تكشف هذه المجموعة المنتقاة من كتابات سعيد الكفراوي غير القصصية عن مدى اتساع اهتماماته الثقافية وقراءاته الأدبية، وعن رؤيته النقدية الحصيفة والحاذثة للكثير مما يقرأه شعرا كان أو رواية، وعن انخراطه في الواقع المصري يعيشه بكل حرص الكاتب على بوصلته الضميرية والأخلاقية، وبكل قدرته على السعي للعدل والحرية.

مختارات من

مقالات سعيد الكفراوي

سعيد الكفراوي

 

أن يكون الإنسان وحيداً!
أواخر الستينيات، تقريباً، كنت أحضر من قريتي لأقضي أياماً قليلة بمدينة القاهرة. كنت أقيم في لوكاندة قليلة الأهمية، تطل على ميدان «باب اللوق«، »الأزهار» سابقاً. وكنت عند مجيء الليل أجلس على مقهى «سوق الحمدية» وصاحبه سوري طيب. كنت أراهم يتتابعون، إما فرادى، أو أحدهم يتأبط ذراع صاحبه، وكنت أتأملهم بدهشة .. شكرى عياد .. عز الدين إسماعيل .. صلاح عبدالصبور .. فاروق خورشيد .. فاروق شوشة .. ثم جابر عصفور، ويأتى فى عجلة طيب الذكر عبدالغفار مكاوي. حينها سألت أمل دنقل: «أين يذهب الجماعة؟»، أجابنى: «لهم لقاء أسبوعى فى شقة فاروق خورشيد هناك»، وأشار بإصبعه ناحية إحدى العمائر الخديوية القديمة، ثم نبهني أمل دنقل إلى أن هؤلاء الكتاب والشعراء آخر من بقى من جماعة الجمعية الأدبية المصرية، التي خرجت من جماعة الأمناء، التي أنشأها طيب الذكر الشيخ «أمين الخولي». ثم أكمل أمل دنقل: يلتقون بحكم رفقة التاريخ والإيمان بمبادئ الأمناء، يستعيدون دورهم المهم في الثقافة العربية.

حين رأيت «عبدالغفار مكاوي» يأتي وحده، نهضت وصافحته باعتزاز، ظل ملازماً لعلاقتنا حتى رحيله. يرحل «عبدالغفار مكاوي»، هذا المفكر الكبير، في نفر قليل شاهدوا جنازته، ونفر أقل حضروا عزاءه. وبين الميلاد والرحيل، رحلة من إنتاج الإبداع والمعارف تدفعني بأن أحنى هامتي لرجل أعطى الفكر والإبداع كل حياته! «رحم الله أستاذنا يحيى حقى الذى مضى حيث وجه الله تصحبه جنازة عدد أفرادها يساوى عدد أصابع يد واحدة «!أحزن كثيراً على الخواتيم المؤلمة لهؤلاء الكبار الذين أعطوا ومضوا!! وأنا أتخيل عبدالغفار مكاوي يهمس لنفسه الآن: «هل كان الأمر يستحق كل هذا الجهد؟!

عاد «عبدالغفار مكاوي» من ألمانيا حاصلاً على الدكتوراه في الأدب الألماني.. باشر التدريس وكان بشهادة تلامذته «وشكلنا في خيالنا صورة نمطية لأستاذ متمرد، طويل الشعر، مكفهر الوجه، عالي الصوت، ولكن حين التقينا به وجدنا رجلاً أنيقاً، مهذباً، خفيض الصوت، أستاذاً لمادة الفلسفة الحديثة». لا أنسى ترجماته التى قدمها، بالذات عن الألمانية، قصائد من الشعر، والعديد من مجموعات القصص، والفكر الفلسفي، وأساطين هذا الفكر. ترجم مسرح «بريخت» والكثير من كتب الفلسفة، كما أبدع في ذلك الحين كتابه المهم والرائد «ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحديث»، الذى مهد الطريق أمام حداثة قصيدة التفعيلة في ذلك الوقت. كان أحد الذين نبهوا الوعى الشعرى بأهمية قصيدة التفعيلة، وذلك بنقله تيارات مهمة، حداثية من الشعر الأوروبي، وقدم نماذج من «بودلير» و«رامبو» و«مالارميه» و«هيرمان هيسه» و«فيرلين«. لقد بدا شاعراً، ولكنه اصطدم بموهبة رفيق حياته «صلاح عبدالصبور» الكبيرة، فتفرغ تماماً لمشروعه الفلسفي، كان أحد الذين استطاعوا أن يقدموا نموذجاً فكرياً يمتزج فيه الأدب مع الفلسفة، وعاش تلك الحقبة من الستينات ناقداً للخطاب السياسي حينذاك ومتصدياً لتيارات اليسار وأطروحاتها في ذلك الوقت. حصل على الدكتوراه من جامعة فرايبورج فى العام 1962 وذلك في الأدب الألماني، وترجم «كانت» و«هيدجر». اتفق وصلاح عبدالصبور وعبدالوهاب البياتى على إنجاز الكتب التي تساعد المتلقي في تكوين ذائقة تساعده على اكتشاف نماذج الأدب الرفيع. لم ينجز عبدالصبور، ولا البياتي شيئاً، فيما أنجز عبدالغفار مكاوى «ثورة الشعر». انشغل تماماً بالأدب والفلسفة فكتب القصة والمسرحية، وترجم الأعمال الكاملة للشاعر الألمانى «جوته»، وترجم ملحمة «جلجامش» كما ترجم كتابه المهم عن »مدرسة الحكمة»، كما ترجم الشاعر الإيطالى الذى عاش بالإسكندرية «أونجاريتي».

ظل طوال عمره يتميز بالأمانة والنبل، وكان – عليه رحمة الله – خفيفاً مثل نسمة حانية، وكنت التقيه بين الحين والحين فيقبض على يدى ويقول بصوته الخفيض: «اسأل علىّ أيها القاص الشاب، إحنا فلاحين زي بعض» .. وكان دائماً ما يصرخ: «أنا ريفي والريف مشحون بالقدرية». وعاش طوال عمره لم ينتم لتنظيم من التنظيمات التي كانت رائجة تلك السنوات ولم ينحن لأيديولوجية حين كانت لها سطوة على الفكر والأدب، وعاش طوال عمره ولاءه لعلمه وأساتذته وأصدقائه: أمين الخولي وشوقي ضيف وشكري عياد وصلاح عبدالصبور. آخر عمره، تقريباً في ربع ساعته الآخيرة مثلاً، منحته الدولة «جائزة الدولة التقديرية» في الآداب، بعد أن حصل عليها أشباه الأدباء، وغير الموهوبين، وخدم السلطان، الذين حملوا ولاءاتهم على أكتافهم ومضوا فى الدنيا، خدماً للذي يساوى، والذى لا يساوى .. على «عبدالغفار مكاوى» رحمة الله.

 

نشرت في جريدة الوطن عام 2012

 

بنات أندراوس:
تاريخ مصر الممتد يحتفظ في ذاكرته بأفضال للقبط على المحروسة لا تُحصى، ولا تُحد، ويوغل الزمن ويمضى، ويبقى لهذا الجنس من البشر محبة واعتزاز. وعائلة «توفيق باشا أندراوس» المبجلة علامة، وشاهدة وحقيقة وجود، على ما قدمته من أفضال لوطنها الأم، ولبلدها الأقصر. «توفيق باشا أندراوس» له الشكر، والسيرة الحسنة، الوفدي العتيد، صاحب الولاءات للحزب الذى يقدسه بعد سيده المسيح، له المجد، وهو الذى أعطى ومضى بوفرة من ماله، ومواقفه الخيرة. منع الملك «فؤاد» «سعد باشا زغلول» من السفر إلى الأقصر، بسبب خلافات سياسية، وحاصر الكورنيش، فأقام «أندراوس» جسراً علوياً من النيل حتى حديقة بيته ليعبر الزعيم في أمان، ويدخل القصر الكبير الذى ترفرف على سواريه ثلاثة أعلام لدول عظمى. بنى المدارس، وأقام المساجد، وأعطى لأهل الأقصر فرص العمل في وسيته، وحين احتاج الوفد الدعم في أزمة ماليه باع من أجود أراضيه 700 فدان من أخصب أراضى الصعيد.

ورحل الرجل من زمان، وترك لنا نحن المصريين أمانة. ثلاث من البنات وولد وحيد» «جميلة» و«صوفى» و«لودى» اخترن العيش في الأقصر بلد الجدود، المنفتحة على التاريخ، ومأوى كنوز مصر، عليها السلام. رحلت «جميلة» بدرى، ورحل «جميل بك» الوريث، الذى كان يشاهده أهل الأقصر يقود سيارته على الكورنيش فيضوى شكلها الذهبي! تباشر البنتان أملاكهما بما يرضى الله، وسط فلاحين في زمن آمن، ورضى بالقسمة الحلال بين من يملك، ومن يستأجر. كانتا تشاهدان في زمن الخمسينيات شابتين فى بهاء العمر، والقصر الكبير قد ضوى بالكهارب، والزينة عقود من البهجة فيما تصدح بالغناء الست أم كلثوم، ومطرب الأمراء محمد عبدالوهاب، والعائلات الأرستقراطية تدرج على عشب حديقة مثمرة بالورد والفاكهة!

يتغير الزمان، وتختلف الأحوال، وتتواتر الحوادث، ويعم الوطن عبر السنين ذلك العنف الدموي، وتسود الغلظة والخشونة واستخدام القوة غير الشرعية المقرونة بفزع الإنسان وخوفه، والجرائد صباحية ومسائية تزدحم بحوادث القتل والاعتداء وتتابع الحروب بهزائمها، والناس فيما يشاهدون حيارى! أغلقت «صوفى» و«لودى» باب قصرهما، واختفتا عن الدنيا! كان العمر قد ولى، لا خلفة، ولا رفيق للروح يرقق وحدة الكائن فى مكانه وزمانه. غزا الشيب الرؤوس، وتهدل البدن، والذاكرة وهنت، ولم يعد باقياً إلا الصور القديمة مثل أزل، والقصر القديم خزينة من فضة وكريستال. نجف من عصور سالفة .. ستائر مسدلة على نوافذ وشرفات .. سجاجيد كاشان وأصفهان وتبريز .. وصور أصلية من عصر النهضة معلقة على الجدران بألوانها الزاهية.. تماثيل لفراعنة بائدين .. وركن لتوفيق باشا وأجداده، تسمق طرابيشهم حتى السقف، وشواربهم تقف عليها الصقور.

انغلقت الأبواب على الصمت، وغابت الكهلتان! ما حدث بعد ذلك، لا يصدقه عقل!! ما جرى يطلب منك شحذ مخيلتك، والتحديق بالقلب والنظر، أنا فعلت ذلك، واقتربت من الحافة المظلمة للمأساة التي قبل حدوثها شاهد أهل الأقصر – بعد انقطاع وغياب طويل – «صوفى» و«لودى» يتمشيان على أرض الحديقة، بعد أن تناولتا فطورهما فى الشرفة مثل زمان، ويوزعان التحايا على البشر السائرين، ويتفقان مع الحوذي على إخراج الكارتة القديمة لتمضية الوقت على الكورنيش. بدت الكهلتان كأنهما في عرس .. عرس أم وداع؟

إلا أنه بالليل .. آخر الليل. ومع سبق الإصرار، تسلل البعض من شيوخ المناسر ودخلوا القصر، يمتشقون أسياخ الحديد، ويقبضون على قتلتهم، لهم شكل الجزارين عند الذبح، ملثمين بتلافيعهم، يطاردون في أرجاء القصر امرأتين في عمر الخريف، تجاوزتا الثمانين، تشهقان من الخوف، وتصرخان بلا مغيث، بحثتا عن ملاذ، تنطرحان أرضاً، وتعمل الأسياخ شغلها، فتكسر الجمجمة، وتفقأ العين، ويُنتهك الجسدان، ويمعنون في قتل امرأتين قادمتين من زمن جميل، وأنت واقف هناك تحدق فى رعب وتتساءل: كيف وصل الوطن الكريم إلى آخر حدود احتماله؟!

