الخزام .. شد الخزام يا عبد المولى، واثبت مكانك.

بال الصبي بين فخذيه، وهدر الهجين، فيما ضاقت بينهما المسافة.

- اقف يا ولد.

(ووقفت ينتفض قلبي، وكلما اقترب مني تحدر مني البول، إلا أنني شعرت بشيء لا أعرفه يتصاعد من قلبي إلى يدي، وجعلني أهتف: العمر واحد، والرب واحد .. قابلت الجمل. هدفي الخزام الذي قبضت عليه، شددت بكل عزم الخائفين. رجع الهجين بظهره، فجذبته لقدام، ناضل الجمل وشرع يرفع رأسه يريد سحبي، إلا أن أنشوطة النار وضربات يدي جعلته يذعن وينعر.

عيط الجمل بصوت كسير وناح. ورأيت لعابه يسيل على شدقه في مذلة، ورأيت أبي يعدو ناحيتي وبيده فأسه، ولما رأى الجمل يطلق صياحه قال لي: «برّكه .. برّكه.. نخخه».

ولما ناخ الجمل وقام .. ثم ناخ وقام .. سحبه «عبد المولى». وكان يحمل بيده عودًا من التوت، ويرفعه أمام عين الجمل. وكان يشعر تحت رجله الحافية بتراب الطريق الساخن بينما ينظر الأب ما حدث وهو غير مصدق.

 

زبيدة والوحش
نص «1»:

طوَّقت عنق الفحل بالخرزة الزرقاء المباركة، والحجاب الحارس، والعظمة البيضاء الشائهة، والجرس الصغير الذي يصلصل كلما اهتز رأس البهيم.

طبطبت على العنق فدس الثور خطمه في صدرها الغني. ضحكت زبيدة وحلت مقوده وخرجت من الحظيرة.

رفع «أبو سلامة» هامته لما رآها خارجة وقال:

- اسقيه، ومشيه حبة علشان يفك عضمه.

ردت عليه:

- حاضر يا خويا.

مشى الموكب بجلال حتى النهر، يصلصل الجرس، وتخطو الجليلة بجسمها الفارع على تراب السكة، تقود فحل الدار عبر طقس كل يوم في انتظار مقدم طالبات العشر.

الظهر صرخ الذي هو صاحب العجل:

- يا ناس حرام، التور معشر النهاردة تلات بقرات، وانهد حيله. أفقده يعني؟

رد صاحب البقرة:

- يا أبو سلامة البقرة صارف، وطالبة العشر واحنا جايين من آخر الدنيا هايجة وفضحانا في الجيرة كلها. مفيش مخلوق إلا لما نطت عليه. جاموسة تركبها حمار تركبه. خايفين لتبرد وتعدي عليها السنة وهي فاضية.

- يا خلق م التيران مالية البلد.

- وهي دي تيران يا أبو سلامة؟ دي معيز.

وتأملوا الأدهم المتوحد الذي يزرر أذنيه وينصت للريح أعالي الشجر. قوام مشدود، وكتلة من عضل. تجعدات على الجبهة. وعيون ساحرة. مدهشة، تمتلئ بطمأنينة وتنظر بعطف ناحية الغيطان.

- وهو فيه طلوقة في الجيرة، وجيرة الجيرة زي عجلك؟ ده يساوي وزنه دهب.

خمس بكفه. واستعاذ من الشيطان الرجيم وتمتم: «ومن شر حاسد إذا حسد». جابه الكلام ونخ. وعاد يتأمل ثوره في محبة. بينما ارتفعت يده تربت على زنده. قال وكأنما يتكلم مع نفسه:

- أمه سنويًّا كانت بتشيل عجلين، لكنها لما ولدته كان لوحده.

صعدت «زبيدة» كوم السباخ، وبدت بقامتها المديدة للناظرين بهجة. صاحت في أخيها:

- خف عن العجل يا خويا.

ضغط «أبو سلامة» أضراسه وقاوم غضبًا مفاجئًا، ثم أشاح بيده وشخط فيها:

- اعملي شاي يا زبيدة.

توددت البقرة وتمنت. ولحست خطم الثور بلسانها الخشن فلم يحن، وظل ناعس العينين متعبًا، يقف مجترًّا طعامه غير مستثار. يهرش له «أبو سلامة» ظهره فيما يهش بذيله ذباب الجرن في قطعة الصيف.

خارت الأنثى طالبة. يأكل قلبها الحنين والرغبة في الوصال. ضربت بذيلها الهواء كاشفة عن عورتها أمام قناطير اللحمة الهامدة، والتي يكسوها جلد متفصد بالعرق.

زغده «أبو سلامة» في زنده بسن «النأز» السنط وشخط فيه:

- اللي يشوفك يا خويا دلوقت ما يشوفك الصبح.

استدرك:

- يا خلق ناطط تلات مرات. ده حتى يبقى افترا.

هب هواء بؤونة من الأجران حاملًا غبرة التبن وترابه الجسور.

هم الثور، لكنه تراجع منكسر الخاطر. دار حول نفسه وخرج خواره تنهيدة متعب، ونظر في عين صاحبه فطبطب على ظهره وأرخى له عنانه وقال:

- مالك يا أبو السباع؟

ربت صاحب البقرة على زنده ورجاه:

- هم يا أبو السباع أمال.

أنين دامع لنوارج دوّارة من أول النهار حتى آخره المقضي. ثيران صابرة تدور على رميات القمح مشدودة الحبال لا تكل من الدوران، وفصد عرق الجباه. ما كل هذا الصبر الذي تحمله في صدرها الثيران؟

من طلعة نهار الإله حتى مسائه، تدور، وتدور تنفرط حبات السنابل، وتكوم الكيمان على أرض الجرن في انتظار أهل السبيل ومستحقي الزكاة لأخذ حقهم المعلوم. دفست البقرة مؤخرتها قرب زند العجل، وخارت بكل عطش رغبتها في العشار. تطلعوا ناحية الأرض «البرايب» الشراقي التي تنتظر دورة الري.

سخن فحل الدار، وجرى دمه في العروق. خار بصوته الغليظ وأرسل نداءه الحيواني منبهًا ابن آدم الواقف أن الطبيعة تستجيب. وصلت رسالة الذكر للأنثى فدبدبت بحوافرها وحنت ونطحت الهواء واندفعت ناحية الثور واثبة عليه. صرخ صاحب طالبة الوصال:

- البقرة هتنهبل. اهمدي الله يهدك.

وضربها بمقودها على وجهها وتفل، فجعرت في خلقته فصاح:

- غرايب. حد شاف كده؟!

ثم وجه كلامه للثور:

- ما تشد حيلك يا أبو السباع.

«وكنت أقف بدهشتي، وصغر سني، أفهم ولا أفهم، يأخذني ما أراه وأتطلع من فوق سياج معرفتي الأولى، وأجتاز بلا إرادة كالحلم المسافة بين ضربات قلبي ورعشة دمي، وأعود محاولًا فهم ما تصنعه البنات بي عندما نلعب في ساحة الدار عروسة وعريس».

همَّ البهيم ووثب وثبته، حتى إن صاحب البقرة صرخ:

- خلاص أهه. سخن دمه.

انحطت قناطير اللحمة راكبة الجسد الرقيق المطاوع فانهدم على الأرض واقعًا تحت جسم الفحل الطلوقة. سحبوها من تحته فهمت واقفة. لمعت عينا «أبو سلامة» بالبِشر وابتسم وقد ردت الروح لبدنه وصاح:

- أيوه يا سيدي أيوه. لا تحكم على الثور الأصيل وهو على المزود. احكم عليه وهو تحت الناف.

وصفق بيده وقال باستحسان:

- الله. الله. يا أبو السباع.

«وصلصل الجرس في رقبة البهيم وانبسطت لما انبسط أبي. وحين رأيت عين الحيوان حمراء مثل عين الجن. وسمعت لهاثه كصوت كور الحداد قلت: أنتزع من نفسي مخاوفي وأتبع دمي وألبد عند (مرادة) النساء وأرى أفخاذهن العارية في المياه. وقلت: عليَّ ألا أخاف في الليل من عين العفريت الحمراء».

رمت «زبيدة» الضفيرة السلب على الظهر المفرود، فطالت الضفيرة الخصر النحيل وخطت خارجة من الدار تحمل صينية الشاي يستحثها لهاث العجل. تمتمت لنفسها: «مرة ومرة هيجيبوا أجله». وحركت الملعقة في الشاي وجاءتها كركبة وطء اللحم الحي للحم الحي، والقوائم بحوافرها تذرو العفرة وتعلن عن اشتباك الدم بالدم.

وقفت على العتبة بين ذكر النخيل وجوفاية من غير ما ظل. يشرئب النهد الرمان، والقامة المديدة، فيما تطحن «زبيدة» أضراسها من الغيظ، وتحدق في المشهد بغضب العينين المكحولتين بكحلهما الرباني.

- هيه.. هيه.. ارخي له الشحاط يا أبو سلامة هيصبها أهه.

اندلق لسان البقرة وانساب لعابها من شدقها المفتوح فيما يركب الفحل بثقله. الثور من تعبه ضل طريقه فامتدت يد «أبو سلامة» ولقفت عضوه الذي في رفع سيخ الحديد المحمي وألقمته رحم البقرة.

وانقضى الوقت، ورأيت من بين الطواقي الصوف البقرة الحرون ترخي جفونها وتستكين وكأن عروقها قد ابتلت، ونظرت في عيون البنات الواقفات وابتسمت فيما أشحن بوجوههن عني، ورأيت عمتي «زبيدة» تهوي من يدها صينية الشاي وسمعت أبي يقول لها: «فداكي يا زبيدة».

قبض «أبو سلامة» عرق ثوره جنيهات عشرة، وضرب مؤخرة البقرة وضحك ضحكة صافية جابت آخر الحارة.

- مبارك يا عم الدخلة. والبركة في الخلفة عيال وعجول.

ونادي أبو علي: يا الله، يا «عبد المولى» حمّوا العجل! ولما سحبته سار خلفي طائعا كالماء، وخيل إلي أنني أسمع ضربات قلبه، وأرى في عينيه التعب. أخطو على تراب الطريق تسبقني شمس المغارب الاحتفالية. كنت أرتدي قميص أبي حيث يمتد كمه فيخفي كفي، وكنت أسمعه يتحدث عن الشمس الحرة، ومحصول الغلة، والناس الذين أصبحوا في عدد النمل، وكلما اقتربنا من الماء ضوى، وحلقت طيور راحلة وسمعت ضرب أجنحتها، وصوت غنائها، وزحفت الثعابين في النسيلة، وانفلت السمك سابحًا، وزاط العيال خلفي: العجل هيستحمَّى».

كسرت العمة «زبيدة» وجه النهر بالطشطية النحاس، وملأتها وخرجت إلى الشط. وكان «أبو السباع» واقفًا بين المربط القديم ومرادة النساء. دلقت على الجسم الحميم الماء فانساب في خطوط على الأرض التي ارتوت. دعكت جسد البهيم بقبضة من قش الأرز في حماس غجري، تسرح يدها على الظهر وتهبط أسفل البطن، وتصعد إلى الزند. حماس اليدين، وجسد الشابة المتوثب، ودفق الماء على الشط في احتفال حموم العجل آخر النهار، بهجة وشبعة للعين. سقطت طرحتها عن رأسها فبان شعرها المضفر يتطوح كلما اهتز بدنها. وجهها المليح بغمازته على الذقن، والخال على الخد في حجم العنبة النباتي.

