سعيد الكفراوى وشلّة المحلة

والتنظيم الأدبى لجيل الستينات

شعبان يوسف

 

توضيح ضرورى:
كتبت هذا المقال ضمن ملف أعده الكاتب الروائي والصديق حسن عبد الموجود، وذلك لنشره فى جريدة "أخبار الأدب"، وبالفعل نشر المقال فى أحد أعداد أغسطس 2019 من الجريدة، وأعاد موقع الكتابة الثقافي نشر هذا المقال فى 27 أغسطس من العام نفسه، وعندما رحل الكاتب الكبير، كان من الواجب إضافة بعض الملاحظات التي لم تسعفني المساحة المخصصة آنذاك لكتابتها، لذلك كبر المقال أكثر مما كان، لكى يصبح مقالا آخر، وأشد ما آلمني هو تغيير الفقرة التي كانت "أطال الله في عمر سعيد الكفراوي"، لتصبح "رحم الله الكاتب الكبير"، كما هو مثبت في نهاية المقال.

خلفية سياسية حاسمة:
عندما وقعت الواقعة في 5 يونيو 1967، أصيب الجميع بوجوم وشعور بالانهيار والخيبة والإحباط والهزيمة الكاملة، وقبل أن تتمكن تلك المشاعر الجمعية من التغلغل في وجدان قطاعات واسعة من الشعب المصري، كان جمال عبدالناصر الزعيم والمسئول الأول عما يجرى فى البلاد، يعلن استقالته وتنحيه عن القيادة في 8 يونيو 1967، ليترك الدفة لرجل آخر، وهو زكريا محيى الدين، ربما يستطيع أن يفعل ما لم تفعله المجموعة التي قادت البلاد إلى تلك الكارثة. وما إن أعلن ناصر تنحيه عن السلطة وقيادة البلاد، حتى خرج الناس جميعاً ليعلنوا رفضهم لذلك الأمر، وتمسكهم بالقيادة، مهما كانت العواقب والنتائج التي ستترتب على ذلك، كان الخروج جماعياً وكاسحاً وحاسماً ويبدو تمرداً كذلك.

ومهما اختلف باحثون ومراقبون ومتابعون كثيرون في تفسير موقف الشعب المصري، وهل هو انحياز أعمى للقيادة؟ أو هل هذا الخروج كان بدافع من السلطة ذاتها؟ إلا أن ذلك الخروج كان بمثابة الرفض الحاسم للهزيمة، والإصرار على تجاوزها، كما أن تلك الجماهير الغفيرة أرادت أن تختبر قدرتها على الحشد الواسع والعفوي أمام قرار يأتي من أعلى، بغض النظر عن طبيعة القرار وآثاره التي جاءت في صالح الطرفين، السلطة التي استعادت قائدها، في مواجهة قوى تناحرية كانت تقاوم عبد الناصر، وهكذا انتصر ناصر بتجديد البيعة، عبر ذلك الخروج الحاشد، كذلك انتصرت الجماهير التي جرّبت التمرد لأول مرة منذ مصادرة ذلك التمرد بعد عام 1952، ومن ثم كانت هذه «البروفة» الحاسمة من التمرد، مقدمة قوية لأشكال أخرى أتت فيما بعد.

بعد ذلك خرج الطلبة والعمال احتجاجاً على محاكمة قيادات الطيران التي تسببت في الهزيمة كما وضح أو أشيع، واستجابت السلطة لتلك الاحتجاجات، وتمت إعادة المحاكمة مرة أخرى، رغم أشكال المقاومة التي واجهت بها السلطة تلك الاحتجاجات، ولكننا نستطيع أن نشير ببساطة إلى ذلك الحراك الواسع والعميق الذى ظل سائداً وفاعلاً لفترة طويلة، حتى بعد رحيل جمال عبد الناصر نفسه رأس السلطة والقائد الأعلى، رغم الانتصارات التي حققتها القوات المسلحة المصرية على العدوّ الإسرائيلي في حرب الاستنزاف المجيدة التي جاءت بعد الهزيمة مباشرة.