 

زعيم العروبة الخالد و«حبة اليوستفندي»
لصديقي الروائي «فؤاد قنديل» محبة الأدب، والإخلاص له، وعبر خمسين عاما تقريبا أبدع الرواية والقصة والمقال، حتى أصبح فؤاد شبه ما يكتبه. لقنديل لغته، وعالمه الغنى، في القرية والمدينة، وله أشخاصه الذين يسعون على الورق طالبين الستر، وله أسطورته المسكونة بالأرواح والعجائب. وبسبب من كل هذا منحته مصر جائزتها التقديرية ليتوج حياته بها. قضى فؤاد قنديل عمره يمجد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في حلّه وترحاله، وكان له أبا كريما بما له، وما عليه، وهو في أحوال كثيرة، إذا ما جاءت سيرة الزعيم الخالد طفرت الدموع من عينيه، وتهدج صوته بالعاطفة فيما أنا أراقبه بدهشة، وأحسده على عواطفه التي أفتقدها أنا تجاه الرجل.

يداهمك فؤاد قنديل دائما، مقدماً كشف حسابه التاريخي، وتقريره الوطني عن الرئيس الراحل: كان زعيما للأمة .. تنكر؟! ساند كل حركات التحرر في عالمنا الثالث. كده ولا لأ؟! أقام التصنيع وأمم القناة وبنى السد العالي، وضحى بعمره في سبيل الوحدة العربية. يصرخ، ويعدد، مستشهدا بأحداث ذلك الزمان، وأنا أكمل إحصائياته وأنجز هزيمة يونيه/ حزيران 67. وكدس الأوردى وأبوزعبل والسجن الحربى ومعتقل القلعة بأصحاب الرأى والمختلفين.. مش كده؟!

عند ذلك، ينصرف عنك فؤاد وكأنك تكلم نفسك! حكى لي فؤاد قنديل مرة حكاية لها العجب: كان هو قد أنهى دراسته، وتمكن في العام 1968، والهزيمة تتفاعل مثل كيمياء في الواقع المصري، في ذلك الحين عمل فؤاد قنديل محاسبا في استديو مصر، وعن تلك الفترة كتب الكثير .. كان رئيسه في العمل الأستاذ أحمد المصري، وهو أحد الضباط القادمين من يوليو 1952، وقد شكل جماعة من الضباط لعمل انقلاب ضد عبدالناصر الذى ضبطه، وسجنه من السنين ثلاثا، وبعد خروجه رضى عنه وأسند إليه وظيفة الإدارة في الاستديو.

كان الرجل يحب فؤاد قنديل، يتكلمان معا في السياسة، ويناقشان قضايا الوقت بمودة طيبة. كان العم أحمد المصري صديقا لنائب الرئيس حسين الشافعي بجلالة قدره، يزوره في بيته بين الحين والحين. مرة اصطحب في رفقته الكاتب فؤاد قنديل الذى كان فى هذا الوقت على عتبة الشباب، وكان نحيلا تنفخه الريح يطير إلا أن الله مَنَ عليه وامتلك حجة النقاش، ومنطق الجدل، ونباهة الكلام في السياسة، خارجية وداخلية، حين وصلا كان في ضيافة حسين الشافعي سيد مرعى، وبعض الأسماء التي يعرفها فؤاد من الصور. قدم العم أحمد فؤاد للجماعة وواصلوا حديثهم، كان الجماعة يجلسون فى استرخاء، يرطب جوهم تكييف الفيلا المركزي، ويشيع في الأنحاء جوا من رفاهية تحيط بالعساكر حكام مصر المحروسة، الذين يعيشون الدنيا مثل الحلم، والله سبحانه قد مَنَ على عباده بالسلطة والعيش الرهيف.

كان أمامهم طبق من الكريستال ممتلئ حتى حافته باليوسف أفندي .. كانت فاكهة غريبة الشكل مما دفع فؤاد قنديل أن يهمس بين نفسه فاكهة الشتاء في الصيف!! حاجة غريبة! مضى القليل من الوقت، ودخل المهيب، وفزع الجميع وقفزوا واقفين «أهلا يا ريس» وكان هو عبدالناصر .. يقول فؤاد وكأنه لا يزال يعيش الحدث. تحجب عنا الرؤية بمهابته .. كان طويلاً، حاولت النظر في عينيه في خطفة إلا أنني تراجعت أمام النظرة الجسورة والعين المصرية. جلس عبدالناصر، وبعد قليل مد يده والتقط ثمرة من اليوسفي وزنها بيده، ثم قشرها، ووضع في فمه بعض الفصوص، ثم قال: والله يا مرعى وبقيت بطلع يوستفندى في عز الصيف!! ضحكوا، فاستغرب، وسألهم باستنكار .. تدارك الأمر حسين الشافعى وقال لعبدالناصر يوستفندى إيه يا ريس اللى هيطلعه سيد مرعى فى عز الصيف؟! ده لسه واصل حالا بالطيارة من فرنسا.

ليت حسين الشافعى ما قال جملته لأن فصوص الثمرة وقفت في حلق عبدالناصر، واجتاحت وجهه الألوان، وبرقت عينه مثل الرعد، وبصق ما في فمه وهم واقفا يقاوم دوار رأسه، ومضى حيث بيته في الجوار. استدعى حسين الشافعي سائقه، وقبض على طوقه وصرخ فيه: وراه .. توصله بالعربية.. وترجع .. تسجل في رأسك كل تصرفاته وكلامه وتحضر على جناح السرعة.. فاهم؟! ودفعه في ظهره ومضى السائق يسابق الريح. حين عاد، كانوا قد ماتوا ألف مرة .. استحثوه .. انطق قال إيه؟ قال السائق بشجاعة: قعد ساكت وفجأة أخذ يضرب ظهر الكرسي ويصرخ بعالي الصوت مثل المجانين .. الخونة .. الكلاب .. البلد غرقانة في الهزيمة وهم يطلبوا الفاكهة من باريس. ثم نظر من نافذة السيارة ناحية السماء، وكأنه يطلب العون.

 

حالة تلبس
ينتهى العم «مطاوع عبدالصبور أبوالعزايم» إلى الاعتقاد، ثم إلى التصديق أن شعب مصر هذا القديم، في بعض أحواله يثير العجب!! ويهمس متعجباً: رحم الله «محمد ابن أحمد ابن إياس الحنفي»، الذى رصد، وعن تجربة، أحوال المصريين، فقال «إن أخلاق وطبائع المصريين بعضها شبهها ببعض، وعندهم سرعة الخوف من السلطان، وأخلاقهم يغلب عليها الاستحالة، والانتقال من شيء إلى شيء، ومن معايبهم كثرة الجدل فيما لا يفيد، وخلق العداوة بينهم عند الاختلاف. يتذكر «مطاوع» أنه أمضى عمره يؤمن بحق الاختلاف عند طرح القضايا، ويؤمن بحرية الاعتقاد الذى يتأسس على العقل والفهم.

يتذكر أنه كان يقيم قديماً، منذ سنوات بعيدة في ذلك الحى المنعزل، الذى يشبه القرى في الضواحي النظيفة، كان أحد الأغنياء قد أقام مسجداً بهياً، ومعماره الإسلامي تحفة من التحف، وأحاطه بحديقة من شجر الزيتون، وزرع أمامه شجرة بنسيانا تزهر في الربيع بزهرها الأحمر الناري. كنا نحن رواد المسجد نجلس تحتها قبل الصلاة وبعدها. كانوا جماعة من أهل الحى. الأزهري والمحامي والمدرس والموظف وطالب العلم وبعض التجار المستورين.

وشخص آخر يعيش على ريع قديم لمنزل واسع مثل المتاهة، يحرسه، ويقيم في دوره الأول. لا عمل له إلا تحصيل ما تدره العين، والادعاء بالإفتاء فيما لا يعرف، وفيما يجهله. كان يعيش بين زمنين مظلمين، يعطى لنفسه حق امتلاكه الحق وحده، ويدافع عن وعيه، وفهمه الشخصي للدين بحالة تصل إلى حد الاعتداء بالباطل على الحاضرين، باللسان والفظاظة، وكنا نلاحظ انفعاله عندما يفور فمه بزبد أبيض، وقبيح الكلام، وكنا لا نستطيع ردعه، أو الخلاص منه. يصرخ فى وجوهنا: «أنا قلت إن الإسلام هو الحل، يعنى الإسلام هو الحل». ينفعل، ويكفهر وجهه. كان طويلاً مثل مارد، ونحيلاً، يرتدى جلباباً أبيض، ويعمم رأسه بشال يتهدل ذيله حتى قفاه. كان أعور العين، وحين يحدق فى الجميع تبدو عينه السليمة مثل الزجاج، وتصدمنا الأخرى بما يشبه الدمل المطموس. كان أسيرا للفتاوى الشائعة، تكوّن علاقته بالدين والعلم، تربى على يد شيوخ السكك، ووعاظ الجمعيات السرية من أهل الخرافة، ومدمني الأساطير! يصرخ فينا بعالي الصوت، مهدداً: - المرأة للمتعة، خلقها الله مصدراً لها.

يصمت لحظة، ثم يصرخ في وجوهنا، مشيراً بإصبع يشبه المخلب: شاهد رجل من أهل زمان امرأة شنقت نفسها في شجرة، فقال في شماتة: ياليت كل الأشجار تحمل مثل هذه الثمار. ينزعج شيخ الأزهر، الجميل، الشيخ محمد عطاء الله، سمح الوجه، أبيض اليد واللسان: - يا عم عبدالقادر .. يقاطعه بصلافة: اسمى الشيخ عبدالقادر – يجيب الشيخ طيب يا سيدى الشيخ، علاقة المرأة بالرجل في الإسلام، علاقة تكاملية، تقوم على المودة والتراحم، والثقة المتبادلة، ولا مجال لامتياز رجل على امرأة، أو العكس. وهما متلازمان معا في الحياة حتى رحيلهما، حيث وجه الله الكريم. يصرخ: هذا كلام مغلوط، كلام محدثين، هؤلاء الذين أثروا على عقلك فتبعتهم بغير إحسان. ثم يا أخى أنت لا تعرف الفتوى. والأزهر أفسدكم جميعا. نصيح في وجهه «اتق الله يا رجل».

ينهض، ويبدو مثل كائن خرافي. يصرخ في وجوهنا، أنتم مثل هذا الأزهري الآبق. وأنا من سلالة السلف الصالح، الوارثين لدين الله وحدهم. وقعدتي معكم ضياع لدينى .. ينصرف عبدالقادر ليعود غداً، ورويداً، رويداً تحول إلى موضع سخرية الجميع، واستخفافهم، حتى انقطع دابره تماماً!

وتمر السنوات بالعم مطاوع، ويعيش متغيرات الدنيا، وتصارع أفكارها، ويقضى أزمان المظالم، وغياب العدل، والحيوات السرية، والغنى الباهر يحطّ على البعض مثل الأحلام، وتنتشر قنوات التليفزيون على جباه الوطن مثل الفطر، وهو بين الحين والحين يقلب القنوات، باحثاً عن شىء يفيده، وعبر زحمة الألوان، يشاهد فى قناة دينية يزخر ديكورها بالآيات؛ وصور الكعبة، وهامة المساجد، يحدق أمامه فيرى شيخاً بهياً بثوبه الأبيض وغطاء رأسه الخليجي وذقنه الذى يشبه نتف القطن، جالساً في مهابة العلماء، يأتي صوته حيث يجلس العم «مطاوع» نائحاً، ومنفحماً بالبكاء، يمسح دموع عينه الوحيدة، ويتكلم عن عذاب القبر، والثعبان الأقرع، وجسد المرأة الزانية، وحول يوم الحساب، والجلود التي تنضج لتذوق العذاب حتى يوم الدين.. لحظتها ركز مطاوع انتباهه وتأمل الشيخ المهيب، فوراً صرخ بعالى الصوت :- يا نهار أسود.. عبدالقادر؟!

 

حين ننجيك ببدنك:
تطوف ببالي، أحياناً، نابعة من النسيان والمحو، صورة طاغية، إسرائيل «أرئيل شارون» أسأل نفسى بدهشة المفاجأة: هو لسه عايش؟! لا يصنع الأشرار التواريخ، بل تحتفظ بذكراهم صفحات التواريخ ليكونوا عبرة، ومثالاً صارخاً، ونموذجاً: نيرون، وهولاكو، وهتلر، وشارون، وغيرهم من الأبالسة! عاشوا يستدعون قتلهم الأخرق يمزق خيوط وأنسجه البشر. الميت الحى، مشلول الحركة، بجسده المتفسخ، ورقدته النهائية، ينزف سماً مثل ماء أصفر، يسحب من جسده حياة الظالم، رويداً رويداً، يشاهد كل ليلة مصائره، ويحدق في يد تدفعه إلى الجحيم فيشاهده، ثم تعيده لرقدته وحيداً على سرير موته.