صاحت الجارة «حميدة» من عند المرادة:

- جتك إيه يا زبيدة. البنت يا أختي بتحمي العجل ولا العريس.

شخطت «زبيدة» في الجارة:

- سدي حلقك يا مرة. ده ضفره برقبة المحروس جوزك. مدخل الدار النهارده خمسين ورقة ما يدخلهمش فحلك ولو اشتغل في الفاعل، لو زحف على بطنه.

ربتت على ظهره وهمست لنفسها:

- تسلم. فاتح الدار، وطاعم العيال.

«وضربت بيدي الماء، فأغرق العمة التي كركرت بالضحك في حنية، ورأيت فرحي بالماء على وجهها، ولما كشفت عن رجلها بان طرف سروالها المنقوش بالورود، واكتشفت في اللحظة أن عمتي طول الفرع، ووجهها منتهى الجمال. خُضتُ في الماء ورششتها به فاحتمت بالعجل مني وقالت لي وهي تضحك: لا.. لا.. يا عبد المولى هتبلني.. ثم صاحت في وهي ما تزال تضحك: بس.. بس انزل وخد لك غطس».

* * *

المغرب على البلد خيمة من غيم.

احتضر النهار، وسربت الكوانين دخانها، لكل دخان رائحة. قطيع العائدين للدور باحثين عن مراقد لجنوبهم، عابرين السكك الجربانة بتبن الدراس، وموحولة بجلة القطعان الآبية.

يأتي الليل ويصعد القمر آتيًا من عند شباك النبي، وتتجلى الليلة من ليالي التمام فيما يفوح زهر الليمون من جنينة «العراينة».

ألقى القمر بغموض ظل الثور الجاثم على مربطه فانطرح ظله على اليمين.

«ولما أشعل أبي النار على يمين الثور انطرح ظله على الشمال، ورأيته يمتد، ويطول لما ارتفعت النار وعلت، وكدت من فرط ولعي أقف فوق خياله، إلا أن عمتي نهضت وأحضرت الدف وأخذت تضربه ضربات خفيفة أول الأمر، مألوفة وتحدث كل يوم، حتى إنني قلت: هي التي لا أحلم إلا على فخذها .. ثم ألقيت برأسي وكنت أرى أبي وهو يلف سيجارته على وهج النار ويبللها بريقه وأسمعه يقول: الله .. الله يا زبيدة .. ثم يشرد لبعيد، وعلى غير توقع اشتدت الضربات وكأنها تخرج من داخل مغارة مسحورة فيما يطول خيال الثور ويمتد، نغمات كالتي كنت أسمعها عندما تأخذني أمي يوم الجمعة لزار «أم حمامة»، كان رأسي على فخذ عمتي أتطلع ناحيتها، يهتز جسدها في إيقاع رتيب مع ضربات الدف المنتظمة، وأنظر بشغف، يغزو قلبي دفء الضربات، وحركة الجسد الرتيبة «بوم بوم .. بيوم .. بوم بوم ببوم» تنفتح أمامي عيون البراح وأصعد مرتقبًا ناحية النجوم البعيدة وأقطف حباتها الخافقة .. حبة لأبي الشيخ .. وحبة لعمتي الأرمل الجليلة .. وحبة لثور الدار طاعم العيال، الذي أركبه الآن ويركض بي حتى شباك النبي».

* * *

الصبح بدري، نهض «أبو سلامة»، صلى وأفطر وتوجه ناحية الزريبة. دفع بابها فلم ينفتح، كأن شيئًا يعوقه. دفعه بكتفه فانزاح. مرر جسده بصعوبة. كان الأدهم الحكيم مرميًّا على جنبه، يسد رأسه فتحة الباب. ركع الرجل على ركبته يتحسس ثوره وتاه في الأسباب. همس وهو يتأمل البهيم: «يا خرابي» إلا أنه وهو في العتمة التي بدأت تزول رأى أخته «زبيدة» الأرملة الجميلة ذات الثلاثين ربيعًا، والتي تعيش خرافتها تحني جسدها – له المجد – وتخرج من رضاعة ثوبها ثديها الأيمن الذي ينير عتمة الزريبة من غير زيت، وتقبض بكفها عليه وتعصره بنشوة جليلة، مشبوبة، فينساب سرسوب اللبن في خطوط حيث التخوم البعيدة، تخوم عشق الحياة والموت.

 

نص «2»

ما الذي جعلني بغير إرادة مني أندفع في محاولة اليائسين داخلًا متاهة البحث هادئًا وناظرًا بحكمة من ورثوني الحكمة بقصد تعرفي على ذي القرنين كأنني بلا احتفاء رأيت التي في بيتها أنسل منها نسلًا يفيض بفيض الله الذي لم يخلق الأرض وحده والذي لم يسترح فاختلط بظله وامتشق في يدي خلودي الذي قرأته لي في طالعي امرأة جوابه وانتهى بأنني حاولت وصل دمي بدمه متأملًا جسده الخصيب في جرن الخراب أمام مثوانا وأنني – وأنه – من فرط تشابهنا ومنذ صبانا عند ذات الشعر المستحمة في دمنا أتأمله بدهشة النظر مجسدًا على غابر الجدران التي هي من صخر يخطو مرفوع الهامة في مواكب الملوك الذين يجلسون تحت الشجرة المقدسة على عروشهم التي تخجل الشمس في فجر الطلوع الأول في انتظار تسجيل أسمائهم على أوراقها التي تهب عليها من أبد الآبدين عاصفة تراتيل التمائم التي طوقت بها عنقك قربانًا لستر عورتي وفضيحتي يوم أن أموت وتسير أمامي في موكب روح بتاح إلى منف البعيدة القريبة جارًا عربة الملك في وقت اقتراب الروح من الجسد ليعم الوادي حزنه المقيم وينتهي كهنة الجرم السماوي مبعثرين تحت السحب الراكضة ناحية الشمال سائرين فوق الماء الذي يأتي بفيضانه من الظلام إلى النور الذي يأتي في وقته والذي يذهب في وقته والذي لم نكن نعرف إن كان أنثى أو مخصيًا؛ فالبجعات والحروف المفاتيح والأهلة المقلوبة وخط المسمار ينقش على لوح العاج النوبي والأكف القابضة على مصائرها وأنت وسطها تدفع بعظام رأسك المشرعة الخوف عن طلعة الشمس التي تحاذر الاقتراب من المغارب التي تشرق من مطلع النوم حتى بدر التمام والتي سوف تشرق في ظلام الليل وفي النهار الطالعين بحتمية دورة الكون ليقص الأفضلون من سبقونا الذين تثغو نعاجهم عند المزاود للذين علقوا على أخشابهم والذين وعدوا من وقعت الكرة بكم ثوبه بإرث ملكوت العالم؛ حيث يضربون بالمنايا على طريق رمح الجياد لتتفتح البحار على المثاوي الجديدة وتنفرج أبواب السموات لتنزل الملائكة المجنحة بالنور وتهتف بنا هو المقدس جعلنا حراسًا لطبقاته الملونة التي أجلس تحتها في حقل قطننا القديم أختبر بلوغي فوق طين المراوي وتحت الخروعة وألعن صبى أيامي ورفيق رحلة الشؤم من بدء جمع نور القمر في الحارة الذي جعلني أشعر بالإثم من لذة الدهشة الأولى واكتشاف مني على ثوبي وصرختي في البراح عندما رأيتك في قطعة النهار تناوش مرة ومرة ومرة فأدرك بادئ ذي بدء أن المجد في الخصوبة التي تجلس على يمين الله الذي عرفتني به جدتي وقالت لي: انتهِ للسجود فلم أسجد لأنني منذ البدء حلمت بامتطائك أيها الأسود المرقط بالبياض لتشرع عظام رأسك وتنطلق قبل الغبش لتمسك بذكرى الراحلين الذين تركوك صبيًّا عند المدار بين اليد التي تجعل من حبات الذهب عدوًّا للطوى والمجاعة؛ حيث تذرو الحارات وأزقة الظلام والوحل وجسور المصارف ساحات القرى وصحن المسجد الجامع ورواق كنيسة الأم العذراء بالأقدام الصغيرة المخالب وزغب الطيور الأخضر في دفء الأركان داخل البيوت المظللة بظلال مصابيح الغاز القديمة والتي هي منذ الأزل مراقد لجنوب الآلهة المتوجين والتي لم تكن أبدًا مثاوي لجنوب الفقراء الذين تدب أقدامهم فرحين عندما يسمعون صوت خوارك في أزمان العشار فتفض الطبيعة سترها وتنفضح عروق الدم عن عشق الولد والفسق بالمحارم وضرب أعناق الرجال بالفؤوس والشقارف والبلط اللامعة المسننة ويرون سرسوب اللبن وخرطة الجبنة القديمة التي تسكن بيت الفخار من ألوف السنين وعمتي، عمتي التي هي في ضميري أراها خارجة من شفافية حلمي عابرة جسور أيامي المهيضة رأسي على عظام فخذها فيما أصعد معراج النجوم أقطف حباتها نجمة للنار ونجمة للتراب ونجمة للماء ونجمة للهواء ونجمة لحكايا العمة وللرواة أهل السكك والطرق وعبدة صنم الصحاري حول ركية النار وضرب عصف الشتاء للشيش الخشب وقطف حزن عيون الصغار المندهشة بالعجب وجمعها حروفًا أتوكأ عليها في شيخوخة زماني وأواجه بها الدعي والظالم والكاره الحقود والخدام وخصي السلطان والفقير الشرس والمدمن الأهتم قليل الأصل الذي يود أن يدفع بخيباته إلى ضميري هاربًا منهم ضاربًا جنبك بمهماز الريح مندفعًا إلى آخر المصائر باحثًا عن طلة الموت المستقر في بئر حديقة الدار بجوار حدائقك الملكية التي يحوط مزارعها عباد الشمس لتنطلق تراتيل المصلين الحروف الطيور وينفتح عندها النظر الخؤون برؤياي فأمشي خلفك بيدي تميمتي وخبزي وغموسي أخاف من أن تتبعنا ذات الهامة المديدة من تعيش خرافتها وزمن خصوبتها بعد أن فارقها من كانت تحلم به في حلمه قبل أن يفارقها والتي أحسست بها خلفي بعد أن مشينا فوق صفحة النهر خلفنا الساسبان والحلفاء وبوص الشطوط ورأينا هجرة الحمام من بيوته ذات السموق سمعتها تهتف: القمر عند شباك النبي، أين تذهبون؟ وعاودني خوفي حينما انطلقت بالماء تملأ البيادر بالقوت وتكسو البدن بالكتاب وغزل البياض الشاهق وتنتح بجرار الطين الماء لتسقي فلوح الأرض بأنين الحديد الذي يعب من بحر يوسف النبي طينًا وسمكًا وخبزًا وأحلامًا؛ حيث يشد جسدك إلى النير وتفصد الدم على المدار دورة ودورة ودورة، والعين للأدهم تحت الغومة في ظلام العمى دورة ودورة ودورة تنتج الماء من بئر يوسف النبي الذي انبجس من بين أصابعه العشق والدم وأول الخراب وتخط خطط القرى نبتة وشجرة وحارة وضريحًا لأبي الذي رحل ممتطيك يلتف بكفن الكتان لا تبدو عيناه ناظرتين إلى من هجر دياره السنوات والذي لم يودعه حينما دفعه جنونه للرمل والمدن البعيدة وتسلله عبر أسوار الخصيان واللواط ومحدثي النعمة ومواجهة المدى المطلق للموت والسماء تبدو بلا غيم؛ لأن البحر بلا غيم ينطلق حاملًا نعش أبي ناحية المغارب، حيث تطير طيور بمناقير من نحاس تصيح فتذكرني بأيام كنت أعشق فيها النهر والحارة وجوادي الأشهب وأسمع نداءها في الفجر الملك لك، لك .. الملك أنتظر أنتظر أنتظر وأرفع القناع عن وجهك فهو قناع الحكمة ولا تحدق بعينيك تحاول قراءة فصل الغواية من قلبي وأنصت لصوت الماء الذي يخر ويرسم على التراب المصائر ويصلصل جرسك في السكون بالصدى الجليل حيث الخطو على التراب .. أنتظر أنتظر أنتظر فمن يحلم بعودة الوثن وانطلاق الغرائز والإنصات لصوت زخات المطر فوق قبة الجامع ورؤية قيعان البيوت المدهونة جدرانها بالطين والتبن والمكبوسة بدخان نار الشتاء والتي فقدت المؤانسة حيث تجلس عمتي تخيط ثياب من غابوا وتكوم كسواتهم في انتظار عودتهم غير سالمين، المجروحون في قلوبهم يأتون في زمن الذبح الموروثة بأيام الجوع والسطوة من الخصيان والجند، كل تلك الألوف من السنين .. انتظر انتظر انتظر ودعني أتبعك حتى سطوح آخر شموس جمع الثمار وري الأرض وظهور الأقمار السبعة ومثاوي الرقاد .. زبيدة زبيدة زبيدة ضوء قبل المغيب وآخر اختيار للموت والصعود المبكر ناحية سلالة الدم التي من طين ولبن يضرب دفك بلغة الريح والحلم مذرى بها في الأنحاء بالموشح والموال والشفاعة وحلقة الذكر في المواسم وتعلو على القباب المنيرة بألق البيارق وصفوف الدراويش أصحاب الكرامات والأجساد الهزيلة الملمومة في لمة متآلفة بنثار من صراخ المغنين والمصروعين المركوبين بالجن والشيطان والعاشقات المغنيات أهل الطرق وناس السكك وأصحاب الخطوة وطقس السرادق والصواري الملونة الرايات احتفالًا بالميتين الطيبين الأوفياء أصحاب الذكرى السابقين الذين لم يمحُ أوقيانوس الماء عطر ذكراهم .. انتظر انتظر انتظر أيها المندفع لقدرك، قدري هناك عند المغارب لأنك رأيتها تخرج حية عارية من رمسها من غير ثوب يستر بدنها محاطة بنسلها الكثر في العراء من ألوف السنوات تفجر الخصوبة عيالًا وثيرانًا وطيورًا ونملًا وثعابين طالعين من الدم يحذرون حقيقتك – حقيقتي – انتظر انتظر انتظر.