المثقفون وحراكاتهم:
كانت الحياة الثقافية في ذلك الوقت، تمر بمخاض آخر تكونت فيه طاقات إبداعية جبارة، وراح المثقفون الراديكاليون يؤسسون منابرهم الخاصة والمتميزة وشبه المستقلة، لم يكن استقلالاً تاماً، ولكنه نوع من الاستقلال الفكري والمعبّر عن أشواق أدبية وثقافية تقدمية، فاجتمع عدد من هؤلاء المثقفين على مقهى ريش، وشرعوا في عرض فكرة إنشاء مجلة ثقافية تعبّر عنهم، وتحمل أفكارهم، وبالفعل بدأوا في جمع التبرعات، ودفع نجيب محفوظ خمسين جنيهاً من جيبه الخاص دعماً لتلك المجلة المأمولة، ومنح يوسف السباعي، ممثل السلطة، المجلة إعلاناً بمائة جنيه من منظمة التضامن الأفروآسيوى، ولا بد أن نذكر أن تلك المنظمة - منظمة التضامن - تعاونت كثيراً مع كتّاب ومثقفين، واعتبرتهم عاملين فيها، وذلك لكى تعطيهم ما يشبه الرواتب، ومن هنا كانت السلطة - رغم جبروتها - طرفا لاعبا بجدارة في الحياة الثقافية، تستقطب بعض المثقفين والكتّاب بهذه الطريقة، بغض النظر عن أن هؤلاء المثقفين كانوا يسبّونها في الصباح وفى المساء.

وصدر العدد الأول من مجلة «جاليرى ٦٨» برئاسة تحرير أحمد مرسى، وضمّت هيئة التحرير إبراهيم منصور وإدوار الخراط، وسيد حجاب، وغالب هلسا، ويسرى خميس، وسكرتارية التحرير كانت: إبراهيم عبد العاطى وسعد عبد الوهاب، وكان مدير التحرير جميل عطية إبراهيم، والذى ظل موجوداً وفاعلاً طوال صدور المجلة التي أغلقت في فبراير 1971، بعد أن أحدثت حراكًا كبيرا ومتميزاً وفاعلا في الحياة الثقافية والأدبية المصرية، واستكتبت كتّاباً ونقاداً كانوا على يسار السلطة الثقافية والسياسية طوال الوقت، بل كانوا مطاردين منها، وعلى رأسهم الناقد والمترجم والمفكر الأدبي ابراهيم فتحي، ذلك الثوري الدائم.

وأود أن أقتبس بعض عبارات ذات دلالة من مقدمة العدد الأول، تلك المقدمة التي حملت ملامحها معظم المادة الأدبية والفكرية التي تلت ذلك، يقول أحمد مرسى فى مستهل المقدمة: «يعيش الوطن العربي هذه الأيام، تجربة مخاض عظيمة وأليمة، ذلك لأن النكسة العسكرية التي حلّت بأمتنا لم تكن نهاية في حد ذاتها بل كانت الثمن الفادح للوقوف على الحقيقة عارية، وهذه هي الحقيقة، هي الأرض الصلدة التي نقف عليها بأقدامنا اليوم، في انتظار لحظة الميلاد .. وبصدور العدد الأول من مجلة جاليرى 68 في ظل الأحداث التاريخية والمصيرية التي تشهدها البلاد، لا يسع المجلة إلا أن تقطع على نفسها عهداً بأن يكون لها شرف وضع لبنة متواضعة في صرح الوطن الاشتراكي الديمقراطي الحر الجديد. وعلى الرغم من أن مجلة 68 ليست مجلة سياسية، فهي تؤمن بأنها لو نجحت في الكشف عن حقيقة ما يختلج في جوانح الكتّاب والشعراء والفنانين من أبناء جيل اليوم، تكون قد أوفت بالعهد الذى قطعته على نفسها، بالمشاركة فى معركة التحرير والبناء».

هكذا بدأت المجلة عهدها، ولا جدال بأن المقدمة جاءت ناعمة للغاية، ولم تشتبك ذلك الاشتباك الواضح والمعلن على المستوى السياسي، ولكننا لا بد أن نشير إلى أن المجلة بما حملته فيما بعد من مواد فكرية وثقافية، كانت شجاعة بمقاييس ذلك الزمان، ولا نغفل أيضاً أن السلطة كانت تريد وتسعى لاستقطاب المثقفين، وتوفير منابر التعبير المحدودة نسبيا، وذلك تحت عينها وبصرها بشكل دائم.