كم كرهت هذا الرجل، البولندي الخاسر! الميت الحى، يشهد عليه تاريخه، ويعذبه الله بخاتمته، فرجة، وعرضاً للشاهدين، آية عن زمن وحشى كان هو جلاده، وسيفه وصانعه، يرقد على سريره، يغطس فى النسيان والعدم، ولا يبقى له سوى العتمة! يشغّله أربابه من الصهاينة بجهاز يضخ الدم في أوردته، ليمثل عليناً بأنه يحيا، بأنه ما زال يحتل تلك المساحة من فراش فاسد! أنا طالما وعيت الحكمة من مشهدية الحدث! نجى الله الفرعون ليكون آية للناس وللتواريخ، وتظل ذكراه في المتون درساً لكل من يدعى علواً بين البشر. يرقد في غيبوبته علامة على النهايات، والمظالم، والتنكيل بالبشر، وهزيمة أرواحهم. يرقد في خاتمة نصبها القدر لكل لئيم! سنوات طويلة من الوحشية، وفضاء يعم الأنحاء من سفك دماء البشر.

وأنا، عبر ما عشته من أيام، أرقب الحال الفلسطيني المعتدى عليه، وأشاهد أبناءه محمولين أجداثاً، وألماً، وجراحاً، ولا أعرف كيف ستنتهى مأساتهم! أنت لن تستطيع أن تغمض عينيك عن طفلة أخرجوها من تحت التراب، غادرتها الحياة فغدت مثل عروسة من القطن! يعود من جحيمه كل مساء، حين يستدعيه شيطانه الذى يملى عليه كل ليلة؛ أنه أرئيل مردخاى شرايير، ربيب عصابات الهاجانا الصهيونية، التي نفذت طوال تاريخها الكثير من مذابح الإنسان.

منذ البداية حين جاء من روسيا، يلازمه العنف والتعصب وكراهية الآخر. انتحرت زوجته الأولى فى العام 1962 بسبب عنفه. وقُتل ابنه في الحادية عشرة. لا يشعر بحزن، وطموحه أن يرتقى رتبة عسكرية كلما أوغل في دم أعدائه العزل. أوامره بقتل الأسرى في حرب السويس 1956. مجزرة قبية في الأردن، بأوامر منه شملت النساء والأطفال والشيوخ. كان المهندس والمفكر الفعلي لمذبحة صابرا وشاتيلا الذى راح ضحيتها 460 إنساناً منهم 119 لبنانياً منهم 8 نساء و12 ولداً، و269 فلسطينياً منهم 7 نساء وولداً، و11 سورياً، و32 باكستانياً وإيرانياً وجزائرياً.

كان بعد كل مذبحة يتفاخر، فاتحاً صدره للريح: أتعهد بأن أحرق كل طفل ففلسطيني يولد في هذه المنطقة حتى لو فقدت كل مناصبي فلسوف أحرقهم جميعاً! يصمت الطاغية ثم يرفع قبضته صارخاً: «لقد قتلت بضربة واحدة في رفح المصرية 752 أسيراً في العام 1956. تتجسد في «شارون» روح الشعب اليهودي، تلك الروح التي جُبلت على عقدة الخوف والشك والحقد والاستعلاء.

يكتب الشاعر الفلسطيني «مريد البرغوثى»: أبدأ حكايتك من ثانياً، هذا ما فعله شارون، لقد أهمل الحديث عما جرى أولاً. يكفى أن تبدأ حكايتك من ثانياً حتى تصبح الفلسطينية العجوز التي هدمت القنبلة الإسرائيلية بيتها فوقها هي المجرمة وأرئيل شارون هو ضحيتها، كل الأكاذيب التى روجها الصهاينة تجعل الإسرائيليين ضحية في نظر الأمريكان، والأمريكان شعب فقد عقله أمام أكاذيب اليهود! وبالرغم من مذابح جنين ورام الله والقدس وسجن عرفات حتى لحظة سمه بغدر ودناءة، ما يزال الأمريكان أسرى لأكاذيب اليهود!

لا أحد هناك أو هنا، ينسى أفعال المعتدين، مغتصبي الأرض، وستظل أعمال الطغاة منقوشة على أرض فلسطين مهما طال مدى الاحتلال! هو -الراقد على فراشة- شارون، سلطة الغدر والعدوان والذى أمضى حياته مفاخراً بطول عمره فأنشأ العصابات والأحزاب، ها نحن نرى بدنه راقداً، شاهداً عليه، تلعنه الأمهات والأبناء والآباء، يخترقه العدم، مثل وهم مر على أرض فلسطين .. ومضى!!

 

الدين لله وغير ذلك قول فاضح

(1)

أتلفّت بوجل، مقاوماً مخاوف وإجابات لأسئلة كثيرة، تختلط فيها البدايات والنهايات، وأتساءل ما هذا الذى يحدث فى مصر؟! ما الذى يجرى ونراه رأى العين؟ أنا لا أصدق في أحيان كثيرة أننا بالفعل نعبر فترة تحولات! جموع تحتشد ضد جموع .. شعارات تتجاوز الواقع وتستدعى مملكة السماء .. دعوات لنهضة يائسة لا ملامح لها، تلوذ بالدعوة للحوار في الوقت الذى يجرى فيه قمع الحوار بسطوة التعصب، واستحضار قيم من الماضي تمايز بين أهل الوطن الواحد .. استدعاء ضرورات تنادى بدولة دينية يقودها الفقيه والمرشد، وتؤكد على التناقضات والاختلافات فى انتظار حسم ذلك الصراع لصالحها

(2)

يوم الجمعة في الساعة الخامسة والربع، خرج شاب من ظلام الليل .. ذكرى يجب أن تذكر ولا تغيب عن البال .. أنا رأيته نحيلاً ومريضاً ويعيش على هلاوسه.. اقترب من السيارة التي تُقلّ نجيب محفوظ حيث ندوته هناك على النيل .. ظن كبير المقام أن الشاب يود أن يقدم له التحية، ولأن صاحب نوبل صاحب طبيعة سمحة ومؤاخية، وأمضى عمره يعامل البشر بسماحة ومودة، يسبقه ذلك التواضع الذى كان يدهشنا .. كان يتهيأ لمصافحة الشاب، إلا أن ذلك العاصي كان يحتشد بالغل والحقد، ويصرخ دمه بما تلقاه من أميره، عداوةً وحقدا. لحظة وكانت السكين في عنق الكاتب الكبير تمزق شرايين العنق، وتدور فيه حافرة جرحاً في قلب وطن .. يصف نجيب محفوظ اللحظة: «كأن مخالب وحش ضارٍ قد نشبت في رقبتي«! تخويف من ينادى بأفكار الدولة المدنية، أو أفكار التنوير .. رسالة ظلت تحمل تاريخ عنفها، وتؤكد حقيقة ذلك العنف الذى يسيطر على الشارع الآن، صارخاً فى وجوهنا: التعصب تحول إلى قاعدة وليس استثناء!

(3)

عاش نصر أبوزيد -الذى رافقته العمر كله- يؤمن ويدعو لاستعمال عقولنا في كل أمور حياتنا، ووهب عمره مقاوماً كل سلطة تحجب وعى الإنسان عن معرفة حقيقته. رحم الله نصر أبوزيد الذى تحمل الكثير ودفع ثمناً فادحاً، بسبب من مواقف واجه فيها سلطة القمع الفكري، والاستعانة بالغيب! وكان، عليه رحمة الله، من المؤمنين بقول الإمام مالك: «من صدر عنه ما يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهاً ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمل أمره على الإيمان»

(4)

أمكث هناك.. بين السبيل المنقوش بالتركي، وجسامة مسجد السلطان، وأقيم في الفجر على مقعد من رخام، مستسلماً لأحلام يقظة لا تنتهى .. أنا في فضاء ما قبل الفجر. تهمد دبة الآدمي، وقبل الفجر بقليل يخلو شارع المعز إلا من هسيس أرواح الموتى الهائمة بين الدروب والأزقة والعطوف! أهرب من قلق الليل، وجفا النوم، وأهبط الجبل، وأكون بين هيكل القلعة، والسكة الهابطة مثل سائح غريب. أغادر مارستان وتربة قلاوون، ومجموعة الناصر محمد، أصل مسجد الحاكم بأمر الله .. كانوا قد انفضوا من صلاة الفجر ومضوا، وأنا بالقرب من باب الفتوح أرقب أول لمعة للنهار .. وكانوا هناك ..

قادمين من أقصى الأرض، وأنا لا أعرفهم، ولم أقترب منهم .. يهبطون من حافلة، رجالاً ونساءً وصغاراً، كلهم يرتدون سراويل فضفاضة، وصدارى من حرير .. كانوا مقبلين بعد الفجر، مع آخر خيوط الليل، يقيمون شعائرهم! من هؤلاء؟! .. من أين يجيئون؟! .. وأنا مندهش لإقامة صلاتهم بعد الصلاة! قادمون لزيارة أبى تميم أحمد الملقب بالحاكم بأمر الله .. المجنون. العالم. الفيلسوف. أكثر حكام الدنيا تناقضاً. إلا إنهم كانوا يؤمنون به. ويؤمنون بعودته. من الذى يقف في وجه عقائد الناس؟ قادمون يفتشون في العمائر القديمة عن يقينهم!
فسبحان الله الذى عدّد أشكال اليقين
!

 

شجن دستوري
رحم الله أستاذي «حسن الكفراوى»، مدرس التاريخ بمدرسة «محب» الثانوية .. كنت أراه من مقعدى فى آخر الفصل، يخايلنى طربوشه الأحمر وبدلته الشركسكين البيضاء معتصماً في كبرياء العلماء. كان يتكلم بصوت خفيض، بالكاد يصلنا عميقاً، وحقيقياً. يقول: «أحسب مصر هذه وطناً للأعاجيب .. صنعت التواريخ وقدمتها منحة للدنيا.. بلد الخيال والحرية، وطقوس الأسرار، تحتفى بالميلاد فتطلق لمقدمه الأناشيد والأغنيات، وتحتفى بالموت، فتطلق صرخة الرحيل والغياب. أقامت للعدالة آلهة، واختارت «ماعت» رمزاً لسلطة الحق، حتى إن سلطة العدالة كانت أقوى من سلطة الفرعون الإله«

يسير فى ممرات الفصل، وتسمعه كأنما يحادث نفسه: (أمضى المصريون أعمارهم يكافحون من أجل دستور، عادل وضامن لحقوق الناس، وحام لها كرامتها، ومحقق لها حريتها.) ألقى بى الزمن للحلم بمقدم حكومة تأتى بأيام كدح نبيل، وعدالة رشيدة، وفيض من خير يعم أرض الوادي، وعشت أصغى لجدتي الأمية تحدث نفسها «الرحمة بين الناس عدل .. واللى قبلنا قالوا: انتبهوا: الحياة آخرتها موت». ثم تواصل القول «الشجاعة زينة الرجال، والرحى ما تدور إلا بقلب من حديد». وكانت تحذرني «الله على المفتري والظالم وعليك أن تعرف الحق والمستحق».

ومع الوقت أتعلم أن مصر شافت من الدساتير الكثير، منها النافع، ومنها غير النافع، وعرفت أن شعب مصر كافح كثيراً من أجل دستور عادل، وإنه مع حركة يوليو 1952، تغيرت الأحوال، إنه مع هذه الفترة توحشت السلطة التنفيذية، عبر نظام الزعيم الذى بيده كل شيء، والذى يعرف كل شيء، وإنه عبر سلطته التنفيذية قمع السلطة التشريعية، لتأكيد سلطته ودولته! وتواترت الدساتير، لا فرق بين دستور وقانون، مع أن الفرق شاسع لمن يعرف ويدرك، وإنه في آخر الدساتير الذى يجرى عليه الاستفتاء الآن قد وصلت مواده إلى 236 مادة.

يقول الفقيه الدستورى الفاضل «د. إبراهيم درويش» (الدساتير الحديثة لا تزيد بأي حال على 20 مادة لأن الدستور فقط يتضمن أربعة أمور تتعلق بالحقوق والحريات والسلطتين التشريعية والتنفيذية وأخيراً القضائية. وحقيقة الأمر أن مصر في وقتها الراهن، تروع بدساتير أنجزت بليل، وفى غفلة عن البشر، وتم تسويقها من خلال التخويف والاستبعاد، وفرض دستور بقوة سلطة الجماعة الدينية، والمدنية، وحصر مصير وطن داخل رؤى قديمة، وأفكار ثابتة، تنذر بالتعصب الديني، وتعادى قيم الدولة المدنية، القائمة على الفصل بين السلطات، وتحويل كل الأحزاب القائمة في الواقع السياسي إلى أصوات زاعقة، تحقق وجودها في حلقات تليفزيون عقيمة، أو جماعات تحتشد في الميادين، كما تقوم بمصادرة حق قضاة الوطن في ممارسة حقهم فى الدفاع عن دستور حقيقي.