تجرد من ثيابه فيما كان يطلع النهار، لم يكن أنثى ولم يكن ذكرًا، ينتشي بذاكرته الحية وينتهي إلى ما اعتقده بيقين لا يعرف الخوف منذ طفولته بأن الرؤية غير الرؤيا وبأن ما يوجده الخيال غير ما يوجده النظر وأنه أمضى طوال عمره باحثًا في البراح عن عمار لروحه، وسكن لاعتقاده، وحينما ابتسم في الضوء الوليد وقبض على ثديه الأيمن وضغطه بعشق الحياة والموت فاندفع حيث التخوم البعيدة سرسوب اللبن فغشيت الدنيا بغاشية البياض.

 

الجواد للصبي.. الجواد للموت

عن الميلاد:
لكز أخته الغافية فاستقامت تهرش جنبها المكشوف .. حدثها عن ثمرات التوت، وبيض العشب وقوارب الورق .. حاذر أن يوقظ الجدة المنكمشة تروح في نوم كالموت تحت اللحاف القديم.

هم وسار حتى نافذة المقعد العلوي .. رأى – ولم يكن يحلم – خلال ضباب الصباح المغلل بألق كالحليب، رأى مهرة الدار الشهباء تصهل وكأنها تسبح في الضباب المغلل، مسجونة بسور من حجر، تدور دورات عصبية، تنخر دخانًا كالغبار.

هبط السلّمات مسرعًا، في ذيله أخته التي قال لها: «حاذري الحجر» .. فردت عليه بأنها سوف تحاذر .. قال لها إنه سوف يصعد التوتة ويهزها .. فقالت له: «لأ.. التوت على الأرض غامر».

جمعا بيضات العشب، وامتلأت بها طرحة البنت، فيما كانت كفه تمتلئ بثمر التوت .. أنَّت المهرة أنينًا متقطعًا .. لحظتها لمح فرجها المفتوح يطل منه ظلفان أخضران، وخطم أسود صغير بينما كان ينساب من الفرج مخاط لزج له قوام كثيف، يمتد في خيوط ممطوطة حتى أسفل الكفل.

أُخذ الصبي وارتعش .. كوَّر قبضته وتحرَّك من جانب الجدار وأسقط من راحة يده الأخرى ثمرات التوت .. صاح مذعورًا «المهرة تلد». هوت بيضات العشب من طرف طرحة البنت وتكسرت فيما كانت تجري نحوه .. أخذها من يدها وأشار ناحية فرج المهرة المفتوح .. قال لها: «انظري». ولما رأت خطم الوليد، ورأت الحلمات المتوردة بالحليب فزعت وصاحت مستغيثة: «الحقونا .. المهرة تلد».

حدق في عين الشهباء وراعه مدى اتساعها، رأى اختلاط السواد بالبياض في حور العين الدامعة .. هتف صارخًا: «يا ربي .. المهرة تلد». ودار حولها وكانت تهب رياح صباحية اهتزت لها الفروع.

صاح بأخته: «نادي أباكِ». ولما كان وحده بلا حول ولا قوة صرخ: «الحقيني يا أمَّا .. المهرة ستموت».

وكان صوته ينسل عبر الفجوات الطينية يطرق أبواب الدار حيث الأم والجدة ذات النظر الشحيح والبنت تندفع ناحية شرق البلد حيث الأب في حوض النجار .. على البنت الآن أن تعبر القنطرة، وتقطع حارة البحر وترى طيورًا بيضاء راحلة لها أجنحة منشورة وترى الرجال يسرحون وترى حجر الطاحونة مركونًا على باب الطاحونة المقفل.

هرولت الأم نازلة السلم بيدين ممدودتين ورأس مكشوف .. رأته الأم وقد شمر أكمامه وأخذ يشد ظلف المهر الوليد الذي ينزلق منه منفلتًا، بينما المهرة الأم تدق الأرض بقدميها، مادة عنقها الطويل، تجأر باختناق تستغيث بالغلام وبالأم التي تشارك في شد المهر عبر بوابة الحياة.

أطلت الرأس بعينين مغلقتين ونفرة مبلولة بمخاض الميلاد .. صاح بأمه: «شدي يا أمَّا .. ها هو يبدأ الصعب» .. عفر يده بالتراب وأخذ رأس المهر في حضنه وصاح بالمهرة الشهباء مستغيثًا: «ساعديني» فهمهمت وضربت الأرض بقوادم من حديد.

انزلقت قطعة اللحم الطرية إلى الأرض مستحمة في مائها معلقة في مشيمة رخوة لها لون الدم .. حاول المهر الوليد النهوض بقوائم خضراء ضعيفة لم تسعفه، فهوى على جنبه يهتز رأسه.

حدقه بنظرة الاكتشاف الأولى وقال لأمه: «مهر يا أمَّا .. ذكر .. انظري».

تلحس المهرة الأم وليدها الضئيل المرتجف، والوليد ينفر بمنخرين مسدودين ماء الولادة، والصبي يدور حول المشهد مفتونًا يستحم جسده تحت قشرة العرق، مستقبلًا نضارة هواء الصباح من الامتداد المفتوح لأفق صحو على أول النهار وآخر الليل، صائحًا بأمه: «هو جوادي وسوف أسميه عنتر».

 

عن الجواد والصبي:
انفلق الصباح واستيقظت البيوت فوق الأرض .. هي الزروع عبر مرمى النظر وبعد النهر تتجعد أوراقها وتطلق لهاثها للأرض المحروثة.

الصبي ذو الجدائل السوداء، والوجه المدور الباسم، والنظر الحديد ينهض من نومه يحمل دلو الماء، يتجه ناحية الطلمبة المدقوقة في الساحة البرانية أمام الحظيرة العجوز، يملأ الدلو ويخطو ناحية المهر ابن الحولين .. يراه أزغب حليبيًّا، مستديرًا وقد استطالت قوائمه وانفرطت عفرته في كثافة شعر العذراى .. وكأنما فوجئ به يقف مربوطًا على طاولة من طين النهر بعينين تحددت سعتهما، وبخطم ملموم مستطيل ينتهي بشفتين مضمومتين على أسنان قوية.

مسد الصبي ظهر المهر بيد حانية، فنفر ووسع عينيه ثم شبَّ يصهل .. عاد ومسد ظهره فدار حول نفسه .. خرجت البنت «هانم» وحكت ظهرها بالجدار وقالت له: «ماذا تنوي اليوم؟ اصطبح وقل يا صبح».

عين الصبي في عين الجواد .. خيوط من الحنين، ومحبة النشأة ورفقة الحولين .. حظيرة في الظلام تفوح منها رائحة الوحل والروث الأخضر وزمتة الحبسة .. هي الجدة تلبد تحت بطن الحيوان، فوقها شعلة لمصباح مدخن، تشد الأثداء الناعمة المدرة بالحليب .. يزحف هو إليها ويفتح فمه ومن الثدي لحلقه يشخب اللبن .. والمهر تحت بطن أمه يمص أثدائها ويدق الأرض بحوافره .. هي الأيام .. الأيام.

ألبسه الأنشوطة فشب المهر ناحية الشمس التي تحدق في عينيه وصرخت البنت وفارقت الجدار، انحنى يرخي الحبل المشدود ويقترب من المهر هامسًا: «هس .. هس .. ما لك عنتر؟ .. ما لك .. خائف؟».

شخر فأعطاه يده، لحسها المهر وشد أذنيه .. طبطب على زنده فشب المهر على قائمتيه الخلفيتين.

ومن فرط ما ارتعب الصبي انقذف مصطدمًا بالجدار ويده تستميت على الأنشوطة .. على صوت هبدة الولد خرجت الأم عارية الرأس مرتاعة .. رأته قرب الجدار متكومًا .. قالت له: «إن ما جبت لنفسك مصيبة، وانكسر لك ضلع .. ما أكون أمينة».

لن يترك الأنشوطة ولن تفارق عينه عين الجواد: «أركبك كل يوم .. مالك حزنان النهارده» نهض ونظف ثوبه وعاد يمسح ظهر الجواد ويربت عليه .. المهر يتشمم رائحة الصبي الذي يخاطبه في همس.

في اللحظة التي استكن فيها الجواد كان قد فك رباطه، وصعد السور الموازي لظهر المهر وجعل يقول له: «هس .. هس». شعر الجواد بحريته حين انطلق للأمام راسمًا على نحو من ضجيج وصخب ستارة من الغبار تتقمصه رغبة في الرمح نحو الشمس التي تصهل هي أيضًا، يندفع دون تعب راكضًا في الحقول وفي الحارات وعلى شاطئ النهر.