مؤتمر الأدباء الأوسع:

من هنا جاءت فكرة مؤتمر للأدباء الشباب التي طرحها عدد من الكتَّاب، وعلى رأسهم الكاتب الصحفي والأديب محمد صدقي، والذى أسس صفحة خاصة في جريدة الجمهورية لأدباء الأقاليم، وتلقفت السلطة الفكرة، وبدأ المسئولون في الاتحاد الاشتراكي العربي يعملون على قدم وساق، وانهمك الجميع في إعداد ذلك المؤتمر، وتحت رعاية وزير الداخلية «ذات نفسه» شعراوى جمعة، وكانت علاقته بالمثقفين وقضاياهم متداخلة وفاعلة في تلك الفترة، وتم اقتراح اسم نجيب محفوظ كأمين عام لذلك المؤتمر، ولكنه بدبلوماسيته التاريخية المعروفة، انسحب، أو بمعنى أدق «خلع»، وهذا ما لم يستطع كثيرون أن يفعلوه.[i]

انعقد المؤتمر في مدينة الزقازيق من 4 إلى 8 ديسمبر 1969، وتشكلت لجانه على النحو التالي، الدكتور على الراعي أمين مساعد المؤتمر، والدكتور يوسف إدريس مقرراً للجنة القصة، وصلاح عبدالصبور مقرراً للجنة الشعر، وأحمد عباس صالح مقرراً للجنة النقد، وفاروق خورشيد مقرراً للجنة الرواية، وأحمد رشدي صالح مقرراً للجنة الأدب الشعبي والشعر العامي، والدكتور عبد الغفار مكاوي مقرراً للجنة الصياغة والأبحاث، وعباس أحمد مقرراً للجنة البرامج التلفزيونية، ويوسف حطاب مقرراً للجنة البرامج الإذاعية، وألفريد فرج مقرراً للجنة المسرح، ومن الملاحظ فى هذه اللجنة التحضيرية القوية، أنها لم تضم أحداً من الأدباء الشباب المنعقد من أجلهم المؤتمر، كذلك لم تضم واحداً من أدباء الأقاليم، رغم أن المؤتمر انعقد في مدينة الزقازيق. وهذا يدلّ على أن الدولة أرادت أن تهيمن على المؤتمر تماماً.

ولكننا لا ننكر أفضال هذا المؤتمر الجمّة، واختراقات الشباب التي تجلّت فيه، فعرفت الحياة الثقافية عدداً من الأدباء الشباب لم يكونوا معروفين على مستويات واسعة، منهم سمير الفيل من دمياط، وقاسم مسعد عليوة من بور سعيد، ومحمد الخضري عبد الحميد من المنيا، ومحمد الراوي من السويس، ومحمد يوسف من المنصورة وغيرهم، وحصل كثيرون على جوائز من المؤتمر، مما شكّل لهم دفعة قوية طوال مسيرتهم الأدبية.

وكتب صبري حافظ مقالاً رصيناً في مجلة «المجلة» بتاريخ 1 يناير 1970 امتدح فيه أمانة الاتحاد الاشتراكي على هذه المبادرة التي تربط بين الشباب والواقع السياسي الحاضر آنذاك، من خلال الاهتمام بنشاطاتهم، والتعرف على ملامح رؤيتهم للقضايا والمشكلات المثارة في المجال الذى يهتمون به أو يعملون فيه، وأشاد بالإنجازات التي حققها المؤتمر، وتداعياته، إذ أن اللجنة التحضيرية تابعت الفعاليات الثقافية، وحققت ما يزيد عن سبعين فعالية في جميع أقاليم مصر خلال شهر ديسمبر 1970، ما بين ندوات ومؤتمرات مصغرة.

وناقش "حافظ" محاور المؤتمر التى رآها وافية ومهمة، كما أنه امتدح التوصيات التي خرج بها المؤتمر، وعلى رأسها قضايا التفرغ والنشر والترجمة، ومن المدهش أن يقول صبري حافظ: «ورأى كذلك، أي المؤتمر، ضرورة بذل جهد خاص لترجمة أدب العدو الإسرائيلي ونقده وتقييمه، تمكيناً لمحاربينا وجماهيرنا من التعرّف على وجدان العدو»!، ورغم أن صبري حافظ كان أحد المشاركين بشكل ما في المؤتمر، وإعداد أوراقه، فلم يذكر على مدى المقال كله، أن نجيب محفوظ انسحب من الأمانة العامة، وربما يكون ذلك نوعاً من تمجيد ذلك المؤتمر، فقد ترك بالفعل بصمات عميقة فى حركة الأدب فى الأقاليم فيما بعد.[ii]

