كَسَلُ المَسَلَّماتِ: تَساؤلاتٌ حول الشِّعر العربي المُعاصر

صلاح بوسريف

(1)

لم يَعُد الشِّعْرُ اليومَ، هو ما كان بالأمس. لن أعودَ إلى الستينيات أو السبعينيات، الفترة التي كان فيها الشِّعر ما يزالُ يبحثُ عن جَسَدٍ نظري لتبرير اختراقاته، أو كان، بالأحرى، مشغولاً، بسياقاته الفكرية التي طبعت تجربتهُ. فما يجري اليومَ، في المشهد الشِّعري العربي من تَحَوُّلاتٍ، هو غير ما جرى إبَّان هذين الزَّمَنَيْنِ. اتَّسَعَ أُفُقُ الشِّعْر أكثر، وتَعدَّدت مرجعياتُهُ، لم يَعُد الشِّعر العربي القديم، هو المرجع الوحيد الذي منه يَسْتَمِدُّ الشاعر معرفتَهُ بالشَّعر، أو بقواعده، وأُسُسِ بنائهِ، كما لم يَعُد الشعر الإنجليزي، أو الفرنسي، هما مَصْدَر معرفةِ الآخر، أو الانفتاح على شِعْرِيَاتٍ أُخرى، وهو ما حَدَثَ، مع الرومانسيين العرب، الذين كان الشعر الإنجليزي هو المكان الذي منه اسْتَمَدَّ "الديوان" و "أبوللو" تَصَوُّرَاتِهِما الجديدة للشِّعر. كما ستذهبُ مجلة "شعر"، مثلاً، إلى الشعر الفرنسي، وإلى سياقاته النظرية، التي من خلالها واكَبَتْ ما جرى من تحَوُّلاتٍ، وعَمِلَت على النظر إلى الشِّعر العربي وفق منظور جديد، ورؤية مغايِرَةٍ، وهو ما انعكس على النص الشعري، الذي أحْدَثَ انقلابات هامة، ليس في مستوى التَّصّوُّر والرُّؤية، بل في جَسَد النص ذاتِه الذي لم يَعُد مُقتَنِعاً بالرؤية البيانية للشِّعر، أو بإيقاعاتهِ، وشَكْلِ كتابته، التي بَقِيَتْ كَثِيرٌ من مَعالمها حاضرةً لدى الرومانسيين، رغم جُرْأَتِهم في التصريح بالتجديد، وفي ممارسة بعض اختراقاته.الذهاب إلى ما ستُسَمِّيه "شعر" بـ "قصيدة النثر"، كان من الاختراقات المُهمة، التي أَحْدَثَتْ جُرْحاً (أستعمل الكلمة هنا بالمفهوم الذي استخدمه فوكو في سياق حديثه عن الجراح التي أحدثها كل من ماركس وفرويد ونيتشه في الثقافة الغربية) ليس في الشِّعر المُعاصر فقط، بل في الثقافة العربية كامِلَةً.

(2)

لم أُدْرِج "الشِّعر الحُرّ"، ضمن ما أوْرَدْتُهُ من أمثلة، رغم أهميته في فتح الطريق أمام ما جاء من تحولات تالية، كون هذه التَّجربة، ظلَّت في مُجْمَلِها، كما يقول الشاعر العراقي فاضل العزاوي، وهو أحد شعراء الستينيات، نوعاً من "المُسَاوَمَة"، أي أنَّها ظلَّت تُراوِحُ الشَّكْلَ القديم، لَم تَبْرَحْهُ، أو ظلَّت تَخُوضَ "القصيدةَ"، وتَكْتُبُها، في أَهَمِّ "أُسُس" بنائها، بتعبير ابن طباطبا العلوي.

هذه الأُسُس، هي ما اعتبرته الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي، عائقاً في وَجْه هذه التجربة، رغم ما أَقْدَمَتْ عليه من تغييرات في بعض ملامح النص القديم.

(3)

مَنْ يعود إلى ماضي الشِّعر العربي، سيَضَعُ يَدَهُ على اختراقات طالت تجارب شِعرية لشُعراء لهم مكانتُهم في هذا الشعر، وقصائدهم ما تزال إلى اليوم شاهدة على هذه الاختراقات، التي لم تجد مَنْ يُنْصِتُ إليها، أو يذهبُ بها إلى أقصى ما يُمكن من التجريب، أو تبريرها نظرياً على الأقل. فالقصيدة "الجاهلية"، كانت هي مَرْجِع ـَ التدوين، وهي مقياس الشِّعْرِيَة، ومعيارُها الذي لا يمكن تجاوُزُه. هذا ما جعل من النصوص التي لا تستجيب لاخْتِلاجات هذا المرجع، لا تحظى بأهمية كبيرة، أو لا تلقى أي اهتمام من النقاد، لهذا تَمَّ طَمْسُها، أو حَجْبُها.