وحينما كان الأب والعم يقلبان «رمية» القمح .. كان الصبي والجواد يخلفان جسر المصرف وينحرفان إلى طريق القناة الضيق، كان الأب يقول في نفسه: «كأنه آخر الجياد، وكأنه آخر الصبيان» ثم يصيح في ابنه: «خف عن المهر لتجيب أجله .. واحذر أن تسقيه وهو متعب فربما مشى الماء إلى قدمه، بعدها ستخسره وتبيعه فطيس لعربجي على باب الكريم بالمركز».

وكان الصبي منشغلًا بمهره وكان المهر يحدق في الفضاء وعبر الغيطان.

 

عن الجواد والبلد:
حيث إن الشمس تشرق من المشارق، وتغيب في المغارب .. وإن بحر النيل لم يعد يطمي وفي شهر «برمهات» قبطي يزرع القطن.. وفي «بشنس» يضم القمح والشعير .. وتكون أيام للحصاد، وتستكمل دورة تلد سر الخير وسر الموت .. وإن الحكايات انقطعت من فوق المصاطب وإن للبلدة مقبرة للأسلاف ووليًّا له مقام ومزار .. وإن لها قنطرة من صخر جبلي لم يعرف أحد مَن بانيها تربط الغيط بالدار، وتكون مثوى لسكان تحت الأرض .. فإن للبلد مهرًا رامحًا في الفضاء الساري، يتواترون أخباره ويحلمون به في عز، عز المنام.

وليد «نجية» الجمَّاعة ينام في ظل شجرة تيل، على رأس غيط قطن .. أمه تمسك خطًّا، محنية الظهر تطارد اللوزات المتفتحة .. الجواد يرعى على جرف قريب .. يخرج الأسود اللعين زاحفًا، متلويًا أملس ناعمًا .. يسمم اللبن في الطاجن والطنجة في الحلة .. هدفه الوليد الملفوف برقع قدميه .. يندفع المهر ناحية الزاحف اللعين وبحافره يقطعه.

تجري «نجية» وتخطف ابنها وتجلس على شط المصرف .. وتبكي .. هل كانت تبكي رعبها، أم كانت تبكي فرحة نجاة ابنها الغافي؟

من عند قنطرة «السكري» حتى دكان «عبد الجليل» فرح ممتد .. أسبتة مغطاة بفساتين ملونة .. «طشاتي» نحاس أحمر بلون شمس العصاري، مليانة بأرز مبيض وأقماع سكر وزجاجات شربات في لون خدود البنات .. البنات البكر بأثداء جامدة مدورة، وضفائر طويلة كالسلب تنام تحت طرح الحرير والشيلان المزهرة. أنغام للفرح و«مغاني» للبكارة في هواء عصاري السنين .. الجواد أول الموكب وآخر الموكب .. ألبسوه كسوة من قطيفة مطرزة بخرز ملون وترتر أبيض يبرق .. الكسوة مشغولة بخيوط بهيجة، رسم للأهلَّة ونجمات آخر ليالي الصيف ونخيل بسعف أخضر، وطيور تطير في براح الكسوة القطيفة .. دقات صاجات وأنغام مزامير «المزيكة» النحاسية المؤجرة من المركز تجعل المهر يرقص في السترة القطيفة، على ظهره الصبي ذو الجدائل، وأمامه خلق صاخبة، وخلق ترفع الشوم وترقص مع الجواد الفارس.

الشيخ راغب الصفطاوي، السامر القديم .. فاتح المندل، وقارئ الكف .. رابط العريس في دخلته .. ومكرّه العروس في عريسها .. يلبس ثوبه «التوتل» الناسل ويكبس في رأسه عمامة وسخة تغطي شعرًا أشيب .. يقف تحت ظل سنطة عجفاء وينظر المهر الرامح ويصيح: «أقطع ذراعي إن ما كان هذا المهر وهذا الولد من نسل الشياطين».

العم سيد مرسي الطيب الصالح .. الأمين على الناس وعلى أسرارهم .. المصلي الفروض جماعة .. مؤذن الفجر في عز ليل طوبة .. يسند رأسه على منبر الجامع ويتطلع بعين ساجية يشع منها الصلاح والتقوى، ويشير بيده ويقص حلمًا يأتيه بعد أن يتوضأ ويصلي وينام .. «هو المهر يأتي مع القمر، في هدأة الليل حينما يكون السكون .. حيث تخلو الحارات والأزقة من ناسها .. أراه أنا العارف بما أرى، عبر هالة من النور على ظهره خرج بعينين .. عين فيها رزق معلوم، وعين مليئة بحبة البركة .. يقف أمام أبواب الدور، فتفتح .. تخرج نسوة متشحات بالسواد .. يغرفن من الخرج ويملأن مخالي معمولة من قماش الخيام .. تكتفي النسوة ولا تنقص عينا الخرج الملآنتان بالرزق المعلوم وحبة البركة».

وفي ليالٍ كثيرة متتالية، كان الصبي يمتطي ظهر المهر بعد أن ينام الناس ويهجعون .. وكانت الشوارع والحارات خالية فيما يتبدى البلد تحت السماء كامرأة متوحدة، مهجورة .. كان وقع حوافر المهر كقرع طبلة، وكانوا يتسمعونها، تأتيهم عبر منافذ الحلم. حيث لا تكون الصحوة مؤكدة وتتهيأ النفس لاستقبال هبوط الروح من عوالم أخرى غير موازية لعالمهم .. ساعتها يظل التساؤل مستقرا بالضمير الغافي .. عن سر هذا الرباط المقدس الذي يربطهم بالجواد ومن ثم الصبي.

 

عن الموت:

(1)

غادرت العمة «ألفية» فرنها الواطئ، محدقة في نار المحمة التي لم تهمد بعد .. ألقمت المحمة الحطب الصائف وتمخضت بشاشها من أنف مدبب كمسمار .. نفضت ما علق بثوبها من دقيق الخبيز. ضربت جدارها بيدين عجوزتين وصرخت وحدتها: «متي تأتي شياطين الجن؟». زام الهواء في قش السطوح .. عبق الدخان واندفع من «المحمة» ملتفًّا، يدور صاعدًا السطوح من المنور الضيق متوزعًا على الدور المجاورة.

وجهها الكالح العجوز به فم خال من الأسنان ولها عينا هرة هائجة تنظر بهما بعيدًا.

«وفي الليل تلتف بسوادها وتخرج مكفنة بالظلام، لا تنظر خلفها ولا تلقي السلام .. تكنس العتب وتتلو الطلسم، وتدفن الأعمال في فتحات المقابر، وعلى جسر النهر تحادث القمر».

- «ملعون الأب، والأم، والبنات البكارة».

قالتها وفتحت «قاعة» معاشها، وبرقت عين الهرة في الظلام.

«جاري ملعون (سلامة) وأولاده .. وجارتي ملعونة (أمينة) زوجته».

صعدت سلم الطين تكحت كآبة سلمها بأظافرها.

«(عبد المولى) تدهسه حوافر فرسه الذي سيدفنونه جيفة».

ألقمت «الوقيد» لفرنها فتوهج بالنار .. سمعت على البعد ركض الجواد الجامح فسارعت تصعد سلمها.

في الزمن الذي كانت تقف فيه العمة «ألفية» على سطح دارها شامخة الرأس، مفكوكة الشعر الذي تعصف به ريح مفاجئة، تهب من ناحية المغارب، تحدق بعين القط – عينها – كان الجواد وسط الساحة، وفي اللحظة التي التقت فيها العينان – عين الجواد وعين العمة - صهل المهر مستغيثًا، وشب على خلفيتيه ثم هوى على جنبه في ارتطام مروع ولم يقدر على النهوض.

انفجر ضحك كأنه السحر، وكانت العمة هي التي تقف في وجه الريح على سطح دارها قبل المغارب.

(2)

في البدء، ضرب الجواد جدار الحظيرة برأسه .. بعدها تتابعت نطحات الجدار حتى تورم رأسه .. تنهَّد أهل الدار حسرة، وبكى الصبي تحت الغطاء، وحبست البنات بالغرف وأقفلت، هزل الجواد وصام عن الزاد، وفكوا قيوده فاستقر بركن الحظيرة ينطح الجدران.

ينهض الصبي ويجلس تحت بطن الجواد وبقلبه شعلة تضطرم .. يسوي له «عرَّاقة» من خيش يلتف بها جسده المحموم، والصبي ما برح يستعيد أيام العدو نحو الشمس وفي الغيطان.

خرج من الحظيرة واستقر على عتبتها، نصفه في النور، ونصفه في الظلمة .. بكى جواده الذي يشيخ فجأة، والواقف في ظل الموت.

أذن العصر وبعد أن أم المصلين الشيخ حسن النواوي، فقيه البلد العارف بالله؛ سحبه نفر من الناس .. مشوا بحارة «الساقية» إلى زقاق «البداروة» وعبروا قنطرة الجامع حتى وصلوا إلى الدار .. أخذ الصبي يد الشيخ الكفيف فمسح بها رأس الجواد وظهره .. تلا المعوذتين وآية الكرسي والصمدية وطلب للمهر الشفاء .. أمَّن الناس وراءه ثم سحبوه ومضوا من حيث أتوا.

حضر محمد فرج، جساس المواشي .. فتح فم المهر وعاين لسانه، وشد جلده، ورأى في العين حمرة، ومسح بحر العرق عن جسد الجواد ثم وجه الكلام للأب: «الحصان نار» .. وأمر نساء الدار أن تغلي فولًا ورجلة خضراء، وتخلطهما بشيح وبذر كتان وأن يسقوها للجواد على ريق النوم .. خرج من الزريبة ونظر للجميع وقال: «ربنا المنجي» ثم رفض أن يتعاطى أجرًا.

من أول الزمان لآخره، يأتي الليل، فتدور الوطاويط وينعق البوم، ويفر فأر من كوم سبخ لجسر مصرف، وينبح كلب بلا صاحب أو مأوى، ويمضي الليل، ويلم البلد شمل النجوم، ويشتد حصار الوقت.

«أمينة» الأم .. سيدة الدار .. الربة المقيمة على رأس العالم الصغير .. ترتب فرش العيال، ثم تحلب الجاموسة، وتقطع الجبن خرطًا صغيرة بحجم راحة اليد، وتشعل مصباح الوسط، ومصباح الباحة، بعدها تنام الدار وتهمد.

تسحب الليلة «شالية» من فخار قديم، تملؤها بتراب «الفرن» .. ترص القوالح وتغذيها بورق «غلاف» الكيزان .. تعلو النيران ثم تهمد الألسنة ولا يبقى سوى الجمر .. تحمل «شالية» النار وتخطو ناحية الزريبة.

تبسمل وتحدق في الظلام الذي يغيب الجواد الرهوان .. تخرج قطعة «الشبة» التي تلمع في وهج جمر النار .. هي والحظيرة والجواد، في قلب الليل .. تخطي العتبة وتواجه المهر المريض بداء الحسد والكراهية .. يقف الجواد في ضوء لمبة الجاز مطرقا، عرقان ينطح الجدار «ما لك يا عنتر؟ ما الذي جرى لك؟» .. تضع قطعة «الشبة» وبخور الصندل في الجمرات .. تسمع نشيش حريق المادة في صوت منفحم ضرير .. يعلو دخان الحريق ويعبق في تعريشة سقف الزريبة .. تدور بالإناء حول الجواد الذي استنشق رائحة البخور.

«رقيتك واسترقيتك من عين حسود شافك ولا سمى».

استوت «الشبة» امرأة عجوزًا، متفحمة تلتف بالسواد ولها عيون هرة .. هتفت الأم:

«هي .. ساكنة الدار الواطية .. جارة الشؤم».