أبرز المؤتمر كتّاباً ومبدعين عديدين، ولكنه لم يبرز أهم مساحة ثقافية في الأقاليم، وهى حركة أدباء المحلة، والذين كانوا قد قطعوا شوطاً كبيرا وواضحاً ولامعاً في النصف الثاني من عقد الستينيات، ويكتب الشاعر محمد فريد أبو سعدة في «الصبى الذى كنت، سيرة ذاتية»: «كان هذا مع عامي الأول في المرحلة الثانوية، وفى العام الثاني تعرفت على المنسي قنديل وجار النبي الحلو، كانوا يكتبون القصص فكتبت قصصاً، وحاولوا هم أيضا كتابة الشعر! ثم تعرفنا على فصيل سبقنا إلى تكوين نادى الأدب في عام 1965، سعيد الكفراوى وجابر عصفور ومحمد صالح ونصر حامد أبو زيد ورمضان جميل وبكر الحلو، كانت المناقشات أشبه بتدريبات عسكرية شاقة، لفصيل مهمته غزو العاصمة، وإعداده للتصرف الصحيح في كل الظروف".

إذن كانت هناك حركة واسعة وموّارة في المحلة الكبرى، وكان من أبرز ممثليها "السعيد سلامة الكفراوى"، وهو نفسه الكاتب الكبير الذى اختصر اسمه إلى سعيد الكفراوى، ومحمد المنسي قنديل، وجار النبي الحلو، ومحمد صالح، ورمضان جميل، ومحمد الشطوي، وصالح الصياد، وأحمد عصر، وغيرهم، وكانت المحلة الكبرى في ذلك الوقت مزاراً دائماً لأدباء القاهرة وغير أدباء القاهرة ومثقفيها وساستها.

وكانت السلطة ممثلة في وزير الداخلية شعراوى جمعة مهيمنة على المؤتمر، وحريصة على إخراجه بالطريقة التي ترضيها، وتخدم أغراضها السياسية، وفى الوقت نفسه تفسح مساحات أخرى للأدباء الشباب، وفق حسابات معينة. في ذلك اليوم 8 ديسمبر اجتمع، في القاهرة، عدد من المثقفين الثوريين، ليقرروا تأسيس منظمة سياسية تقود العمل الثوري في مصر، وكان من أبرز قيادات تلك المنظمة الناقد والمفكر إبراهيم فتحي، وكذلك الناقد والشاعر- آنذاك - خليل سليمان كلفت، فهل لذلك دلالة، أم أنه كان حدثاً طارئاً؟ ورغم مرور أكثر من خمسين عاما على الحدث، لم يجب أحد على هذا السؤال، أي ترابط الحدث الثقافي، مع الحدث السياسي وتقاطعه معه.

ولكن الذى يؤكد أن الأحداث ليست عشوائية تماماً، أن خليل كلفت نفسه، قام بزيارة المحلة الكبرى فى تلك الفترة، للتعرف على أدبائها الفاعلين والجادين، وكتب مقالاً تاريخياً عن تلك الزيارة، ونشره فى 17 ديسمبر 1969 بجريدة «المساء»، وهذا يدلّ على أن خطاً ثورياً قد نشأ في مواجهة خط الاحتواء الذى كان يُدشّن له الاتحاد الاشتراكي العربي، وأكرر أن الكتّاب السعيد سلامة الكفراوى ومحمد المنسي قنديل وجار النبي الحلو، كانوا أبرز من أسماء أخرى في ذلك الوقت، كالدكتور جابر أحمد عصفور والدكتور نصر حامد أبو زيد رزق، الذى كان يكتب شعراً بالعامية، وهذه المعلومة للرصد فقط لا غير، لأن د. جابر عصفور كان مشغولاً بحياته الأكاديمية والجامعية، والتي أتت بثمارها فيما بعد، مع مسيرته الفكرية والثقافية والأدبية الواسعة لاحقا.

أدباء المحلة:
تطرق خليل كلفت في مقاله لمناقشة بعض قصص كتّاب القصة الثلاثة، الكفراوى وقنديل والحلو، والذين كانوا نجوماً على مستوى المحلة الكبرى، وهى المدينة التى كانت موطناً لآمال الثوريين، على اعتبار أنها المدينة التي ستنطلق منها الثورة الاشتراكية، لأنها تنطوي على أوسع وأكبر احتياطي للطبقة العاملة المصرية، وبالتالي لم تكن زيارة خليل كلفت «الماركسي»، والذى كان مشاركاً في تأسيس المنظمة الثورية توّاً، زيارة اعتباطية أو عشوائية، وهو يقدّم دراسته بالحديث عن ضرورة الفن بشكل عام، ومن اللافت للنظر أن الإنتاج الفني في تلك المرحلة، تمّيز بالخصوبة والتقدم والرقى، كما أن تواشجاً ما قد حدث بين رقى الفن في ذلك الوقت، وضرورة التعبير عن الواقع الاجتماعي:

«وتشترك المحلة الكبرى مع باقي أنحاء مصر والعاصمة أيضاً في أمور كثيرة أخرى، لعل من أهمها تفوق مستوى القصة القصيرة على الأنواع الأدبية الأخرى، وعلى الرغم من تنوع الاتجاهات الفكرية وتفاوتها في الدرجة عند كتّاب القصة القصيرة في المحلة، فإن مواهبهم الفنية الصادقة تقودهم في غالب الأحيان إلى المنبع الأصيل للفن، إلى الحياة الاجتماعية الرحبة، وربما كان من المزايا الإيجابية لأبناء تلك الأقاليم، أنهم قريبون إلى حياة القرى المحيطة بهم والتي تمتد جذورهم القريبة والبعيدة إليها، وهم قريبون إلى ذلك الوضع الإنساني الذى تعيشه غالبية سكان بلادنا.»

وبعد أن استفاض كلفت في الحديث عن سيادة فن القصة القصيرة وتميزه في مدينة المحلة، تناول إبداعات محمد المنسي قنديل، وجار النبي الحلو والسعيد سلامة الكفراوى، ونفى عنهم كما كان شائعاً عند كتّاب آخرين، افتعال الكاتب توافقاً وهمياً مع الواقع، وهم، أي كتّاب المحلة، لا يعمدون إلى تجميل الواقع مطلقاً، بل إن صدقهم الفني، كما يكتب خليل، يقودهم إلى تقديمه كما هو.

وبدأ كلفت قراءته لقصص كتّاب المحلة بالكفراوى قائلاً: «إن هذا الواقع الذى يقتل الأشواق الإنسانية، ويغترب فيه كل ما هو إنساني، هو أيضاً موضوع القصاص السعيد سلامة الكفراوى، ويملك هذا القصاص عالماً قصصياً مليئاً بالخبرات الإنسانية المليئة الكثيفة، فرغبات شخوصه وأشواقهم تختنق في هذا الواقع ولن تتحقق فيه، وشخصيات السعيد هي دائماً جريحة، وليست هذه الجروح لعنة ميتافيزيقية نفذت إلى مخ عظامهم، بل هي جروح واقعية إنسانية فاغرة»، ويستطرد كلفت في تفكيك الخطاب القصصي عند سعيد الكفراوى، ويبدو أنه كان مفتوناً، أي خليل كلفت، بعالم سعيد الكفراوى، كما كان مفتوناً كذلك بزميليه محمد المنسي قنديل وجار النبي الحلو، وسجّل تلك الفتنة في ذلك المقال الذى أراه مقالاً تاريخياً وتأريخيا في الوقت ذاته، في التنويه إلى ظاهرة كتّاب وأدباء المحلة، الذين لم يتركوا آثار إبداعاتهم حبيسة مدينتهم فقط، بل مدّوا بظلالهم إلى مدينة القاهرة، وبالتالي مصر كلها.

الجمعية المركزية لرواد قصور الثقافة:
كانت هيئة قصور الثقافة من بين المؤسسات التي ترعى حركة أدباء مصر في الأقاليم، وكانت تعقد المسابقات بشكل دوري، وكان أدباء المحلة لهم نصيب كبير وواضح في تلك المسابقات، وفى ذلك العام، أقامت "الجمعية المركزية لرواد قصور الثقافة" مسابقة فى مجالات أدبية وفنية عديدة، منها الشعر بفرعيه العامي والفصيح، والقصة، وفاز في فرع القصة ثلاثة كتّاب من المحلة الكبرى، وكان كلّ الفائزين ثمانية كتّاب، وكان ترتيب السعيد سلامة الكفراوى الرابع، وكانت قصته الفائزة عنوانها "المهرة"، وجاءت القصة التي نشرت في العدد الأول من مجلة "الثقافة الجديدة" فى ابريل عام 1970 تحمل أبعادا احتجاجية ورومانسية في الوقت ذاته، يبدأها ب: "الطريق الزراعي يشق قلب الحقول، الأفق البعيد يعانق المزارع الخضراء في مودة قديمة وأبدية، نسمات العصر الطرية تهب من الجنّة، والحقول تتضام، .. زرافات الطيور تسبح في الفضاء ... بحرية والنيل يتتابع موجه، يسير محتضنا بعضه في ألفه.. في الجو تشيع تلك اللغة الإلهية.."، ويسترسل الكفراوى في وصف المناخ الذى تسير فيه المهرة، تلك المهرة التي كانت تمثّل أجمل ظواهر البلدة الحيّة، وكانت تنمو ويزداد جمالها، وتنطلق حركتها في كل الطرق، وكانت ترقص في الأفراح، ويهتز لرقصها جمع الناس الذين يجتمعون حولها، وفجأة تختفى المهرة، وتنتهى القصة بأن البلدة كلها خرجت لاستعادة المهرة.

