لا أتزيّد في الزعم إن كتابة مقالةٍ عن سعيد الكفراوي فعلٌ شاق. إذا كانت وفاة هذا القاص المتفرّد، السبت الماضي، عن 81 عاما، تستدعي الإتيان على سجاياه التي بلا عدد، فإنك ستكتُبُ كما الذي أفضى به أصدقاؤه في جمهوريته الرحبة، في بلده مصر وفي كل بلد عربي (لا مبالغة)، وقد أجادوا في التعبير عن شعورٍ حادٍّ بالفقد، فالذي مضى إلى ربه بحرٌ من الحنان، صديقُك من أول خمس دقائق في جلسةٍ أولى معه، فيه فائضٌ من الطيبة، تشعر به يحبُّ كل الناس. ولا أظنّه خليل النعيمي غالى لمّا سأل عمّا ستكون القاهرة عليه بعد سعيد الكفراوي. ولا قالت ميسون القاسمي شعرا لمّا كتبت إنه من روائح الزمن الجميل. ولا أسرف إبراهيم نصرالله لمّا كتب إن سعيد من أنبل وأصفى وأصدق وأروع الأصدقاء الذين منحتهم الحياة له. ومن شديد الوجوب أن يوضَحَ هنا إن الكلام الذي من وردٍ، ونثرَه الأصحاب العديدون، ليس من المسترسل كيفما اتفق في مراثي رتيبة. لسببٍ بسيط، أن سعيد الكفراوي من النادرين في الأرض. عجيبٌ، لديه ملكةٌ باهظةٌ في حبّ الناس، في السؤال عنهم، في زُهده، في البهجة التي يشيعها في أي مجلس.
كأن مهنتَه هي الحكي فقط، عن ذكرياتٍ بعيدةٍ وقريبة، عن كتّاب جددٍ وواعدين، عن طرائف مع أصدقاء، عن أسفار، عن قرى وأرياف ومدن، عن كتبٍ وقصصٍ وقصائد. أتذكّرني، وكنتُ في العشرين عاما (وبضعة شهور)، أتعرّف في القاهرة على سعيد الكفراوي، (1985). يهديني مجموعته القصصية الأولى "مدينة الموت الجميل"، وكانت قد صدرت للتو. لا أنسى ذلك الارتياح الغزير الذي غشيَني تجاه رجل فيه الحذاقة والبساطة معا. أظنّه حدّثني قليلا عن غربته في السعودية، وعن القصة القصيرة، وعن أشياء أخرى يستحيل أن تُسعفني الذاكرة بها، غير أن الذاكرة نفسها تأخذُني إلى تعجّبي من إصداره كتابه الأول ذاك (طبعة متقشّفة غير متقنة)، في ذلك العام، فيما هو يكتب القصة وينشُرها منذ منتصف الستينيات.
ربما سألته عن هذا، وربما لم أفعل، غير أني أحدس أن ذلك يعود إلى أنه كان حذرا، وربما أخذتْه المشاغل. ولكنه في حسبةٍ أخرى، أصدر، حتى وفاته، 12 مجموعة قصصية، ما قد يعني أنه، مع ما صار عليه من حضورٍ أدبيٍّ في مصر وخارجها أكثر توهّجا، ومع عبوره منحنياتٍ وتضاريسَ متعدّدة في كتابة القصة، حافظ على مقادير من التمهّل والأناة. بعد تلك القعدات البعيدة مع سعيد، توالت مثلُها، في القاهرة أيضا، وفي الرباط وعمّان والشارقة. سألته، مرّة، السؤال الذي لطالما سمعه من غيري، وسئل عنه في مقابلاتٍ صحافيةٍ، عمّ يجعله لم يكتب روايةً، فيما هو السارد الحكّاء، بل سيد الحكايات، أو نهر الحكايات كما أحبّ أن أصفه، أجابني ضاحكا، وبمقادير ظاهرةٍ من الجدّ، إنه لا يشعر إن الرواية التي قد يكتبها "ستكسّر الدنيا"، ولذلك لن يكتبها.
ولاحقا، تحدّث عن مشروع روايةٍ في باله عن مدرّسٍ مصريٍّ في السعودية، وعن رواية أخرى كان يكتبها (يبدو أنها اكتملت، ولم تُنشر) سمّاها "مُرقُص الصياد". ولي هنا أن أخمّن أن الوفاء الكثير والبديع في مولانا سعيد الكفراوي تجاه أصدقائه كان يوازي وفاءه الفاتن للقصة القصيرة التي يُحسَب واحدا من أساتذتها، وقد قال إنه عبرها يحاول أن يفهم أرواح الناس.
صحيحٌ إن القرية المصرية ظلت الفضاء الأثير الذي جالت فيه قصص عمّنا سعيد، وإنها كانت المصدر المركزي للمشهديات والمرويات التي بنى فيها ومنها قصصه التي كانت، سيّما في أطوار كتابته الأولى، أقربَ إلى الشفاهة التي يتدفّق فيها القصّ والحكي، إلى حدٍّ يجيز القول إن "القصة الكفراوية"، إن جازت التسمية، لم تكن قصيرةً تماما، لم تكترث للتكثيف ولا للاقتصاد في مبناها. لقد نَحَتْ إلى هذا في طورٍ تال، غير أنها انشغلت، طوال تجربته المديدة، بسؤال الوجود، وبمسألة الموت (متى كان الموت جميلا؟)، وجريان الزمن، والتذكّر، والحنين، والقلق، والأحلام. وظلت، في غالبها، مدهشةً في مفاجآتٍ تباغتك في تفاصيلها وقفلاتها.
قلتُ صحيحٌ إن القرية كانت عالم الكفراوي الأثير، غير أنه عندما يغادرها، برع أيضا. قصته "صورة أخيرة للجدار" (من مجموعته "بيت للعابرين"، 1999)، عن امرأةٍ تصرّ على التقاط صورة زفاف مع زوجها في العام العشرين لزواجهما، على غير رغبةٍ منه. وسعيد الذي يكتب هذه القصة البالغة النباهة هو الذي يكتب "ستر العورة" (من "ستر العورة" 1989)، عن فلاح مصري يذهب إلى السوق ليبيع بهيمته، ولكن لصوصا يسرقونها، ثم يبحث عنها، بشعور من فقد كبرياءه، ثم مات، وعادت البهيمة إلى الدار، فتخاطبه زوجته، وهو في العلا، إنه لو لم يمت لربيا العيال سويا. الكتابة عن سعيد الكفراوي عملٌ شاق ... لا أظنني كتبتُ الذي أريد عنه، ولا أجَدْتُ في السطور أعلاه.
عن (العربي الجديد)