يترك الفقد فى أرواحنا الكثير من الندوب التي يصعب تجاوز أثرها، ويشعر كل من اقترب من الكاتب الراحل سعيد الكفراوى بالأثر الذى تركه غيابه. فقد عاش الرجل تقريبا يحتفل برفاقه إلى حد المبالغة أحيانا في التعبير عن فكرة الاحتفال، واطمأن قلبه إلى أنه واحد من (شلة) لمع اغلب افرادها وتحققوا أدبيا ومعنويا، وهذا الشعور بـ(العزوة) كان يطمئنه ويرتاح له.
وفى أوقات كثيرة كنت أشعر انه يتفادى التوقف أمام حاجته إلى كتابة جديدة تبني على ما حققه، أو إصدار عمل يفتح نقاشا حول كتاباته كلها. وكان يخفى هذه الحاجة بنمط نادر من التفاني في الاحتفال بالآخرين.
وهناك نكتة رواها لي تقول ان صديقا له عاش في بلد عربي لفترة طويلة كان يهاتفه من حين لآخر ويسأله عن الاخبار فيرد قائلا: (أقرا عملا جديدا لفلان ثم يستعرض العمل وموضوعه ويعلق على أداء كاتبه) وينهى المكالمة مع الصديق الذى يعاود طرح نفس السؤال في المكالمة التالية فيتلقى الإجابة ذاتها عن عمل آخر يتحدث عنه بنفس الحماس، وعندما تكرر الموقف قال له الصديق: (اسمع يا سعيد احنا كتاب، مش قراء). ودلالة النكتة ان الكفراوى عندما انقطعت الكتابة لم يتوقف عن القراءة، و لم يقرأ نصوص الاخرين مثل غيره بتربص، بل على العكس كان يقرأ بمحبة نادرة، ويتصرف ازاء الجميع بنزعة تضامنية شملت ساعات الفرح وأوقات الشدةـ التي كان فيها دائما قبل الجميع ويتصرف بشهامة وكرم حقيقيين.
ولا اذكر ان بيننا من مر بمحنة دون يسعى الكفراوى من اجل انقاذه والنجاة به من أي مأزق. فعلها مع يوسف ابو رية ومحمد البساطي ومحمد عفيفي مطر ومع كتاب من أجيال اصغر عاملهم بأبوة كاملة، دون ان يفرض عليهم ظله ويضع أمامهم وصفة جاهزة للكتابة أو شرطا للرعاية. وشخصيا عشت معه لحظات كثيرة كان يسعى فيها من أجل الآخرين، وهذا هو وجهه النبيل الذى ورطه في مشكلات لا حصر لها؛ ولكنه رغم ذلك لم يمارس ادواره وهو يحمل ضغينة لأحد. وكانت يده ممدودة بالعطاء.
وحين تعرفت عليه قبل عشرين عاما كنت في مهمة عمل خارج مصر بدولة الكويت الشقيقة وصادفني في الفندق الذى انزل فيه لأنه سبقني إلى هناك مدعوا في مناسبة أخرى. وفى المطعم قال لي: (أنا اعرفك وأشبه عليك) فعرفته بنفسي وكنت اعمل محررا بالقطعة مع الراحل الجميل ابراهيم اصلان في مكتب صحيفة الحياة، فاحتضنني بحنو الأب. وكنت لا اعرف احدا في ذلك البلد وأملك وقتا لا اعرف فيما انفقه او كيف اقضيه، الا انه انقذني وأخذني إلى المناسبة التي جاء من اجلها وطاف بي على رفاقه وبينهم محمد المنسي قنديل ومحمد المخزني وأبوالمعاطي ابوالنجا واخرون، تمنيت طوال حياتي ان ألقاهم، او احظى بالكلام معهم. وفى اليوم التالي أصر على ان أكون برفقته في رحلة نظمها صديق له على شرفه. وتدخل حتى في اختيار أصناف الطعام الذى اكله بدافع أبوي صادق، وعرّفني هناك على كثيرين، منهم اعز رفاقه الكاتب الكويتى انور الياسين.
ولما عدنا معا على نفس الطائرة طلب منى ألا اترك المطار، لأن زوجته ستأتي لتأخذنا، وستذهب بي إلى بيتي اولا. وابقانا الكفرواى لساعتين أمام سير الحقائب معتقدا ان حقيبته السوداء قد ضاعت، وفيها هدايا الأولاد وزوجته الرائعة (أحلام). ولأنه قدم السبت، فكان على ان ابقى معه بالمطار مقدما الاحد، وبعد ان فقدنا الامل في العثور على الحقيبة المفقودة ذهبنا لعمل محضر فقد واثبات حالة، فعرض علينا الضابط حقيبة زرقاء، وهى الوحيدة التي لم يتعرف عليها احد، واكتشفنا انها حقيبة الكفراوى الذى لا يهتم بلون حقيبته ولا يعرف ان كانت زرقاء ام سوداء، وقاللي (أي شنطة وخلاص المهم ادخل بيها على العيال).
وذات مرة التقينا معا في بيت الكاتب إبراهيم عبدالمجيد لنشاركه مناسبة عائلية، واصر على توصيلي انا ويوسف ابورية بسيارته، وحين نزلنا إلى الشارع اخبرنا انه ترك السيارة إلى جوار سور مدرسة وصيدلية، وبدأنا رحلة بحث طويلة ولم نجد خلالها أي سيارة بالمواصفات التي ذكرها، وأقنعنا ان السيارة سرقت ونزل اولاد ابراهيم عبدالمجيد إلى الشارع يبحثون معنا إلى ان تذكر انه ترك السيارة في مكان آخر، وبعد ان عاتبناه على هذا النسيان رد ببساطة: (لو مش هتركبوا، شوفوا حد يوصلكم ولو ركبتوا تقعدوا ساكتين) وظل يضحك طوال الطريق دون ان يسمح لنا بالكلام، وهو يروى حكايات عن ارثه من النسيان.
وفى اللقاء الاخير معه بمنزله استعرض أمامي تاريخه وكتب مكتبته والفاكهة والطعام الذى يملأ ثلاجته واللوحات التي يقتنيها، وصداقته مع ابنائه، وطالعت صور احفاده وطاف بتجربة اعتقاله المريرة ثم سألني: (هتفتكرنى بإيه؟ فقلت له بالنسيان يا عم سعيد) فضحك قائلا: (يخرب بيت عقلك، تصور نسيت انا كنت عايزك في ايه)؟! وكان جادا فقد غادر دون ان يخبرنى!
عن (الشروق) المصرية