فى القصة يتضح الرمز قويا، ويعلّق عليها الناقد فؤاد دوارة في العدد نفسه قائلا: "تأتى قصة المهرة للسعيد سلامة الكفراوي، غاية في البساطة وصدق تصوير البيئة الريفية، والبيئة الطبيعية بصفة أخص .. وإن نجح الكاتب في صهر هذه العناصر المحلية لعلاج موضوع أشمل وأعم، حين رمز -دون افتعال- بضياع المهرة الجميلة التي يعشقها أهل القرية جميعا لضياع أجزاء عزيزة من أرض بلادنا. هناك عبر القنال .. أو (عبر النهر)، كما في القصة"، ولا أريد أن أوضح أن سعيد ورفاقه كانت القضية الوطنية، واستعادة الأرض المحتلة، هي الهاجس الأول الذى كان يشغل الكتّاب والمبدعين، وهذه القصة، هي إحدى ثمرات هذا الهاجس، وأعتقد أن سعيد الكفراوى لم يضمها إلى أي من مجموعاته القصصية، كما فعل مع قصص كثيرة أخرى.

ولا بد - كذلك أن نرصد أن محمد المنسي قنديل، رغم أنه يصغر سعيد الكفراوى بعدة سنوات، كان سبّاقاً في نشر قصصه، والفوز بجوائز عديدة، تلك الجوائز التي كان يقيمها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، في حقبة الستينيات، وكان المجلس ينشر بين الحين والآخر القصص التي فازت على مدى سنوات، وفى الكتاب الذى تضمن القصص الفائزة بين 1966و1970، تم ذكر قصة «أغنية المشرحة الخالية»، وكانت هناك قصص لإبراهيم عبد القوى عبد المجيد، وعبد الوهاب محمد حسن الأسوانى، وفاروق حسان السيد، ونهاد منير شريف، وغيرهم، وكان الكتّاب فى ذلك الوقت، مغرمين بإدراج أسمائهم على هذا النحو الثلاثي، وبعضهم تخلص من ثلاثية الاسم ومنهم إبراهيم عبد المجيد وعبد الوهاب الأسوانى وسعيد الكفراوى ونهاد شريف وفاروق حسان وغيرهم، ومنهم من حافظ على ثلاثية الاسم وأبرزهم محمد المنسي قنديل.

خطوة أخرى جديدة:
يحكى سعيد الكفراوى في شهادة عن يحيى حقي، بأنه جاء إليه في مقر مجلة «المجلة»، واستقبله استقبالاً حافلاً، رغم أن ريفيته كانت ظاهرة: «كنت أرتدى جلباباً بلدياً، وعلى رأسي طاقية من الصوف، وملامحي القروية تعكس قلة الخبرة، والخوف من المدينة، اندهش لما رآني، ولمحت ظل ابتسامة على شفتيه»، ويسرد سعيد الكفراوى حواراً طريفاً وناعماً ولطيفاً بينه وبين رفيع المقام يحيى حقي: «وبعد أن فرغت نهضنا، وعند الباب شدّ على يدى، وأخذ منى القصة، وودعني والابتسامة ما تزال مرسومة، وكلمات طيبة ترفل في المكان، الغريب أنني عندما كنت أتصفح (المجلة) آخر الشهر، وجدت القصة منشورة، ومن هنا كانت البداية الأولى للمتاهة".

ويستكمل الكفراوى شهادته على أنه لم يقابل يحيى حقي إلا بعد ستة عشر عاماً، وأريد أن أفتح قوساً هنا، لأسجّل تاريخ نشر القصة الأولى للكفراوى فى مجلة «المجلة»، وهى قصة «الموت في البداري» بتاريخ 1 يوليو عام 1970، وبالإضافة إلى هذه القصة، كانت قصته «النبش في التراب»، قد نشرت في آخر عدد من «المجلة»، وهو العدد الصادر فى أكتوبر عام 1971، وكان رئيس التحرير آنذاك قد تغير، فقد مضى يحيى حقي، ليحلّ محله عبد القادر القط، وبعدها يصدر عبد القادر حاتم قراراً بإغلاق عدد كبير من المجلات، وعلى رأسها تلك المجلة، وهكذا تكون أول قصة ينشرها الكفراوى في ابريل 1970 بالعدد الأول من مجلة "الثقافة الجديدة"، كما أسلفنا القول، هي قصة "المهرة"، والتي فاز بها في المسابقة.