بكت الأم عجزها عندما نظرت الجواد غارقًا في الصمت والعرق .. أطلقت صوتًا كالعديد:

«قلت لك ع الجسر ما تمشي .. عين الحسود تضرب ولا ترخي».

رجعت بظهرها عندما رأت الجواد يرقد ملقيًا بجسده إلى الأرض، مادًّا عنقه كالذبيحة وقد غرغر، واتسعت عيناه وبدتا في الضوء الشحيح منطفئتين.

حاذرت الأم أن تصطدم بالحجر، وجذع التوتة، والسور المهدم وطلمبة الماء، وخافت أفعى الجحور التي تعرف أنها الآن تدحرج جوهرتها أمامها زاحفة من سطح لسطح.

دخلت على الأب الراقد في أرض «المندرة» .. قالت له: «المهر يموت» .. قام ومسح وجهه واستعاذ من الشيطان بالله على الموت المفاجئ .. قال لها «إنه سوف يذهب غدًّا للمركز ويحضر طبيب الصحة البيطري. قالت له «ألا يتعب نفسه فقضاء الله نافذ. رد عليها: «سأسعى وعلى الله العوض».

في النهار، حضر الطبيب المداوي .. كشف على المهر وأخبرهم: «المهر مريض بمرض مُعدٍ ولا بد من إعدامه».

(3)

ما الذي يجري اليوم في البلد؟

كأنه يوم القيامة.

كل تلك الصفوف من الرجال والنساء والعيال، تتسحب من الأزقة والحارات إلى طريق المدار.

من سرَّب خبر فرقة الإعدام إلى كل البيوت؟

زوج من العسكر وصول، وثلاث بنادق، لكل بندقية روحان، موكلون بخطف روح المهر .. يخطون بالقرب من قنطرة المشروع، ويبدون في ملابسهم الكاكية الصفراء كسمّاوي الكلاب.

يطول من خلفهم صف الرجال والنساء والأطفال، يثيرون التراب، يفزعون الطير المهاجر ويسدون عين الشمس.

من يحاول أسر روح الجواد الرامح أبدًا في الغيطان؟

بكت بنت قرب النهر، وألقمته حجرًا فاتسعت دوائر الماء.

المدار في أرض «نعمان» على شاطئ النهر، تحت بطن ساقية قديمة خربة .. تمتد الأرض البور سبخة ومهجورة، تنبت في جنباتها نباتات الشيطان، وتعمرها ديدان حمراء شرهة.

الجواد ينتظر الرحيل، حيث القطعان الحرة في السماء.

قال العم: «لنبدأ..». تململ الأب ومضى يشد الحبل التيل ويلفه حول أرجل الجواد المستسلم .. دار الأب بالحبل على الجسد، فارتجف الجلد بعد أن شعر بخناق الأعنة تجز عليه.

رمى الأب بطرف الأنشوطة إلى العم فأحكم وثاقها على كاحلي الجواد ومتنها.

حث الصول - ذو الوجه اللحيم القاسي، والشارب المفتول والأزرار النحاسية – وصاح: «أسرعوا..». رد الأب الذي يشد الوهق حول رقبة الجواد: «حاضر!» ودار حول الجواد يساعده العم والأيدي العفية .. وفي اللحظة التي قال فيها الصول: «شدوا .. ارموه ..» كان مهر الأيام الماضية يتهاوى، حيث انقلبت الوجوه، وتطلعت إليه العيون من فوقه .. اهتز وحاول النهوض لكنه لم يقدر.

وجوه لنساء غامضات العمر تحدق في الدائرة .. أطفال لا تلعب في الزحمة؛ حيث شدها المشهد فوقفت متراصة، مشدودة بحبل الخوف .. رجال هجروا البيوت والغيطان في مشهد وداع المهر الأخير.

وحده الصبي «عبد المولى» ينظر مهره الراقد على جنبه بعين مفتحة، وذاكرة مطفأة .. مشى حتى أبيه وشده من ثوبه وقال له مسترحمًا: «بلاش يابا ..» .. نظر إليه الأب ولم ينبس فاستغاث بعمه وارتمى في حضنه باكيًا .. صرخ الصول: «أبعدوا الولد!» أبعدوه خارج الدائرة وبقلبه تنتفض أيام الركض ونهارات البركة.

صرخ: «بلاش يابا..».

صاح الصول: «استعد!» فارتفعت أشداق البنادق بظلام يغشى العيون .. تحدد الهدف وسط الرأس وعند حبة القلب .. قال صوت الصول: «اضرب!» فانفجر صوت الطلقات مدويًا .. حفرت في الرأس وفي القلب حفرات غائرة، يتدفق منها دم يشق له مسارًا في خطوط على الأرض حيث بلل الأقدام وخضب الثياب.

تصاعدت من فم الجواد آهة آدمية مغللة ببخار حار .. صرخ «عبد المولى» وتشبث بصدر أبيه .. فيما كانت بالفضاء العالي تحوم غربان وحدآت ناشرة أجنحة تدور، مدفوعة بحدس فطري نحو رمم الجسور ومهاوي المرابط، نعيقها المبتهج في قلب الصبي الحزين إعلان ببدء الوليمة المؤجلة.

 

تلَّة الملائكة
ونهض بوجهه المضاء إلى مصباح الجاز الذي تعلو شعلته بالدخان. والمعلق بمسمار في جدار الطين وقال اتركه لي.

ولما وافق أبي وضع جدي ختمه على الدخان حتى طمسه السواد ثم رسم اسمه على الورق. فكان أمام عيني أول الأسماء كلها

تلَّة الملائكة

جدي على العتبة.

وأنا متسلق على بطني فوق الزغلولة التي أمتطيتها عروسة.

رفعت رأسي وناديت:

- جدي.

استندتُ لجذع النخلة المائلة، وهبطتُ أنا لأكون بالقرب منه. زعق:

- سقيتَ البهائم؟

- نعم يا جدي.

- خلطتَ العلفة برشة الفول؟

- نعم يا جدي.

- رُش الماء أمام الدار، واسقِ البرتقالتين والزيتونة، وأطلق سراح العجل الصغير.

- طيب يا جدي.

مسح بيده على رأسي وأزاح عن جبهتي شعري.

- كم عمر الزغلولة يا جدي؟

- كثير. من عمر أجداد أجدادك.

- وأنت كم عمرك يا جدي؟

- كثير.

- من أيام عرابي يعني؟

- وأنت من عرفك بعرابي؟

- عندنا في كتاب التاريخ.

ابتسم وطبطب على ظهري:

- ما شاء الله.

ثمة أحجار مركونة في حضن السور، ونور للشفق يسيل في السماء قبل مغرب رمضان.

تطلعت إلى وجهه وتذكرتُ أن أبي كلما قسا عليَّ، ووبخني بسبب إهمالي علومي، جريت نحو جدي لائذا بحضنه، وكنت أسمعه يشخط في أبي «خليك وراه لما تجيب أجله» وكان يجلس ثم يأخذ رأسي ويضعه في حجره وأسمعه يسب أشخاصًا مجهولين. وأراه يشير بيده ناحية الظل المرسوم على الحائط فيما تهدهدني رجله حتى أنام فلا يوقظني حتى أصحو وحدي.

دس يده في العباءة وأخرجه ملوِّحا به أمامي.

دُهشتُ لما رأيت الشمس الملونة تضوي خلفه، وهتفت وأنا أصفق بيدي:

- هيه .. هيه .. فانوس رمضان .. فانوس رمضان.

تواثبت. وكلما مددتُ يدي لآخذه رفعه جدي أعلى مني، فقلت له:

- حفظك الله يا جدي .. هات الفانوس ولا توجع قلبي.

انفجر ضاحكا وقال لي:

- بريال يا ابن الشياطين، خسارة في والديك .. حافظ عليه مثل عيونك، وانبسط يا سيدي.

أزاح بيده حصى الأرض ثم رفع العباءة الجوخ وفرشها في مد الظل، ووضع العمامة على جزع الفرع الناتئ بالتوتة. استلقى على العباءة ووضع ذراعه اليمنى على عينه، وبدت لي لحيته كالقطن المندوف.

قال لي:

اسرح حيث أبوك وأعمامك، واعرف إن كانوا انتهوا من ري «مرزة» أم سيبيتون في الغيط.

- حاضر .. حاضر يا جدي.

- قل لجدتك تبل التمر والعرقسوس .. ريقي اليوم ناشف.

- حالا يا جدي.

تسلل النوم من التوتة، وسهى جدي وأغلق عينيه، لكنه ما زال يواصل الحديث:

- حاذر أن توقظني قبل المغرب فأنا سوف أزور الغائبين.

عندما يتكلم بما لا أفهم يكون على عتبة النوم:

- نوّر الفانوس، وإياك والذهاب لتلة الغجر.

انتظم تنفسه وجعل صدره يرتفع ويهبط، ويصدر عنه شخير خفيف.

قلتُ: تلة الغجر. ما الذي ذكَّره بها؟ ولماذا أذهب هناك؟ ومن الذي يدلني على السكة حتى آخر العمار؟ هناك تنقطع الرِّجل، ويزوم الهواء بشجر الترب.

- إياك وتلة الغجر، يخطفون العيال، ويدقون على صدورهم الوشم، ويسمونهم بغير أسمائهم.

بدأ يحلم ويخرف.

تركته وخرجت ألوح بفانوسي الملون.

عند الباب قابلتني أمي معصوبة الرأس، ولما رأت الفانوس قالت «مبروك يا عبد المولى» فأخبرتها فرحا بأن جدي أحضره لي من المركز، فابتسمت لي. قلت لها: لماذا ينام جدي يتكلم عن الغجر؟ قالت لي أمي: إن الغجر عباد الله أيضا ولا يخيفون وذكرتني بجليلة وقالت لي: «وهل نسيت جليلة الغجرية يا عبد المولى؟».

«جليلة» .. آه .. «جليلة» .. رددت الاسم، وتطلعت للشمس المصفرة، وأفعمتْ صدري رائحة لبن محترق.

جليلة الغجرية. آه ..

خطوط الوشم الثلاثة على الذقن والنقطة خضراء بجانب أنفها السرح. خال للحسن مثل الزبيبة لا يمحوه الموت نفسه .. الحلق الهلالي يهتز بهزة الرأس فيضوي، وعيون بكحل رباني سارح فيها الغموض، وبريقها في قلب أمي وخالاتي سر من الأسرار.

«نضرب الرمل، ونشوف الودع، زين نبين».

«تعالي يا جليلة».

وعلى أرض الزقاق، وتحت التوتة الذكر تفرش المنديل، وعليه حبات الرمل الناعم، العين الكحيلة، في العيون. مأسورات القرويات بسحرها الخفي .. تخطط الأصابع سكك العمر، وتأتي بخطوط الخلائق .. طرق مفتحة على السعد، وأواخرها أفراح للبكارة، وطمأنينة بعودة الغائبين، سنة خير تدر الضروع اللبن، وتملأ صوامع الغلة بالخير ونعمة الغيط .. لكن المخاطر كامنة في بطن الغيب كالكواسر، حاسدة وكارهة .. ورب العباد المنجي، ورسوله حافظ والطيب لا يضام .. وأنت طيبة وصالحة يا أمينة يا بنت المرسي .. وابنك «عبد المولى» محفوظ من العين، ومن شرور الشياطين.