إن ما يجرى لقضاة مصر الآن من تجاوزات يذكرنا بما جرى لهم أثناء مذبحة القضاء فى العام 1969، فى عز سطوة القمع الذى يذكرنا به الفقيه الفاضل/ إبراهيم درويش فيقول «أكبر خطيئة فى تاريخ مصر .. فالقضاء في كل أمة من أعز مقدساتها .. فالسلطة تمتلك أدوات العنف واستعملت العصا الغليظة لتأديب القضاء وهم بدورهم لا يملكون إلا قول الحق .. في العام 1969 تم إنشاء محكمة عليا وإصدار قوانين لإصلاح القضاء، وتم التخلص مما يقرب من مائتي عضو من أعضاء الهيئات القضائية ويقيني أن عدوان 1956 تمت إزالته، وكارثة 1967 تجاوزناها بانتصار 1973 ولكن منذ انهيار القضاء فى العام 1969 أصبحت الشخصية القضائية هدفاً لهذه المحاولات المتكررة فهي جريمة لا تنتهى بانتهاء حدوثها ولكن آثارها لا تزال ممتدة حتى الآن!».

ينتهى العالم الجليل من ذكر ما جرى، ويقتحم الذاكرة أفاضل قضاة مصر، وهم يؤسسون القوانين، ويجوبون عالمنا العربي في أول حداثته، حين كان مكاناً للبداوة، والعيش في الماضي، ينشئون الدساتير بسؤال الدفاع، وإجابة العدل، حاملين القيم التي نادت بها من قديم حضارتهم، ليرسوا في كل وطن من أوطان أمتهم قيم العدل والحرية. هؤلاء هم قضاة مصر الذين يعيشون محنة القمع والاستبعاد، والذين لا يكفون عن المقاومة، متابعين الخطى المجيدة لقضاة مصر العظام.

 

حقوق السيد المؤلف
أتأمل مدهوشا تلك القنوات الفضائية، ومحطات الإذاعات المرسلة التي تنمو كالفطر في سماء وطننا العربي السعيد، فتروعني الكثرة، وتدهشني زحمة الكلام، وأعيش لحظات من خيال علمي وكأن الأصوات قد اختلطت ببعضها في حالة من الثرثرة الدائمة التي تغيب وعى الناس، وتثبت الأحوال على ما هي عليه من الثبات وعدم التغيير. أفكار، وأفكار أخرى مضادة .. حوارات زاعقة لا تفضى إلى شيء .. ومذيع يبدو مثل حكام مباريات المصارعة الحرة، وأنت تهتف لنفسك: «لا حول ولا قوة إلا بالله!».

قضايا مختلقة تليق بالكلمات التى أوجدتها .. وبشر أمام الكاميرات يجلسون كل يوم، يبدون مثل تماثيل الشمع فى المتاحف، يفتون، ولا يصدقون ما يقولون. يكثر الكلام، وتكثر المطالبة بالحرية والديمقراطية، والخروج من أسر الماضي، واستشراف مستقبل الأمة .. والبعض يتوجه للسلام، والآخر يطالب بالحرب والنضال حتى نعيد للأمة شرفها المهدر، ويشتد الصراخ، ويمضى الليل والنهار وكل شيء على حاله لا يتغير، في مكانه ثابت ثبات الزمن، تختلط فيه البدايات بالنهايات ونعيش الحاضر بصياغات الماضي، فيما تتراجع الحرية، وحقوق الإنسان، ورؤية المستقبل بالرغم من كثرة المطالبة بها.

هي ثقافة بلا معرفة .. ثقافة فقدت مصداقيتها .. حولها الإعلام إلى ثقافة الكلام، وأفرغها واقع يعيد إنتاج نفسه كل يوم. في هذا الواقع يعيش المواطن ثقافة بلا معرفة .. ويعيش الكاتب أكذوبة حرية التعبير. ويمر كل يوم ونحن نشاهد السادة الضيوف وهم يتكلمون في الشأن الليبرالي، والأحوال الاقتصادية، سعداء بالفصاحة وحلاوة اللسان ونسمعهم وهم يقولون: «تبدأ حريتى حين تنتهى حرية الآخرين» .. وتدهشنا الثقة التي تنطق مثل هذه العبارات. تأكد المسئولون عن هذه الأجهزة أن المسألة ما دامت كلاما في كلام إذن علينا أن نجلس أمام الكاميرات ونتحدث حتى الصباح، وما دام لا شيء يتغير، وأنت فاهم وأنا فاهم، فلا أحد من خارج «الميديا» يتمتع بأية حقوق، ووقع في الشرَك وحده السيد المؤلف.

هو الوحيد الذى ليس له مكأفاة عن كلامه، لأن المخرج والمعد وطاقم العمل ومقدم البرنامج والمنتج المنفذ قد وزعوا الميزانية، وسقط من حسابهم الضيف صاحب الكلام واللسان الذَّرِب السيد المؤلف. وزعت الميزانية بالعدل من الوزير حتى الغفير، واستبعد بحمد الله الضيف المؤلف مطرودا بعيدا عن النعمة. إنه المنسى بقصد. يقف الآن أمام معد البرنامج ومقدمه يفرك كفيه بالعاً ريقه، رامشاً بعينه من تحت نظارته متنحنحاً هامساً بالسؤال: هو مفيش مكافأة؟ وقبل أن يلفظها يقطع عليه مقدم البرنامج تفكيره صائحا فيه: - إحنا متشكرين جدا يا أستاذ .. نشوفك المرة الجاية. ثم يمد له يده مودعاً!

يمضى السيد المؤلف خارجا من البلاتوه، حيث الهواء البارد، ثم المبنى حيث شوارع المدينة الحارة في الصيف، لاعناً نفسه ومقدم البرنامج والتليفزيون والدولة التي يعيش فيها، ثم يبكت نفسه قائلاً - إخص عليك تليفزيون .. ثم يستدرك: أنا عارف أنا إيه اللى جابنى هنا بس؟

أتذكر أنني بذات نفسى وشخصيا تعرضت لهذه المهانة، فلقد ضيفني أحد المحترمين من مقدمي البرامج العرب الذى أخذت بيده الأيام وأصبح وزيرا للثقافة في وطنه المناضل ضد الاستعمار، وكان أيامها يقدم برنامجاً ثقافيا عن أحوال الثقافة والإبداع والحداثة، وغايات النقد والكلام عن إصدارات الكتب الجديدة. تكلمت نصف ساعة من الكلام الموزون، الثقيل بالمصطلحات والجمل ذات المعنى، مثل الإبستمولوجى وعن منهج الكتابة وعن قواعد البلاغة في نصوص كتابة جيل الستينيات، وحين انتهيت سألني إن كنت قرأت رواية إدوار الخراط الأخيرة، وحين أجبته أننى قرأتها، طلب رأيى، وحين أعجبه استأذنني في أن يصور هذا الكلام فأذنت له، وفى اعتباري أن الحسّابة بتحسب.

وهكذا سألنى عن رواية إدوار وإبراهيم عبدالمجيد وميرال الطحاوى ورواية البساطى، وأنا أصور نفسى سعيدا جدا بالأمر وأن كل هذا الكلام سوف يترجم إلى أوراق مالية خضراء إن شاء الله بإذن علام الغيوب. انتهى التصوير وأنا أنتظر مكرمة الرجل، إلا أنه لم ينبس بحرف وعمل أذناً من طين وأذناً من عجين. تشجع شخصي المتوتر وسألته: الله، هو مفيش مكافأة؟ انقلبت سحنته إلى سحنة متسول يشحذ على قارعة الطريق، وأخبرني بعد أن أقسم بالله تعالى أن البرنامج إنتاج خاص يهتم بالثقافة الجادة المطلوب دعمها وسط برامج «هشك بشك»، و«أنكم أنتم المثقفون القادرون على تأدية هذا الدور!

همست لنفسى: «يعنى طارت المكافأة»، وتذكرت كمية الكلام الذى قلته فكررت على نفسى: «لله يا زمري»، وتوجهت ناحيته وقلت من غير انفعال: «بالله العظيم يا شيخ لو أننى (فقى) أعمى يقرأ على المقابر سورة قل هو الله أحد لأعطوه كعكة»، ومضيت خارجا من البلاتوه البارد إلى حر القاهرة المريع.

 

نفسى أعرف الرئيس لما بيخطب بيقول إيه؟!
في العادة، وبين الحين والحين، أسافر البلد، والبلد كما تعرفون هي قرية من قرى الدلتا، تلك القرى المنسية على شمال السما، التي لا يذكرها أحد من أهل مصر وحكامها، وتعيش مكتفية كل ليلة بما تشاهده أمام التليفزيون، وتسمعه من هراء يدردب نفسه إلى وعيها! نجلس على بحر شبين كفاروة، وعلاونة، وبداروة. ومساعدة، ومن كل ملة، وعائلة، وكل من له مزاج في الكلام في السياسة، ومعرفة أحوال بر مصر! يأتون إلى الدار، محملين بالأسئلة، باحثين عن إجابة، راغبين في معرفة ما يدور وسط هذه الغاغة التي يعيش فيها الوطن، لا يستشرف أفقاً للخلاص، ولا نعرف نهاية لما يجرى، والله وحده يعرف كيف تنتهى الأمور.
العم «مطاوع عبدالصبور أبوالعزايم» يجلس صامتاً، يحفه قدر من انشغال البال، وهو الذى كان لا يكف عن الكلام. أنكشه: «مالك يا عم مطاوع؟ ساكت وشايل طاجن ستك؟». يفاجأ ويرد علىّ: «أبداً.. سلامتك»، ويغرق في صمته
!! أول براد شاي، وتسمع إيقاع رشفات الضيوف، رتيبة ومؤاخية، وعلبة السجاير تخرج، ويا دوب لفة. والنهار على النهر غائم وشمس الشتاء لينة على زرعة القمح، ورزق العيال على صاحب الرزق! يقطع الصمت أحدهم: «وهوّ يعنى اللى عمله الرئيس مرسى ده يعجب حد؟ «يرد آخر: «بقى بعد ثورة نزف الشعب فيها دمه آخرتها ييجى رئيس ويحصن نفسه ضد أفعاله»؟ يرد آخر: «يحصّن قراراته ضد الطعن وضد القضا، لأ، والأكادة يمنع سلطة القضا! إنه يهوّب ناحية مجلس الشورى أو التأسيسية».

يحزق أحدهم، وقد انتفخت عروق رقبته، كان هرماً يثير الرثاء، قادماً من أزمان ولت. أعرف أنه يحمل على كتفيه مظالم زمان عبدالناصر، وزمان السادات، وزمان آخر الطغاة حسنى مبارك يصيح بصوت مخنوق قائلاً: «ولا حكاية التأسيسية، ودى كمان أيام وشهور تعدى ولا باين لها بر .. لا اتفاق ولا هدنة .. وناس تستقيل وناس تدخل.. وكل ليلة يقطعوا في هدوم بعض على التليفزيون لما بقت جرسة، ومع ذلك مافيش اتفاق. الإخوان يا دينية يا بلاش .. والجماعة بتوع العدالة الاجتماعية يا مدنية يا بلاش .. واحنا ولا مؤاخذة مش فاهمين حاجة!!»، يصيح فى وجوه الخلق: «ألف رحمة عليك يا مصطفى باشا يا نحاس .. كان أي دستور مايخدش فى إيده غلوة: تعالى يا سنهوري اعمل دستور. يشتغل السنهوري ليلتين ولا تلاتة خلص الدستور. دستور عادل وعارف مصالح الناس».

يصمت الرجل ويقاوم عواطفه، ويضيف: «يرحمها أيام ويرحم رجالتها.» صمت، ولا أتكلم. أستمع وأتأمل الوجوه التي أعرفها من عشرات السنين. وجوه عاشت القسمة غير العادلة طوال تاريخها، ورضيت بالقيراط الخامس والعشرين ومكانه جنة الخلد! تضع بنت الأخ على الأرض براد الشاي، والأكواب المغسولة، والصفطي وهو يصب الشاى يصرخ: «طلاق بالتلاتة من مراتى كل ما تحل تحرم ان الرئيس مرسى دهوت ها يعملها حرب أهلية والدم هيبقى للركب، وبكرة تشوفى يا بلد لما التنظيم السرى يخرج عليكى من تحت الأرض!» تدهشنى كلمات «الصفطى»، وأنا من أرادوني أن أتكلم .. أنا أصغى الآن لهم. لهؤلاء الذين لم يفرطوا في شيء، وظلوا على أحلامهم ورغبتهم في السعي ناحية عدل وستر!!