فالنماذج التي اتَّخذها الخليل، كأرضٍ لاسْتِنْبَاطَاتِه الإيقاعية، أو العَروضية، كما هي واردة في "كتاب العَروض" لابن جني، و "العقد الفريد (كتاب الجوهرة)"، لابن عبد ربه، سيلمسُ مدى محدودية المثال، قياساً برحابة المرحلة التي حَصَرَ الخليل داخلها النموذج الإيقاعي للشِّعر العربي، أي لِبُحُورِه، وحتى الشُّعراء الذين اتَّخذهُم حُجَّةً لِسَنِّ قوانينه.

عودتي إلى الماضي، بهذا الشكل المُختَزَل، قصْدِي منه، أن أؤكِّدَ على تلك الرغبة البعيدة التي سَكَنَتِ الشَّاعِرَ منذ القديم، في تغيير الأشياء، وفي ابْتِداع شكل شعري، يستجيب لطبيعة تجربته، وأنَّ "النمط"، كان أقوى من "الأفق"، أو أنَّ النقد، وسلطة الشَّاعِرِيِّينَ الذين خاضوا في النظرية الشِّعرية، كانت أقوى من رغبة الشَّاعر في ابْتِداع نموذجه الخاص.

(4)

هذا الوضع كان سبباً في تأجيل التغيير، وفي استمرار "النمط" الشعري القديم، أعني "القصيدة"، أو النموذج الشعري "الجاهلي"، بما كان يَسْتَتْبِعُهُ من قوانين، لم يكن مسموحاً للشاعر بتجاوُزها، أو تعديل بعض تشريعاتِها، التي صارت تَسْمِيَةً للشِّعْر، وأساساً لمفهومه، كما في التعريف المعروف لقُدامة، ولمن تَدارَكُوا عليه، في فصلهم بين النص الشِّعري، والنص الديني.

(5)

إذا كانت تجربة السياب، وعبد الصبور، وغيرهما، ممن خاضوا الكتابة، وفق رؤيةٍ، جاءت، آنذاك مُغايِرَةً لِما كانَ مأْلُوفاً، وسائِداً، وعمِلَ "رواد" هذه التجربة، على حَلَحَلَةِ بعض ما كانَ يُعتبَرُ أسَاساتٍ، في بناء "القصيدة"، فالشِّعر اليومَ، فتحَ أرَاضٍ، لم يكُن سياق التجريب، يَسْمَحُ بها من قبل، أو لم تَكُن أرضُ الشِّعر، قابِلَة لاستيعابها، أو لِخَوْضِها، بما هو مُتاحٌ اليوم، من استعدادٍ للمغامَرَة، أو الانفتاح على أجناس كِتَابِيَة أخرى، والاستفادة من بعضِ تقنياتها، أو مُكوناتها النصية.

"قصيدة النثر"، مثلاً، خرجت، بدورها عن شكل الكتابة كما ذهب إليه الماغوط، ولم تَعُد بنفس الممارسات النصية التي بها كتب أنسي الحاج، أيضاً، فهي أصبحت ذات أشكال "مُلْتَبِسَة"، حدود التَّجنيس فيها، لم تَعُد بالسهولة التي كانت تَحْدُثُ التجارب السابق، وأصبح، بالتالي، كل نصِّ هو شكلٌ قائم بذاته.

لكن، ما ينبغي الانتباه إليه، في هذا الإطار، هو أنَّ مفهوم "قصيدة النثر"، لم يَعُد قادراً على تمثيل تَحَوُّلات النص الذي يَتَسَمَّى بها. فالمفهوم، كما قلتُ أكثر من مرَّة، يحمِلُ في طياته أنْفاسَ، أو ظلالَ نصٍّ آخر، وتجربة أخرى، وهو كذلك امتداد لتسميةٍ، ما تزالُ تُحيلُ على شَكْلٍ في البناء، هو "القصيدة"، بأحَدِ الأسُسِ الصَّلْبَة لبنائها، أعني شفاهَتَها.