أسمع صوتها فأخرج من نومي مجتازا الباب، ولحظة أنظر في عينها التي لم تكن بلون الرماد، لكنها من نور. أتسمر على العتبة بين عتمة الدار وصهد الشمس. ثوبها من تيل خفيف، مشغول بدوائر تكشف عن قميص بلون ورد الجناين. أخذتني في حضنها فأفعمني عرقها .. قالت لي: «يا ابن الغالية» .. أحسست برأس في صدرها وجرى قلبها بالشوط. قبلتني على فمي وضحكت خالاتي: «اتركي الولد يا قادرة. فاجرة يا أختي ووشها مكشوف، وعينها تندب فيها رصاصة».

تضحك بنت الغجر وتقول لها أمي الطيبة: «لا تغيبي عنا يا جليلة. لك وحشة» ترد عليها الغجرية: «أكل العيش مرّ يا أم عبد المولى».

وعندما تبتعد عني ارتجف، وأسمع قلبي يدق، وأراها ترفع ثوبها وتكشف عن سمانة ساقها وتنظر ناحيتي: «خلِّينا نشوفك يا عبد المولى» وتغيب في انحراف الشارع ويأتي صوتها عبر الدرب «نضرب الرمل، ونشوف الودع .. زين نبين».

تغيب ويبقى في قلبي صوتها والوعد بأن أراها.

بعد الفطار، وشُرب الشاي، وتأدية الفرض نورت الفانوس، ولما شع نوره انبسط جدي، وتأمل بهجة الألوان وهي مفروشة على الأرض.

دفعت باب السياج وخرجت للحارة. سمعت صوت عمي محذرا:

- احرص على الفانوس.

الحارة زحمة بالعيال، ولمة البنات، والبيوت مشغولة بكعك العيد، وراديو المقهى عالٍ بالذكر والتسابيح.

أحاطني العيال لما رأوا فانوسي، ومشوا خلفي ترتمي على الأرض ظلالهم، صعدنا حيث ضريح «أبو حسين» الكائن على الترعة. هتفت:

- سيدنا أبو حسين.

زام الهواء في الفروع العالية:

- تقول عنه أمي إن سره باتع وصاحب معجزات. وصاحب فضل. وكرامات على البلد كلها. ويسيِّر السحب، ويُنزل المطر..

.. هذا الله يا ابن الجاهل، الذي سيبعثنا يوم القيامة فتذهب أنت وأبوك إلى جهنم، وأذهب أنا وجدي للجنة.

ضحك العيال، ونظروا للفانوس الذي شح نوره .. قالت شفيقة:

- صروخت الشمعة، والنور راح.

- بكرة تشتري شمعة يا عبد المولى وتنّور الفانوس.

بكرة ليلة سبعة وعشرين، ليلة القدر.

- ليلة القدر. يعني بكرة طاقة النور ستفتح، ويُجاب الدعاء، ونروح تلة الغجر.

بَهِتَ العيال وردوا في نفس واحد:

- تلة الغجر. لا يا عم.

صمتوا ثم ردوا في عجل:

- وماله نروح:

الصبح قلت لأبي «هات شلن»، ولما سألني: «لماذا؟» قلت له: «أشتري شمعة». زعق في وجهي وقال: «وشمعة البارح؟» قلت له: «خلصت». شخط مرة ثانية: «يعني يا ابن أمك عاوز كل يوم شلن». قلت: «يا أبي الليلة ليلة القدر، ولازم أنوّر الفانوس».

دفعني أبي بيد الفأس فصرخت، وتراجعت بظهري فغاصت قدمي في وحلة الزريبة، ولمحت العجل الرضيع يمتص ثدي أمه الزهقانة والتي تدور على نفسها. سمعت صوت جدي قرب الباب يقول لأبي «مالك؟». سمعت أبي يرد عليه «والله وجبت لنا وجع الدماغ يا أبي، عاوز شمعة».

فرد محفظته البنية القديمة وفك أزرارها، وكنت أسمع تكة الأزرار وهي تفتح فيفرح قلبي.

ما أن لمحتُ الشلن حتى قبضتُ بيدي على الملك الجليل، وسمعتُ أبي يصرخ «إن ما أفسدته».

درتُ على كل دكاكين البلد، أسأل عن شمعة. من حارة البحر حتى داير الناحية، ومن «الواطية» حتى أرض المريس وصرختُ في سري «نهار أغبر» وصلتُ الدار أنتفض، وصرختُ في أمي: «عاوز شمعة» ورفستُ التراب، وألقيتُ حجرًا على نافذة المقعد. توقفت أمي عن لتَّ العجين وشخطت فيَّ: «وبعدها لك يا عبد المولى .. اهمد .. نخلق لك شمعة!».

صاح فيّ عمي أحمد: «جاءك الغم .. لا تنتهي طلباتك .. اصعد غرفة السطح ستجد لمبة صفيح صغيرة، على قد الفانوس .. نظفها وركب لها شريطا، واملأها جازًا وأرح دماغنا .. كانت شورة هباب».

توقفتُ عن البكاء واقتربتُ من عمي وقلت له: «واللمبة هذه أين يا عمي؟» فرَّد عليَّ «فوق في الطاقة على يمين الباب وأنت داخل».

قفزتُ درج السلم وفتحتُ باب حجرة السطوح، وفتشتُ في الطاقة، وعثرتُ على المصباح ووجدته مصباحًا قديما مدقوقا في حجم ضفدعة كبيرة، يعلوه صدأ وترابة الركنة، منزويًا وسط ملاعق من خشب ولفة دوبارة وأختام قديمة بأسماء غابت، وعقود أراضٍ مؤرخة من زمان، وجدت خنجرا بنصل لامع داخل جراب من جلد.

همست لنفسي: «خنجر وفانوس!».

جمعتُ لوزات القطن، وبرمتها شريطا، وغسلتُ المصباح بالطين والتراب، ودعكته بالجاز، ثم ملأته، وغمست فيه الشريط.

في الليل نورت الفانوس وجمعتُ خلفي العيال وحثثنا المسير حيث تلة الغجر.

خلفنا وراءنا البلد، وخضنا في الظلام على نور الفانوس، ورأيتُ دخانا خفيفا يصعد من الشريط المحترق فيسوِّد جوانب الفانوس.

مررنا على عشة أم بلال المرأة المقطوعة، والتي ليس لها أهل. رأيتها تقف عند عشتها بالقرب من طلمبة المياه، ألقيتُ عليها السلام فردته وسألتْ: «إلى أين العزم يا عيال؟». فأجبناها بصوت واحد: «تلة الغجر». ضحكت المرأة بصوت أفزعنا ولوحت بيدها ناحيتنا وصاحت «تلة الغجر؟! أنتم يا مفاعيص .. أرجعوا يا أولاد الشياطين .. غجر في عيونكم .. إن ذهبتم إلى هناك فسوف يخطفونكم ويخصونكم كالجديان، ويفتحون بطونكم، ويخرجون حشاكم، ثم يملأونها بالملح ويصبرونكم ويعلقونكم على أبواب خيامهم».

خفنا وتسمرت أقدامنا في الأرض، وبدا من حولنا الليل ممتدا. انفلت سعيد بدر ومن خلفه الولد ماضي وقفلا راجعَينِ.

حثثنا المسير وتوغلنا في الظلام، وكلما سرنا شح النور، وانحبست الشعلة وسط طبقة السناج الذي هبب الزجاج الملون.

هبت ريح فانتفض الشجر، ارتفع من البعد عواء ذئب من عند الترب، وخفقت في السماء النجوم.

انحبس صوتنا، وشدت الأيدي بعضها بعضا.

قلت:

- هانت يا أولاد .. قربت التلة.

سمعتُ صوتي ولم أسمع جوابا.

ارتعشت ذبالة الفانوس وانطفأت، وحل الظلام كالكحل، بكت شفيقة واستغاثت:

- أنا خائفة.

رفعتُ الفانوس وقلت لهم:

- سينور الله الأرض بطاقة القدر.

- عاوزة أرجع.

- سأطلب من الله أن يطوّل عمر جدي .. ما الذي ستطلبينه يا شفيقة؟

- أروّح.

صرخ عثمان أصغرنا وتوسل لمنجي:

- ارجع معي يا منجي، أمي ستقتلني.

انفصل عني العيال وعادوا يهرولون تجاه البلد. سرتُ لمقصدي وحدي، بيميني فانوسي الذي ضاعت ألوانه. همستُ سوف أذهب وحدي حتى لو امتلأت الأرض بالشياطين ولما ذكرت الشياطين ارتجف جسمي.

ضاقت الغيطان. ورأيت الشجر يمد ناحيتي فروعه، وسمعت داخل الحلفاء خروشة .. تشجعت وقلتُ في نفسي «الشياطين مسجونة في رمضان، هدِّئ نفسك» جاء صوتُ الكروان. الملك لك .. الملك لك، فهدأ روعي وقلت: «أنا الغلطان خدعني نور الفانوس، والوعد القديم، فمشيتُ أتبع خطى النور».

أردتُ أن أعود لكن محاولتي لم تعد مجدية .. من على البعد سمعتُ ضرب دفوف تحملها الريح. انتبهتُ على هلال وليد كشقة البطيخة يتسحب في السماء. همستُ «التلة بعيدة والقمر ليس بدليل...».

لاحت لعيني التلة موشومة بأشجار قليلة منتشرة على الجنبات. خيام ثلاث تنيرها مصابيح معلقة على عواميد، تخفق كاشفة عن خيام الوبر المنصوبة في حضن بعضها بعضا.

صعدتُ التلة، ولما تعبتُ جلست على حجر.

رأيتهم يتحلقون، ويضربون الدفوف ويغنون على أنغام ناي ومزمار، وصلني النغم أليفًا ومؤانسًا.

اقتربتُ فرأيت «المواوي» يقف تحت المصباح الكبير، ولما تأملته وجدت له جدائل مضفرة، وبأذنه اليسرى قرط من الفضة، تتدلى منه أجراس صغيرة، وعندما رفع كفه وجدتُ بها خواتم بفصوص على شكل جعارين، وفوق عينيه حاجبان متصلان يختطَّان على عيني صقر. فيما تتجلل أسنانه بتيجان الذهب الذي يلمع كلما ضحك على ضوء النار الغجرية.

تحرك «النوري» القصير وأذكى النار بسيخ من الحديد فَعَلَتْ، ثمة آخر يلتف حول ذراعه ثعبان مرفوع القحف يخرج شوكته ويحدق بعينين لا تطرفان، نسناس صغير يقف على كتفه صامتا، وعلى وجهه حكمة الشيوخ.

تعبت من النظر والمخاوف، وكأنني غفوت ... هل أخذتني سنة من النوم أم النار وقرع الدفوف والمواوي المبتسم قد سحروني؟ عندما رأيتُ طاقة السماء تنفتح وتشع بالضياء وتهبط منها الملائكة المجنحة وتدور بالمكان فيما تهب روائح الجنة .. قلت «أدعو لجدي. ليلة القدر لا يرد فيها الدعاء» ورأيت غجريا يستقبل الملائكة بالدف، فيما انسحب المواوي واندس في حلقة الغجر وأخذ يد غجرية مليحة الوجه، مشدودة القوام، تلبس فستانا من الحرير وتشد خصرها بحزام أخضر، له طرف مسدل على فخذها، اتخذت لنفسها مكانا وسط الحلقة وأخذت ترقص على إيقاع الدف. ومن خلفها تفتح أمام عيني أبواب على حدائق مزهرة ما تزال الملائكة تطوف بها.

«جليلة .. جليلة».

صحت فانتبه المواوي لوجودي فتقدم مني وقال وهو يبتسم: «جئت؟».

فقلت: «آه».