أغيب عنهم، وأحدق متأملاً الرئيس مرسى يقف وسط ميدان جماعته مصراً على تطبيق إعلانه الدستوري، مهدداً القلة الخارجة بالتمام والكمال مثل حكام زمان. لا شيء تغير. ولأهل مصر صلات خارجية، وهم مأجورون وبلطجية، وأنه سيكون لهم بالمرصاد .. تتجمد الصورة على ما فات وكأن لا كانت ثورة ولا يحزنون!! تأتيني أصواتهم، وقد أقاموا حلقة من الأسئلة. مرسى يعلن الحرب على الناس. وإيه حكاية محيط السفارة الأمريكية دى؟ بيقولوا جماعة من الجيش بتدعم مظاهرات المعارضة؟ باقول لك إيه خلى الجيش بعيد. خليه في اللى هو فيه! والبلد ميادين، وزحمة. وأزمة فى العيش والسولار والوظائف والميزانية، والمرور، والسياسية الخارجية، والداخلية، وفى الفنون والآداب، ومصر الوطن طائفتان .. طائفة أهل دين .. وطائفة أهل علم. ورائحة كريهة تهب من كل الأنحاء. واللحى تسد عين الشمس. ومصر ترقص على صفيح ساخن.

وعم «مطاوع عب الصبور أبوالعزايم» يكمن هناك، قرب الماء، صامتاً، وحزيناً، وحين سألته «مالك يا راجل؟» همّ على ركبته وأجابني: «اللى محيرنى فى الموضوع كله إنى نفسى أفهم لما الرئيس مرسى بيخطب بيقول إيه؟!»

 

أمام بوابات فرناندو بيسوا
ظل بيسوا فى ذاكرة الشعر، واحداً من أغرب شعراء القرن العشرين. ظلت غرابة هذا الشاعر لا تنبع من غموض شعره فحسب، بل كانت علامة على شخصيته التي كثيراً ما بعثت الدهشة، وأثارت الأسئلة، وكانت في مجال الشعر، على مستوى العالم، تشبه قصائده التي كانت في وقتها، عصية على التصنيف. هل كان بيسوا سورياليا؟ أم كان شاعراً رمزياً؟ أم كان واحداً من الشعراء الذين لا يمكن القبض على كينونتهم؟ لكم كتب الرجل -طوال عمره القصير- قصيدته باحثاً فيها عن ذاته، عن هويته، عن كونه الخاص الذى جسده خيال الشاعر، وشخوصه تلك أسيرة الحلم، وذلك العالم الافتراضي الذى عاشه شاعر مثل بيسوا.

فقد اختلق في مسيرته أربعة من الكتاب، ظل يحدق من خلالهم على العالم، حيث أبدعوا أجمل الشعر، وعرفتهم الدنيا كشعراء مستقلين عمن أوجدهم، ريكاردوريس الذى أصبح أنا أخرى لبيسوا، كما اصطنع ندين برزا إلى حيز الوجود الأدبي، هما: كاييرو، والبارود كامبوس، وعبر سنوات ظل هؤلاء يكتبون حتى أضاف لهم الشخصية الرابعة، المتخيلة «برنارد سوارش». الأربعة الذين كان يتحاور معهم، هؤلاء المتخيلون الذين عرفهم الناس أكثر ممن أوجدهم؟

يخلو تاريخ الأدب مما صنعه بيسوا بأنداده! تركهم يكتبون، مندفعين نحو تحقيق وجودهم الخاص، بتلك القوة الرمزية لتلك الشخصيات المتخيلة التي تقبض على عالم الشعر بعبقرية فرناندو بيسوا، وتركهم ينتجون له الشعر، فيما تفرّغ هو لكتاب اللاطمأنينة.

ولد فرناندو أنطونيو نوغير بيسوا في لشبونة يوم 13 يونيو 1888 وتوفى بها يوم 30 نوفمبر فى العام 1953. عبر السنوات التي عاشها وصنعت حياته «بحياة رجل عايش الأشياء التي تحدث في الحياة من بعيد، مبتسماً، دون أن يختلط بها متخذاً من مهمة العبقري المقدسة والرهيبة هدفاً حيوياً لحياته»، إلا أنه قرر التخلي عن كل أنواع الشهرة التى تليق فقط بالممثلات والمنتوجات الصيدلية بدون إظهار أى ندم أو مرارة أو حقد». هكذا قال عنه مترجمه الشاعر المغربي المهدى أخريف. لقد عاش بيسوا طوال عمره القصير، وبعد أن قضى زمنا من سنواته في جنوب أفريقيا، يرى ويتعلم، ويتقن اللغة الإنجليزية، ثم عاد للشبونة يباشر عشقه الأزلي للشعر والفلسفة واللاهوت، مصطنعاً أنداده، بعدها يتفرغ لكتابه الهائل .. «كتاب اللا طمأنينة» يقول بيسوا على لسان نده البارود كاندس: أن أحس كل الأشياء بجميع الطرق الممكنة. أن أعيش الأشياء كلها من جميع الجهات. أن أكون الشيء ذاته بجميع الصيغ الممكنة فى وقت واحد.

كما ظل بيسوا يردد طوال حياته «كل منا يعيش حياتين: واحدة في الحلم، والأخرى تأخذنا إلى القبر.» كان الحلم أحد دوافع بيسوا لعشق الكلمات، والوعى بالكلمات قاده إلى طريق الشعر، والشعر انتهى إلى إنشاء «نوستالجيا»، يسمع فيها نبض الأشياء التي حفزته لكتابه «كتاب اللا طمأنينة». يقول بيسوا: «نحن لم نعش الحياة، الحياة هي التي عاشتنا، بنفس الطريقة التي يرشف فيها النحل الرحيق، نرى، نتكلم، ونحيا، الأشجار تنمو، بينما نحن ننام.»

لقد ظل هذا الشاعر الفريد يكتب الشذرات والمقاطع فى تتبع يثير الدهشة، يلقى ما يكتبه في حقيبة من جلد بائد حتى جاء أحدهم، وبإخلاص المحب ظل يعيد ترتيب تلك الشذرات والمقاطع التى تشبه الرؤى، حتى كانت «اللا طمأنينة» يقول: (أكل شيء يفلت منى. حياتي كلها، ذكرياتي، مخيلتي بما تحتويه، شخصيتي، الكل يتبخر، أحس باستمرار أننى كنت شخصاً آخر، وأننى أحس بالذى أعانيه هو مشهد من سيناريو آخر.. من أكون؟.. كم من ذوات أنا؟ من هو أنا؟ ما هو ذلك الفاصل الموجود بينى وبينى؟) كان على بيسوا الذى يعيش أيامه الغابرة، أن يستعيض عن تلك الخيبات بالشعر، حيث يهمس لنفسه «ألسنا بشىء ذى وزن. باطل ما نحن إياه.» وهناك على الشطآن البعيدة يقف وحده ويرتل ريح خفيفة جداً تهب ثم تمر، دائماً خفيفة جداً، وأنا لا أعرف فيم أفكر، ولا أسعى إلى أن أعرف حكاية وأخواتها!»

 

عن أمن الدولة وأمن الرئيس شخصياً
تسعفني الذاكرة الخوانة ـ أحيانا ـ بالبعيد الموغل ... أما القريب، فالعوض على صاحب العوض فلقد هضمته الأيام، وهرسته بأضراسها كما علف الحيوان! وأنا واحد من المؤمنين القدامى، بأن الذاكرة توأم الخيال، وأنها الملاذ الأخير لرجل يسكن على جبل عالٍ، يطل على مدينة قديمة، وإن هذا الكهل الذي يسكن الجبل كلما خطا بين الخلايق شعر بأن أيامه المعاشة ليست صالحة لأن تكون – بالضرورة ـ ملاذه الأخير، ولا هي في الواقع فضاؤه الصالح لاستنشاق هواء نظيف.

صدقوني، فالدنيا في سنواتها الأخيرة باخت، واتسمت أحوالها بقلة القيمة! رحم الله الشاعر «آرنو دانييل» وأسكنه فسيح جناته، الذي قال يوما:
»أنا آرنو الذي يكدس الريح
ويصطاد الأرانب بالثور
ويسبح ضد التيار«
يشهد الله من عليائه، اننا كنا في زمن مضى نكدس الريح، ونحلم بالعاصفة، وننشد تلك الأناشيد التي نعزفها على أشواق الناس. الآن نكدس خيباتنا في جرار نجلس بجانبها ونذرف الدموع.
تهبع الذاكرة الخادعة مثل جمل الحمول، وتضرب بالشوط في براري الأيام، وتغوص لأذنيها في بحر النسيان، وتخرج حاملة بعضا مما كان «ذات يوم»، وأنا أقف على شاطئها مثل مخبول مترقبا ما تأتي به الأيام.
والحكاية من أولها، انه في 19 نوفمبر من العام 1977 أخذ الرئيس المؤمن محمد أنور السادات طيارته موفياً بوعده للأخوة الصهاينة بزيارة القدس حتى يحل السلام على المنطقة، ومن ثم على العالم.
أتذكر تلك الأيام خطاب الرئيس في البرلمان المصري عندما قال بعالي الصوت «ستدهش إسرائيل حينما تسمعني الآن أقول أمامكم إني مستعد للذهاب لبيتهم نفسه إلى الكنيست الإسرائيلي ذاته.» يومها أنا قلت السادات يبلف كعادته، ولم أكن أصدق انه وسط هذا الإجرام الذي تمارسه الدولة اليهودية أن يدّعي أحدهم ويفتح فمه ويقول انه سوف يزور إسرائيل!!
ولكنه، وبغرابة، قال انه سيفعلها وفعلها.
وشاهدت هبوطه من الطائرة على أرض فلسطين. خروجه، ووقوفه على السلم يرسل تحياته لأبناء العم في استقباله، بربطه المعلم، وسط الهوجه العبرية. رأيته يصافح كهنة الدولة، واندهشت حسرة عندما رأيته يصافح بيغن وغولدا مائير وموشي ديان وشارون. يوم فاصل بين الحقيقة والوهم!!
ضربتني حمى، وفارقني النوم. كنت أعمل في ذلك التاريخ محاسباً في بلد عربي. كانت شمس تلك البلاد لا تعرف الرحمة. وكنت أدور في الأزقة الضيقة وعيني في عين الشمس التي لها سطوة، وأمشي في ظل الجدران مثل أسير. خفت أن يطير عقلي.
كان عبء ما جرى، وأنا الغريب في بلد آخر مثل رحى على الصدر، حائراً لا أجد الأمان، أغرق في أسئلة بلا إجابات، وأحاول بالعافية انتزاع نفسي من سطوة حصار التاريخ وحوادثه، ذلك التاريخ الذي عشته تسحبنا أيامه على وجوهنا من غير رحمة.
رسالة إلى الرئيس
ضاع اليقين. وحياتك وما عشت من أجله تبعثره الآن ريح السموم.
في الفجر، وأنا جاحظ العين، مستلقٍ على سرير على قد الحال، في حجرة بلا مكيّف، لها مروحة في السقف، تطلق صوتا مثل استغاثة، هبطت على لا أعرف من أين؟
نزلت محكمة، وكاملة، مثل الوحي، كأنها الجنس المغلق، تشير ناحيتي بلا بلاغة، ولا علاقة لها بجهد آدمي آخر. ألقيت بالكامل، جاءت من مكان قصي يرتبط بمعنى السحر والخرافة والمنح والمعجزات. مثل نبتة في داخلها شجرة.
جلست على السرير بلا وعي، مخدراً، مستسلما لذلك الفيض الذي لا أعرف ينابيعه. كنت أحدق من النافذة على الليل الصحراوي. أتذكر قريتي البعيدة، وأبحث عبر مشاهدها عن النبرة التي سوف أبدأ بها الكتابة.
كانت قصة لا أعرف من أي العوالم هلّلت على؟!
كل ما أذكره أنني بدأت الكتابة «لأنه لما رأى الشمس تشرق من المغارب ونظرها تغرب في المشارق، أحس بالقيامة تقترب«.
تتواتر الكتابة، طيعة، ومنفعلة، صاحية مثل ماء بئر، ثم معكّرة بالطمي ورائحة نبات الشطآن، وهبة الريح في فضاء الأرياف.