هل الشكل، أو الأشكال التي تذهبُ إليها "قصيدة النثر"، بهذه التَّسْمِيَةِ غير المناسبة، هو شَكْلُ، أو أشْكالُ تعبير شفاهي؟ يَجُرُّني هذا إلى ما يشغلُني نظرياً، وحتى إلى ما أُزَاوِلُهُ نَصِّياً، إلى الحديث عن المفهوم الأوسَع، الذي كان دائماً تعبيراً شاملاً لِمُخْتَلَف المُمارسَات النصية، أو المُقترحات الشعرية، في الماضي، كما في الحاضر، أقصد الشِّعْرَ.

(6)

لا بأسَ أن أَتساءلَ مرَّةً أخرى، عن وضع هذا المفهوم، وعن علاقتهِ بـ "القصيدة"، التي دائماً نربُطُها به، أو نُسَمِّي الشِّعرَ بها. فـ "القصيدةُ"، هي مفردٌ، ليس الشِّعر جَمْعُها. والشِّعرُ، هل يمكن اعتبارهُ جمعاً.. إذا كان كذلك، ما هو مُفردهُ. كما يُمكن التَّساؤُل بصدد علاقة الاشتقاق، بين الشِّعر والقصيدة، وهو سؤالٌ يجعلُنا في حَرَجٍ أمامَ اللُّغاتِ الأخرى. في الفرنسية، والإنجليزية أيضاً، لا لبسَ في علاقة الاشتقاق هذه، وهو ما لا يَحْدُثُ في التَّسْمِيَةِ عندنا. نُسمي النص المُفرَد قصيدةً، والديوان، شعراً، ما العلاقة بين الطرفين..

تُتِحُ لي عَوْدَاتِي المتتالية لماضي الشعر العربي، وللنظريات والنُّقُود التي صاحَبَتْهُ، أو جاءت تاليةً عليه، أن أكتشفَ كثافةَ هذا المفهوم، باعتباره كَثْرَةً وليس جمعاً. فهو، في ماضيه الذي نَسَيْنَاهُ، أو لم نَعُد نُسائِلْهُ، مُكْتَفينَ بأسئلة وقراءات، كانت لها استراتيجياتُها الخاصة، يُخْفِي طبقاتٍ من الأشكال، والمُقترحات الشعرية، التي كانت مَوْجُودة، أو سَعَتْ إلى أن تكون شَكْلاً بديلاً، أو آخرَ، غير ما كان عليه النص الذي اعْتُبِرَ من قِبَلِ (النُّقاد)، خُطاطَةً مِثالية للشعر العربي الذي سيعتبرهُ الجاحظ، غير قابل للترجمة، لأنه تمثيل لخصوصية الذات العربية، ولبيانية اللغة، وفصاحتها.

هذه الأشكال، بما فيها "البيت الواحد"، وما سَيُسَمَّى "المقطع"، أو "النُّتْفَةَ"، أو غيرها، مما ذهبت النظرية الكمية إلى تبريره، أو مُحاولة، تسميته بغير "القصيدة"، كُلُّها، وجَدَت لدى هؤلاء مُسَوِّغات، أبعدتْها عن التِّسْمِيَةِ، وعن الشكل المثالي، لِتَعْتَبِر "القصيدة "، أو "الشعر!"، هكذا، هو ما تجاوزَ عدد أبياته حَدّاً معيناً، وما دون هذا الحد لا صلةَ له بالشِّعر، أو هو ليس قصيدةً. فاعتبار البيت الواحد "قصيدة"، كما هجس بذلك الأخفش، لم يَجِد مَنْ يقبلُهُ، أو يُصغي إليه.

زمنُ التدوين، كان حاسِماً، في تحديد الشكل، وفي تَرْمِيمِ كُل الشقوق التي يُمكنُ أن تكونَ انْشِراحاً، إهمالُها، ربما يُفْضِي، فيما بعد، إلى حَلحَلَةِ أُسًسِ "القصيدة"، وانعكاس هذه الحلحلة على ذات العربي نفسه، وعلى لِسانه، بالمعنى الذي ذهب إليه الجاحظ، في "باب العصا"، بشكل خاص.

