قراءة في مجموعة سعيد الكفراوى «يا قلب مين يشتريك؟»

حسين حمودة

 

الآن، ولا أدري حتى متى، لا أستطيع الكتابة عن رحيله .. فقط أستطيع أن أستعيد بعض ما كتبت عن مجموعة من مجموعات قصصية قد دوّنها. سعيد الكفراوي، لكل من عرفوه، كان "يحكى"، شفاهيا، بإبداع مذهل، حكاياته الجميلة التي لم تتضمنها نصوصه المكتوبة. عاش حياته، كلها تقريبا، أو ما شهدته أنا منها، ينثر الجمال في هذه الحكايات التي ظل يرويها ويؤديها بسحر خاص، مع كل أحد التقاه، وفي كل مكان ارتاده. حكاياته الحيّة الأخّاذة التي لم تقل جمالا عما دوّن من نصوص، تختاره، هو وحده، ليكون سليلا عظيما، معروف الاسم، لحكّائين عظام لم نعرف لهم أسماء، في تاريخ لم يسجّله أحد .. كلهم تركوا حكاياتهم وغابوا .. ولعله الوحيد من بينهم الذي سوف يستعصي على الغياب، ويستعصي عليه الغياب .. ها هنا محض وقفة عابرة، مع بعض قصصه أو نصوصه المدونة:

- 1 -

مثل أغلب أعماله القصصية، بل أيضا مثل كتابه الأخير (حكايات عن ناس طيبين)، تتأسس مجموعة سعيد الكفراوي (يا قلب مين يشتريك) على ما يمكن تسميته "رؤية زمنية" خاصة، مركبة ومتراكبة، خلالها تطرح الكتابة بعض أسئلة تطال الوجود والأبدية وصيرورة الزمن. وعبرها تتفجر تصورات مختلفة للعلاقة بين الحاضر والماضي والزمن المحتمل، وفيها تتجسد الأزمنة خارج تجريدها الشائع؛ إذ "تتأمثل" فى مواقف وذكريات ووقائع، وأيضاً في أشياء وكائنات حية؛ كأن الموجودات جميعاً تنشغل بقضية الزمن، وتتحدث بلغته، وتتساءل حول وجودها وحضورها فيه ووجوده وحضوره فيها.

ولعل إلحاح ما يتصل بالزمن من مفردات في عالم سعيد الكفراوي هو جزء مما انتبه إليه بعض من كتبوا عنه من النقاد (خصوصاً د. شكري عياد الذي رأى أن "الزمن عنده [سعيد الكفراوي] زمن بئر، حيث تتحول القصة إلى تمثال حين يتحول الزمن إلى بئر تتقطر منه تجارب البشرية"، وأيضاً د . سيزا قاسم التي أكدت أن "سعيد الكفراوي لا يكتب عن الماضي الجميل ولكن عن قدرتنا في [كذا] أن نعيش في أزمنة مختلفة")، ثم لعل هذا الإلحاح هو مادفع الكاتب إلى أن يتوقف عند هذا الحضور للزمن في تجربته، وإلى أن يسوق هذين المقتطفين من د. شكري عياد و د. سيزا قاسم، في المقدمة التي عنونها "صوت من الأبدية لراحل كريم"، وصدر بها مجموعته هذه.

- 2 -

تضم (يا قلب مين يشتريك) اثنتي عشرة قصة، تمثل – على تنوع عوالمها – تجربة تنطلق من تصورات متقاربة، وتنطوي على وشائج تصل فيما بينها من جانب، وفيما بين عالمها وعالم مجموعات سعيد الكفراوي السابقة، خصوصا على مستوى "الرؤية الزمنية" التي أشرنا إليها، من جانب آخر. تتعدد الأماكن في القصص الاثنتي عشرة، وتتباين الصلات بها، كما تتعدد وتتباين ملامح الشخصيات و"المنظورات" التي تطل خلالها على تجاربها، أو التي تصاغ بها، ثم تتعدد وتتباين، كذلك، الروابط التي تصل بين هذه القصص و"مرجعها"، سواء كان متخيلاً أو مستندا إلى ما يمكن توثيقه وربطه بسياق متعين... إلخ، ومع هذا التعدد كله، وهذا التباين كله، تتراءى فى القصص جميعاً إشارات تشي بانشغال واحد، بهاجس واحد مشبع ومسكون بتأملات وبتساؤلات شتى حول مرور الزمن وثباته، حول حركته وركوده، وحول تغيره ورتابته، وحول إمكان انتهائه وتلاشيه.

