بقليل من الجهد يفطن القارئ إلى أن سعيد الكفراوى واحد من الكتاب القلائل الذين امتلكوا مشروعاً سرديا خاصاً. غير أن أهم ما يميز هذا المشروع أنه لم ينطلق من الأساس الأيديولوجى ولا من نفس القيم الواقعية التي قامت عليها مشاريع الكتابة في الستينات، فمشروع الكفراوى هو مشروع جمالي بالدرجة الأولى.
يقول الكاتب والناقد الكبير محمد برادة فى مقدمة كشك الموسيقى: «عند سعيد الكفراوى ومعه آخرون ولا شك، نحس أن صوت الذات لم يعد يرضى بأن يظل قابعاً فى الخلف، متدثراً بـ"المعادل الموضوعي"، وبالمعاينة الباردة، إنه على العكس "يهجم" على كل ما هو ملتصق بكينونته، الطفولة، العلاقة بالأم، القرية، لحظات الحب، المدينة المفترسة، الوحدة، الموت .. وفى ثنايا الكتابة والشكل، يشعرنا بأنه يريد أن يتبين موقع ذاته من كل ذلك، لايريد أن يتخفى وراء عجائبية الوقائع وطرافتها، "وهى كثيرة وحاضرة"، وإنما يريد أن يقترب من تلك الحقائقية التى تستعصى على الوصف لأنها محفورة في المسام، تشعل الذاكرة وتذكى الحنين».
وعالم الطفولة يبرز على نحو خاص فى تجربة الكفراوى، ويأتى مفعماً بالطزاجة والعفوية والدهشة التي تسم ممارسات الأطفال وألعابهم وأغانيهم وتشوفاتهم وأحلامهم البسيطة المستحيلة، وعلاقاتهم المشتبكة بالأماكن والأسرار الصغيرة والأشياء الخاصة التي تتغير بفعل المخيلة من العادي إلى المقدس، ولعل هذ القداسة تمتد إلى بعض الشخصيات التي يرتبط بها الطفل على نحو تخييلي كشخصية عازف الرباب، أو شاعر القرية، أو شيخ الكتاب، أو الجد الذى يحاط ـ عادة ـ بهالة أسطورية وتنسب له بعض القدرات الخاصة التي تقترب به إلى منطق الخوارق أحيانا، ولاسيما فيما يتعلق بقواهم الجسمانية وشجاعتهم في محاربة الجان أو لصوص الطرق، وهكذا تحمل مثل هذه الشخصيات بعداً أسطوريا.
والراوي في قصص الكفراوى غالباً ما يكون طفلاً أو رجلاً كبيراً يستدعى الطفولة، إذ تبدو الطفولة هي كلمة السر في قصص الكفراوى ودافع الإلهام العفوي والخيال السحري اللعوب. ففي قصته المدهشة (تلة الملائكة) نجد هذا الراوي الطفل، وهو يحكى عبر مخيلة خصبة عن عالم الغجر الذين يسكنون التلة البعيدة ويثيرون المخاوف والهواجس في نفوس الصغار بعالمهم الغامض وأهازيجهم الساحرة، إنه عالم يثير دهشة وفضول الراوي/ الطفل، الذى يضيئ الفانوس ويمضى لاكتشاف عالم التلة المثير.
وفى هذه القصة يمتزج البعد التخييلي بالثقافة الدينية على نحو رائع، فالطفل يمضى إلى تلة الشياطين/ الغجر مدفوعا بالفضول الذاتي لكنه يحتمى في فضوله بتخيله أن فانوس رمضان له القدرة على تبديد وحشة الظلام، وتظهر الثقافة الدينية عندما تمده بيقين على قدرة شهر رمضان على سجن الشياطين، ووضعها في الأصفاد، وبهذا المعتقد الذى يبلغ حد اليقين يذهب الطفل إلى التلة، وهناك يتجسد المعتقد ويتحول الخيال إلى حقيقة، حيث يجد التلة تعج بالملائكة فعلاً، تستقبله الملائكة في طقس تطهير مستمد من الثقافة الدينية أيضاً، عندما تنزع قلبة وتغسله ثم تعيده، ليمضي بعدها الطفل أكثر يفاعة وثقة فيما يعتقد.
عن دراسات نقدية ديسمير 2015