حركية الثقافة المغربية
ليس العالم العربي جزيرة معزولة عن العالم لاسيما في هذا العصر، عصر العولمة والإنترنيت، حيث زالت الحدود والحواجز على صعيد المعلومة والمعرفة، فأضحت هذه الأخيرة، تبعا لذلك، طوع اليد سهلة المنال. صاحب هذا التطور التقني الهائل على صعيد الإرسال والاستقبال وكذلك التحولات العالمية تحول على المستوى الثقافي والسوسيولوجي وكذلك على صعيد الاستهلاك. يهمنا هنا التحول الحاصل على المستوى الثقافي والمفاهيم المرتبطة به الكاشفة عن هذا التحول. في إطار التحول الذي طرأ على مستوى المفاهيم في العالم العربي وتداولها، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لمحمد عابد الجابري في أحد أعداد "مواقف"، وهي كتب صغيرة الحجم يصدر منها واحد شهريا يكون خاصا إما بقضية أو قضايا أو شخصيات ثقافية مثل ابن رشد والشاطبي وابن خلدون، رصد ذلك التحول الخاص بتداول المفاهيم. ذلك أنه أقام ثنائية مفاهيمية يتكون كل طرف من طرفيها من مجموعة من المفاهيم، كل مجموعة من المجموعتين تتناسب مع مرحلة تاريخية معينة في العالم العربي. ففي سبعينيات القرن الماضي كانت مفاهيم من قبيل الصراع الطبقي، والاشتراكية، والبنية التحية، والبنية الفوقية، والعلاقة الجدلية، والإمبريالية، والبروليتاريا، والبورجوازية الصغيرة، والكومبرادور... والمفاهيم التي تندرج في هذا الإطار هي السائدة. وهذا ليس غريبا مادام أن العالم كان مقسما حينئذ إلى معسكرين، معسكر شرقي ومعسكر غربي، أو معسكر شيوعي واشتراكي من جهة ومعسكر ليبرالي من جهة أخرى. هذا مع ما تحمله كلمة معسكر من صراع وتنافس حتى على صعيد الايدولوجيا، وهي تتكون من المفاهيم كما هو معلوم. وقد كانت الغلبة، على الصعيد العربي، للمفاهيم المرتبطة بالماركسية لكنها لم تكن الوحيدة الموجودة في الميدان. ويمكن القول بأن نشر كتاب غورباتشوف "البرسترويكا"، وقد ترجم إلى العربية تحت عنوان "عملية إعادة البناء والتفكير السياسي الجديد لنا وللعالم"(1) ، دور في الانتقال من مفاهيم الطرف الأول من الثنائية إلى مفاهيم الطرف الثاني منها، والتي ستذكر لاحقا. هذا رغم أن غورباتشوف الزعيم السوفييتي لم ينخلص فيه من المقولات الماركسية الأساسية. لكنه كشف فيه، رغم ذلك، عن جزء من واقع متحرك يسير نحو التغيير. تغيير سار في الاتجاه المضاد تماما ليقينيات الماركسية وحتمياتها. لكن بعد سقوط جدار برلين يوم 9 نونبر سنة 1989، وانكشاف عورات الاتحاد السوفيتي السابق والمعسكر الشرقي عموما وفي طليعتها الاستبداد أو الدكتاتورية، تبددت أوهام الشيوعية وايديولوجية ديكتاتورية البروليتاريا، هذا فضلا عن رمزية النهاية المأساوية للرئيس الروماني نيكولاي تشاوشيسكو. وبهذا حلت المفاهيم المكونة للطرف الثاني من الثنائية محل مفاهيم الطرف الأول. التحول على هذا المستوى يكون تدريجيا بطبيعة الحال. تتمحور هذه المفاهيم، كما بين ذلك محمد عابد الجابري، حول حقوق الإنسان، والمجتمع المدني، والديمقراطية، والحداثة وما يدخل في حكم هذه المفاهيم. وهو انتقال لم يكن على صعيد المفاهيم فقط، ولكنه انتقال أيضا مس زاوية النظر وكيفية قراءة الواقع وتغيير الطموحات و الرهانات. وتلك المفاهيم عنوان لذلك الانتقال. وقد تفاعلت الثقافة العربية مع هذه التحولات العالمية. يمكن القول بأن هذا التحول المفاهيمي ناتج عن تحول طرأ على التصورات والذهنيات التي تحررت من سطوة وبريق سلسلة المفاهيم المكونة للطرف الأول من الثنائية. وقد كان يرعاها ويتولى أمورها، نشرا وتوزيعا ودعاية، جهاز منظم يوجد مركزه خارج العالم العربي. لإبراز هذا التحول الذي طرأ على التصورات والذهنيات، تستحسن المقارنة بين كتب نقدية مغربية صدرت في سبعينيات القرن الماضي وكتب نقدية مغربية صدرت منذ التسعينيات إلى اليوم. كما يمكن الوقوف بدقة عند هذا التحول حين تتبع المسار النقدي لباحث وشاعر مغربي هو محمد بنيس على سبيل المثال. أنجز محمد بنيس رسالة جامعية عنوانها "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب"(2)، تحت إشراف عبد الكبير الخطيبي وهو متأثر بالمنظومة الفكرية التي ترتبط بها مفاهيم الطرف الأول من الثنائية المشار إليها سابقا. وقد كان ذلك منسجما مع المرحلة التي كانت فيها السيادة لتلك المفاهيم. وعلى هذا الأساس، استعان محمد بنيس بالبنيوية التكوينية، التي وضع أسسها لوسيان غولدمان في كتابه (3) "Le dieu caché" وغيره، في قراءته للشعر المغربي المعاصر. لهذا ربط "البنية الداخلية" ب"البنية الخارجية"المتمثلة في "الواقع الاجتماعي والتاريخي للبرجوازية الصغيرة بالمغرب"(4). لم يدرس محمد بنيس النص الشعري المغربي المعاصر إذن باعتباره كائنا لغويا مغلقا على نفسه ققط، كما ترى ذلك البنيوية، بل درسه كذلك في "أبعاده اللغوية والحضارية والاجتماعية والتاريخية" (5). قاده هذا التصور وفهمه للبنيوية التكوينية إلى اعتبار الشعر المغربي المدروس في الكتاب معبرا عما سماه "بنية السقوط والانتظار". لكن سيطرأ تحول أساسي في تصور محمد بنيس وفي نظرته للثقافة والشعر خاصة في مرحلة لاحقة. يتجلى هذا في أطروحته الجامعية "الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها" (6)، حيث اختفت المقولات الماركسية لتحل محلها "الشعرية"، واختفى لوسيان غولدمان ليحل محله هنري ميشونيك Henri Meschonnic. كما اختفت من هذا الكتاب الأخير بأجزائه الإحالة على ماو تسي تونغ ولينين وماركس والمرجعية الفكرية لهؤلاء، خلافا لما كان عليه الأمر في كتاب "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب". إنه تحول أساسي في التصور وفي مفهوم النص وكيفية مقاربته. أضف إلى ذلك اختفاء عبد الكبير الخطيبي، على صعيد الإشراف، ليحل محله جمال الدين بن الشيخ. وهذا له رمزيته الدالة على ذلك التحول المعرفي والمنهجي. تحول معرفي جعله يبحث عن أعطاب الحداثة وفيها في كتابه "الحداثة المعطوبة"(7)، دفاعا عن الحداثة وانتصارا لها، عوض البحث عن أعطاب الماركسية وفيها أيضا. وهو ينفر، بناء على هذا التحول الثقافي، من الواحد وتعدديته طلبا للحرية والاختلاف حسب منظوره. من الناحية الزمنية كانت بداية هذا التحول الثقافي قبل سقوط جدار برلين، وقبل تفكك الاتحاد السوفييتي. وهو، أي التحول الثقافي، ينسجم تماما مع تقسيم الجابري. من الناحية النقدية، يلاحظ أنه بعد أن كانت البنيوية التكوينية، بوصفها منهجا لتحليل وتفسير الأدب، هي السائدة في مرحلة سابقة، صارت اليوم السيميولوجيا أو السيميائيات هي المنتشرة اليوم، بعد أن تخلص الفكر النقدي المغربي والثقافة المغربية عموما من سطوة وسحر الإيديولوجيا الماركسية. لكن هذه الثقافة لم تتخل، عموما، عن نضاليتها. وكتاب محمد بنيس "الحداثة المعطوبة" المشار إليه سابقا دليل على ذلك. لكنه نضال يتعلق بأفق آخر ينسجم مع مفاهيم الطرف الثاني من الثنائية المذكورة سابقا. شمل التحليل السيميولوجي أو السيميائي في المغرب نصوصا وخطابات متنوعة، أدبية وغير أدبية، حيث تكون قراءة وتحليل العلامات، بما فيها الإشهار. وهو تحليل يقود إلى اكتشافات ونتائج معرفية مهمة بعد التحرر من التصورات الجاهزة والأحكام القبلية. تصورات وأحكام كانت تقف حاجزا دون إنتاج معرفة نابعة من النصوص المدروسة نفسها بعد تحليلها وتشريحها. يمكن تقديم مثال أو علامة أخرى، من بين أمثلة وعلامات عديدة، تدل على هذا التحول. يتعلق الأمر هذه المرة بالناقد والكاتب عبد القادر الشاوي. كان هذا الأخير واحدا من نقاد مغاربة في السبعينيات من القرن العشرين انبهروا بسلطة الواقعية في النقد والأدب والمقولات الماركسية. هذه المقولات هي التي كانت تحدد وظيفة الثقافة عندهم بوصفها جزء من صراع سياسي واجتماعي. وهكذا دخلت الثقافة عندهم، ومنها النقد الأدبي، في أتون ذلك الصراع. يتجلى هذا في كتابه "سلطة الواقعية"(8)، على سبيل المثال. قاد هذا المنظور عبد القادر الشاوي إلى السجن (1977 ـ 1989). وقد كشف في أعماله السردية، التي تندرج في إطار السيرة الذاتية ومنها "كان وأخواتها"(1986) و "دليل العنفوان" (1989)، عن معاناته داخله. لكنه تخلى لاحقا عن التصور الماركسي للثقافة، فتحرر، تبعا لذلك، من سلطة الايدلوجية الماركسية ليتولى، وهو المعتقل السياسي السابق، منصب وزير مفوض بسفارة المغرب بمدريد سابقا ومنصب سفير للمغرب بالشيلي حاليا. يختلف المسار الثقافي لمحمد بنيس عن المسار الثقافي لعبد القادر الشاوي. وقد عرف مسار كل منهما تحولا ثقافيا. علامتان ومساران ثقافيان يدلان دلالة واضحة على تحول أساسي طرأ على الثقافة المغربية، بالمقارنة مع الثقافة التي كانت سائدة في سبعينيات وجزء من ثمانينيات القرن العشرين بالمغرب. يمكن أيضا رصد تحول طرأ على البنية التنظيمية الخاصة بالمسرح المغربي اليوم. لقد كان المسرح المغربي منذ فجر الاستقلال يتغذى على الخصوص من إبداعات الهواة، الذين أسسوا جامعة لها طابع تنظيمي خاصة بهم هي "الجامعة الوطنية لمسرح الهواة". كما أسسوا اتحادات إقليمية لمسرح الهواة، حيث كانت تتبارى الجمعيات المسرحية المنتمية للإقليم الواحد من أجل فرز جمعية تشارك في مهرجان وطني لهذا المسرح، وكان يعقد سنويا في البداية، والذي يتوج هو بدوره الفائزين وطنيا. وقد كان الإشراف الإداري على هذا المسرح موكولا إلى وزارة الشبيبة والرياضة التي كانت تقدم مساعدة مالية عبارة عن منحة سنوية، وهي هزيلة جدا قد لا تتجاوز ألفي درهم (2000 درهم)، لمساعدة الجمعيات المسرحية الفاعلة، كل على حدة. لكن منذ سنة 1998 إلى اليوم تكفلت وزارة الثقافة باحتضان المسرح. فخصصت دعما ماليا سنويا للمسرح الذي وصفته هي بكونه "احترافيا". تستفيد من هذا الدعم شركات مسرحية، و "فرق مسرحية" كانت قبل الدعم من جمعيات مسرح الهواة، والمسرح التجاري على حد سواء، وكذلك فرق مسرحية أسسها خريجون من المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي. "وتجدر الإشارة إلى أن هذا المسرح الموصوف بكونه احترافيا يتكون من خليط بشري تختلف درجات تعليمه، كما تختلف درجات أنواع تكوينه. بالنسبة لدرجات التعليم فهي تبتدئ من التعليم الابتدائي إلى التعليم العالي. أما فيما يتعلق بالتكوين فهناك من لم يتلق تكوينا متخصصا في المسرح أو في فن من فنونه. وهناك أيضا من يتوفر على تكوين أكاديمي متخصص في أحد تخصصات المسرح المتنوعة. هذا