لم أسمع على غير العادة سعيد الكفراوي، وهو يصف لي ما جرى له مع كورونا. كان قد سبقنا إلى عزلة اختيارية بعد وفاة زوجته أحلام منذ سنتين، ذكرته بكلماته لي حين كنت اختفى وهو يقول لي: أخاف عليك من الاكتئاب اظهري تعالي نلتقي على المقهى يوم الجمعة صباحًا في وسط البلد وحين أخبره أني مشغولة بكتابة عمل جديد يرد قائلاً: أخرجي يا هالة لا تبقي وحيدة، أقول له حين أكتب لا أكون وحيدة. أكون وحيدة إذا ما استعصت الكتابة. يضحك قائلا: منتظرينك يوم الجمعة على زهرة البستان.
حين اختفى في قريته كفر حجازي، وجاء تليفونه لي معتذرًا عن كل نشاط ثقافي، ذكرته بكلماته، وطلبت منه العودة فورًا. أخبرني أنه يعيش وسط أهله الطيبين كما كان يحلو له دائمًا أن يصفهم. لم اتركه إلا بعد إقناعه بالمشاركة هنا وهناك. كنا جميعًا نعشق حكاياته ونوادره، والمقالب التي كان يدبرها له ابراهيم عبد المجيد، والمقالب الذي يرد بها عليه. نضحك من القلب على العلاقة الحميمة الملتبسة مع إبراهيم أصلان، وخيري شلبي، لكن العلاقة مع عفيفي مطر كانت مختلفة.
لماذا لم يكتب أي منهم عن هذا. ربما يكتب إبراهيم عبد المجيد بعضها، أرى له مقاطع على الفيس أو تويتر يستعيد بها ذكرياته. لم اقرأ بعد كتابه الأخير عن أيامه الحلوة فقط، ربما يكون قد ذكر بعضها. حكايات سعيد التي لم تكن تنقطع وهو يردد بين حين وآخر "آه امال"! كانت تدخلها في كل مرة لقطة جديدة، أو تعديلة غنية بالمشاعر وخفة ظله الشهيرة، وكنا نحفظها ولا نمل سماعها. قال الكثيرون إن ما روى ربما أروع مما كتب، لكنه كتب بمداد الحنين لعالم أحبه ولم ينسه، عالم القرية التي لم تتغير منذ عصر الأجداد. ونسج حنينًا آخر مع مدينته. حنين بقي يداعب قلوبنا ويشركنا لحظاته الحلوة والمرة.
أخرجت من بين أوراقي ما كتبته حين أصدر مجموعته المفضلة لي (دوائر من حنين) وهأنذا أشارككم إياها، حنينا إليه رغم أنه لم يغادرنا، إلا منذ أيام جسدًا. وبقي فينا روحًا. لن تكون مقاهي قاهرة وسط البلد كما كانت في وجودك أبدًا يا سعيد. تغيرت ملامح المدينة، سطرت على وجهها تجاعيد حزينة للفقد.
حنين سعيد الكفراوي
ربما يكون الحنين هو الدواء، الذي يساعد الروح على أن تستبقي الصلة، مع عالمها الذي انتهى، وربما يكون هو النواة، التي تسند القلب، الذي يرفرف ألمًا، في حين تحفر الحياة، والزمن بعيدًا عن التربة التي نما فيها الجذر. تذكرت هذا، وأنا أقرأ الكلمات التي استهل بها سعيد الكفراوي مجموعته دوائر الحنين، ذلك أني رأيت أن الجدة حين أعطته الدواء لكي يشفى قلبه، ويطهر روحه من الحنين، فقد أعطته الداء ذاته، داء الحنين لها، ولكل ما تعنيه، وما تمثله من غال ونفيس في حياتنا. خيوط مبهمة لا نراها رغم أنها تحاصرنا يومًا وراء يوم، وتجرحنا أيضًا، وهذا ما فعلته بي هذه المجموعة القصصية الجديدة. إذ التفت حولي أسرار دوائرها، وسرت قبل أن أدرك وجودها، فأحكمت الحصار.
لن أكون مبالغة في حكمي حين أقول إنها أفضل أعمال سعيد الكفراوي على الإطلاق، تتجلى فيها خبرته الطويلة، بكتابة القصة القصيرة، وأيضًا لماحيته الشديدة في التقاط المفارقة في الحياة، وسعيد مشهور بخفة الدم. وهي هنا خفة موجعة الأثر، ذلك أنه نجح في أن يغلف صنعته الماهرة في الكتابة، بتجربة إنسانية شديدة الرهافة، في كل قصة من قصص المجموعة، مستخدمًا لغة عالية القيمة، شديدة الكثافة تحتاج إلى وقفة طويلة أمام نصاعتها، أما ترتيب الفصول، أو الأقسام الذي جاء بالحنين إلى القرية أولاً، فربما يكون هو سر هذه المجموعة التي نقرأها معا اليوم.
