بـ«جلابية وطاقية فلاحي» دخلَ على يحيى حقّي

ناصـر كامـل

 

في الصحافة والإعلام، تُخلّف العجلة في حصر السجايا مفارقات منيرة عند تدقيقها. فنعي «المجلس الأعلى للثقافة» في مصر للراحل سعيد الكفراوي، يكشف مقدار الاستخفاف الذي تتعامل به مؤسّسات الدولة في نوافذها الرسمية. هكذا، منح الموقع الرسمي للمجلس درجة الدكتوراه للكفراوي، لنقرأ في التعريف به لدى نيله جائزة الدولة التقديرية (2015) «الدكتور سعيد الكفراوي». لكنّ الراحل كان قد صحّح ذلك قائلاً: «لم يحصل جلّ جيلنا، جيل الستينيات، على مؤهلات عليا، باستثناء محمد البساطي وصنع الله (إبراهيم) وعبدالحكيم قاسم. أنا حصلت على دبلوم تجارة، ومحمد مستجاب وجمال الغيطاني مؤهل متوسط أيضاً، (إبراهيم) أصلان ابتدائية، وخيري شلبي مفيش». التصحيح يعود إلى آب (أغسطس) من العام الماضي ضمن ملف نشره الكاتب حسن عبد الموجود في موقع «الكتابة» تحت عنوان «سعيد الكفراوي يتذكر»، لكن الدرجة العلمية ظلّت صامدة على موقع المجلس حتى اللحظة.

صدق النعي «الرسمي»، فالكفراوي لم يكتب سوى القصة القصيرة، لكن اعتبارها تمثّل «كينونته» مبالغة فجة؛ وإن كان يستملح وصفه بأنه «راهب القصة». وتبلغ الفجاجة مداها الأقصى عند ذكر «أن النقد اعتبره أحد شهيدين يبدعان هذا الشكل الفريد، مع زكريا تامر». تدفع جملة التعريف «الرسمي» الأخيرة إلى تأمل إحدى مفارقات السجايا الأوسع انتشاراً ودلالة: «اعتُقل في زمن الناصرية، ومن الشائع أن رواية «الكرنك» لنجيب محفوظ كان الكاتب أحد أشخاصها». الحكاية اكتسبت وجوداً؛ كواقعة اجتماعية قبل أن تكون حدثاً ثقافياً، من تكرار نشرها. لكن يخلو كل نشر من أيّ إشارة أو تلميح إلى تصديق محفوظ على صحتها. ثم إن التدقيق في تاريخ نشر «الكرنك» (1974) يخلق فجوات في رواية الكفراوي المتكرّرة بأن محفوظ قال له أمام الجميع: «على فكرة يا كفراوي انت إسماعيل الشيخ في الكرنك». ثم إنّ نسخ الحكاية في معرض التعريف والمدح يبدو كهجاء، أو هذا ما قد يظنّه بعضهم؛ فليس محبّباً أن يُعرف كاتب كبير بحق كالكفراوي بأنه «شخصية» في رواية، أو أن يكتب ويقال: رحيل بطل «الكرنك»، أو «قديس الأدب»، الذي حمل على كتفه عبء القصة القصيرة.