الخليط البشري المكون وغير المكون مسرحيا تندرج أعمالهم ضمن هذا "المسرح الاحترافي"(9). إذا كانت جمعية من جمعيات مسرح الهواة تقدم لها منحة سنوية تقدر بنحو ألفي درهم سنويا (2000 درهم) أو مابين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف درهم إذا شاركت في المهرجان الوطني (3000 ـ 4000 درهم)، فإن "الفرقة المسرحية"، في إطار سياسة الدعم، قد تحصل على مائتين وثمانية وستين ألف وأربعمائة وثمانين درهما (268.480 درهم)(10). وهذا هو المبلغ المالي الذي حصلت عليه فرقة "مسرح اليوم" لثريا جبران في الموسم المسرحي 2000/2001 عن مسرحية "الجنرال"، وهو أعلى مبلغ في ذلك الموسم. في هذا الموسم المذكور استفادت من الدعم المالي ثلاثة وعشرون فرقة مسرحية (23). وقد بلغ المجموع المالي المقدم لهذه الفرق فيه وحده ثلاثة ملايين وأربعة وثلاثين ألفا وسبعمائة وعشرة دراهم (3.430.710 درهم). أما في الموسم المسرحي الحالي أي موسم 2008/ 2009 فقد بلغ مجموع الدعم ثلاثة ملايين وستمائة وخمسين ألف درهم ( 3.650.000 درهم). كان نصيب فرقة "فضاء اللواء للإبداع"، التي يشرف عليها المخرج المسرحي بوسرحان الزيتوني، عن مسرحية "يوليوس قيصر" مائة وثمانين ألف درهم (180.000 درهم). وأدنى نصيب مالي في الموسم المذكور هو تسعون ألف درهم (90.000 درهم). هذا إضافة إلى دعم الترويج. ففي هذه السياسة هناك دعم للإنتاج ودعم للترويج. وقد تستفيد الفرقة المسرحية الواحدة منهما معا في موسم مسرحي واحد. استفادت فرقة "مسرح اليوم" من ترويج عشرة عروض لمسرحية "أربع ساعات في شاتيلا". والمقابل المالي المقدم لكل عرض هو تسعة آلاف درهم (9000 درهم). وعليه فإن المجموع المالي المقدم لتقديم عشرة عروض لهذه المسرحية في الموسم المسرحي 2001/ 2002، في إطار الترويج، هو تسعون ألف درهم (90.000 درهم). ويختلف عدد العروض التي يتم دعمها للفرقة المسرحية الواحدة في الموسم المسرحي الواحد ترويجا من قبل وزارة الثقافة، وهو يتراوح بين خمسة وعشرة عروض مسرحية. وقد تم دعم ثلاث وعشرين (23) "فرقة مسرحية" في هذا الموسم المسرحي 2008/ 2009. أما عدد العروض المدعمة في إطار الترويج في هذا الموسم المسرحي نفسه فهو مائة واثنان وثمانون (182) عرضا مسرحيا. هذه المعطيات الميدانية تدل على أن علاقة الدولة بالمسرح قد تغيرت فيما يخص الجانب المالي خصوصا، فإذا كانت شحيحة تجاه مسرح الهواة بالخصوص منذ ظهوره عقب الاستقلال مباشرة إلى سنة 1998، فإنها تبدو سخية مع المسرح عموما اليوم بعد أن اختفى أو كاد من التداول مصطلح مسرح الهواة، الذي صار يحيل، حين استعماله، على مرحلة زمنية ولت. إنه سخاء بالمقارنة مع القيمة المالية التي كانت تمنح لجمعيات مسرح الهواة. والحصول على هذا الدعم يستوجب تقديم ملف متكامل من لدن الفرقة المسرحية المعنية الراغبة فيه، يتضمن كذلك النص الدرامي المزمع إخراجه، من أجل مراقبته وفحصه من لدن لجنة تشكلها وزارة الثقافة لهذا الغرض. هذه اللجنة هي التي تقدر المبلغ المالي الذي يقدم دعما للفرقة المسرحية المعنية. يدفع هذا السخاء إلى التساؤل عن سببه أو أسبابه. وهنا ينفتح الجواب على التأويل والافتراض. فهل السبب هو رغبة الدولة في احتواء مسرح الهواة، وقد كان مسرحا متنطعا؟. أم أن السبب يكمن في كون المسرح المغربي عموما، بما في ذلك ما كان يعرف بمسرح الهواة، يندرج في إطار تصورها للحداثة؟. كيفما كان الجواب فإن الثابت هو التحول النسبي الإيجابي الحاصل عمليا في علاقة الدولة بالمسرح مادامت حرية الإبداع لم تمس ولم يشك (من الشكوى) من انعدامها أحد لحد الآن، علما بأن لهذه الحرية حدودا مرسومة. لكن هذا التحول أفرز من جانب المسرحيين تسابقا من أجل الحصول على هذا الدعم. كما جعل جمعيات مسرحية هاوية تسعى جاهدة إلى اعتبار نفسها "فرقة مسرحية محترفة". علما بأن سبب هذا التغير سبب خارجي وليس سببا داخليا أي من داخل الجمعية المسرحية التي ينطبق عليها هذا الأمر، كأن يكون جميع الممثلين فيها، أو أغلبهم على الأقل، والمخرج المسرحي كذلك، قد تلقوا تكوينا مسرحيا مختصا يؤهلهم لولوج عالم الاحتراف والمهنية عن طريق هذا التكوين وليس عن طريق الهواية. هذا علما بأن الذين كانوا يزاولون المسرح هواية قبل سن سياسة الدعم أمسوا "محترفين" بعد إقرار هذه السياسة. ويمارس عدد لا يستهان به منهم مهنا مختلفة. وقد فجر هذا الدعم المالي نقاشا وسجالا عكسته الصحافة. كما صاحبه تحول على مستوى بعض المصطلحات حيث تم تعويض "جمعية مسرحية " بـ "فرقة مسرحية". كما تم إفراغ مفهوم "مسرح احترافي" من المعنى الذي كان يجعله زمن تألق مسرح الهواة مقرونا بالمسرح الرسمي. ولهذا صار الاحتراف والمسرح الاحترافي مقرونين اليوم بالمهنية. هذا على مستوى المفهوم فهل تحققت هذه المهنية عمليا لدى كل الجمعيات المسرحية أو الفرق المسرحية التي تعتبر نفسها وتعتبرها وزارة الثقافة "فرقا احترافية"؟. يقتضي الجواب أولا تحديد مفهوم الاحتراف أولا تحديدا أكاديميا وليس وزاريا. ولا شك في أن الاحتراف في مجال من مجالات المسرح، عدا كتابة النص الدرامي، مرتبط بالتكوين المسرحي وليس بالحصول على بطاقة فنان، التي