وكلما أوغلت في النص استقام، والحدث يأتي غير عادي، ينسبح نفسه من غير بلاغة زائدة أو حشو، والإيقاع يحدد نبرة الصوت، فيما تتابع المشاهد. كانت القصة تحمل حكاية الفلاح «مطاوع عبدالصبور أبو العزائم» الذي قام من منامه فرأى القيامة متجسدة في ما يجري من حوادث الأيام، فأخذ نفسه إلى مكتب التلغراف في المركز وأرسل للرئيس البرقية التالية «عندي من الأسرار الخطيرة ما يهم أمن الدولة وأمن الرئيس شخصياً ولا يمكن البوح به إلا لحضرتك«.
وأرسل البرقية فورا إلى عنوان الرئيس في رياسة الجمهورية.
اسبوع ومر.
بعده انقلبت الدنيا، عاليها واطيها!
أتاري البرقية وصلت السادات شخصيا، واستلمها بذات نفسه.
وانفتحت على مطاوع أبواب الجحيم.
بدأ التحقيق معه من دوار العمدة في القرية حين جاء ضابط ليتأكد من المعلومات التي عند مطاوع، والتي تهم أمن الرئيس شخصياً، إلا أن مطاوع ثبت على موقفه وأخبر الضابط أنه لن يعترف بشيء إلا للسيد الرئيس بذات نفسه. وأخبر الضابط: إن مثل هذه الأمور لا بد أن تتم بينه وبين سيادته شخصياً بعدها شخط الضابط في وجه مطاوع وأخبره: بأنه بيمثل شخص الرئيس في البلد وغصبا عن رقبة اللي خلفوك هاتقول اللي انت عارفه. ساعتها صرخ مطاوع بعالي الصوت ورد على الضابط: مش قايل .. ريّح روحك يا حضرة الضابط وبالله العظيم اللي هيضربني عصاية سوف أبلغ الرئيس بذات نفسه.
تحيّر الضابط ومضى وكتب تقريره، ومطاوع توجه لمكتب التلغراف وكتب برقيته التي تحمل ما حدث له مع الضابط.
ومثلما حدث مع الضابط، حدث الأمر نفسه مع المأمور، الذي أمر بوضع مطاوع في الحجز بعد أن ناله علقة ساخنة بمعرفة الشرطة في المركز، وحين ضاق بالمأمور الأمر أطلق سراحه، وبالطريقة نفسها توجه مطاوع قبل أن يروح داره إلى مكتب التلغراف وأرسل برقيته «سجنوني يا سيادة الرئيس وعذبوني في سجن المركز لكي أقر بالأسرار التي تهم أمن الدولة وأمنكم«.
بكت فهيمة زوجة مطاوع وأخبرته: أن البلد كلها بتتكلم على موضوعه وبيقولوا عليك يا مطاوع انك إخوان مسلمين، وراقد على مصيبة. فز مطاوع وصرخ فيها: انشاء الله يقولوا شيوعي .. اهمدي يا وليه المعركة سخنت واللي يكون يكون.
ارسلوا مطاوع إلى محافظ الإقليم، والداخلية في العاصمة. ومطاوع صندوق مقفول بقفل من حديد. والبلد استيقظت على صرخة صباح:

«مطاوع أبو العزايم هيقابل الرئيس السادات يا رجالة!»

واندهش الناس. وكثرت الأقاويل:
السادات خبط لزق والله ولا الحكايات يا مطاوع.
في الليل وتحت ضوء كهربايه جلس الخلق في لمة. ومطاوع على دكة عالية.
مطالب الكفر واضحة لازما مطاوع يحملها للرئيس شخصيا «البلد عاوزه مدرسة: التعليم زي الميه والهوى، وانت سيد العارفين يا مطاوع» وآخر قال «ووحدة صحيه وجامع وسعر القطن في النازل والعيال خلصوا دراسة وقاعدين عواطليه. وبلّغوا ان العدل غاب والأغنيا رجعوا تاني يمصوا دم الخلايق. وقل له: يا ريس الشكوى لغير الله مذلة، والفقر حاطط على البلد ذي القضا المستعجل. ما انت مننا وعلينا وعارف كل حاجة يا مطاوع. كان صامتاً، منشغلاً، يفكر في ما لا يعلمه الناس، ويواجه بخياله ما هو قادم من الأيام. دخل من باب القصر الكبير، وأشرف على رواق من رخام أحمر. انتهى الرواق ومر على صالة في مساحة جرن واسع بلا شطآن صور الآغوات والبشوات وسيدات مثقلة صدورهن بالمصاغ الغالي الذي يبرق مثل عيونهن الملونة.
على كرسي تفصله مسافة خطوتين عن الرئيس، جلس مطاوع انتظر مقدار نصف ساعة ناوشه فيه الهم، وركبه ألف عفريت، دخل الرئيس، ونهض مطاوع، وألقى رئيس البلاد عليه السلام:
- ازيك يا مطاوع. أخبار بلدكم إيه؟ أنا على فكرة قرأت كل البرقيات اللي انت أرسلتها. ابتسم وواصل كلامه: أنت يا راجل شغلت الرأي العام. وصمت ثم حدجه بنظرة تعلب وقال: أيوه يا مطاوع: إيه بقى الأسرار اللي تهم أمني وأمن الدولة وعاوز تقولها لي؟
جف ريق مطاوع ولم يفتح عليه ربنا بكلمة. بلع ريقه الجاف وتلجلج. عالجه الريس قائلا: خلاص انت جيت وهنا لازم تتكلم.
واتكلم مطاوع:
- يا ريس أنا عاوز أقول لسيادتك إن جدي مات في حرب 48 وابن عمي مات في حرب 56 وابني حتى اللحظة دي معرفش إن كان عايش ولا ميت من أيام حرب 73.
قاطعة الريس:
- يشكروا يا ابني ماتوا في سبيل مصر. لكن ده ماله ومال موضوعنا؟ استجمع مطاوع عزمه وقال للرئيس:
- يا ريس أنا جاي أقول لك متصلحش اليهود يا ريس .. اليهود لأ. وغاب مطاوع، ومن يومها لا نعرف أين راح.
أنهيت القصة، ولقفت نفس. وبعد أيام راجعتها وتأكدت بأنها صالحة للتعبير عن اللحظة. فكرت في مكان نشرها. مصر ... لا يمكن .. السادات عايش والأجهزة بعيون مفتحة. فكرت في مجلة واسعة الانتشار ولا أعرف لماذا حضرت مجلة «الحوادث» اللبنانية، وصاحبها طيب الذكر «سليم اللوزي» الذي كان يعاونه ذلك الحين في إنجاز المجلة أخونا في الله جلال كشك، والرجل هو من هو: شيوعي وأخواني ووفدي وعلى كل ملة، والحسابة بتحسب!!
النص والفيلم
حسب علمي لم تنشر «الحوادث» على طول تاريخها نصا إبداعيا أبدا المهم توكلت على المولى وأرسلت القصة. أسبوعان، ووجدت النص منشوراً في «الحوادث» على حلقتين بتقديم وحفاوة من رئيس التحرير.
قُرئ النص بوسع، وذاع صيته بين المثقفين والعامة، واستقبل الاستقبال الحسن، وخفت من رواجه وتأثيره، وأيامها أخبرني أحد النقاد البنياويين الثقاة، الذين كانوا يساعدون السيدة حرم الرئيس في دراستها، حيث كان أحد اساتذتها في قسم عربي، أخبرني أنه رأى الرئيس يقرأ النص في إحدى زياراته للبيت، وكان هائجاً مثل قط قفل على ذيله باب. وأخبرني في مكالمة هاتفية: إياك والعودة إلى مصر. استخرت الله، وضعت في البلاد سنوات حتى نفذ السر الألهي فى السادات بمعرفة الجماعة الإرهابية الجها،د فقابل وجه ربه مع الصديقين والشهداء، وعلى وجه السرعة.
كان في الوقت نفسه يقرأ النص المخرج العراقي «صاحب حداد» وبعد أن أحب النص تقدم به يطلب من مؤسسة الســينما العراقية إنتاجه كفيلم ضخم يقــاوم التطبــيع ويفتح أبواب الرزق لكل من عمــل به من فنانـين وغير فنانين.
أعد السيناريو «زهير الدجيلي»، وجمعوا كل الفنانين المصريين المغضوب عليهم والمنفيين والعاطلين عن العمل: كرم مطاوع وسهير المرشدي وسعد أردش، وحسن جنديه من المغرب وعبد الرحمن أبو زهرة وثناء شافع ومجموعات الكومبارس من العمالة الهاربة وأجراء اليومية الذين يحتلون العراق والعمل يجري بموافقة الرئيس المهيب ووزير إعلامه، والميديا تنقل أخبار الفيلم الذي سيجدد دماء الثورة ويهتف ضد التطبيع.
آخر النكت التي صاحبت هذا الفيلم عندما سألوا مخرجه رحمة الله عليه في حوار له بمجلة المجلة السعودية عن المؤلف الذي كتب القصة أجاب لا فض فوه: أنه كاتب كبير من مصر يكتب باسم مستعار هو سعيد الكفراوي!!! وخلص الفيلم من أوله لآخره.

(جريدة السفير عام 2015)
 

«فيصل الأول» ملك واحد لمملكتين
أنا شخصيا، وبحكم قراءتى لخالد زيادة، سفير لبنان المبدع، وأستاذ الجامعة المقيم، وبسبب من معرفتى بالكاتب والإنسان، أستطيع أن أقول باطمئنان أنه احد المبدعين الذين كتبوا تجاربهم، ورؤاهم للحياة والأدب بكل الصدق والنزاهة. وسواء كانت الكتابة عن سيرة مدينة، أو سيرة أشخاص، أو كتابه فى الفكر، أو رواية فى الأدب، فإن الكاتب فى كل أحواله يثير دهشتنا، ويثير أسئلتنا.

قرأت لخالد زيادة ثلاثيته المدهشة «مدينة على المتوسط» حيث يمزج فى النص الأدبي بين السرد الروائي، والتحليل الاجتماعي، والرؤية الإبداعية، وأدركت لحظتها أن الرجل يكتب باحثا عن روح الأشياء، والغوص في المعنى الذى يثير سؤالنا، في محاولة دائمة للحفاظ على ذاكرة يتهددها الزوال، إن لم تكن قد زالت بالفعل، والصورة آخر الأمر جزء من المخيلة حيث تنتظم الأفكار والذكريات .. وفى الأنحاء هناك مدينة تكاد تكون أسطورية، بسيرة العمران، ومراقبة ما سوف يجيء، ويتغير، ومغادرة الاحلام عبر ابنية قديمة، من زمن كولونيالى له حيواته الخاصة في الذاكرة. وحضور المسلم والمسيحي، والعبور خلال الأزمنة وتراكمها، وتقديم المكان في المشهد العام بمقاهيه وحاراته، وجادات اللهو فيه، حين يتوقف الزمن في الستينيات فتهرول السياسية، برجالها ومناضليها، ويكون السرد علامة على الحدث، وشهادة لأيام زائلة، والظلال على الجدران في الاوقات المتلاحقة، وللغلام كثير الفضول، الملاحظة، والمتابعة، وعبور فترة التكوين، والمدى المفتوح على الرؤى والاختيار، وشغف الغلام حين كان يتأمل اهله يرحلون!!

هنا المدينة لا يحدها واقع، لكنها توجد في مجازات الشعر واللغة!!

احببت طرابلس فى الكتاب، وجست من خلالها مراحل عمر السارد، وتعرفه على الدنيا! متتالية من كتب، أودعها الرجل مقاطع من حياته، في محبة الادب والفكر، امره عندنا ــ نحن محبيه ــ انه من سلالة من الكتاب الذين يتملكون احساسا فياضا بالتاريخ.

من هناك، من بعيد، من أول الشباب كان اكتشاف الأدب .. الصورة التقليدية للمجتمع المدني .. وفى تطور النظرة الإسلامية الى أوربا، ومناقشة أسئلة النهضة، وفهم الآخر، ومساءلة مؤسسات الفكر والتواصل لإيجاد صيغ مشتركة لتفعيل المشترك بين المسلمين وبقية شعوب اوروبا .. ثم كانت السلطة حرفة الفقهاء والمثقفين. وكان عبوره صوب الجبرتى مؤرخ زمن المماليك، ومناقشته لعلاقة الرجل بالفرنسيين وغيرها.