يذكر الكفراوي أن سبب الاعتقال هو قصة «المهرة» التي نشرها في مجلة (سنابل)، والمأساوي أنّ المحققين كانوا حائرين في تكييف الاتهام: إخواني أم شيوعي؟ في القصة أخ كبير مستبدّ يضن بالمهرة على أخيه الشاب، فأوّل الأمن ذلك الأخ على أنه عبد الناصر. ويسترجع واقعة النشر في مجلة (المجلة) واللقاء مع يحيى حقي، يورد تفاصيل «حريفة»، منها ذهابه إلى مقر (المجلة)، مرتدياً «جلابية وطاقية فلاحي». وهنا؛ كما في واقعة «الكرنك»، وكما في مجمل نتاجه الأدبي والثقافي، يجب تذكّر مقولة الكفراوي المفتاحية: «السؤال الذي حيَّرني، هل التخييل أغنى من الواقع؟ أم التخييل والواقع صنوان؟ لا يوجد تخييل فى الدنيا من غير واقع.» حين ذهب الكفراوي إلى حقي بمظهره «الريفي»، كان يقتفي أثر مجايليه الذين سبقوه في النشر إلى ذلك المنبر المرموق وقتها، لكنّه يضفي على نفسه «سمات» مفارقة، ثم غادر على أمل، وكان أن نشر حقي قصة «الموت في البداري» في تموز (يوليو) 1970، ونقرأ: قصة قصيرة بقلم: السعيد الكفراوي، تنضح بمرارة هزيمة يونيو 1967، وكان للأمن أن يتأولها هي الأخرى على أنها تحميل للزعيم مسؤولية العار، وخيبة الرجاء.
يتخلّى الكفراوي عن الألف واللام؛ الأصيلة في اسمه، مع نشره التالي في (المجلة): قصة «النبش في التراب»، أكتوبر 1971، وفيها بذرة قصص وحكايات ظلّ يردّدها بنغمات متباينة. لا ينشر بغزارة، لكنه يسعى في كل اتّجاه، حتى أنه ينشر القصة نفسها في عدد من المجلات، يبعث بقصة «الجمعة اليتيمة» إلى مجلتي (البيان) الكويتية و(الآداب) اللبنانية. تنشرها الأولى في حزيران (يونيو) 1973، وتنشرها الثانية بعدها بشهرين. ثم بعد عامين من نشرها الأول، يبعث بها إلى «الأقلام» العراقية فتنشرها، وأحياناً يبعث بالقصة إلى مجلات عدة، ويصادف أن تُنشر في أكثر من مجلة في الشهر نفسه، كما حدث مع قصة «عشب مبتل» التي نُشرت في «إبداع» المصرية، و«الآداب» في تموز (يوليو) 1988. ويبدو أن هذه كانت استراتيجية ثابتة متواصلة.

يتأخر الكفراوي في إصدار مجموعته الأولى «مدينة الموت الجميل» (القاهرة 1986). وفي القصة الأولى من المجموعة «لابورصا نوفا» المؤرخة في كانون الثاني (يناير) 1974، يظهر عمق السؤال المحيّر حول التخييل والواقع في فقرتين. نقرأ في الأولى: «قلت لها: إن عمري36 عاماً وإنني عشت خمس حروب، وإنني وأنا صغير. كنت أقف على تلّ عالٍ على جسر النيل، وأرى كشافات ضوء في السماء تكشف طائرات العدو المغيرة، وأنهم كانوا يقولون إن جلالة الملك فاروق سيدخل تل أبيب غداً. وأنه قد مرت كل تلك السنين ولم ندخل تل أبيب بعد. قلت لها أيضاً: إن اليهود يجلسون معنا الآن بالمقهى.» في الفقرة الثانية نقرأ: «قلت لها: إن صديقي اسمه عفيفي مطر وإنه شاعر مجيد، له ولد وبنت والولد اسمه لؤي. أما البنت فقد نسيت اسمها، لأنه هاجر. وإنني كنت أحبها بدرجة كبيرة .. قلت لها أيضاً: كلهم هاجروا». مطر ذهب إلى العراق، وتبعه الكفراوي، ولكن إلى السعودية حيث أمضى خمس سنوات، و«حين عاد كان قد تغير كل شيء.»

وسيعود إلى مطر مرات، آخرها في تموز (يوليو) الماضي، حين نشر مقالاً في مجلة «الفيصل» السعودية، بعنوان «شمس في سماء القلب، عفيفي مطر والانفتاح على عوالم من غرائب الشعر»، يورد فيه بعض تفاصيل اعتقال مطر أثناء غزو أميركا للعراق (2003)، ومغامرة زيارته له في المعتقل. ويختم المقال بما يشبه الشهادة الأخيرة له؛ وإن كانت على لسان الشاعر: «قبل أن يرحل (عفيفي مطر) عن الدنيا، قال في تلويحة وداع: في تلويحة الوداع، أقول حياتي مغسولة بعرقي، ولقمتي من عصارة كدحي، وكرم استحقاقي. لم أغلق باباً في وجه أحد، ولم أختطف شيئاً من يد أحد، ولم أكن عوناً على أذى أو ظلم أو عدوان؛ اللهم فاشهد.»

 

عن (الأخبار اللبنانية)