يمكن الحصول عليها بهذه الطريقة أو تلك. نتيجة لذلك اختزل الاحتراف في الحصول على الدعم المالي. فصار الحصول على هذا المال العام هو المحدد للاحتراف. وهنا تطرح الأسئلة التالية:هل تم تدبير هذه السياسة المسرحية بشفافية؟. وكم هو عدد المستفيدين منها الذين يرتبطون أو يدورون في فلك الجهة الساهرة على تنفيذها، وما هي النسبة المئوية العامة التي يحتلها هؤلاء؟. وما هو نصيب موظفي وزارة الثقافة المسرحيين من هذا الدعم سنويا؟. وهل وازت هذا الدعم جودة إبداعية؟. أسئلة تتطلب الأجوبة عنها معطيات أساسية غير متوفرة لحد الآن بشكل كاف. والغرض من طرحها هنا معرفي. ورغم هذا الدعم المالي فإن عدد "الفرق المسرحية" اليوم يقل كثيرا عن عدد الجمعيات المسرحية التي كانت موجودة وفاعلة في سبعينيات القرن العشرين. هذا علاوة على قلة الإقبال على مشاهدة العروض المسرحية، فقد يشاهد العرض المسرحي اليوم أحيانا أفراد معدودون، خلافا لما كان عليه الأمر في السابق. قد يعزى ذلك إلى اختلاف السياقات وهيمنة الصورة في عالم اليوم. هيمنة هذه الأخيرة أثرت حتى على القراءة قراءة الكتاب الورقي، فضاعفت من أزمة هذه القراءة الضعيفة أصلا في المغرب. من خلال كل ما سبق، يتبين حدوث تحول ثقافي بالنسبة لمثقفين مغربيين معاصرين، لكل منهما مساره وأفقه الخاص. وقد بدأت حياتهما الثقافية معا منذ سبعينيات القرن العشرين ومازالت ممتدة إلى اليوم. قد يكون ذلك راجعا إلى اختلاف السياقات واختلاف مغرب اليوم عن مغرب الأمس القريب اختلافا نسبيا، والتطور المعرفي الذاتي لكل منهما. انطلاقا من هذين النموذجين يمكن تعميم هذا التحول الذي طرأ على الثقافة المغربية اليوم عموما مقارنة مع الثقافة التي كانت مهيمنة في سبعينيات القرن العشرين. فالأبحاث والدراسات التي ينجزها الباحثون والدارسون المغاربة اليوم يبدو أنها تخلصت أوهي في طريق التخلص من المقولات الجاهزة التي كانت سائدة في مرحلة سابقة والإسقاطات، وأبحاث محمد مفتاح مثال على ذلك. وهي تتميز بالجدة والرصانة والعمق. لقد استوعب محمد مفتاح الثقافة المنهجية المعاصرة فاختار منها المنهج السيميولوجي أو السيميائي. ولذلك طبق هذا المنهج على نصوص شعرية عربية قديمة ومعاصرة. وهو ينطلق في دراساته وأبحاثه العديدة من خلفية منهجية ومعرفية بالدرجة الأولى. وأعماله "في مجال الدراسة النقدية والفكرية لا يمكن أن تقرأ منفصلة عن بعضها البعض ولكن يمكن أن نفترض أن هناك نسقية توجهها وتربط عناصرها عموديا وأفقيا، يتمثل المستوى العمودي في الأصول المنهجية التي كانت وراء تبلور قضايا النقاش وإشكاليات هذا المسار النقدية والفكرية والابستمولوجية، وتشكلت من المعرفة اللغوية والاهتمام الدقيق بقضايا التفكير البلاغي والأصولي والفقهي والدراسات اللغوية الحديثة والمناهج النقدية الغربية وسيميائيات النص الأدبي، وهي أصول ستغني مسار الأعمال أفقيا، وتجلى ذلك في الملامح العامة للمسار، وهو مسار قائم على التدرج والتعالق والتفاعل"(11). كما يتبين حدوث تحول نسبي على مستوى السياسة المسرحية التي تنهجها الدولة اليوم تجاه المسرح، وربما على مستوى السياسة الثقافية بشكل عام، سياسة ثقافية لها سقف معلوم. لكن مازال يغلب على تدبيرها "المغرب اللاثقافي" حسب تعبير محمد بنيس. هذا التحول النسبي الأخير هو وليد حركية داخلية عرفها المجتمع المغربي الموزع بين التقليد والحداثة، وكذلك وليد أوضاع العالم اليوم الذي أصبح يرفع شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان. عالم تلعب فيه الإنترنيت، والوسائط التكنولوجية بصفة عامة، دورا أساسيا في الحياة البشرية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) ـ م. غورباتشوف، عملية إعادة البناء والتفكير السياسي الجديد لنا وللعالم أجمع، الناشر دار الكرمل، عمان، الأردن/ عيون، الدار البيضاء، المغرب، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط/ 1، 1988، ترجمه عن الروسية وليد مصطفى وآخرون. (2) ـ محمد بنيس، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب مقاربة بنيوية تكوينية، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط/ 2، 1985. نشرت الطبعة الأولى سنة 1979. (3) ـ Lucien Goldmann,Le dieu caché,Gallimard,1959. (4) ـ ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب. ص/ 28. (5) ـ نفسه، ص/ 27. (6) ـ محمد بنيس، الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها (أربعة أجزاء)، مطبعة فضالة، المحمدية، المغرب، ط/ 1، 1989. (7) ـ محمد بنيس، الحداثة المعطوبة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط/ 1، 2004. (8) ـ عبد القادر الشاوي، سلطة الواقعية، دمشق، اتحاد الأدباء العرب، 1981. (9) ـ أحمد بلخيري، جريدة "الوطن" (قطر)، يوم: 9/ 2/ 2009، من حوار أجراه معه عبد الحق ميفراني. (10) ـ انظر موقع وزارة الثقافة (المغرب) الإلكتروني بخصوص جميع الأرقام المتعلقة بالدعم المالي. (11) ـ من دراسة لعبد المجيد نوسي في كتاب: محمد مفتاح لقاء الشهر(اتحاد كتاب المغرب)، البوكيلي للطباعة، القنيطرة، المغرب، ط/ 1، 1998، ص/ 46.