(الشروق 26 أكتوبر 2012)

 

حتى روايته الأخيرة «فيصل ...»
وفيصل كما يعرفه خلق الله، هو الملك فيصل الأول، الذى حكم مملكتين، مملكة سوريا، وبعدها مملكة العراق، وفيصل الملك ينتمى لسيدنا الحسن السبط، ابن الإمام على بن ابى طالب الحسنى الهاشمى القرشى.. وهو ابن الشريف حسين حاكم الحجاز.. تعلم فى اسطنبول، واكتسب فيها ثقافته، وحياته المعاصرة، الا انه لم يتخل عن لغته العربية، وثقافة والده، وشعبه.

فى العام 1916 اعلن الشريف حسين الثورة العربية الكبرى على الأتراك، وكانت البداية بإطلاق رصاصة الوالد، وكانت بدعم من الانجليز، وخلال أربع سنوات من الحرب والنضال بمشاركة القبائل العربية، الحويطات وبالى والرولا، واهل البوادى، والمثقفين والعروبيين من اهل سوريا ولبنان وفلسطين ومصر.

لقد استطاعت الثورة خلال العام 1920، ومن خلال المؤتمر السوري العام ان تعلن استقلال سوريا تحت اسم المملكة السورية العربية، ويتوج فيصل بن الحسين ملكا عليها، لكن تآمر الانجليز والفرنسيين، بعد توقيع اتفاقية سايكس ــ بيكو التي قسمت البلاد، لتزحف فرنسا بجيوشها، لتنهزم الثورة في العام 1920م، فى معركة ميسلون. من لحظة الهزيمة هذه يبدأ خالد زياده سرد روايته.

 

فى تقديمه لفيصل الملك يقول:

»كان فيصل يتمتع بمواهب القيادة كأمير عربي، فضلا عن خصاله التي حببت اليه الذين عملوا تحت إمرته. الكرم والحلم والتسامح، فضلا عن تردده وضعفه وغضبه احيانا وانخراطه فى المفاوضات مع الدول الكبرى، والتي لم يكن مؤهلا للخوض فيها. والرواية «التي توفق على قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم للخيال» كيف رسمت فيصل الملك، وفيصل الإنسان. كيف وازن خالد زيادة بين التاريخ، وبناء رواية تعتمد على التأويل والخيال؟!

المؤرخ يكتب تواريخ الناس، ويخرج بما كتبه من الخاص الى العام. والرواية تسعى لمعرفة تجابه اهوال الحياة ومأساة الموت!! من لحظة هزيمته في ميسلون، يتأمل فيصل مصيره .. يبدأ من مشهد المناضلين الذين يقفون في الليل، يجمعون قتلاهم، ويحملون على كواهلهم هزيمتهم .. كلهم كانوا في اللحظة يفتقدون الامان .. صخر العسكري ينشغل بما يجرى في العراق.. ويوسف الحكيم يعد الشاي .. وساطع الحصري يهتم بعيدان الخشب التي تسور المكان .. ورياض يوزع الشاي على جمع المنكسرين بالهزيمة .. ونسيم البكري.. وسيلم الجزائري، هؤلاء العروبيون الذين جاءوا من النواحي العربية ليناصروا الثورة!!

وحده يقف فيصل فى مواجهة تاريخه الشخصي، تاريخه الذى يشبهه، وينتسب اليه، متسلحا بمشاعره التي تتفاعل في روحه بهزيمة لا يعشها سواه. يتأمل الخراب، ويرتدى لباسه العسكري، حيث يرى الجنود يتبعثرون، لا يهتم به أحد، وصوت الرصاص، ودخان الحرائق، والأنين الصاعد من الجرحى، ساحة للألم ولروحه. يتساءل: ماذا سيقول عنى التاريخ؟! شيء واحد أعرفه ــ حتى بعد الهزيمة ــ أنا الملك، ولا مملكة دوني. ومن الكسوة، حتى حوران، ومن حوران إلى درعا، ومن درعا إلى دمشق، وفيصل يبحث عن نفسه، تناوشه الأسئلة، وصوت القطار يقطع المسافة بطيئا فى الليل .. ينشغل بثورته من جديد، وبالبلاد التى ضاعت .. يتساءل: ماذا يبقى من مملكة ضائعة؟ وكلما اضطرب استدعى صورة الأم، وطفولته ليهرب اليهما حيث يمثلان له الآن الفردوس المفقود. الأب له خبثة، وأنانيته، وسطوته والانجليز أهل الخداع، والغدر والعدوان للفرنسيين .. لا تجدى الآن سفراته المتتالية عبر إسطنبول وبور سعيد للنفاذ هناك حيث الحل والربط في أوروبا. حتى المبادئ التي آمن بها يومها للرئيس ويلسون لم يعد يثق فيها. الآن يعيش وقت تقسيم بلاده، وتهديد فكرة العروبة التي عاش بها.. لا ينسى أيام اهتمامهم به، ويتذكر حينما كانت النساء في المؤتمرات، وأماكن إقامته، يتحلقن حوله وكأنه شخص أسطوري بلباسه العربي قد خرج من صفحات ألف ليلة وليله، وهناك قرب نافورة الماء تتأمله السيدة ويلسون وتهتف لنفسها بانبهار يا إلهى أنه المسيح!!

لحظاته المتوترة، هي لحظات تأمل ما جرى، والذاكرة تستعيد مملكة تضيع وحلول الخراب، وانقسام الفصائل، وخديعة اللنبي الذى باعه للفرنسيين، ولورنس رافع رايه حقوق العرب واختفائه.

«أتأمل ذاتي وتاريخي كأنني أنظر في مرآة أو أقرأ في كتاب، وأصرف الوقت في تدوين هذه الأوراق التي تحفظ قصة انتصاراتي وإخفاقاتي وأقداري، لا أكتب تاريخا ولا مذكرات، لا خواطر أو رسائل، أردت حين عزمت على تسجيل هذه الأوراق منذ خروجي من دمشق أن أكتشف نفسى (..) يقولون أنني كريم حتى الجنون، وبسيط مثل بدوى في الصحراء، يقولون أنني داهية صموت، أنني لم أفعل سوى ما أنا عليه.»

صوت من النص .. صوت من يكتب مذكراته شهادة على فعله، وحوادث جرت بزمنه .. هى لحظات انكسار فيصل، وغربته، واجتهاد النص الروائى فى الكشف عن مشاعر أنسان عاش في التاريخ وصنعه.

لقد استطاع الكاتب عبر نصه الروائي التعبير عن معطيات شخصيته والوصول لتصوير تفاصيل واقع الشخصية التي كتب عنها .. ممكن أن تصدمك النهايات الخاسرة لملك لا يعرف مصيره، لملك يغادر ملكه، ويفيض في سرد احواله، بكل أخطائها، عندما غادر دمشق أثناء القتال، وعودته لها .. اعتقاده الراسخ بأن التاريخ سوف ينصفه .. كان يؤمن أن أخطاءه لن تقرر مصيره «عاش تردده ورضى بخديعة اللنبي له عندما أخبره بانتصار الثورة ففاجأه: أن سوريا ستخضع لشروط البلدان المفتوحة

أربكه تردده الذى أفقده أوراقه في المفاوضات .. وظلت حتى بعد أن نصب ملكا على العراق يعيش هواجسه .. كان دائما يفكر في الأتراك مع أتاتورك يقاومون، ويقيمون دولتهم الجديدة، وثوار العراق يجبرون الإنجليز على التراجع فيما خسر المتشددون من جماعته، الداعين إلى القتال، ولم يكسب المعتدلون.. كان يمسك العصا من منتصفها ــ كما يقول خالد زيادة ــ وحين قرر خوض القتال مرغما، كان الوقت قد فات!!

يلتمس الروائى المدرب احساس ملكه الكريم الذى خسر مملكته .. ويقيم على تخوم وطن مزقه العتاة، متأملا أرباض يصعد من بيوتها الدخان، وبشر يتوجهون لا يعرفون إلى أين؟! يدهشنا الروائي، والمفكر، في آن، حينما نراه يكتب نصا يمثل طموحه فى تحقيق كتابه تخصه، تفيض بالشعر والخيال الجميل.. والرواية آخر الأمر تعبير عن زمنيين، الماضي والحاضر، وفيهما استطاع خالد زيادة التقاط مشاعر شخوصه، أحزانهم، وأحلامهم، وقدمهم عبر رؤية ولغة تتجسد بالشعر، والظلال، والرائحة، قادرة على تجسيد المشهد الروائي، وإبراز ما فيه من موضوعية للأحداث.

قال أحدهم مرة: يكتب كل كاتب ما كتبه الآخرون ولكن بشكل آخر .. لا جديد في الكتابة، الجديد هو الكاتب!! وكتابة السفير خالد زيادة دائما ما تفيض علينا بالشعر، وبالخيال الجميل أيضا.

 

(الشروق 2012)

 

السائرون نيامًا بين السرد الروائى والصورة التليفزيونية
أتساءل: هل يوجد فى أدبنا العربي رواية تعتمد الحدث التاريخي لكتابة نص أدبى؟ أعتقد أن الإجابة سوف تكون بنعم، عندما نتأمل المنجز الروائي الذى انشغل بالحدث التاريخي. هناك مرحلتان من أدبنا العربي الحديث قدمت فيها الرواية التاريخية:

1. مرحلة التأسيس عند جورجى زيدان برواياته ذات الطابع الإسلامي والتي تعتمد التاريخ إطارا لها. ثم سعيد العريان (على باب زويلة) وعلى أحمد باكثير (وا إسلاماه) ثم نجيب محفوظ (كفاح طيبة) وكلها اعتمدت على كتابة الحدث التاريخي باعتباره مرجعية ومادة للسرد وكتابة هذا الحدث كما وقع في التاريخ الواقعي.
2.ـ ثم جاءت مرحلة أخرى بالكتابة الفنية والإبداعية الرائدة لرواية (السائرون نياما) للكاتب الراحل الكبير سعد مكاوي؛ التي كانت بداية التأسيس لإبداع رواية تاريخية بشروط التخييل والسرد الروائي الفني، وراهنت بما قدمته على إنجاز رواية تاريخية جديدة نبهت الكتابة إلى الغنى في المادة التاريخية لكتابة نص أدبى يستخلص سؤال الإبداع من سياق التاريخ.

أوجدت (السائرون نياما) سياقا جديدا خرجت منه (الزينى بركات) لجمال الغيطاني. وكتبت تحت ظلاله أعمال أخرى، وساهم سالم حميش الروائي المغربي برواياته (مجنون الحكم) و(العلّامة) و(محن الفتى زين شامة). ثم اسهامات أمين معلوف بكتاباته المهمة التي بدأها التاريخ بكتابة (السائرون نياما). لأن هذه الرواية أخذت الرواية التاريخية إلى شكل مغاير، ومثلت مرحلة شديدة الخصوصية، ونموذجا فريدا على كتابة رواية تعتمد التاريخ، وتملك القدرة والوعى من رسم شخصيات حقيقية، وتمتلك رؤية لتحويل التاريخ إلى فن، من خلاله تتحقق قيمة الكتابة التي تسعى لتأكيد قيم العدل والحرية.

لقد استطاعت «السائرون نياما» أن تراهن بإنجازها هذا النصر الفريد، من خلال الرد الفني المختلف لكتابة رواية تاريخية ــ أن تجسد الصراع بين سلطة الحاكم ومقاومة المقهورين وإبراز الأمكنة التي حدثت بها تلك المشاهد. بعد ذلك يغامر السيناريست مصطفى إبراهيم بالاقتراب من تلك الرواية المهمة ويصنع مسلسلا تليفزيونيا من حلقات كثيرة فماذا قدم لنا وشاهدناه طوال الشهر الكريم؟

شعرت طوال المشاهدة بأن السيناريست استوحى أحد الأفلام المصرية التاريخية ولم يقترب كثيرا من نص سعد مكاوي، وظل المسلسل يدور في منطق الشجيع والعصابة. غرقنا فى الحوار العامي وشاهدنا الشخصيات تنتزع من اللحظة الآنية بعيدا عن تاريخيتها ومشهد حياتها فكنا نرى عدوا من فتوات الحارات يرتدون ملابس تاريخية.
ذلك الثبات المرعب للأحداث على مستويات متعددة .. تكرار الأماكن .. والصراع الميلودرامي وفقدان التواصل الفني بين شخصيات لها لهجتها السورية وأخرى لها لهجتها المصرية، وغياب العمق وحيرة الشخصيات فى المعاني الكثيرة التي يطمح المخرج للإمساك بها. لم يمثل ماضى الأحداث والوقائع والأماكن حضورا تاريخيا عبر الصورة المعروضة، لا القصور هي القصور التي نعرفها، ولا الحارات والزوايا والتكايا وتجمعات البشر هي ما نعرفه عن هذا العصر .. ورأينا طوال العرض من خلال الفئتين المماليك وأهل البلد المطالبين بالعدل، ذلك الصراخ الذى لا ينتهى، والحوار الذى يخطب في مشاهد غاب فيها التجسيد. لدرجة أنني كنت أتساءل ما هذا الذى يحدث. هل ثمة معنى من الرموز يريد اسقاطها كاتب السيناريو. هل يريد أن يؤكد أن تيار الظلم ما زال جاريا بين من يملكون وبين فقراء هذا الوطن؟ أنا شخصيا وبسبب من زحمة الأحداث لم استخلص المعنى والجواب.

