يكتب الروائي المصري المرموق هنا شهادته، مشاركته المتميزة في ملف أسئلة الكتابة الجدية، ويتقصى فيها حقيقة صنعة الكتابة، وهي عنده صنعة قلق وصنعة صدق جارح معا، فبدونهما لا تطرح الكتابة أسئلتها الحقيقية على الواقع والقارئ معا.

صنعة قلق.. صنعة صدق

محمد ناجى

«الكاذب يثبت على الحق أربعين سنة،
والصادق يتقلّب على الحق أربعين مرة في الليلة».
الإمام الجنيد 

أظن أن الكتابة «صنعة قلق»، وأتذكر دائما قولا جميلا للإمام الجنيد أحد أقطاب الصوفية هو: «الكاذب يثبت على الحق أربعين سنة، والصادق يتقلب على الحق أربعين مرة في الليلة». في اعتقادي أن ما قاله الجنيد عن التأمل الصوفي ينطبق على الكتابة، فهي أيضا «صنعة صدق»، صدق يتأسس على قلق دائم في النظر والشعور والفكر. القلق هو باعث الكتابة، وهو متعتها وغايتها أيضا. ويوم يكف الإنسان عن القلق، لن تكون هناك حاجة حقيقية لكتابة ولا لقراءة. قد يكون القلق هو الحياة نفسها، فالموتى وحدهم لا يَقلقون، والنص الذى لا يقلق هو نص ميت.

الكتابة لا تهدئ قلقي وإنما تثيره وتحفزه، رهاني أن أحلق بالكتابة إلى أعلى ذرى القلق، وأن أقلق قارئي وأجعله يتعثر فيما هو ثابت ومستقر لدية، ليس رغبة فى إثارة فوضى الأفكار والوجدان، وإنما إعادة طرح الأسئلة الإنسانية الأولى، وإعادة فحص الإجابات على ضوء اللحظة الراهنة.

الرواية.. لماذا؟
تتصدر الرواية المشهد الإبداعى على حساب الشعر والمسرح، يحدث ذلك فى الكتابة المصرية والعربية بل والعالمية أيضا. أظن أن مساحة الشعر تضيق لأن الشعر يحتاج إلى قدر كاف من الوضوح العاطفى، وهو أمر نادر الآن وسط بلبلة الأفكار، والتباس الشعارات، وازدواجية المعايير، وعدم استقرار الفرد والجماعة على اتجاهات معرفية وفكرية وأخلاقية وجمالية واضحة. والمسرح يتراجع أيضا، لأنه يرتكز أساسا على الحوار فوق الخشبة، والحوار بين الخشبة والجمهور، والحوار بين نخب الجمهور والمجتمع، لذا فهو يحتاج إلى مجتمع حاضن يتقبل النقاش، وهو أيضا أمر نادر الآن مع تجبّر خطاب الهيمنية الإقتصادية والسياسية عالميا وقطريا.

نحن.. أنا، وآبائى، وأجدادى
نشرت روايتى الأولى (خافية قمر) عام 1994 فى آخر عقد من القرن الماضى، وكتابات نهايات القرون تكون عادة مشحونة بقلق أكبر، إذ تتجدد الأسئلة حول الغايات والمصائر، ويلقى ذلك بظلاله على الأدب والفن. عالم ما بعد الحرب العظمى الثانية استقر على غايات كبري كانت محل اتفاق الشرائح الوسطي في المجتمع، وإن احتدمت بعد ذلك معارك حول تفسير المعاني واختيار السبل. تعددت الاجتهادات، لكن اختيار الحلول كان يتم من بين بدائل هي أيضاً مستقرة، وفق نماذج اعتمدت شرقاً أو غرباً، وولد ذلك بشكل ما استقراراً معرفياً، وإن لم يمنع حدوث صدامات فكرية مدوية أحياناً حول ما هو أخلاقي أو ما هو جمالي. شبّت الرواية المصرية فى حضن ذلك العالم، ولا شك أن نجيب محفوظ كان أهم محطة في تأسيسها، لكنه لم يكن الروائي الوحيد في مصر في أي فترة، كان معه دائما كتاب مهمّون تومض أعمالهم بدرجات متفاوتة على الرغم من حضوره الدائم والمسيطر. كانت أعمال هؤلاء الأجداد تمثل متـنا روائيا تتجانس أساليبه وأشكاله، ويألفه القارئ بشكل عام، وإن تفاوتت المهارات، واختلفت الرؤى، وتعددت دوافع الكتابة، من التسلية إلى التوثيق الاجتماعي، إلى الانتقاد الذي يلامس الخطوط الحمراء ولا يتجاوزها.