ليس العالم العربي جزيرة معزولة عن العالم لاسيما في هذا العصر، عصر العولمة والإنترنيت، حيث زالت الحدود والحواجز على صعيد المعلومة والمعرفة، فأضحت هذه الأخيرة، تبعا لذلك، طوع اليد سهلة المنال. صاحب هذا التطور التقني الهائل على صعيد الإرسال والاستقبال وكذلك التحولات العالمية تحول على المستوى الثقافي والسوسيولوجي وكذلك على صعيد الاستهلاك. يهمنا هنا التحول الحاصل على المستوى الثقافي والمفاهيم المرتبطة به الكاشفة عن هذا التحول. في إطار التحول الذي طرأ على مستوى المفاهيم في العالم العربي وتداولها، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لمحمد عابد الجابري في أحد أعداد "مواقف"، وهي كتب صغيرة الحجم يصدر منها واحد شهريا يكون خاصا إما بقضية أو قضايا أو شخصيات ثقافية مثل ابن رشد والشاطبي وابن خلدون، رصد ذلك التحول الخاص بتداول المفاهيم. ذلك أنه أقام ثنائية مفاهيمية يتكون كل طرف من طرفيها من مجموعة من المفاهيم، كل مجموعة من المجموعتين تتناسب مع مرحلة تاريخية معينة في العالم العربي. ففي سبعينيات القرن الماضي كانت مفاهيم من قبيل الصراع الطبقي، والاشتراكية، والبنية التحية، والبنية الفوقية، والعلاقة الجدلية، والإمبريالية، والبروليتاريا، والبورجوازية الصغيرة، والكومبرادور... والمفاهيم التي تندرج في هذا الإطار هي السائدة. وهذا ليس غريبا مادام أن العالم كان مقسما حينئذ إلى معسكرين، معسكر شرقي ومعسكر غربي، أو معسكر شيوعي واشتراكي من جهة ومعسكر ليبرالي من جهة أخرى. هذا مع ما تحمله كلمة معسكر من صراع وتنافس حتى على صعيد الايدولوجيا، وهي تتكون من المفاهيم كما هو معلوم.
وقد كانت الغلبة، على الصعيد العربي، للمفاهيم المرتبطة بالماركسية لكنها لم تكن الوحيدة الموجودة في الميدان. ويمكن القول بأن نشر كتاب غورباتشوف "البرسترويكا"، وقد ترجم إلى العربية تحت عنوان "عملية إعادة البناء والتفكير السياسي الجديد لنا وللعالم"(1) ، دور في الانتقال من مفاهيم الطرف الأول من الثنائية إلى مفاهيم الطرف الثاني منها، والتي ستذكر لاحقا. هذا رغم أن غورباتشوف الزعيم السوفييتي لم ينخلص فيه من المقولات الماركسية الأساسية. لكنه كشف فيه، رغم ذلك، عن جزء من واقع متحرك يسير نحو التغيير. تغيير سار في الاتجاه المضاد تماما ليقينيات الماركسية وحتمياتها. لكن بعد سقوط جدار برلين يوم 9 نونبر سنة 1989، وانكشاف عورات الاتحاد السوفيتي السابق والمعسكر الشرقي عموما وفي طليعتها الاستبداد أو الدكتاتورية، تبددت أوهام الشيوعية وايديولوجية ديكتاتورية البروليتاريا، هذا فضلا عن رمزية النهاية المأساوية للرئيس الروماني نيكولاي تشاوشيسكو. وبهذا حلت المفاهيم المكونة للطرف الثاني من الثنائية محل مفاهيم الطرف الأول. التحول على هذا المستوى يكون تدريجيا بطبيعة الحال.
تتمحور هذه المفاهيم، كما بين ذلك محمد عابد الجابري، حول حقوق الإنسان، والمجتمع المدني، والديمقراطية، والحداثة وما يدخل في حكم هذه المفاهيم. وهو انتقال لم يكن على صعيد المفاهيم فقط، ولكنه انتقال أيضا مس زاوية النظر وكيفية قراءة الواقع وتغيير الطموحات و الرهانات. وتلك المفاهيم عنوان لذلك الانتقال. وقد تفاعلت الثقافة العربية مع هذه التحولات العالمية. يمكن القول بأن هذا التحول المفاهيمي ناتج عن تحول طرأ على التصورات والذهنيات التي تحررت من سطوة وبريق سلسلة المفاهيم المكونة للطرف الأول من الثنائية. وقد كان يرعاها ويتولى أمورها، نشرا وتوزيعا ودعاية، جهاز منظم يوجد مركزه خارج العالم العربي.
لإبراز هذا التحول الذي طرأ على التصورات والذهنيات، تستحسن المقارنة بين كتب نقدية مغربية صدرت في سبعينيات القرن الماضي وكتب نقدية مغربية صدرت منذ التسعينيات إلى اليوم. كما يمكن الوقوف بدقة عند هذا التحول حين تتبع المسار النقدي لباحث وشاعر مغربي هو محمد بنيس على سبيل المثال.
أنجز محمد بنيس رسالة جامعية عنوانها "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب"(2)، تحت إشراف عبد الكبير الخطيبي وهو متأثر بالمنظومة الفكرية التي ترتبط بها مفاهيم الطرف الأول من الثنائية المشار إليها سابقا. وقد كان ذلك منسجما مع المرحلة التي كانت فيها السيادة لتلك المفاهيم. وعلى هذا الأساس، استعان محمد بنيس بالبنيوية التكوينية، التي وضع أسسها لوسيان غولدمان في كتابه (3) "Le dieu caché" وغيره، في قراءته للشعر المغربي المعاصر. لهذا ربط "البنية الداخلية" ب"البنية الخارجية"المتمثلة في "الواقع الاجتماعي والتاريخي للبرجوازية الصغيرة بالمغرب"(4).
لم يدرس محمد بنيس النص الشعري المغربي المعاصر إذن باعتباره كائنا لغويا مغلقا على نفسه ققط، كما ترى ذلك البنيوية، بل درسه كذلك في "أبعاده اللغوية والحضارية والاجتماعية والتاريخية" (5). قاده هذا التصور وفهمه للبنيوية التكوينية إلى اعتبار الشعر المغربي المدروس في الكتاب معبرا عما سماه "بنية السقوط والانتظار". لكن سيطرأ تحول أساسي في تصور محمد بنيس وفي نظرته للثقافة والشعر خاصة في مرحلة لاحقة. يتجلى هذا في أطروحته الجامعية "الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها" (6)، حيث اختفت المقولات الماركسية لتحل محلها "الشعرية"، واختفى لوسيان غولدمان ليحل محله هنري ميشونيك Henri Meschonnic. كما اختفت من هذا الكتاب الأخير بأجزائه الإحالة على ماو تسي تونغ ولينين وماركس والمرجعية الفكرية لهؤلاء، خلافا لما كان عليه الأمر في كتاب "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب".
