«كشك الموسيقى» لراهب القصة المصرية سعيد الكفراوي، صدرت قبل عقد من الزمن، عن دار النشر الفنك المغربية، وهي عبارة عن مختارات من مجاميعه القصصية .. وبعكس كِتابات الأدعياء التي تجعل القارئ يرمي بها منذ السطور الأولى، لاعنا كُتابها وتفاهاتهم، فإن الأدب الأصيل كلما تقادم.. كلما ازداد جاذبية وألقا.
يعتبر سعيد الكفراوي من الأسماء الساطعة في سماء القصة المصرية والعربية، وقد أخلص لهذا الفن سنوات قبل أن تغويه الرواية مؤخرًا، والمتتبع لنتاجه يحس بأن الكتابة عند الكفراوي بلسم الروح، بها يقاوم "داء الحنين"، بتعبير إدوارد سعيد، الذي ينخر الروح.. بشكل مروّع، عبر نكوصه الإبداعي الأثير، الحاضر في سائر كتاباته، حيث الطفولة التي " لم يبرأ منها"، والفضاء الأول (القرية) التي يؤسطرها في بعض نصوصه، مجسدا واقعيته السحرية الخاصة به، مثلما في "تلة الملائكة"..
يدرك القارئ أن الكاتب موزع بين تلك "المسافة بين التذكر والحنين" (ص126)، ففي أغلب النصوص ثمة شخوص يكابدون الوحدة، ويحسون بالاغتراب... في " قصاص الأثر"، يجد السارد نفسه مهووسا بنقش التواريخ على القطع الخشبية، التي يسرقها من واجهات المحلات، فيقتاد إلى مخفر الشرطة بعد أن يشبعوه ضربا، ويركض وراء هوسه بكل ما هو قديم، يدخل المزاد العلني، ويزايد على مشكاة تساوي آلاف الجنيهات، وليس في جيبه سوى قروش قليلة، ويحبس في مخزن التحف.
إن كل شخوص القصص تعاني من "داء الحنين"، الذي ينخر أرواحها. وبلا وعي، تقوم بتصرفات غريبة، مثل بطلة قصة "صورة ملونة للجدار"، فالمرأة، وبسبب الفقر في بداية حياتهما الزوجية، لم تتمكن وزوجها من التقاط صورة لحفل الزفاف، فصارت تختلس نظرات منبهرة إلى صور زفاف معارفهم، وأصرت على التقاط هذه الصورة في عيد زواجهما العشرين، ويهمس الزوج لنفسه:"ومن الذي استطاع أن يعيد ما مضى من أيامه؟" (ص133)، وأذعن الزوج رغمًا عنه، وارتديا الأزياء الخاصة بالمناسبة، وغادرا في اتجاه محل التصوير، تحت نظرات الجيران واستغرابهم.
هي محاولة للقبض على تلك اللحظة المنفلتة، التي صارت في خبر كان.. وملأت الدهشة المصور حين عرف أنها زوجته، وليست عروسًا جديدة، قائلا في سره: "الناس انْهـبلتْ" (ص 135).
ونتساءل:ترى هل يمكن القبض على الزمن، أو إيقافه عند لحظة معينة، وحبسه في صورة مناسباتية؟
ومن الأمنيات الصغرى المتاخمة للجنون، نتابع في قصة "ضربة قمر" إصرار الزوجة على زيارة قبر زوجها الأول، بعد أن رأته في المنام، والذي لم تزره منذ زواجها، فيجن جنون زوجها الثاني...
وفي "كشك الموسيقى" يستغرب فريق الموسيقيين العجزة من طلب السارد منهم أن يعزفوا له أحد الألحان، مثلما كان يفعل في صباه، وقد اشتعل الحنين في القلب إلى تلك الطفولة، التي "لم يبرأ منها"، وينظرون باستغراب إلى... الطفل الخمسيني ذي الشيب، ويبتسمون.
والطفولة -هنا- عكس الشيخوخة المتصابية، أو المراهقة المتأخرة، فالكاتب يركض جهة تلك المنطقة السرية من الزمن المغلفة بالحنين والدهشة البكر...
في قصة "رائحة الليل"، وبسبب الإحساس الفظيع بالوحدة، بعد وفاة الزوجة وزواج البنتين، يتوجه الشيخ إلى مخفر الشرطة - في وقت متأخر من الليل- ليقدم بلاغًا ضد الوحدة.. احتجاجًا على صقيعها وآلامها النفسية.
وفي "سيدة على الدرج"، يحاول الجار يوميا أن يتهرب من جارته المسيحية الأرمل، ويتفادى لقاءها وحديثها المتكرر عن زوجها، ولأن دينها يحرّم عليها أن تتزوج من بعده، تغويه قائلة:
- لكن ماذا ؟... هل تريدني أن أدور في الشوارع. أنا سيدة محترمة وأنت سيد العارفين.
وحتى حين يكتب سعيد الكفراوي عن الجنس، لا يكتب عنه بتلك الطريقة الفجة، وإنما يوظفه بشكل فني، وقد جاء خاتمة لأكثر من نص(وردة الليل، عشب مبتل، سيدة على الدرج)، لكن بطريقة إيحائية معبرة، بعيدا عن دغدغة المشاعر الرخيصة، كما يفعل أنصاف الموهوبين وأرباعهم من " فقراء الخيال" - والعبارة مستوحاة من أحد نصوص المجموعة (قصّاص الأثر) في ص89، و في سياقٍ آخر،(فمعذرة إن استخدمتها في غير موضعها)- بحثا عن شهرة زائفة.
في تضاعيف نصوص "كشك الموسيقى" يحضر فعل المضارع بشكل لافت، كنوع من الكتابة ضد النسيان أولا، واستحضار الماضي، وجعله مراهنا ومستمرا... كتحايل فني على الزمن، فمن يعيش نوستالجياه الخاصة لا يبالي بالحاضر، ولا بالواقع ... لهذا تطغى مناجاة الذات، تعبيرا عن الانفعالات الداخلية للشخوص، غير القادرين على التفاعل مع الآخرين، والتصالح مع الذات والعالم، لهذا يحس الآخرون بأن شخوص القصص غرباء عنهم، فتتكرر كلمة الجنون كصفة ينعتون بها أبطال القصص. أما لغة "كشك الموسيقى" مكثفة، شاعرية، مسربلة بالحنين والحزن، و يحضر الحوار باللهجة العامية - بمثابة لغة ثالثة- لإضفاء الواقعية على نصوص أشبه بمعزوفات سردية، حتى لا تسقط في فخ التصنع والافتعال.
الكتاب : كشك الموسيقى (مختارات قصصية).
الكاتب : سعيد الكفراوي (كاتب مصري).
الناشر : الفنك ( الدار البيضاء)، الطبعة الأولى، 1997.