الكفراوى يكتب عن رفاقه:
كتب الكفراوى عدداً كبيراً من الشهادات والرؤى، ولم تشمل كتبه هذه الشهادات، منها شهادات عن لطيفة الزيات وإبراهيم أصلان وسليمان فياض ويوسف إدريس وعدلي رزق الله ومحمد عفيفي مطر ومحمد بنيس وغيرهم، وتتمتع كل هذه الشهادات بروح سعيد الكفراوى الحكاءة والدافئة والمتدفقة، ولكن هذا لا يمنع من أن الأسى يتخلل هذه الشهادات، خاصة شهادته عن يوسف إدريس التي نشرت في العدد التذكاري من مجلة «أدب ونقد» في ديسمبر 1987، يصرخ سعيد الكفراوى قائلاً: «أما أنا فأنتمى للحقبة المهزومة من يوليو، حقبة ضياع الآمال والأحلام، وهزيمة يونيو الفادحة، عشت الفترة الانفتاحية وسيطرة الطبقة الجديدة، التي سرقت الاشتراكية وأظهرتها في البيان العمومي للجماهير على أنها ملازمة للفقر والتدني والإلحاد، عشت فترة الحقبة النفطية والهجرة بحثاً عن لقمة العيش في تجريدة جماعية كما في الزمن العثمانلي، حقبة سيطرة السلفية بمالها وقيمتها وتخويف الواقع وتهديده".

يقول الكفراوى هذا فى مواجهة يوسف إدريس ورفاقه ومجايليه، الذين انتموا إلى عصور وحقب ومراحل باذخة، ومزدهرة، وكان يوسف إدريس ورفاقه يعيشون فى زمن الثورة: «هو ابن مرحلة النضال الوطني قبل ثورة يوليو 1952، ابن مرحلة أجيال الشباب من الطلّاب والمثقفين الذين خرجوا من فوق كوبرى عباس، ومن الشوارع التي لم تكن تفرغ من مظاهرة ضد السلطة كل يوم".

ويستطرد سعيد منفعلاً في شهادته عن يوسف إدريس، وهى شهادة عن سعيد نفسه، وليست لها علاقة بيوسف إدريس، وهذا طبعاً حقه، وقد كان يوسف إدريس ملاذاً لكثير من الأدباء الشباب في ذلك الوقت، فهو الذى قدم بهاء طاهر في قصته الأولى «المظاهرة» عام 1964، وكذلك قدّم يحيى الطاهر عبد الله في قصته «محبوب الشمس» في أغسطس عام 1965، وكان تقديم يوسف إدريس لأى كاتب قصة، بمثابة جواز مرور ملكي إلى الحياة الثقافية المصرية، وكذلك الثقافة العربية، ولذلك فيرصد الكفراوى اختلاف المناخين بينه وبين يوسف إدريس ويصرخ مرة أخرى: «من هنا حدث الخلاف المشروع بيننا وبين الكاتب الكبير، ومن ثم حدثت الفجوة في الفهم وإنكاره لنا بإصرار يصل إلى الرفض والعناد. أزعم أنه لم يقرأ مجموعتي (مدينة الموت الجميل) برغم أنى أعطيتها له شخصيا!".

وتأتى شهادة الكفراوى عن إدريس، وعن نفسه، وعن جيله، مفعمة بالمعاني التي تكاد تكون متقابلة، فهي تصل إلى حدود الهجاء، ولكن الحوار الذى حدث بين الكفراوى وبين محمد عفيفي مطر، باح بما تحمله روح الكفراوى تجاه يوسف إدريس: «الرجل مشحون بالتناقضات، يحرّض ويستسلم، توقف عن الإبداع بعد (بيت من لحم). ويهاجم الكتابة الجديدة بلا هوادة، وبمقت ليس هناك ما يبرره»، وكان ردّ عفيفي مطر مكثفا وبسيطاً: «مغفور له كل خطاياه، لأنه في الأول والآخر: يوسف إدريس".