إنه تحول أساسي في التصور وفي مفهوم النص وكيفية مقاربته. أضف إلى ذلك اختفاء عبد الكبير الخطيبي، على صعيد الإشراف، ليحل محله جمال الدين بن الشيخ. وهذا له رمزيته الدالة على ذلك التحول المعرفي والمنهجي. تحول معرفي جعله يبحث عن أعطاب الحداثة وفيها في كتابه "الحداثة المعطوبة"(7)، دفاعا عن الحداثة وانتصارا لها، عوض البحث عن أعطاب الماركسية وفيها أيضا. وهو ينفر، بناء على هذا التحول الثقافي، من الواحد وتعدديته طلبا للحرية والاختلاف حسب منظوره. من الناحية الزمنية كانت بداية هذا التحول الثقافي قبل سقوط جدار برلين، وقبل تفكك الاتحاد السوفييتي. وهو، أي التحول الثقافي، ينسجم تماما مع تقسيم الجابري. من الناحية النقدية، يلاحظ أنه بعد أن كانت البنيوية التكوينية، بوصفها منهجا لتحليل وتفسير الأدب، هي السائدة في مرحلة سابقة، صارت اليوم السيميولوجيا أو السيميائيات هي المنتشرة اليوم، بعد أن تخلص الفكر النقدي المغربي والثقافة المغربية عموما من سطوة وسحر الإيديولوجيا الماركسية. لكن هذه الثقافة لم تتخل، عموما، عن نضاليتها. وكتاب محمد بنيس "الحداثة المعطوبة" المشار إليه سابقا دليل على ذلك. لكنه نضال يتعلق بأفق آخر ينسجم مع مفاهيم الطرف الثاني من الثنائية المذكورة سابقا.
شمل التحليل السيميولوجي أو السيميائي في المغرب نصوصا وخطابات متنوعة، أدبية وغير أدبية، حيث تكون قراءة وتحليل العلامات، بما فيها الإشهار. وهو تحليل يقود إلى اكتشافات ونتائج معرفية مهمة بعد التحرر من التصورات الجاهزة والأحكام القبلية. تصورات وأحكام كانت تقف حاجزا دون إنتاج معرفة نابعة من النصوص المدروسة نفسها بعد تحليلها وتشريحها. يمكن تقديم مثال أو علامة أخرى، من بين أمثلة وعلامات عديدة، تدل على هذا التحول. يتعلق الأمر هذه المرة بالناقد والكاتب عبد القادر الشاوي. كان هذا الأخير واحدا من نقاد مغاربة في السبعينيات من القرن العشرين انبهروا بسلطة الواقعية في النقد والأدب والمقولات الماركسية. هذه المقولات هي التي كانت تحدد وظيفة الثقافة عندهم بوصفها جزء من صراع سياسي واجتماعي. وهكذا دخلت الثقافة عندهم، ومنها النقد الأدبي، في أتون ذلك الصراع. يتجلى هذا في كتابه "سلطة الواقعية"(8)، على سبيل المثال. قاد هذا المنظور عبد القادر الشاوي إلى السجن (1977 ـ 1989). وقد كشف في أعماله السردية، التي تندرج في إطار السيرة الذاتية ومنها "كان وأخواتها"(1986) و "دليل العنفوان" (1989)، عن معاناته داخله. لكنه تخلى لاحقا عن التصور الماركسي للثقافة، فتحرر، تبعا لذلك، من سلطة الايدلوجية الماركسية ليتولى، وهو المعتقل السياسي السابق، منصب وزير مفوض بسفارة المغرب بمدريد سابقا ومنصب سفير للمغرب بالشيلي حاليا. يختلف المسار الثقافي لمحمد بنيس عن المسار الثقافي لعبد القادر الشاوي. وقد عرف مسار كل منهما تحولا ثقافيا. علامتان ومساران ثقافيان يدلان دلالة واضحة على تحول أساسي طرأ على الثقافة المغربية، بالمقارنة مع الثقافة التي كانت سائدة في سبعينيات وجزء من ثمانينيات القرن العشرين بالمغرب.
يمكن أيضا رصد تحول طرأ على البنية التنظيمية الخاصة بالمسرح المغربي اليوم. لقد كان المسرح المغربي منذ فجر الاستقلال يتغذى على الخصوص من إبداعات الهواة، الذين أسسوا جامعة لها طابع تنظيمي خاصة بهم هي "الجامعة الوطنية لمسرح الهواة". كما أسسوا اتحادات إقليمية لمسرح الهواة، حيث كانت تتبارى الجمعيات المسرحية المنتمية للإقليم الواحد من أجل فرز جمعية تشارك في مهرجان وطني لهذا المسرح، وكان يعقد سنويا في البداية، والذي يتوج هو بدوره الفائزين وطنيا. وقد كان الإشراف الإداري على هذا المسرح موكولا إلى وزارة الشبيبة والرياضة التي كانت تقدم مساعدة مالية عبارة عن منحة سنوية، وهي هزيلة جدا قد لا تتجاوز ألفي درهم (2000 درهم)، لمساعدة الجمعيات المسرحية الفاعلة، كل على حدة.
لكن منذ سنة 1998 إلى اليوم تكفلت وزارة الثقافة باحتضان المسرح. فخصصت دعما ماليا سنويا للمسرح الذي وصفته هي بكونه "احترافيا". تستفيد من هذا الدعم شركات مسرحية، و "فرق مسرحية" كانت قبل الدعم من جمعيات مسرح الهواة، والمسرح التجاري على حد سواء، وكذلك فرق مسرحية أسسها خريجون من المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي. "وتجدر الإشارة إلى أن هذا المسرح الموصوف بكونه احترافيا يتكون من خليط بشري تختلف درجات تعليمه، كما تختلف درجات أنواع تكوينه. بالنسبة لدرجات التعليم فهي تبتدئ من التعليم الابتدائي إلى التعليم العالي. أما فيما يتعلق بالتكوين فهناك من لم يتلق تكوينا متخصصا في المسرح أو في فن من فنونه. وهناك أيضا من يتوفر على تكوين أكاديمي متخصص في أحد تخصصات المسرح المتنوعة. هذا الخليط البشري المكون وغير المكون مسرحيا تندرج أعمالهم ضمن هذا "المسرح الاحترافي"(9).