سحبني من يدي، وعلى طاولة استلقيتُ على ظهري. وضع يده اليمنى على صدري، وأحضرت ذات الوشم والحلق الهلالي، صحن الصاج الكبير الممتلئ بماء فاتر يصعد بخاره. همستُ «جليلة».

طلب المواوي المورد والزنجبيل والزعفران والكافور والصندل الأبيض وأذابها في الماء وسمعتُ صوته يتمتم «الحرفان أصل الكلام، والعرش قائم على الحرف» فلم أفهم.

لما تنشقت رائحة الطيب أغمضتُ عيني وقلت: «عطر!».

رأيته يفتح سكينه ويعلم على صدري علامة، فاشتد روعي. فقال: «لا تخف» وشق لي صدري فقلت: «آه...» فسمعتهم يرددون «سلامتك».

رأيتُ قلبي المنتزع يخفق في كفه، تسيل منه الدماء، وسمعته يهتف بي «ها أنت ذا ترى قلبك»، حاولت النهوض لكنه أوقفني وقال: «احتفظ بسرك» فقلت: «ظمئتُ» فقال لهم «ارووا ظمأه».

وضع قلبي في الإناء فطفا دمه على الماء، غسله ونظفه وكتب عليه بالقلم البسط حروفا وكلمات. ولما سألته «ماذا يكتب؟» رد عليَّ أنه عليم بما يعمل.

تواصل دق الدفوف وصوت الناي والمزمار، وهللت فراشات فوق النار الغجرية، وشعت على التلة بهجة من الجنة.

وضع في صدري قلبي، فانتثرت نجومي التي تتبعتها حتى آخر عمري، وقلت لجدي الذي كان يلبس وزرة ملونة، ويعتمر عمامة هائلة على رأسه، وممسكا بيده الصولجان «انظر يا جدي إنها نجومي» لكنه لم ينظر وقال «الضنى عقوبة القلب، والسفر طويل»، ثم وضع بيدي حبات التمر وقال قبل أن يختفي وجهه «أشبع جوعك».

هزني المواوي وسألني عن اسمي. أُخذتُ ونسيت اسمي فردت الغجرية:

«اسمه عبد المولى». فقال المواوي: بعدت كثيرًا يا عبد المولى»، ووضع شمعة في الفانوس بعد أن غسله، فعادت من جديد أنوار الفانوس الملونة. وقال لي: «حاذر الحجر، وقطوع السكك. خذ يمينك عند المنحنى القادم ولسوف تصل البلد مع طلوع النهار».

هبطتُ من إبط التلة، وسرتُ بين السرو والكافور، أشم في الليل رائحة عطر، وأسمع صوت الغناء، فيما يتدفق على يميني تيار من الماء الجاري.

 

صباح غير أليف
صباح غير عادل

صباح الضواحي ..
من ناحية أن الأمر كله على قدر من الغرابة فهو على قدر من الغرابة. ومن ناحية أخرى أنه يقتحمك كل يوم، ويثير دهشتك فلا تعرف إن كنت سوف تبكي، أم أن الأمر سوف يمضي كغيره، وقد ترك فيك هذا الحزن الذي لا يمكن لك أن تغادره.

تظل مشدودًا بعينيك ناحية الشرفة المقابلة كل مساء.

«في الصباح تدخل في بنطالك وقميصك، بعد أن تتأمل صورتك في مرآة بيتك، وتسحب كتابك وتضعه تحت إبطك وتصعد إلى المقطم القريب لتطل منه على الهاوية».

ما الذي يدفعك للصعود للمقطم كل يوم؟

تستدعي إليك المدينة فتحممها، وتجففها لعلها تستعيد قدرًا من الجمال كانت عليه.

شارعك مأسور بصفىّ «البونسيانا» المزهرة على الجانبين، ومدرسة اللغات على الناصية، ومعهد التاريخ الطبيعي، ومحل بيع الزهور ذي الفاترينة التي يسح منها الماء على زجاجها كالدموع.

تنحرف تاركًا مكانك المقيم وتوغل في الشوارع المقفرة مارًّا بتلك السينما الخالية من الروَّاد، والفندق العامر باليهود، فتقف لحظة تتأمل سحناتهم وهم يهبطون من المركبات بثيابهم الكالحة، على صدورهم النجمة المسدسة، ولا ترد عليهم السلام.

تكتشف أنك تأخرت على موعدك فيسري في كيانك قلق فتسرع من خطاك إلى البيت.

«الأمر بدأ يشغلك».

وتسحب من صالة الشقة كرسي الخيزران وتثبته في الشرفة وتجلس. تكون الشمس على وشك المغادرة. تتأمل على جدار شقتك مستنسخات من «فان جوخ» و«جوجان»، والخنجر اليمانيّ في جرابه على الحائط، خلف صف الكتب ذات الأغلفة الملونة. وتهمس: «إنه لأمر بدأ يثير مخاوفك إلى حدٍّ ما».

تسرع كل يوم للقائهما.

كانتا تُدعيان «نورا» و«سلمى»، في أحد الأيام التي لم تكن بعيدة بلغتا معًا من العمر العشرين. توأمان تقطنان الشقة المقابلة، ذات الواجهة البحرية التي لا تغادرها الشمس إلا عند المساء. البنت «نورا» زهرة من زهور الحدائق، بوجهها المليح الذي يرغمك على التطلع إليه. وشعرها الغامر الذي تطرحه تحت الشمس فيضوي بلمعة النور النافذة، وخال الحسن على خدها يتجعد كلما ضحكت بصوت يصل إليك فيسري فيك كالدم.

«سلمى» قليلة الحيلة أخذ الله منها وأعطى الأخرى من غير حساب، ضامرة كثمرة جففتها الشمس على مهل. دائمًا في النافذة تنظران على الحديقة العامة، وتطارد عيونهما الفراشات.

تَذْكُرُ أنك التقيت الجميلة ذات عصر عند الفندق الذي ينزل به اليهود. ولـمَّا ناديت عليها قالت لك: «أنت الذي يجلس في الشرفة أمام بيتنا»، ثم نظرتْ لمروحة الهواء العالية وأشارتْ ناحيتها فلمحت في يدها سلسلة تنتهي بعين الحياة الفرعونية. ولما قلت لها: «ما اسمك؟» ابتسمت وأجابتك: «نورا» فاقتربت منها وقلت لها: «إن شعرك جميل يا نورا». فردت عليك: «كلهم يقولون لي إنه جميل». عندما رأتْ الجماعة اليهود يغادرون الفندق في صف طويل كأنهم في جنازة، وقد بدت سحناتهم على قدر من الشراسة وعدم المحبة، تمتص عيونهم قبة المسجد ونصب الشهداء القريب من الفندق، قالت لك: «من هؤلاء الأغراب؟» وأشارت ناحيتهم. فأجبتها: «سياح من إسرائيل». صمتت، وعندما نظرت لوجهها الجميل وجدته انطوى على ألم مفاجئ، فيما زمت شفتيها على حزن ثم أسلمت قدميها للريح واختفت من أمامك.

الآن تراهما تقفان في الشرفة ككل يوم: «نورا» في المقدمة، و«سلمى» خلفها محنية الرأس، تدفعها الجميلة بقوة مشيحة بوجهها عنها. كانت الريح قد نشطت تُطيّر شعر البنت الذي يغمر وجهها كله. وأنت في جلستك تراها حزينة هذا النهار. كانت «سلمى» تدور حولها مداعبة، لكن البنت مستسلمة لحزن كالموت. وكنت أنت تتذكر أنها كانت تقف في الشرفة تضفي على الشارع محبة وقدرًا هائلًا من السرور. تحاول أن تبتسم ناحيتها لكنها تشيح بوجهها عنك. خرجت «سلمى» من داخل البيت وبيدها مشط وأخذت تمشط شعر أختها الطويل. تتحسسه في حنان وتعقده وتفرده، إلا أن الجميلة ذات الجدائل دفعتها دفعة غير رحيمة في صدرها فهوت البنت على الأرض ضاربة شيش الشرفة بظهرها، ثم نهضت متساندة وانسحبت حتى الجانب الآخر من الشرفة، ووضعت رأسها على السور، ثم انخرطت في البكاء.

 

غير أليف
قارب على الماء
وأحس بالخطر من كل جانب يتهدده.

في المسافة بين مكمنه والقلعة التي تعلو تلًّا على الماء، والتي لن يبلغها أبدًا في الزمن الذي قُدِّر له أن يعيشه. تحمل المسافة أصواتهم، ورنات ضحكاتهم في الفراغ الصامت المحيط، الذي يقطعه بين الحين والآخر صوت طلقات البنادق.

«كان عليك أن تأتي من الجنوب».

كان قادرًا على رؤيتهم يقفون أمام الباب الصخري لو ارتفع على بنان قدميه، وخاف أن يتقدموا من أمامه ومن خلفه «هؤلاء الذين لا يكفون عن الضحك والمسامرة» فيضيقون عليه الخناق.

«ما يعنيني هو الوصول إلى القارب».

حدس، وقد تكاثف خوفه بأنه يواجه وحده في هذه البَريَّة حياته كلها، التي أصبحت في مجملها لحظة من فرار.

 

«القارب».

عاد يتطلع خلفه.

كانوا أيضًا هناك، يرى بزاتهم الكاكية فيما يلمع سلاحهم، ورائحة البحر تهب بدم عفن، والملاحات التي تشبه الورود القانية تمتد على مدى الشوف، راكدة، وساكنة، ونباتات صحراوية خشنة، وشوكية.

والرمال الصفراء المبرقشة بأكواخ الصيادين المهجورة، والنهار يهرول ناحية المغارب ملونًا الأرض بلون الغياب.

انتبه عندما رأى الجنود ينصرفون من عند الكوبري. شعر بقدر من الأمان يتسرب إلى وعيه، ووجده يهمس: «الآن، الطريق آمنة». وفكر أنه يمكن اختراق ما خلف التل، والدوران حول الملاحات والوصول إلى القارب المعد للهرب. سمع صوت البروجي يأتيه من القلعة ورآهم ينتظمون في صفوف، يسمع خبطات أحذيتهم بالأرض علامة التمام.

«الطريق سالكة، وعليك المروق».

انحنى ببدنه النحيل، وسار محاذرًا، ويده ممدودة إلى أسفل، وعينه تتحرك في كل الأنحاء. ارتمى بجسده على الأرض ساترًا نفسه بشجرة التين الوحيدة، وظل كامنًا برعبه في قبضة الرمل وحراشف الصخور.

فكر في رفاقه الذين فروا جميعًا، وتساءل عن مصائرهم، ومن خلال الصور التي تتتابع أمامه حادة، وقاطعة، خاف أن تكون قد حصدتهم الرصاصات، أو أكلتهم الملاحات.

«القارب هو الملاذ».

وزحف على الرمل، وكلما رأى البحر يقترب سعد بحسن طالعه. كانت تدفعه مخيلته النشطة، وحمى الذكريات الحية المتضاربة بعقله في حنق، وعدم ارتياح.

وعاد يتذكر عندما كان ينفذ من باب المبنى العتيق، في الضاحية العتيقة للمدينة، بعد أن يغادر قطار الضواحي، صاعدًا الدرجات في نشوة الحلم. يطرق الباب فينفتح عن وجه أنثوي لفتاة تلبس الجينس، تلمع عيناها بضياء، وترتسم على شفتها بسمة مرحبة.

- أهلًا.

- أهلًا.

- كلهم حاضرون؟

- العدد كامل.