- 3 -

التقدم في العمر، أحد وجوه التعبير عن مرور الزمن، يمثل "حالة" يتوقف عندها أكثر من قصة بالمجموعة. تبدأ قصة "كوتسيكا"، مثلاً، بعبارات دالة في هذه الوجهة: "الكهل الذي ظل، وبلاً كلل، أربعين عاماً يمارس قطع تذكرة المترو (...) ويبتسم في سخرية: إن كانت الأربعون سنة التي أمضاها في رحلة الذهاب والإياب (...) تستحق كل هذا العناء... إلخ" (ص 19)، وسوف تتوقف القصة، في مواضع أخرى، عند إحساس هذا الكهل "بتقدمه في العمر" (ص20)، وعند تصور يصاغ بضمير جمعي يشملنا جميعاً، حول أن: "البني آدم لما يكبر في السن تختلط عملية الألوان، بالذات وإحنا بنعيش الربع ساعة الأخير من أيامنا" (ص21).

مع هذا، تترى في القصص الإشارات إلى ركود الزمن، وتكراره، وتواتره. في قصة "مياومة" يؤكد الراوي هذا الركود: "الأيام تبدو لي هذه الفترة متشابهة وكأنها يوم واحد.. مرحاض الصباح.. وإفطار من غير طعم.. وقراءة لعناوين صحف متشابهة" (ص 28). وفي قصص عدة تساق عبارات كثيرة حول تكرار الزمن: "إنها تعيش نفس اليوم الذي ينتهي دائماً بنفس الحلم" (قصة "السيدة الفاضلة والدة الأديب الراحل"، ص 35)، "إن ما جرى لى يحدث كل يوم" (قصة "ولاية الضرير"، ص 50)، "إنني أمارس تلك العادة الغامرة"، (قصته "ياقلب مين يشتريك" ص 93)، "نفس الحكايات تقريباً من سنوات بعيدة، تنتهي دائماً بزفرة طويلة" (قصة "كوتسيكا"، ص 20)، "وأنا ما زلت أقف هناك على الرصيف.. مثل كل يوم.. وأهتف.. أيضاً مثل كل يوم.. إلخ" (قصة "مياومة"، ص 30). يتصل بهذا عبارات تؤكد بجلاء، في هذه القصص وفي غيرها، الإحساس بتواتر الأيام والوقائع: "توترات الأيام" (ص 36)، "الجارة التي تتوجه كل صباح ناحية البستان" (ص 39)، "الهزائم التي تتواتر مثل الفصول عبر الأزمنة" (ص 39).

لكن، مع هذه الإشارات لمعاني ركود الزمن وتكراره وتواتره، ثمة تساؤلات حول هذا كله، بل وثمة إشارات – مناقضة – إلى ما يمكن أن يتخطى هذا كله. في قصة "كوتيسكا"، التى تشير تسميتها إلى محطة مترو قديمة، يتساءل الراوي مع "الكهل" غير المسمى: "كوتسيكا محطة للنسيان أم لجريان الزمن أم للذكرى، ربما للإمساك بحلم الزمن الثابت غير المتغير" (ص 23)، وفي قصة "مضيفة لعبيد الرحمن" يقول الراوي، بكلمات قاطعة، متحدثاً عن حدث استثنائي يكسر تواتر الأيام: "يوم ليس ككل يوم" (ص 56). رتابة الزمن مع مروره، أو مروره مع رتابته، تستدعي – أو يستدعي – تأمل حركته، أو بوجه خاص تأمل ما تؤول إليه هذه الحركة. وخلال هذا التأمل يبدو أن هناك "صيرورة" خادعة، ظاهرية فحسب، لا يتحول معها أحد أو شئ تحولا حقيقيا، بل يبقى كل على حاله، فالفعل يتكرر ويستعاد ويتردد كما كان وكما سوف يكون، لا شئ يتغير، وهكذا – دائماً – تنتهي الأحلام، مثلا، إلى مصائر متشابهة: "تذكرت سنوات طويلة، وتلك الأحلام التي عشناها ولم تتحقق أبداًَ.. وأخذت أتامل المصائر التي دائماً ما تنتهي لما نحن فيه" (قصة "شجن ليلى"، ص 36).

