قبل سبع سنوات، حين بلغني أنّ سعيد الكفراوي يعتزم إصدار رواية، بعنوان «بطرس الصياد»، وقيل إنه كتب فيها قرابة 200 صفحة؛ انتابتني مشاعر مختلطة، تتضارب فيها البهجة إزاء تطوّر كهذا «أن يذهب إلى النوع الروائي أحد كبار أساتذة القصة القصيرة، المصرية والعربية»؛ والخشية، في المقابل، من أن يكون هذا الخيار الجديد على حساب فنّ الأستاذ الأوّل «القصة القصيرة، التي أمضى الكفراوي أربعة عقود وهو يبدع فيها، ويجدّد ويتجدد، ويتألق».
كان ثمة بارقة قلق، أيضاً، تتسلل إلى تلك المشاعر: هل يعني هذا أنّ عمّنا سعيد ينوي هجر «كار» القصة القصيرة الفاتن، الذي رسخ فيه، على صعيد المضمون والشكل والتجريب والتطوير؛ حتى إذا كان ذلك الهجر، إلى الرواية، جزئياً وعابراً أغلب الظنّ؟ كأنني، والأمر هنا يخصّ الذائقة الشخصية بالطبع، كنت أنكر عليه حقّه في كتابة الرواية، وأقبل الثنائية إياها عند أستاذ آخر كبير في القصة القصيرة المصرية، والعربية، هو إبراهيم أصلان؟ ومن جانب آخر، هل كان يحقّ لي ـ ولا أغادر، هنا أيضاً، دائرة التأمّل الشخصي، كقارئ شديد الإعجاب بأدب الكفراوي ـ أن أتمنى سجنه في فنّ واحد، هو القصة القصيرة؛ لمجرّد أنه في ذلك الفنّ قامة عالية شامخة، تُمْتع وتُعلّم وتُربّي، جمالياً وإنسانياً وأخلاقياً؟
واليوم، لست متأكداً من أنّ الكفراوي كتب المزيد من الصفحات في «بطرس الصياد»، أو أنه أتمّ الرواية، أو وضع المشروع جانباً حتى إشعار آخر؛ ولكنني أعرف أنه، بعدئذ، كتب عشرات القصص القصيرة التي لم تنفكّ عن إعلاء قامته في هذا الفنّ؛ وإذْ يصدر، اليوم، «زبيدة والوحش»، المجلد الأوّل في أعماله، فإن رصيده لا يقلّ عن 12 مجموعة قصصية، وقادمه أجمل لا ريب، وأرفع وأعلى. وهذه مناسبة لأداء تحية مزدوجة: واحدة للقاصّ الكبير، الذي يخطو نحو عقد الثمانين وقد صرف خمسة عقود، على الأقلّ، في استكشاف أقاصي فنّ شاقّ بقدر ما هو مجزٍ؛ وتحية ثانية لهذا الوفاء للقصة القصيرة، الذي صار عند الكفراوي انحيازاً عنيداً ودؤوباً وغير مألوف، إلا نادراً، حتى على صعيد الآداب العالميةـ
وأياً كانت أسباب الكفراوي في اختيار «زبيدة والوحش» لكي تكون عنواناً للمجلد الأوّل، فإنّ صواب هذا الاختيار قد يبدأ من الجاذبية الدلالية والمجازية في هذا التجاور اللغوي، عالي الإيحاء؛ وقد يمرّ بسلسلة اعتبارات تخصّ مكانة هذه القصة القصيرة بالذات في نفس الكفراوي، على صعيد تاريخه الكتابي وذائقته الشخصية ربما؛ وقد لا ينتهي عند خصوصية معمار القصة الفني، من حيث انقسامها إلى «رؤية في نصّين» من جانبي أرى في الاختيار حكمة مدهشة، هي بعض تجليات علوّ كعب الكفراوي في التلمّس الغريزي الذكي لطاقات فنّه، وإعادة توظيفها في دوائر قراءة متباعدة، ومتنوعة بالضرورة: بين سنة 1989، تاريخ نشر هذه القصة القصيرة في فصلية «الكرمل» الفلسطينية؛ و2015، تاريخ نشرها مجدداً في مجلد الأعمال الأول.
صحيح أنّ العديد من قصص الكفراوي المجايلة لـ«زبيدة والوحش» يمكن أن تخدم هذا الاختبار القرائي، أو الأجيالي لمَن يشاء؛ إلا أنّ هذه القصة القصيرة، تحديداً، تنطوي على مقدار عالٍ من الخصوصية الأسلوبية، وتقترن بحشد من الخصائص الفنية المتميزة، بحيث لا تنفرد عن سواها على نحو ملموس فحسب، بل تصلح مختبراً عالي التجهيز لتحليل الكثير من فنّ هذا المعلّم الكبير. أيضاً، لعلّ «زبيدة والوحش» بين أشدّ قصص الكفراوي تجسيداً لمفهوم «الأسلوب المتأخر»، بالمعنى الذي قصده إدوارد سعيد: الالتقاء، في عمل واحد، لمجموعة أساليب سبق أن جرّبها الفنان، ولكن على نحو لا يعيد إنتاج تلك الأساليب فرادى، بل في صيغة اندماج جديدة تستضيف خصائص القديم من دون أن تنسخها مكررة، وتستدخله في تركيب لا يحاكيه حرفياً، بقدر ما يحاوره تفاعلياً.
على سبيل المثال الأول، لا تُفتقد تقنيات الكفراوي الأثيرة في تنويع أنماط السرد، بين مباشر وصفي وآخر داخلي شعوري؛ ويحضر، أيضاً، مزاجه المحبب في تقليب هذه الانماط بين أصوات متعددة، بل تعددية بمعنى الاختلاف في التجانس؛ كما حين تسير تفاصيل القصّ على لسان الفتى وعبر بصيرته ومرئياته، لكنها تنفلت بين حين وآخر فتتولى سردها زبيدة، أو شقيقها أبو سلامة، أو الثور نفسه، أو ذلك السارد المموّه الذي يمزج بين أصوات شتى تحيل إلى الفتى وقد تجمع الآخرون عنده، ومرّوا عبر مصفاته السردية والوصفية والشعورية.