وكانوا يتحلقون حول طاولة، ببزاتهم المعهودة، وشعورهم المهوشة، وعضلات وجوههم المستفزة، وحلمهم في عدل قريب سوف يتحقق، كانوا فاتنين بدرجة لا تعرف البؤس، وكانوا يصدّقون، وكانوا يقفون في صالة بيت الضاحية البعيد يستمعون للريح الوحشية التي لا تني تهب من بعيد، وسرعان ما ينحنون على الطاولة يراجعون ما يشغلهم.

كان كل شيء في تلك الأيام يتم على قدر حسن.

وكانت الرؤى واضحة، وكانوا كلهم يحلمون.

«الحلم!!!... ما الذي بقي لك منه؟».

قالها، وهو يزحف على بطنه، فيما انتشـرت أعداد من القطا فزعة، ومحّومة تضرب بأجنحتها في الأنحاء على غير هدى وقد التاث قائدها على نحو من اضطراب.

تساءل:

«أين هم الآن؟».

بدت الأرض أمامه على قدر من القسوة، وتكاثف في المدى الصمت، مشاركًا فيه الهواء الذي صمت أيضًا وخَرَس ضحكات الجنود.

مساء في الخريف، والقارب على الماء، حلمه، الذي سوف يعبر به مكان الموت إلى المكان الآخر الذي لم يفقد كل شيء.

بدت القلعة أشد تجريدًا، وأحس بها كرسم في كتاب قديم. كان قد اقترب أكثر مما ينبغي من القارب، أكثر مما قُدِّر لهارب، يحاول على قدر طاقته أن يدرك طالعه في مكان آخر، لكنهم كانوا هناك يكمنون في قلب القارب، صبورين، وعلى درجة خالصة من السكينة.

عندما رآهم وقف ساكنًا، ولم يحاول الفرار، ولم يشعر بالخوف، فقط تسلل عبر عموده الفقري برد كليالي الشتاء. لم يعرف لماذا في هذه اللحظة تذكر البنت التي تفتح له باب البيت في الضاحية البعيدة، وسمع صوتها يأتي من أبعاد سحيقة:

«أهلًا ... كلهم هنا».

تأمل الجنود وانتظر رصاصاتهم التي انطلقت في نفَس واحد.

تهاوى على الأرض.

كانت السماء قد ازدادت شحوبًا، وتكاثفت شمسها النارية في حزمة من ضوء، أخذت تنطفئ رويدًا رويدًا أمام عينيه، بينما يحس بانسحاب روحه من بدنه. كان في رقدته يود لو يبكي، لكنه كان يراقب الموج الذي ينحسر من فوق الشاطئ ويبتعد عنه، وأخذت أصوات تأتيه من بعيد .. من هناك .. عبر تلك الطرق التي لا تفضـي إلى شيء .. من سطور الكتب الغامضة .. واختلاط الأزمان .. وضياع الحلم، تسعى للخروج من ذاكرته التي تنطفئ. كان وهو يحاول التشبث بآخر بصيص من الضوء يرى القارب على الماء يسحبه الموج إلى بعيد، وعلى ظهره البنت التي كانت تقف في باب منزل الضاحية، وهي تبتسم.

 

غير عادل
«الرائحة»

وجعل يحدق في الشمس التي على الماء.

يشد مطاط «المايوه»، ساترًا كرشه الصغير، ماسحًا ثدييه الساقطين أعلى بطنه، وكتفيه المجعدتين بجلد محتقن.

يتلصص بعينين ضيقتين، تبدوان عاشقتين للحياة، لكنهما في حقيقة الأمر كليلتان بدرجة تبعث على الحزن.

يهمس لنفسه: «امشِ أيها الكهل. لا تقف هكذا خلف الشماسي». سار بين الصفوف تواجهه الجزيرة الصغيرة، يلطمها الموج من كل جانب. تأملها وهمس لنفسه: «الجزيرة!».

صوته يخرج نحيلًا من حنجرته إلى المدى المتوَّج بالماء، وصهيل الشمس، وهواء سبتمبر الذي يهب من هناك بالحنين.

عندما غمر الماء ساقيه شعر بالابتراد. تقدم خطوات حتى وصل الماء إلى وسطه. غطس ببدنه كله للحظة، ثم خرج يشهق. يحس الآن بالماء يتسلل إلى مسامه دافعًا بما بقي في جسده من حيوية إلى رأسه فيشعر بالانتشاء. يكشط وجه البحر بكفيه متأملًا المستحمين بفرح الأطفال.

ثمة حياة أخرى يأتي بها البحر.

وتذكر أيام شبابه، عندما كان يسبح في نفَس واحد حتى الجزيرة. يذهب ويعود أكثر من مرة. يأخذ صنارته وجرابه في يده، ويمضي النهار في الصيد وتأمُّل النوارس.

سبح بوهن حتى تجاوز المستحمين. رأى من مكانه رابية الكورنيش، وسمع الصخب يأتيه مختلطًا وزاعقًا، وبالونات ملونة في الشمس، وطائرات من ورق تعلو في الهواء جانحة، وثابتة في الريح.

سبح مسافة أخرى، وشعر بغياب القاع عن قدميه. واصل السباحة ثم وقف بطوله توازنه حركة قدميه ويديه.

بدأ الرجل يغني بصوت حسن، أغنية شجن من زمن قديم، ثم عاود السباحة.

فوجئ بأنه ابتعد عن الشاطئ، غاب الصباح، وشعر بوحدته مع البحر، ولاحت له رؤوس الشماسي تسبح على الماء. امتلأت خياشيمه برائحة البحر، ورائحة الملح، والنباتات. ضربه قلبه عندما رأى أنه ابتعد كثيرًا.

«ما الذي تحاوله أيها الهرم؟».

وشعر بالرعب.

أخذ شهيقًا، وتكاثف إحساسه بالزمن، وغذت روحه نوازع المجانين، وصعدت عبر شيخوخته المتأخرة، التي تحاول اللعب مع الماء.

«تذهب إلى الجزيرة؟».

أدرَكَ بالفعل نيته، واستسلم لرغبته في الذهاب.

«الجزيرة بعيدة ونائية».

مضى يضرب الماء ساحبًا جسده خلفه، يرى انفلات الموج ناحية شرق الجزيرة، ويقاوم اندفاع البحر بإرادة الوصول.

لما تعب كفَّ عن السباحة. انقلب على ظهره قليلًا ثم استوى يسبح. صَمَتَ البحر، وغرق في زرقة عميقة، وشعَّ على الماء الغموض. كف عن السباحة فعبث به التيار وتولى قياده. هفَّ الهواء، وبدا له الأمر غريبًا ومدهشًا «أن تفعل ما كنت تفعله منذ خمسين عامًا».

شعر كأنه يستيقظ على لحظة فرح .. اكتشاف .. هل كان يختبر عمره، أم كان يحاول من غير عزاء اختلاس لحظة من زمن قديم ولَّى؟

«لقد ابتعدت كثيرًا، وأنت لا تضمن النتائج على أي حال». عاد وانقلب على ظهره، وطفا رأسه الأشيب على الماء. راقب الشمس وهي تنحرف ناحية «المغارب». تألمتْ عيناه فأغمضهما، وتكاثف بوعيه صوت البحر.

عاد فواصل السباحة باطراد ناحية الجزيرة. كان النهار يشحب أمام عينيه فيما يثقل عليه جسده، ودوار في رأسه يجعل مساحة الأفق تختلط عليه. خاف من النسيان، ومن ضياع ذاكرته فيضل في البحر.

زاد من ضربات يديه، لكنها كانت ضربات واهنة. وبدأ الندم يضـرب قلبه الجانح. فزع من الماء الحي، وخاف من الموت وحده.

اشتد تعبه، والجزيرة ما تزال بعيدة، وانتفض قلبه في حجابه الحاجز، وبدأ يسمع صوت لهاثه. أدرك أن الشيخوخة تيار يندفع في العروق، يأتي من أعمق الأعماق بالهزيمة والخسران.

حمله الماء للحظة. رأى الجزيرة تقترب. راية تخفق أمام عينيه، غير ثابتة. أخذ نفَسه، وسيطر على لهاثه. همس: «لا. لن أموت الآن». أراح ساقيه، وخاف أن تتقلصا، واستسلم للتيار الذي يأخذه إلى هناك.

ما إن لامست قدمه اليُمنى صخر القاع حتى دبت الحياة فيه. تماسك وهو يخطو على الصخور مستعيدًا انتظام أنفاسه. لمح الطحالب، والسمكات الصغيرة المنفلتة، والقواقع في مكانها من قديم. أخذته بهجة الأعماق، وتلك الحيوات الصغيرة النشطة. شعر بانتصاره. نعم .. لقد عاش من السنوات الكثير، بما يكفي لهزيمته، لكنه يصعد الآن صخور الجزيرة مضمَّخًا برائحة الماء والعشب، وانتصاره المتوَّج.

خطا محاذرًا النتوء النارية، وأفواه الصخور المسننة.

استوى جالسًا على صخرة كان يعرفها في الزمان القديم. هبَّ الهواء باردًا وطيبًا، وسمع صوت الرياح المواتية، وعاد يحدِّق في الشمس الصغيرة الحمراء، ثم عاد لتأمل الجزيرة. كتلة من صخر أبدي. فجوات من عمقها ينبثق الماء دافعًا بالأسماك والطحالب والقواقع الصغيرة التي تصفر بها الريح. سماء فوقه موشاة بلون الأرجوان، الذي لا هو بالدم ولا زهر البنفسج.

طأطأ رأسه الذي ازدحم بالتواريخ، واستند بمرفقيه على ركبتيه وغرق في فكره. قال «الحياة غامضة، وتدعو إلى الأسى». ثم همس: «إنها تذهب مرة ولا تعود».

ورآهم يخرجون من الكهوف العميقة. صبيان وبنات كأحفاده. ينتشرون على سطح الجزيرة، وكأنهم على موعد. كانوا عرايا كالخلق الأول. تستر عوراتهم مايوهات صغيرة، وشعورهم مسدلة، فيما تبدو أجسادهم في لون الشفق. سمع أصداء موسيقى تعلو في المكان، تدوم بلحن راقص. قال: «من أين يخرجون؟». كانوا يقتربون منه حتى شكلوا حوله حلقة. كانوا يتأملونه بصمت، ويحدقون هذا الكائن الخرافي بدهشة، ويتبادلون النظرات. انتابه القلق والتوجس عندما رأى ثباتهم المطلق، وعيونهم المندهشة التي تنظره بغير تصديق .. شعره الأشيب .. ووجهه المغضن .. وثدياه الساقطان .. وكرشه الناتئ كبالون.

«قضيت أيامك يومًا بيوم، مطارِدًا تلك التفاصيل الصغيرة التي لا طائل من ورائها، والتي تحاول من خلالها استعادة الأيام .. فما الذي يراه فيك الصبيان؟».

خاف أن يصرخوا في وجهه، واشتدت ضربات قلبه.

أحس كم هو طاعن في السن. كم هو رجل عجوز يبعث على الحزن، وإنه قادم من زمن آخر.

رآهم يبتعدون عنه، ما تزال رؤوسهم تتجه ناحيته بغير تصديق. ينزلون إلى البحر واحدًا واحدًا، سابحين تجاه الشاطئ حتى اختفوا عن نظره.

عاد ينظر إلى الأرجوان، وبدا حزينًا كبستان في الخريف، وشعر بوحدة مطلقة تكاثف رعبه. اشتدت لطمات البحر على جوانب الجزيرة. ثم جاء المساء غير عادل، فيما يجلس الرجل على الصخرة يراقب مجيء الليل، ويخاف الرجوع.