لنتذكَّرَ هُنا، أسباب وضع قواعد للعربية، وجمع اللغة بالاقتصار على البّدْوِ الأقْحَاحِ، الذين لم تَمَسَّهم آفَةُ الاختلاط.. اختزال كثافة الشِّعر، وحَصْر مفهومه المُتَكَثِّر، في "القصيدة"، وهي شَكْلٌ من أشكال الشعر، كانت له دوافعُه التي لم يكن للشعر دَخْل فيها، فالتَّسْمِيَةُ، تحملُ في طياتِها، ما ليس شِعْرياً، وتحملُ أبعاد، وإيحاءات، تخرجُ عن السياق الجمالي، والفني للشعر، كممارسةٍ، في النظر للأشياء، هي غير الدين، كما هي غير "الشريعة"،

والشِّعر بالتالي، هو ابْتِداعٌ، وماءٌ يَتَدَفَّقُ باستمرار، وليس قاعدةً، أو قانوناً، به تَرْتَسِمُ حُدودٌ ما، كما في الفقه، أو غيره من العُلوم الأخرى. فما حدث كان إسقاطاً، وسَعْياً لتثبيت الأساسات، وترسيخها، وإلى الحدِّ من انْفِراطاتِ المجاز، والاستعارة، وإلى تأكيد بيانية "القصيدة"، ومرجعيتها، باعتبارها، مصدراً من مصادر اللغة، ومعانيها مطروحةٌ في الطريق، يعرفُها الجميع.

(7)

المفاهيم معالم، كما يُسَمِّي محمد مفتاح أحد كُتُبه، وفي حَصْرِ الشِّعر، في "القصيدة"، ما يكشف عن معالم الطريق، أو "النهج" أو "السبيل" الذي كان "التدوين" يَرْسُمُه، للشريعة، وللشعر معاً، لا فَرْقَ، فالشِّعر هو العربية، وهو ما سَينفي، لا حِقاً، عن أبي تمام معرفته بالعربية، أو انْتِسابه للعرب، كونه، فَتَحَ طريقاً في الشعر، هو غير طريق الشريعة، أي القوانين والقواعد المُتعارف عليها، وهو بهذا خرج عن "عمود الشعر" (لا حظ كلمة عمود، وعلاقتها بالخيمة، ولن أُفْرِطَ إذا أَحَلْتُ ثانيةً على العلاقة بين العمود والعصا، كما عند الجاحظ).

أليس في معنى "القصيدة" ما يُشير إلى الطريق، بمعنى القّصْد. وأيضاً إلى الاستقامة. (انظر لسانَ العرب..) ألَسْنَا هنا، في طبقات هذه التَّسْمِيَةِ التي ما تزالُ سارِيَةً في شِعْرِنَا اليوم، حتى عند

الرافضين للماضي، بصدد هذا الماضي الذي نَسْتَدْعِيهِ، ونَحْتَمِي به، حتى ونحنُ نرفُضُهُ ونُقصيه. أليس هذا نوعاً من القصور في معرفتنا بأهوال "الأساسات" بالمعنى النيتشوي للمفهوم، وبما تَجُرُّهُ علينا، في تَبَنِّينَا لِتَسْمِيَاتٍ، هي من وَضْعِ غيرنا. أليس مَنْ يُسَمِّي، كما يقول هايدغر، هو مَنْ يَتَمَلَّك، وأنَّ التَّسْمِيَةَ تَمَلُّكٌ..

ألسنا بهذا المعنى ملكاً لغيرنا، أعني نحن اليوم، مَنْ نَنْتَسِبُ للحديث والمُعاصِِرِ، رغم أننا، خرجنا، في شكل النص، وفي طُرُق كتابته،

وفي مظاهره الخطية، وحتى في بعض بنياتَه التعبيرية الشفاهيةِ، عن "القصيدة" كَتَسْمِيَةٍ.. فلماذا ما زلنا، بِنَشْوَةِ المُنتصر على الماضي، ندَّعي حداثة شكلٍ، لم نستطع تَسْمِيَتَهُ، وبقِيَت التَّسْمِيَةُ التي نتبناها، آتية من مكانٍ غير شِعْرِيٍّ. لنتأمّل السؤال إذن، فلا مجال للمُكابرة، ولِغَضِّ النظر، علينا أن نَخُوضَ في الأساسات، أن نَرُجَّهَا، حتى لا نُضاعِفَ من مآزق حداثتنا، والتباسات تَسْمِياتِها.

(8)

لعلَّ في ما نُسَمّيه بـ "التحوُّلات العميقة التي مّسَّت الجسد الإبداعي"، هو أمر لا يُمكنُ إنكارُهُ، وخصوصاً لدى الأجيال الجديدة التي ساهمت بشكل كبير في رَجِّ ثوابتَ كثيرة، وأسْهَمَت في طرحِ أسئلة جديدة، في الشعر، كما في الفكر، وفي غيرهما من مجالات الإنتاج الرمزي.