إذا كانت جمعية من جمعيات مسرح الهواة تقدم لها منحة سنوية تقدر بنحو ألفي درهم سنويا (2000 درهم) أو مابين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف درهم إذا شاركت في المهرجان الوطني (3000 ـ 4000 درهم)، فإن "الفرقة المسرحية"، في إطار سياسة الدعم، قد تحصل على مائتين وثمانية وستين ألف وأربعمائة وثمانين درهما (268.480 درهم)(10). وهذا هو المبلغ المالي الذي حصلت عليه فرقة "مسرح اليوم" لثريا جبران في الموسم المسرحي 2000/2001 عن مسرحية "الجنرال"، وهو أعلى مبلغ في ذلك الموسم. في هذا الموسم المذكور استفادت من الدعم المالي ثلاثة وعشرون فرقة مسرحية (23). وقد بلغ المجموع المالي المقدم لهذه الفرق فيه وحده ثلاثة ملايين وأربعة وثلاثين ألفا وسبعمائة وعشرة دراهم (3.430.710 درهم). أما في الموسم المسرحي الحالي أي موسم 2008/ 2009 فقد بلغ مجموع الدعم ثلاثة ملايين وستمائة وخمسين ألف درهم ( 3.650.000 درهم). كان نصيب فرقة "فضاء اللواء للإبداع"، التي يشرف عليها المخرج المسرحي بوسرحان الزيتوني، عن مسرحية "يوليوس قيصر" مائة وثمانين ألف درهم (180.000 درهم). وأدنى نصيب مالي في الموسم المذكور هو تسعون ألف درهم (90.000 درهم). هذا إضافة إلى دعم الترويج. ففي هذه السياسة هناك دعم للإنتاج ودعم للترويج. وقد تستفيد الفرقة المسرحية الواحدة منهما معا في موسم مسرحي واحد. استفادت فرقة "مسرح اليوم" من ترويج عشرة عروض لمسرحية "أربع ساعات في شاتيلا". والمقابل المالي المقدم لكل عرض هو تسعة آلاف درهم (9000 درهم). وعليه فإن المجموع المالي المقدم لتقديم عشرة عروض لهذه المسرحية في الموسم المسرحي 2001/ 2002، في إطار الترويج، هو تسعون ألف درهم (90.000 درهم). ويختلف عدد العروض التي يتم دعمها للفرقة المسرحية الواحدة في الموسم المسرحي الواحد ترويجا من قبل وزارة الثقافة، وهو يتراوح بين خمسة وعشرة عروض مسرحية. وقد تم دعم ثلاث وعشرين (23) "فرقة مسرحية" في هذا الموسم المسرحي 2008/ 2009. أما عدد العروض المدعمة في إطار الترويج في هذا الموسم المسرحي نفسه فهو مائة واثنان وثمانون (182) عرضا مسرحيا.
هذه المعطيات الميدانية تدل على أن علاقة الدولة بالمسرح قد تغيرت فيما يخص الجانب المالي خصوصا، فإذا كانت شحيحة تجاه مسرح الهواة بالخصوص منذ ظهوره عقب الاستقلال مباشرة إلى سنة 1998، فإنها تبدو سخية مع المسرح عموما اليوم بعد أن اختفى أو كاد من التداول مصطلح مسرح الهواة، الذي صار يحيل، حين استعماله، على مرحلة زمنية ولت. إنه سخاء بالمقارنة مع القيمة المالية التي كانت تمنح لجمعيات مسرح الهواة. والحصول على هذا الدعم يستوجب تقديم ملف متكامل من لدن الفرقة المسرحية المعنية الراغبة فيه، يتضمن كذلك النص الدرامي المزمع إخراجه، من أجل مراقبته وفحصه من لدن لجنة تشكلها وزارة الثقافة لهذا الغرض. هذه اللجنة هي التي تقدر المبلغ المالي الذي يقدم دعما للفرقة المسرحية المعنية. يدفع هذا السخاء إلى التساؤل عن سببه أو أسبابه. وهنا ينفتح الجواب على التأويل والافتراض. فهل السبب هو رغبة الدولة في احتواء مسرح الهواة، وقد كان مسرحا متنطعا؟. أم أن السبب يكمن في كون المسرح المغربي عموما، بما في ذلك ما كان يعرف بمسرح الهواة، يندرج في إطار تصورها للحداثة؟. كيفما كان الجواب فإن الثابت هو التحول النسبي الإيجابي الحاصل عمليا في علاقة الدولة بالمسرح مادامت حرية الإبداع لم تمس ولم يشك (من الشكوى) من انعدامها أحد لحد الآن، علما بأن لهذه الحرية حدودا مرسومة.
لكن هذا التحول أفرز من جانب المسرحيين تسابقا من أجل الحصول على هذا الدعم. كما جعل جمعيات مسرحية هاوية تسعى جاهدة إلى اعتبار نفسها "فرقة مسرحية محترفة". علما بأن سبب هذا التغير سبب خارجي وليس سببا داخليا أي من داخل الجمعية المسرحية التي ينطبق عليها هذا الأمر، كأن يكون جميع الممثلين فيها، أو أغلبهم على الأقل، والمخرج المسرحي كذلك، قد تلقوا تكوينا مسرحيا مختصا يؤهلهم لولوج عالم الاحتراف والمهنية عن طريق هذا التكوين وليس عن طريق الهواية. هذا علما بأن الذين كانوا يزاولون المسرح هواية قبل سن سياسة الدعم أمسوا "محترفين" بعد إقرار هذه السياسة. ويمارس عدد لا يستهان به منهم مهنا مختلفة.
