كان لدينا أمل كبير أن يكمل سعيد الكفراوي كتابه، الذي طالما انتظرناه، "عشرون قمرًا في حجر الغلام"، لكنه أراد لحكاية كتابه، التي حكاها لنا كثيرا، أن تنضم لعدد كبير من حكايات شفاهية حكاها عبر عشرات السنين. ننقلها عنه ونضحك، ذلك أن الحياة الثقافية العربية لم تعرف ربما في الخمسين سنة الأخيرة، حالة تشبه حالة سعيد الكفراوي، الذي يوازي مشروعه الأدبي المنشور، مشروع أدبي شفاهي لم يتم التخطيط له، يعرفه كل من التقى سعيد، كبيرا وصغيرا، من المحيط للخليج. حكايات شفاهية يقصها في اللقاءات والفاعليات والجلسات الخاصة، حتى بات لها مكان لافت في شوارع الثقافة العربية، ومقاهيها وحاناتها وقاعات ندواتها، يستدعيها الجميع بمجرد أن تأتي سيرة صاحبها، يتذكرونها ويتلونها على بعضهم البعض، محاولين تقليد صوته وتقمص أدائه، المرتبط به سحر الحكايات.
رحل فجر أمس (السبت). وكنا نعرف أنه يتلكك للرحيل منذ فترة ونتشبث بوجوده الذي كان يرادف شيئًا كبيرًا من الطمأنة إلى أن هناك ورقة باقية من كتاب الآباء وأيام الونس. أزعجته وحدة تدريجية بدأت برحيل رفاق عمره واحدًا تلو الآخر، وتجلت مع رحيل زوجته السيدة أحلام منذ نحو عامين.
سعيد الكفراوي أحد كتاب الستينيات البارزين، ذلك الجيل الأدبي الأكثر أثرًا في الكتابة المصرية والعربية، بوصفه جيلًا حمل الهموم نفسها، فنيًا وسياسيًا، والإحباطات ذاتها. بعضهم استطاع إكمال مشوار الكتابة، وبعضهم غلّف نفسه بإحباطه وتوارى. كانوا يكتبون معًا، بينما يحتفظ كل منهم بخصوصيته. وعلى عكس أبناء جيله، الذين بدأ أغلبهم بكتابة القصة ثم اتجه إلى كتابة الرواية، ظل هو في مكانه، مخلصًا للقصة القصيرة كوسيط سردي، فأصدر مجموعات: "مدينة الموت الجميل" و"ستر العورة" و"دوائر من حنين" و"كُشك الموسيقى"، و"حكايات عن ناس طيبين"، و"يا قلب مين يشتريك"، وغيرها.
جاء إلى القاهرة مع النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، قبلها كان يعيش وسط دائرة أدبية يلتقي أفرادها على هامش مدينة المحلة، ستعرفهم الحياة الثقافية المصرية فيما بعد بـ"شلة المحلة": المفكر نصر حامد أبو زيد والناقد جابر عصفور والشاعران محمد فريد أبو سعدة ومحمد صالح والكاتب جار النبي الحلو. جاءوا تباعًا، وجلس سعيد الكفراوي في مقهى ريش بين تجمع أدباء الستينيات حول نجيب محفوظ، يقول: كنا نحمل في وعينا حلم تغيير العالم. كانت هزيمة يونيو 67 قد حدثت. وكان بعض أفراد هذا الجيل قد تنبأوا بوقوعها قبل أن تقع. كتب صنع الله إبراهيم "تلك الرائحة" ونشر أمل دنقل قصائد من ديوانه "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، وأنجز محمد عفيفي مطر قصائد ديوانه "النهر يلبس الأقنعة".
يكمل: "ولقد أوفى هذا الجيل بالعهد، بإبداعه الذي شارك في خلق ذائقة جديدة واكبت رؤى الإبداع المصري الذي عاش حقب الزعماء وزمن المعتقلات والصلح مع العدو وصعود تيارات الإسلام السياسي، ومشاريع الانفتاح الاقتصادي، ثم هجرة المصريين للخارج، مثلما حدث في الزمن العثماني. وعبر ما حققته نصوص هذا الجيل، وما أبدعه من تخييل، سيظل علامة فارقة في تاريخ الثقافة المصرية".
وقف سعيد الكفراوي في كتابته عند تلك المنطقة العجائبية من غرابة الواقع؛ الفانتازيا الآتية من الموروث الريفي المصري؛ المساءات في القرى وبين المقابر وأصوات "العديد"، في كتابة تحاول، أغلب الوقت، استعادة شيء من تلك الطفولة الريفية في رؤيتها للعالم بعين مختلفة، غايته، كما يصفها، استعادة زمن تلك الحوادث وناس تلك الأيام، واستنطاق تلك الذاكرة، كمن يريد الحفاظ عليها: "أنا ابن قرية قديمة، لم يعد موجودًا منها شيء إلا ما تحتفظ به الذاكرة، وأنا أستعين بتلك الذاكرة للكتابة عما فات.
ثمة صوت دائم أسمعه في الصحو والمنام، مثل صوت منشد في ذكر. صوت موغل في الزمن، لا يكفُّ عن ترديد ذلك النداء الخفي، وأنا لا أكف عن الإصغاء له، والغاية تثبيت زمن يضيع. أنا أكتب عبر عالم مثل هذا، يزخر ببشر لا يعرفون الغناء، يعيشون بين مساجد وأضرحة وأزمنة لا تنقضي"، يكمل في جلسة قديمة جمعتنا: "بشر مثل هولاء، في سعيهم لعيش حياة الصدفة، يحتاجون لكي تكتب عنهم".
لطالما كان وجوده نشيطًا في هذه الحياة يضمن، لكثير منا، الحفاظ على ذكريات ممتدة، نستعيد في جلسته كل الأيام الحلوة، وإن لم يخلُ حديثه، أبدًا، من شجن دائم، وحزن مقيم على ما ذهب. ونحن لم نكن مستعدين بعد للتخلي عن الونس في هذه الأيام الصعبة، كنا نأمل، منذ عرفنا بأمر مرضه القاسي قبل نحو عام، أن يعود للحركة بيننا، ويستكمل أقماره التي يجمعها في حجر الغلام، ذلك الكتاب الذي وصفه بأنه ربما يقدر على "تشكيل معنى ختامي لحياتي ككاتب، بعالم فطري عن الألم، وانكسارات صبي، وحياته من مولده لمماته".
لكنه لم يُفضل، على ما يبدو، أن يضع ختامًا واضحًا لمشواره الأدبي، وأحب لنفسه نهاية مفتوحة على سيرة رحبة، حيث كتابه، الذي لم يصدر، كان سيجسد تتويجا بليغا للمشوار الطويل، أو بمعنى آخر كان سيشبه حالة الذي خرج وأغلق الباب وراءه، ولكن سعيد أحب، مع خروجه، أن يترك الباب مفتوحًا.
عن (ضفة ثالثة)