في الشِّعر، ثمَّة قراءات، شرَعَت اليوم، في إعادة النظر في ماضي الشِّعر العربي، هي غير ما كان سائداً ومعروفاً. كما أن الشعر شَرَعَ في تغيير مواقع مرجعياتِه، ولُغاتِها أيضاً. وأصبح النص، في تَنَاصَّاتِه المُختلفة، شديد التعقيد، وطبَقاتُه المرجعية، لم تَعُد بنفس البساطة، أو التركيب الذي كانت عليه. أتحدَّثُ هنا عن الكتابةِ، عن النص الشعري الذي نَزَعَ نحوَ ممارسة الكتابةِ، مُزَاوَلَتِها خطِّياً. الصفْحَةُ أصبحتْ من الدَّوالِّ المُبَنْيِنَةِ للنص. ما يعني أن شفاهية النص الشعري التي لازمتْ "الشعر الحُرّ"، ومازالت حاضرةً في كثير مما يُكْتَبُ اليوم من شعر، وهي من خَوَاصِّ القصيدة، كما جاءتنا من ماضي الشعر، شَرَعت في التَّقَلُّصِ، ولم تَعُد هي الصيغة التعبيرية المُهَيْمِنَة على الكتابة.

يَجُرُّنا هذا إلى الحديث عن مفهوم الإيقاع، وعن التَّحُوُّلات التي عَرَفَتْها مظاهِرُهُ النصية. الوزنُ، أصبح مُكَوِّناً من مُكوِّنات الإيقاع، ليس دالَّ الشعر الأكبر، كما أن الإيقاع، بمفهومه الجديد، وتحديداً بالمفهوم الذي ذهبت إليه الشعرية المُعاصرة، ليس هو دالُّ الشعر، أو ما بهِ يَتَمَيَّزُ الشِّعرُ عن غيره، ثمَّة دوال أخرى، الخيال مثلاً، هي إحدى المُكَوِّنات التي لا يمكنُ للشِّعر أن يحدُثَ دونَها.

هذا التغيير في المواقع التي منها كان يأتي الشِّعر، أو كانت تُعتَبَر هي دَوَالُّهُ المُهيمِنَة، أو الكُبرى، هو ما لم تَنْصَعْ له ذائقة النقاد، خصُوصاً، أولئك الذين كان مرجعُ نظرياتهم، في الشعر وفي النقد معاً، يكتفي بما أُنْجِزَ خلال عقد الستينيات، وفي أقصى الحالات، حين يُوَسِّعُون من أفقِ الرؤية، قليلاً، يَتَقَدَّمُونَ نحو السبعينيات. (انظر الكتاب الأخير لجابر عصفور، والنماذج التي يقدِّمُها باعتبارها شعراً مُعاصراًً).

لا أنفي أهمية هذه النماذج، لكن ما يَحْدُثُ من تحوُّلات اليوم، ومن مُقْتَرَحات، ومن أشكال شعرية، متنوِّعَةٍ، لا يمكنُ التغاضي عنه، أو تجاهُلُهُ.

(9)

النقدُ ليس في مستوى النص. وهذا أمرٌ يَحْدُثُ دائماً، فالنص الشِّعري، أو الإبداعي، كان دائماً، هو مَنْ يَفْتَح الأراضي الجديدة، ويكْتَشِف مجهولاتها، لكن النقد اليوم، بما هو مُتاح من إمكانات معرفية، ومن اتصال بين مُختلف العلوم، لم يعُد مَقبولاً منه أن يبقى أسيرَ تصوُّرات الماضي، أو أسِيرَ رؤيةٍ تَحْكُمُه الثوابت، وليس المُتَغَيِّرات.المفاهيمُ، كما حاوَلتُ أن أُضيءَ بعضَ مُشكلاتِها، تحتاجُ منَّا دائماً، وبشكلٍ متواصِلٍ، إعادةِ قراءتِها، وتفكيكِ ما تَراكَمَ عليها من طبقاتٍ، ومن ظلالٍ، كثيراً ما تكون ذات صلة، بتصوُّرات، غالباً ما نتحّفَّظُ بصددها. وإذا بقيت المفاهيم، والمُصطلحات التي بها نقرأ الخطاب الشعري المُعاصر، هي نفسُها التي نستعملها، دون أن ننظر في ما يجري من مُتَغَيِّراتٍ في هذا الخطاب، قياساً بغيره، فإنَّ قراءتنا، لا مَحالَةَ، ستكون عاجزة عن كشفِ خُصوصيات النص الذي تقرأهُ، أو ستكون، بالأحرى، حَجْباً لهُ، وهذا ما تُعانيه قراءاتُ، بعض من ما زالُوا يقرؤون، سليم بركات، ومحمد بنطلحة، أو محمد السرغيني، ومحمد عفيفي مطر... في ما يكتبُانه، رغم انتمائهما لجيل الستينيات زمنياً، بنفس، المفاهيم، والتصوُّرات التي بها قرؤوا السياب وعبد الصبور، ونازك الملائكة.