وبسبب من المباشرة الشديدة فى العرض بعُد المعنى عن التأثير. حتى مخرجنا الكبير محمد فاضل صاحب التاريخ المشرف في إبداع نص يخصه فيما قدمه مع الأصل أسامة أنور عكاشة وغيرها من النصوص الباقية، والذى يقبض بما قدمه على خصوصية المخرج الملتزم المثقف الذى أسهم في خلق دراما عربية تنحاز لصف الجماعات المغمورة في وطننا العربي.

بدا المخرج الكبير محمد فاضل وبسبب من سيناريو لم يستطع أن يتعامل بدراما حقيقية مع نص ملحمى مثل السائرون نياما مباشر أحاول تأويل التاريخ من خلال تخييل النص الروائى، وبالرغم من أن المخرج من المؤمنين بأنه لا يكتب الواقع التاريخى بل يكتب الواقع الفنى فإننا فى النهاية لم نعش تجربة رواية عظيمة على الشاشة فكانت النهاية حسبة غير متوقعة لنا وللمخرج ولكاتب السيناريو.

 

نشر في (الشروق 2010)

 

فيما تعنيــه الأوطـــان
أمام جروبي ــ طلعت حرب ــ وسط المدينة التي تباركها الآن يد الله، وتحت شرفة الحزب، كان يطل على من فوق: الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وعبدالحليم حافظ وأم كلثوم وسيد درويش وبيرم التونسي والسنباطي، وكانوا ينشدون: السلام عليك يا مصر، ثم يرتلون أغانيهم القديمة ــ الجديدة فيستعيدون الوطن

وكان الناس المصريون فى الميدان بالملايين ينشدون، شغوفين: مصر يا امة يا بهية .. يا أم طرحة وجلابية .. الزمن شاب وأنت شابة .. هو رايح وأنت جايه. وكانوا يرفعون الأعلام، ويدقون الأرض بإقدامهم ويتطلعون ناحية السماء، وكانت في الركن البعيد طفلة في عمر الرابعة تلتف بالعلم وتغنى لنفسها عن الوطن. وأنا في الميدان مخطوفا، أردد الغناء معهم، وأهتف مع الهاتفين ولست بقادر أن أوقف الدمع من عيني .. يختلط على زماني، ولا أعرف في أي زمن أعيش؟! كما إنني لا أستطيع أن أعثر على ذاتي وسط الجموع.

الذى قال في كتاب التواريخ، لعله الجاحظ: إن عجائب الدنيا ثلاثون، عشرة منها في سائر الدنيا والباقي في مصر ومنها الهرمان وصنم الهرمين وبربا اخميم ومنار الإسكندرية والقبة الخضراء التي تضيء في الليل المظلم ومنها النيل الذى ينبع من الجنة ويصب في الجنة وفيها شجرة من السنط إذا هددتها بالقطع تذبل أوراقها فإذا قلنا لها عفونا عنك اخضرت، وقال الله عنها سبحانه: «ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين»، وقال أيضا حكاية عن الفرعون: «أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتي، أفلا تبصرون». وقال حكاية عن يوسف عليه السلام «اجعلني على خزائن الأرض» يعنى مصر، وبها قديما علم النجوم والفلك، وعلم السحر والطلسمات، وقلم الطير على جدران المعابد القديمة، وبها المساجد التي يهابها الدهر أن يفنى ولا تفنى.

فسبحان الذى أجرى ماءها، وعلم شعبها حكمة الصبر على المكاره، وتأمل الخواتيم وانتظار الزلزلة، حتى إذا جاء الأوان نفذت حكمته في الدهر فتتغير الدنيا من حال لحال لتصدق كلمته وتتحقق مقولة الولي العربي: من أرادها بسوء قصمة الله.

أيام من الزمن 18 .. اهبط من بيتي، متخطيا الحواجز المقامة حماية لأبناء الدار، رافعا يدى في استسلام الآمنين لعيال الله ليلا ونهارا، بعدها أتوجه ناحية ميدان جليلة الجليلات ستنا عائشة حتى ميدان التحرير، وميدان التحرير لمن لا يعرف كان اسمه الإسماعيلية على اسم من أنشاه: الخديوي إسماعيل حفيد ولى النعم محمد على باشا عليه سلام الله .. شهد الميدان مجد الوطن وانكساره طوال تاريخه الحديث ... فى الهزائم تفر نحوه الجموع حاملة أحزانها وتتجمع مالئة السماء بالعويل.. حدث ذلك في زمن تنحى الزعيم حين قابل وجه الله بعد هزيمة يونية الفادحة .. وفي الانتصارات وأحوال المظاهرات وأفراح الشعب تتجمع الجموع لا نعرف من أين تنبع مثل السيل.. حوارى قديمة من عمر الزمن .. وبيوت خالدة لها ابهة الملك وعراقة القديم الباقي .. وأزقة لا ترى لها آخر حيث تسمع وطء الخطو لطالبي التغيير .. سكك وطرق وحوارى وعطوف وشوارع، قرى من البراري وعزب وكفور، ومدن للفقراء ومساتير الله، ينفلتون من غبش الليل فإذا بالنهار يطلع وأنا العجوز الهرم أشم أحجار الشوارع في انتظار الخواتيم .. ميدان هو الكعكة الحجرية حيث أنشد أمل دنقل يوما في مثل هذه الظروف:

ينفرجون كنبضة القلب
يشعلون الحناجر.
يستدفئون من البرد والظلمة القارسة.
يرفعون الأناشيد في وجه الحرس المقترب.
يشبكون أياديهم الغضة.
لتصير سياجا يصد الرصاص.
وقال الراحل كبير المقام محمد عفيفي مطر:
وطني السر الذى يطلع منى
خطوتي تاريخه
رأسي فضا انجمه
لحمى علامات التخوم
و.. أمد الجسر حتى يقتلوني
والميدان اتسع أمام انتفاضة الفقراء في العام 1977 .. وهو الآن من فتح صدره لثورة الشعب في إخوة مع ميادين مصر في كل صوب وناحية ... يهبط المطر ... يغيب النهار ... ويجيء الليل ... والأرض رطبة وباردة والأصوات الهاتفة تخترق الميدان ... الفضاء الأعلى ... وهؤلاء الذين يمسكون بالزمن ... كل واحد متعدد ... أحلامه وصوره ... وأمنيات أمه التي رحلت بحزنها ... وأبيه الذى كظم غيظه ذات مساء ... أمام الضابط والجابي وفارض الضريبة والغشاش والمدلس وعميل الإدارة وصوت الحاكم الكذاب ودورة الزمن الخائنة بحلمها الكابوسي ... هنا ناس كثيرون راغبون في إرادة جديدة لا تخيب وتتمنى أن تشرق الشمس مانحين إياها دفء قلوبهم ... ولأنني عشت عمرى كله وراء الحواجز أسيرا للمصادرة... غيرى يفكر لي ... ويعد على لقمتي وشربة مائي، ويكنز أموالى في خزائنه فإذا سألته عنها، أجابني: هي لك حتى إذا احتجت وجدت .. مع أنني تشهد على الشمس والريح والقمر وشهور السنة القبطية ... طوبة وأمشير وبرمهات وبشنس وهاتور ومسرى وشهر العنب والتين برمودة العجيب ويشهد على صحن المسجد القديم في قريتي التي أفسدوها وشاهد مقبرة الجدود، ومسرى النيل، وتلاميذ المدارس الصغار وأمي التي رحلت حيث الله بسبب شح الدواء، والأحلام المؤجلة طوال السنين، وأولياء الله الطيبين، ومراثي العديد وأغنيات العصاري على شطان الأنهار، وصيام رمضان، وحج البيت لمن استطاع ولمن لا يستطيع ومشهد القيامة الذى أشهده الآن، والأباطرة الموصومون بمظالمنا، وأنا أقف بين السور والقيامة واندهش، تأتيني صرخة واحدة من آخر الميدان «اصحى يا مصر» فتهتز الدولة ثقيلة الوطء وحكامها الذين تحاكمهم الآن أعمالهم الموصومون بمظالمنا، وأنا أقف بين السور والقيامة هؤلاء الذين بنوا الأهرامات على أكتاف شعوبهم ... الذين لم يراعوا حرمة الوطن
وشعارات تثير الحزن وأخرى تبعث على الضحك .. شعارات مكتوبة بالرقعة والنسخ والكوفي والمغربي وخط ليس له ملة «أمش بقى أيدى وجعتنى» ... آخر «عفوا نفدت المدة» ... لافتة طويلة من أول الميدان لآخرة «الشعب يريد إسقاط النظام» والمنصات عليها خطباؤها ... ومكاتب تحت خيم البلاستيك للإدارة والمعلومات والاتصالات وجمال تهجم تتبعها الخيول .. يشير كهل أشيب الشعر ناحية الجمال قائلا: «الحقوا أبو لهب يمتطى الناقة» .. شاب يجيبه: «يابه الحاج الحقيقة أن الجمل يواجه الفيس بوك»، وهكذا تتناقض المصائر، وتختلف ... وفى 25 يناير يطالب الشعب بإسقاط النظام .. ويتحدى الشعب الشرطة ويتم الاعتقال ... في الجمعة تقطع الحكومة وسائط الاتصال وتضرب المظاهرات بالرصاص والغاز وينهبون ويشعلون النار... تشتد المظاهرات وتحتشد الملايين في أنحاء مصر ويستشهد الشهيد ويخرج البلطجية من جحورهم ويتشبث النظام بقواعده فيصدر بياناته التي يرفضها الشعب وتندفع الملايين نحو الشوارع وفى المدن والقرى ... وفى الخميس 10/2 يجتمع المجلس الاعلى من غير المغضوب عليه ويصدر بيانه الأول ... ترفض الجماهير كل ما يصدر عن السلطة .. يعلن نائب الرئيس تنحى الرئيس ويسدل الستار.

خاتمة
قبل إنزال الستار بيوم، وحين وصلت ميدان مصطفى كامل ... يا دوب قبل الفجر بساعتين تقريبا ... الميدان من غير نور واضح، شعاع يضىء تمثال الزعيم، وكنت ممتلئا بما عشته طوال الأيام السالفة، أفكر في هؤلاء الذين ماتوا من أجل الوطن ووهبوا حياتهم له «بكل نزاهة الروح بالغريزة لا بفعل الواجب، حبا للوطن، لا وعيا بالوطن وهم الآن يزورون الأقاليم» .. الا انني رأيتهم فجأة ينبعون من الظلال، يتجسدون في الليل بشرا. من غير منطق ... هل كنت أحلم؟ .. هل أنا نائم؟. عندما لاحظت أنهم يتجمعون نتفا من ملامح وأعضاء، تذكرت من قال: «في الليل ينهض الموتى من قبورهم ويتحسسون بأطراف أناملهم أسماءهم فوق الشواهد!
كانوا هناك .. طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ والعقاد ولويس عوض وجمال حمدان وأمل دنقل ومحمد عفيفي مطر ومحمد صالح وأسامة انور عكاشة وعدلى رزق الله وغيرهم ... لم أتبين ملامحهم .. الراحلون يتبعوني حتى الميدان، ويتأملون قيامتهم الأولى .. جاءوا ليشاهدوا بدايات الأشياء ونهايتها .. وعندما أقتربت من أذن العميد طه حسين أحاول شرح ما أرى إليه، أبتسم في وجهى وقال لى: هو أنت هاتعمل إيه يا ابنى ؟!.. ما هو أنا شايف كل حاجة.
عليهم سلام الله وعلى مصر الوطن!

 

نشر في (الشروق) 25 فبراير 2011