يتصل بهذا وجود كثرة من تساؤلات فى قصص المجموعة حول الزمن المحتمل، حول المصير المجهول حتى وإن كان توقعه لا ينبئ باختلاف عن مصير معلوم: "كم من السنين ستمضي حتى يتخلص الناس من ذلك الموت الذي يسكن الحياة" (ص 39)، "كم من الوقت سيمضي لإدراك ما يجسده صوت البنت تلك الليلة" (ص45)، "كنت موزعاً بين نشوتي وأحوال هذا المعتوه الذي يوغل بي في ليل لا أعرف كيف سينتهي" (ص90)، "وأنت تمعن التفكير في الغيب، وعلى رأسك نمر سحابة معتمة" (ص110).

- 4 -

الماضي، من بين الأزمنة جميعاً، له المثول الأوضح في عوالم قصص المجموعة، ومثوله هذا متعدد المستويات متنوع الأشكال، يجاوز محض الاستعادة إلى الحضور الحي، ويتخطى مجرد الحنين إلى الحلول في الأشياء والكائنات التي توجد أو تتحرك، الآن، في الزمن الراهن. وفي هذا المعنى ما لا يختلف مع تأكيد د. سيزا قاسم: "إن الكفراوى لا يكتب عن الماضي الجميل ولكنه [ولكن] عن قدرتنا في [على] أن نعيش في أزمنة مختلفة" (مقدمة الكاتب للمجموعة: "صوت من الأبدية لراحل كريم"، ص 6).

الماضي تمثيل للقدم، وللذكريات المرتبطة بقدرات ومشاعر وعلاقات كانت فتية وواعدة، وجميلة أيضا، ولم تعد كذلك. والقدم والذكريات، والماضي بوجه عام، أشبه بملاذ تلجأ إليه الشخصيات لتدافع وطأة حاضرها الخانق المقبض، أو - على الأقل – الحافل بأسباب الاغتراب وعدم التحقق. للذكريات حيز كبير في عالم قصص هذه المجموعة، لأن لهذه الذكريات حضورا كبيرا في حيوات شخوصها. والإشارات إلى الالتصاق الحميم بين الشخوص وذكرياتها تتردد في أغلب القصص تردادا لافتا: "كنت أجلس بجوار جذع شجرة النخيل (...) غارقا في ذكريات قديمة لم تغادرني أبدا" (قصة "شجن ليلي"، ص 43)، "تذكرت (...) جلوسنا أنا وهو وهي والأولاد هناك في قلب حقلنا القديم، منصتين لصوت غناء مرسل من مذياع معلق في ساق التوتة.. إلخ" (قصة "يا قلب مين يشتريك"، ص 100)، بل يتحول مثول الذكريات في الحاضر إلى نوع من "العيش في الماضي": "وحدى هناك بين أماكن لم تعد موجودة، وأناس رحلوا بالموت مغبرين بقدم السنين" (قصة "حصوات الماء"، ص 71).

استعادات الماضي، المتكررة، لا تحتاج إلى جهد كبير أو ضئيل كي تتفجر خلال الحاضر المعيش، تكفى نظرة لعينين: "لاحظت أن عينيها كبيرتان، صافيتان، وأنهما كلما ابتسمت رجعت [كذا] بي لأيامي القديمة" (قصة "شجن ليلي"، ص 44)، أو تكفي إطلالة على موضع القدمين: "انظر تحت قدميك.. سوف تجد العلامات ورائحة الطفل الذي كنته" (قصة "حصوات الماء"، ص 73) كي تبزغ حياة الماضي وتزاحم حياة الحاضر.

الماضي، في بعض سياقات، هو الغبطة "أراه، يجلس في ماضيه الذي يثير غبطتي" – ص 104 )، وفي سياقات أخرى هو الحكايات، قصص "الأسلاف والجدود" (ص80)، وفي سياقات أخيرة هو الجنة نفسها" كأنها شجرة تخرج من الجنة هذا النهار، تلك الجنة الغابرة" – ص 122). يستدعي العيش في الماضي فضاءه وحيزه. من هنا نشهد تلك الوقفات التي تحتشد بها قصص المجموعة ـ كلها تقريبا ـ عند مفردات الأماكن القديمة: "محطة باب اللوق القديمة" (ص19)، أو"محطة المترو القديمة" (ص 23)، و"الصالات القديمة لتلك القصور التي هجرها أغواتها" (ص 55)، و"الحارات التي فارقها مجدها" و"التي تسكن تحت الأرض مخايلة لزمن قديم" (ص 66)، والمسجد العريق بإيوان قبلته وتيجان زهرة اللوتس الفرعونية على أعمدته، يعبر الراوي المتكلم ردهته فيهاله "القديم في القديم" (ص 88)، وأرفف المكتبة العتيقة بكتبها التي توغل "في علم أصول الأشياء" و"أسرار من الوطن القديم" (ص 93)، و"الطاولات العتيقة" (ص 20)، و"التوتة العريقة التي عمرها الجدود" (ص 99)، والأغنية القديمة التي رددها راو ـ غدا عجوزا الآن ـ " زمان "، "أول الشباب" (ص 103). ويتصل بهذا كله إلحاح حضور مفردة "البيت القديم"، التي تعد تعبيرا نموذجيا عن حنين العودة إلى الماضي كجزء من حنين العودة إلى الرحم، وأحيانا إلى الفردوس الأول. وهذه المفردة تتكرر، بدورها، فى نصوص قصص المجموعة، تكرارا لافتا: "بيتها على النهر (...) والأزمنة تتجاور وقد دهمته الأبنية الجديدة فغدا مثل عجوز منسى" (ص 72)، "البيت القديم (...) ذلك البيت الذى مات فيه أولادها"، (ص 35)، "حالات الصمت والفراغ فوق سطح بيت عتيق تلامس الروح" (ص 110، وانظر أيضا صفحات: 40،55،59).