المسافَةُ تبدو واضحةً، ومَنْ ما زالَ يعتبرُ "قصيدة التفعيلة"، بهذا المعنى المُشْكِلِ، هي النموذج الشِّعري المُعاصر، فهم يعودون بنا إلى مفهومي "الفحولة"، و "طبقات الشعراء"، كما زاوَلَهُما النقد القديم. النَّظر دائماً إلى الوراء، وكأنَّ لا أَمَامَ لَنا.

(10)

الشِّعريةُ الديناميةُ المفتوحةُ، وليس "الشِّعرية المفتوحة"، هي ما أُسَمِّي به الشِّعر الذي يُكْتَبُ اليومَ. أعني الكتابةَ، بالمفهوم الذي ناقشتُهُ في كتاباتي النظرية، وفي أطروحتي بشكل أوْسَع. في الدينامية، يكون النص قابلاً للحركَة باستمرار. أعني النصَّ القَلِقَ الذي لا يفتأُ يتمَوَّجُ، ويتشظى، دون أن يَعْبَأَ بالثابت أو المُكْتَسَب. في الدينامية، التي هي انتسابٌ، للمعنى المُنْشَرِح الذي يُعطيه يوري تينيانوف للكلمة، يبقى الانفتاحُ مُتَوَثِّباً، يَقِظاً، مُفْعَماً بِحَرَكَتِهِ، ولا يَسْتَكِينُ، أو يَسْتَقرّ، وهذا هو عَطبُ "الشِّعرية المفتوحة"، التي تفتقرُ لِما يَجْعَلُها دائمة اليَقَظة والتَّوَثُّب.

هذا في تصوُّري، هو ما يمنح اليوم الشِّعر، انْتِسَابَهُ لِتَسْمِيَتِهِ، بالمعنى الذي به، جاءتْ من "البِدايات" كما يُسَمِّيها نيتشه، وليس من "الأصل"، الذي هو استقرار، وثباتٌ، ولا يَسْمحُ بما يَلِيهِ، أو يَتَجَاوَزُه، فهو يكتفي بذاتِهِ، أو هو الصوتُ، وما يليه ليس سوى صَدًى لِأَصْوَاتِهِ.

الشِّعرُ، بمعناه، المُتَكَثِّر، المُنْشَرِح، هو الكتابة اليوم، بمعنى تَكْثير الدَّوال، وتوسيعها، وبمعنى حُدوث التباس الأجناس الكتابية في النص الواحد، وأيضاً، بمعنى مُمارسَة النص كتابياً على الصَّفْحَة، ووَضْعِ القاريء في مُواجَهَةِ شَبَكةٍ من الدَّوالِّ، لا يكفي السَّوادُ، أعني الكتابة الخطِّيَةَ وحْدَها، في مُوَاجَهَتِهِ، فالبياض، والفراغات هي أيضاً دوالّ، على القاريء الإنصات لها، وتأمُّلها.

وهذا يُفْضِي بي، في نهاية هذا النص، إلى التساؤل حول القاريء نفسه، هل هو اليوم، بما يَفِدُ عليه من المدرسة، والجامعة، ووسائل الإعلام المُختلفة، من نماذج، تكتفي بنمط شعري مُعين، تَخْتَزِلُ الشَّعرَ في قواعده، وفي شكله، وأعني تحديداً "القصيدة" في شكلها القديم، و "الحُر"، مُؤَهَّلٌ، للتعاطي مع هذه الشِّعرية التي تُغَيِّرُ ماءَها باستمرار، وهذه الدِّينامية المفتوحة، التي لا تُفضي إلاَّ لمَجْهول الشِّعر، ولِأراضيه التي لا تفتأُ طُرُقُها تَتَشَعَّبُ باستمرار، كما هو أمر "الغابة السواء" الي اختار هايدغر أن يُقيمَ في تَشَعُّباتِها، حتى لا يطمئنَ لِكَسَلِ المُسلَّمات.  

شاعر وناقد من المغرب