لكن أعوام الستينيات حملت معها أسماء أخرى ومضت أعمالها في آفاق مختلفة. أعمال تطمح لتجاوز التيار المستقر في رؤاه وأساليبه، منطلقة من أسئلة أكثر قلقا، ومشبعة بروح أكثر تمردا على السائد سياسيا ومعرفيا وجماليا. وكان لا بد لأعمال هؤلاء أن تفارق في أساليبها وأبنيتها التيار المستقر بقطبيه الكبيرين محفوظ وغانم. وإذا كان التيار المستقر قد تميز بنزعة انتقادية، تفاوتت حدتها من كاتب لآخر، فإن الأعمال الأولى لكتاب الستينيات قد مضت إلى ما هو أبعد من الانتقاد، كان غضبها أكبر، وطموحها أوسع مدى، ولهذا عبرت عن نفسها جماليا بأساليب أكثر مفارقة للذوق السائد والمستقر سياسيا ومعرفيا وأخلاقيا وجماليا.

مثلت بشارات الآباء الستينيين فراقا في الأساليب والأبنية عن الكتابة السائدة، وهددت استقرارها برؤاها المتمردة ومغامراتها الأسلوبية والبنائية. لقد ثبتت وجودها في المتن الروائي المصري بسرعة، وبدا أنها شكلت بالفعل أفقا لكتابة جديدة. ومض نفس البريق المتحدى فى الشعر والمسرح والكاريكاتور، وكل أشكال الإبداع الأدبى والفنى تقريبا. لكن النكسة العسكرية الثقيلة عام 1967 كرّست أجواء أخرى، وفرضت إحساسا مختلفا بالزمن ما لبث أن ألقى ظله على الكتابة، وحسم مصائر وأساليب ورؤى بطريقة لم يكن من السهل توقعها قبل ذلك. كان الوضع عقب النكسة يتطلب ترميم القلاع بسرعة أكثر مما يتطلب هدمها وإعادة بنائها، فوقت المواجهة لا يتسع، ويتطلب لغة مألوفة سهلة وخطابا يستوعبه القارئ بسرعة. عزز ذلك سياسيا منهج تصحيح الأخطاء وفقا لقاعدة "الصواب والخطأ"، وعزز ذلك بالتالي الكتابة الانتقادية ـ المحفوظية ـ في مواجهة الكتابة المحملة بسخط ثوري.

بالتدريج وبدرجات متفاوتة هدأت مغامرات الكتابات الأولى للستينيين، ومضى بعض كتابها في مسارات مختلفة، بل وبدا محفوظ أحيانا أكثر تمردا وانقلابا على نفسه كما نرى في «الحرافيش» و «ليالي ألف ليلة».

انتهى ذلك العالم المستقر مع نهايات القرن، تداعت كيانات كبري بما تحمله من أيديولوجيات وأنساق معرفية وانحيازات جمالية وأخلاقية، وهيمنت على العالم قوى تحاول صياغته وفقا لمصالح الشركات العملاقة. اختلطت الأوراق وانتكست شعارات الحرية والديمقراطية والإخاء الإنساني، أصبحت مجرد أوراق فى لعبة الإعلام والمصالح.

رواية اليوم ـ وسط هذا المشهد الجديد ـ تنطلق من أسئلة أكثر قلقاً، ومشبعة بروح أكثر تمرداً علي السائد، سياسياً ومعرفياً وأخلاقياً وجمالياً، ولابد لها أن تفارق في أساليبها وأبنيتها ورؤاها رواية القرن الماضى.

برز فى الكتابة منذ التسعينيات إحساس مختلف بالزمن والفرد والجماعة والتاريخ واللغة، وتعاملٌ خاص مع لغة الحوار وبنية السرد، وإحساسٌ أكثر قلقا بالمستقبل. ربما كان القلق الذي فجَّر بروق الستينيات يومض الآن في آفاق الكتابة، لكنه لا يطرح الأسئلة نفسها، وبيض الأفاعي الذي حملته كتابات ستينية بدأ يفقس في كتابات نهاية القرن، لكن جلود الأفاعي الجديدة تكتسي ألوانا أخرى متقلبة، هي ألوان قرن جديد لم تستقر معالمه بعد. أظن أن رواياتى تأتى فى إطار كتابات "نهاية القرن"، مع تحفظى الكامل على تعبير «الأجيال» الشائع الذي ينسب الرواية لعمر كاتبها، وليس إلى خصائص الكتابة نفسها معرفيا وجماليا، وتتداوله الصحافة الثقافية بما يشبه قيد المواليد في سجلات مكاتب الصحة.