إلى جانب مثول "أشياء" الماضي، ومبانيه وأماكنه، ثمة تمثيلات وتجسيدات له بالبشر أنفسهم، إذ يغدو بعض الشخصيات اختزالا لأزمنة قد انطوت واستدعاء حيا لها: "تلك امرأة من زمن قديم .. ترى فيها وجه أمك وخالتك ورفقة أيامها التي لم تعد" (قصة "حصوات الماء"، (ص 74)، أو يستثير بعض الشخصيات مخايلة ما بتلك الأزمنة: "كانت في الثلاثين، وبدت لي كأنها تجلس على سرير الفضة التركي داخل الغرفة العلوية المحاذية لسطح صالة الأغوات" (قصة "مضيفة لعبيد الرحمن"، (ص 59). وفي سياق غير بعيد عن هذا، خلال "تراكب" الرؤية الزمنية التي ينهض عليها عالم/ عوالم قصص المجموعة، قد تحيل شخصية ما إلى زمن يتخطى الماضي، كما يتخطى الحاضر والزمن المحتمل جميعا؛ زمن يجاوز كل الأزمنة: "أعطتنا ظهرها وأطلقت غناء بمفردات لغة لا نعرفها. كان صوتها يجتاز الحدود بين العمار والخراب، وتبدو لنا في وقفتها وكأنها مرت بزمن يفر من زمن" (قصة "سن السكاكين"، ص 66، 67).

-5-

تستدعي "الرؤية الزمنية" في (يا قلب مين يشتريك) ما يوائمها من تقنيات فنية. الزمن المتراكب، المجسد، المستمر المتصل، بصياغاته الخاصة، يقترن بتجارب وشخوص يقتنصها بعض القصص من قلب عالم الريف، وتشكيل الزمن العابر، المبتور، المجرد، يتصل ـ غالبا ـ بشخوص وتجارب يلتقطها بعض القصص من عالم المدينة. والتساؤلات حول المآل والمصير في الزمن المحتمل، الممكن، تغزل سردها الخاص؛ حيث تتلاحق العبارات القصيرة لتعكس التوزع، أو عدم اليقين مما سوف تؤول إليه الأمور: "كنت مندهشا، ومأخوذا.. كم من الزمن سيمضي لأمسك بتلك اللحظة مرة أخرى.. لأقبض على خلود الزمان في هذا المكان الضيق.. إلخ" (ص 45). وتعدد النظرة للزمن، أحيانا، والحوار حوله، يستثيران التنقل الدائب عبر أكثر من منظور سردي، مع التنقل بين "رواة" القصص وشخوصها على حد سواء، وأيضا مع التنقل من ضمير لآخر عند هؤلاء الرواة عبر صيغة الالتفات (وهي صيغة بارزة في عدد كبير من قصص المجموعة)؛ إذ يتحول الراوي إلى مروى عليه، وأحيانا إلى مروى عليهم بصيغة الجمع، فيما يشبه قفزات توازي الانتقالات عبر الأزمنة (انظر، على سبيل المثال، صفحات:13، 14، 15 و93). وبهذا كله، وفى هذا كله، وفى غيره، تغدو الكتابة تعبيرا عن التناول المحورى فيها، انبثاقا منه واستجابة له، معا، فى آن.

 

هامش:

(*) سعيد الكفراوى، (يا قلب مين يشتريك)، كتاب اليوم، عدد 501، دار أخبار اليوم، القاهرة، ديسمبر 2007.