وعلى عكس تلك الروح المشاغبة التي عكست نفسها على الكفراوى فى كتابته عن يوسف ادريس، تأتى روحه الشفافة والقلبية والعاشقة في شهاداته الأخرى، مثلما كتب عن ابراهيم أصلان في مجلة "أدب ونقد" يناير 1993، كانت كتابة الكفراوى محبة وعاشقة وكاشفة عن ولعه بأبناء جيله، فيكتب عنهم بفخر، وكأنه يحكى عن نفسه، وكان قد كتب من قبل أيضا عن سليمان فياض شهادة مشحونة بالمحبة "أشياء طيبة وانسانية جدا بيني وبين خالي سليمان فياض"، ولا أعرف لماذا قال عنه "خالي"، رغم أنه لم يأت بأي ذكر في الشهادة عن ذلك الوصف، ولكنه حكى عن تأثره به، وعن كتاباته التي ألحقت به نوعا من المسّ كالجنون، خاصة مجموعة سليمان الأولى "عطشان ياصبايا"، كان سعيد الكفراوى في كل شهاداته التي كتبها عن أصدقائه ورفاقه وأبناء جيله من أعضاء "تنظيم الستينات الأدبي"، حسبما تروق لي تلك التسمية، كان شفافا وجميلا ويسوق الحكاية تلو الحكاية بانطلاق لا يستطيع القارئ أو السامع أن يمله، سعيد الكفراوى عضو أساسي في ذلك التنظيم العشوائي، والذى ليس له مستويات في الدنو أو العلو، ذلك التنظيم الأدبي العظيم، وهو "تنظيم الستينات الأدبي"، رحم الله الصديق والحبيب والكاتب المبدع سعيد الكفراوى.

 

 

[i] . تعقيب ضروري من رئيس تحرير (الكلمة): برغم شمول وما كتبه شعبان يوسف وغناه بالمعلومات الأرشيفية، فإن ثمة خطأ لا بد من تصحيحه بسبب الخلط بين المعلومات الأرشيفية واستخدامها لتسويغ بعض الأوهام أو القضايا التي يطرحها. حيث يطرح فكرة وهمية، ثم ينتقدني لأنني لم أشر إلى ما تراءى له من أوهام. ولا أدري من أين جاء شعبان بتلك المعلومة المغلوطة عن أن نجيب محفوظ «خلع» كما يقول رافضا بكياسة أن يكون رئيسا للمؤتمر. ولو طُلب منه ذلك لما استطاع أن يرفض – فقد كان أجبن من أن يقوم بأي مواجهة مع السلطة وقتها، وسلطة عبد الناصر الغاشمة خاصة. وما لا يعرفه شعبان يوسف، أن نجيب محفوظ في تلك الفترة، التي انعقد فيها المؤتمر، وبعد لقاء عبدالناصر الشهير بكتاب (الأهرام) وتوبيخه العلني لنجيب محفوظ فيه، وقد جاء نجيب محفوظ مهتزا وخائفا بعد هذا الاجتماع لمقهى «ريش» وقابلته أنا شخصيا حيث كنت هناك بالصدفة وكان لايزال مرتعدا، يرتجف وهي يحكي لي ما دار. بعد هذا الاجتماع كان نجيب محفوظ شبه مغضوب عليه، وقد امتنع الأهرام بعدها عن نشر أي نص له حتى مات عبدالناصر. ناهيك عن أن يوسف إدريس – ولا مقارنة بينه وبين محفوظ من حيث شجاعته، وربما تهوره أحيانا في مواجهة السلطة – وعلي الراعي وأحمد رشدي صالح وإبراهيم فتحي وغيرهم من أعلام جيل الستينيات اليساريين شاركوا في المؤتمر. فكيف ومن أين أتى شعبان يوسف بتلك القصة الغريبة المختلقة.

[ii] . مرة أخرى أسجل تحفظي بل استهجاني الشديد هنا على قراءة شعبان يوسف المغرضة للتقرير الذي كتبته عن المؤتمر – الذي شاركت فيه مع عدد من زملائي كتاب تلك المرحلة بمن فيهم الرفيق إبراهيم فتحي، والكاتبة الكبيرة رضوى عاشور وغيرهم، وبصورة فاعلة في صياغة الكثير من القرارات التي صدرت عنه – وخصوصا على تلميحه الغريب في شأن دعوتي لمعرفة أدب العدو، وإخراج هذه الدعوة من سياقها وهي المعرفة به كعدو، لازلت على موقفي من أنه العدو الأساسي والأول لمصر حتى اليوم. فما كتبته عن معرفة العدو كان في سياق حرب الاستنزاف التي كانت لاتزال دائرة وقتها، وفي زمن سابق على زمن التطبيع الساداتي الرديء بعشر سنوات. لذلك فإن اقتناص تلك الإشارة والدهشة منها مغرضة إن لم تكن خبيثة سيئة النية.