وقد فجر هذا الدعم المالي نقاشا وسجالا عكسته الصحافة. كما صاحبه تحول على مستوى بعض المصطلحات حيث تم تعويض "جمعية مسرحية " بـ "فرقة مسرحية". كما تم إفراغ مفهوم "مسرح احترافي" من المعنى الذي كان يجعله زمن تألق مسرح الهواة مقرونا بالمسرح الرسمي. ولهذا صار الاحتراف والمسرح الاحترافي مقرونين اليوم بالمهنية. هذا على مستوى المفهوم فهل تحققت هذه المهنية عمليا لدى كل الجمعيات المسرحية أو الفرق المسرحية التي تعتبر نفسها وتعتبرها وزارة الثقافة "فرقا احترافية"؟. يقتضي الجواب أولا تحديد مفهوم الاحتراف أولا تحديدا أكاديميا وليس وزاريا. ولا شك في أن الاحتراف في مجال من مجالات المسرح، عدا كتابة النص الدرامي، مرتبط بالتكوين المسرحي وليس بالحصول على بطاقة فنان، التي يمكن الحصول عليها بهذه الطريقة أو تلك. نتيجة لذلك اختزل الاحتراف في الحصول على الدعم المالي. فصار الحصول على هذا المال العام هو المحدد للاحتراف. وهنا تطرح الأسئلة التالية:هل تم تدبير هذه السياسة المسرحية بشفافية؟. وكم هو عدد المستفيدين منها الذين يرتبطون أو يدورون في فلك الجهة الساهرة على تنفيذها، وما هي النسبة المئوية العامة التي يحتلها هؤلاء؟. وما هو نصيب موظفي وزارة الثقافة المسرحيين من هذا الدعم سنويا؟. وهل وازت هذا الدعم جودة إبداعية؟. أسئلة تتطلب الأجوبة عنها معطيات أساسية غير متوفرة لحد الآن بشكل كاف. والغرض من طرحها هنا معرفي.
ورغم هذا الدعم المالي فإن عدد "الفرق المسرحية" اليوم يقل كثيرا عن عدد الجمعيات المسرحية التي كانت موجودة وفاعلة في سبعينيات القرن العشرين. هذا علاوة على قلة الإقبال على مشاهدة العروض المسرحية، فقد يشاهد العرض المسرحي اليوم أحيانا أفراد معدودون، خلافا لما كان عليه الأمر في السابق. قد يعزى ذلك إلى اختلاف السياقات وهيمنة الصورة في عالم اليوم. هيمنة هذه الأخيرة أثرت حتى على القراءة قراءة الكتاب الورقي، فضاعفت من أزمة هذه القراءة الضعيفة أصلا في المغرب.
من خلال كل ما سبق، يتبين حدوث تحول ثقافي بالنسبة لمثقفين مغربيين معاصرين، لكل منهما مساره وأفقه الخاص. وقد بدأت حياتهما الثقافية معا منذ سبعينيات القرن العشرين ومازالت ممتدة إلى اليوم. قد يكون ذلك راجعا إلى اختلاف السياقات واختلاف مغرب اليوم عن مغرب الأمس القريب اختلافا نسبيا، والتطور المعرفي الذاتي لكل منهما. انطلاقا من هذين النموذجين يمكن تعميم هذا التحول الذي طرأ على الثقافة المغربية اليوم عموما مقارنة مع الثقافة التي كانت مهيمنة في سبعينيات القرن العشرين. فالأبحاث والدراسات التي ينجزها الباحثون والدارسون المغاربة اليوم يبدو أنها تخلصت أوهي في طريق التخلص من المقولات الجاهزة التي كانت سائدة في مرحلة سابقة والإسقاطات، وأبحاث محمد مفتاح مثال على ذلك. وهي تتميز بالجدة والرصانة والعمق. لقد استوعب محمد مفتاح الثقافة المنهجية المعاصرة فاختار منها المنهج السيميولوجي أو السيميائي. ولذلك طبق هذا المنهج على نصوص شعرية عربية قديمة ومعاصرة. وهو ينطلق في دراساته وأبحاثه العديدة من خلفية منهجية ومعرفية بالدرجة الأولى. وأعماله "في مجال الدراسة النقدية والفكرية لا يمكن أن تقرأ منفصلة عن بعضها البعض ولكن يمكن أن نفترض أن هناك نسقية توجهها وتربط عناصرها عموديا وأفقيا، يتمثل المستوى العمودي في الأصول المنهجية التي كانت وراء تبلور قضايا النقاش وإشكاليات هذا المسار النقدية والفكرية والابستمولوجية، وتشكلت من المعرفة اللغوية والاهتمام الدقيق بقضايا التفكير البلاغي والأصولي والفقهي والدراسات اللغوية الحديثة والمناهج النقدية الغربية وسيميائيات النص الأدبي، وهي أصول ستغني مسار الأعمال أفقيا، وتجلى ذلك في الملامح العامة للمسار، وهو مسار قائم على التدرج والتعالق والتفاعل"(11).
كما يتبين حدوث تحول نسبي على مستوى السياسة المسرحية التي تنهجها الدولة اليوم تجاه المسرح، وربما على مستوى السياسة الثقافية بشكل عام، سياسة ثقافية لها سقف معلوم. لكن مازال يغلب على تدبيرها "المغرب اللاثقافي" حسب تعبير محمد بنيس. هذا التحول النسبي الأخير هو وليد حركية داخلية عرفها المجتمع المغربي الموزع بين التقليد والحداثة، وكذلك وليد أوضاع العالم اليوم الذي أصبح يرفع شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان. عالم تلعب فيه الإنترنيت، والوسائط التكنولوجية بصفة عامة، دورا أساسيا في الحياة البشرية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) ـ م. غورباتشوف، عملية إعادة البناء والتفكير السياسي الجديد لنا وللعالم أجمع، الناشر دار الكرمل، عمان، الأردن/ عيون، الدار البيضاء، المغرب، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط/ 1، 1988، ترجمه عن الروسية وليد مصطفى وآخرون. (2) ـ محمد بنيس، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب مقاربة بنيوية تكوينية، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط/ 2، 1985. نشرت الطبعة الأولى سنة 1979. (3) ـ Lucien Goldmann,Le dieu caché,Gallimard,1959. (4) ـ ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب. ص/ 28. (5) ـ نفسه، ص/ 27. (6) ـ محمد بنيس، الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها (أربعة أجزاء)، مطبعة فضالة، المحمدية، المغرب، ط/ 1، 1989. (7) ـ محمد بنيس، الحداثة المعطوبة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط/ 1، 2004. (8) ـ عبد القادر الشاوي، سلطة الواقعية، دمشق، اتحاد الأدباء العرب، 1981. (9) ـ أحمد بلخيري، جريدة "الوطن" (قطر)، يوم: 9/ 2/ 2009، من حوار أجراه معه عبد الحق ميفراني. (10) ـ انظر موقع وزارة الثقافة (المغرب) الإلكتروني بخصوص جميع الأرقام المتعلقة بالدعم المالي. (11) ـ من دراسة لعبد المجيد نوسي في كتاب: محمد مفتاح لقاء الشهر(اتحاد كتاب المغرب)، البوكيلي للطباعة، القنيطرة، المغرب، ط/ 1، 1998، ص/ 46.