والحنين إلى القرية، هو حنين إلى البدايات، رغم أنه لم يتكلم إلا عن النهايات. نعود إلى المفارقة. يضم هذا القسم خمس قصص هي؛ شرف الدم، البنت التي واربت الباب للحلم، ظل من ألفه، شيخ المنسر والملكوت، وكلها تدور عن الفقد، بداية من العودة إلى ترتيب القبر بحثًا عن الأب، والقبر هنا هو المكان الذي يفجر الحنين إلى الماضي كله، لكن لا يجد جثمانه، لا يجد أنه قد دفن الأب، فالأب الذي يظن أنه واراه التراب، وسار في الدنيا بدونه، حتى صار كهلاً. رُوّع حين شبه له أنه فهم، وغلبه الشعور ببهجة الاكتشاف، والتعرف في هذه اللحظة من العمر الأخير، "وكنت أخطو ناحية المرايا متأملاً ذلك الواقف فيها .. ثم صرخت في الشارع وقد نفذت الصرخة من الطين إلى الماء .. أبي .. أبي".
وتتسع دوائر الحنين، فتشمل الحنين المؤلم، وليس من غريب أن يكون هذا هو أكبر أقسام المجموعة في عدد القصص. إذ يشمل سبع قصص هي؛ جديلة لمريم، رفة جفن، جناح الحرم، بواب قرطبة. تغريبه. الوليمة. وجه في الليل. ولا يقترب منها في عدد القصص إلا الحنين للماء. كل شيء حنين – هكذا رأى سعيد الكفراوي –من وسط هذه المجموعة لفت انتباهي قصة "رفة جفن"، التي تقدم مسيرة الحياة في لحظة هي حقا رفة جفن. "روايح تهب من الأركان عليّ وأنا أقف من يومها أتأمل ما أنا فيه، أدور في الحجرات، تنقضي السنوات، وتأتي حتى ذلك التاريخ الأخير من العمر، الذي يدفعني للسير في الأروقة القديمة؛ مفتح العينين، أنتظر واقفًا أمام الأبواب المشرعة على الفصول، والصور، وصوت البحر. أسمع ذلك الغناء الشجي، وضرب ذلك العود اللذين لم أعرف أبدًا مصدر سطوعهما.
أما الحنين إلى الدهشة، والذي يضم ثلاث قصص قصيرة جدًا، وخاطفة؛ "غياب، التوت البري، والغليون، والدهشة هنا هي "بعيون الطفل" وهو يكتشف معنى الصداقة في زميلة الكُتاب الكفيفة، التي يفقدها بالموت بعد ذلك. "كانت تضع يدها في ذراعي وأنا أسحبها خلال الطريق". "أول الطريق تكلمني بعبارات غريبة، وتفتح عيني على السحر عن الستة أبواب المغلقة، والباب السابع الأخير المغلق وحده على السر، وكنت أتأمل شعرها المسرح تحت الطرحة البيضاء، وأنا أسير بحضرتها كأنني أحلم".
ومن دهشة الحلم إلى دهشة الغليون الذي يعوي في النهر.. أووو، أووو – حين وقع الخلق في دهشة السحر، لسماع مثل هذا الصوت "وكنت أنا الصغير أندفع وسطهم، وقد اختلط عليّ زمني وبقلبي خوف غريب."
ثم الحنين إلى الماء، والماء هو أصل الحياة، وكأن الحياة عند سعيد الكفراوي هي صنو للألم، فهي الوحيدة في القصص، التي تقترب في عددها من عدد قصص الألم ست قصص هي: لون الماء، العراة، حمام الملكة، رحيل، الغريق، جرس البحر. وهو في حمام الملكة هناك، حيث تقول الأسطورة إن كليوباترا كانت تستحم خوضًا في الماء حتى الأطلال، وما زال بضميره الشديد يتلو بتلك اللغة الغريبة، وهو يخطو عابرًا تخوم الحلم، فيكتشف أنه ليس حلمًا، والرؤى تغيم أمامه. سمع نفسه يهتف.
كل الأحوال نسبية وما لا يدرك بالنظر يدرك بالقلب.
حنينه الختامي مكون من أربع قصص هي: يوم غائم، مشهد، جارنا الذي يحب قراءة الكتب، ومقام رصد. يدرك في اليوم الذي ظن أنه أنقص سر الحياة، قال للرجل الذي يتوسط الميدان القديم: إنك لا يمكنك أن تنقسم إلى شخصين في نفس الوقت، وإن عينك لا يمكنهما أن تحدثا في أكثر من مشهد واحد!! وينهى عملا جميلا يضيف به رصيدًا حقيقيًا إلى مشهد القص العربي الآن.