التكوين
ينشغل الصحافيون بالبحث عن مكونات الكاتب ودوافع الكتابة، ويقصرون ذالك غالبا على فترة النشأة والطفولة، وأظن أن التكوين بالنسبة لكاتب ليس مرحلة تتم وتنتهي، بل هو عملية مستمرة، ولا تقتصر أبدا على المراحل المبكرة من حياته. الإضافة الأحدث هي الأهم والأكثر تأثيرا على المستوى المعرفي والعاطفي، لأنها تعيد تشكيل ما سبقها فى الذاكرة، ولنتذكر أن رحلة طه حسين الباريسية أثرت على كتاباته أكثر مما أثر عليه فقدان بصره فى طفولته.

منهج الدراسات، النفسية والفرويدية بالتحديد، الذي يعطى اهتماما مطلقا للخبرات المبكرة قاد الدراسات والكتابات الأدبية ـ أحيانا ـ إلى مساحات فارغة. هذا المنهج يعطى اهتماما لكل ما هو أقرب للنسيان، بل ويعطى النسيان ـ اللاوعى ـ الدرجة الأولى من اهتمامه باعتباره أهم دوافع السلوك والتفكير، وهو منهج قد يصلح لبحث حالات مرضية تنطوى على خلل في الوعى والإرادة، لكنه لا يصلح لتفسير دوافع وحالات الكتابة التي تعتمد في الأساس على وعي متجدد لإرادة متحفزة. الكتابة تعبير عن صحة نفسية، لا عن عطب نفسي.

حين أفكر فيما يخصنى أرى أن خبراتى المتأخرة تعيد باستمرار تشكيل وعيى بما سبقها، فتأثير خدمتى العسكرية بين عامى 1969 و 1974 يفوق بكثير تأثير خبرات الطفولة، وآخر دمعة أو ابتسامة لى أعادت بدورها تشكيل كل ما قبلها فى الذاكرة. الكتابة هى حالة انتباه دائمة، هى كل هذا العذاب.

التراث
لو سلمنا بأن "الإنسان حيوان ذو ذاكرة»، فإن التراث الشعبي جزء مهم وأصيل من هذه الذاكرة، هو الوجه الآخر للتاريخ الرسمي والتراث المدون، هو تاريخ ما أهمل التاريخ من مشاعر الناس وأحلامهم ومواقفهم وأسئلتهم المعلقة. أدرك أن هذه النصوص ابنة أزمنة أخرى، ونتاج معرفة مختلفة، مثلها في ذلك مثل التراث الرسمي المدون، وأن اجترارها وإعادة إنتاجها هو نوع من السفه الفكري، وتكريس للماضي على حساب المستقبل. لكنني لا أنكر ولعي بتأمل الأساليب والأشكال المطروحة في النصوص الشعبية، ففيها إيضاحات هائلة للتكوين النفسي للإنسان المصري، ولتصوراته عن الكون والحكام والغايات وأحكام الزمان، لهذا أحرص علي الأطلاع علي كل سطر مروي أو مدون من هذا التراث، حتي أستكمل الذاكرة، وأمتلك مفاتيح وجدان شعبي. فى هذه النصوص أيضا بدائل جمالية بكر وملهمة، وليس هذا تعاليا على الإنجاز الروائي الغربى العظيم، ولكنه التفات إلى عبقرية خاصة متراكمة في الإبداع الشعبي باعتباره رافدا من الممكن أن يغذي الإبداع الروائي العالمي بمذاق جديد.

الخيال
الخيال عملية عقلية في الأساس، فهو محصلة لتفاعل الوعي والمشاعر مع الواقع. وهو أيضا يرتب لنا الأولويات، فخيالنا لا يسرح إلا مع مايهمنا أكثر، وأقصد هنا الخيال المبدع وليس الخيال الناتج عن خلل عقلى. الخيال ليس ترفا عبثيا، وإنما ضرورة إنسانية للابتكار والاختراع والتغيير، إنه يسبق كل تلك العمليات ولو بلحظة. وهو قوة تحركنا علي الدوام، فنحن لا نسعي إلي شئ إلا إذا تخيلنا فائدة تحقيقه أو الحصول عليه، الخيال يحفزنا للحصول علي الشئ عبر خلق إمكانات تحقق ذلك، وكلما زاد شطح الخيال اتسعت الآفاق وتوثبت الهمم لتحقيق ما تتخيله.

والعالم الروائي ـ الخيالى ـ في النهاية هو انعكاس لعالم أكبر موجود في الزمان والمكان الذي يعيشه الكاتب، ولا توجد مصادر أخرى للإبداع سوى ما تطوله أيدينا، وما نراه وما نسمعه، وما نحس به. خيال الروائي أشبه ما يكون بطائر يحلق بعيدا لكن لون ريشه مصبوغ بألوان الواقع، دموي وترابي وكئيب ولا يخلو من ريشة زاهية، إنه يحمل ألوان الواقع كما هي. الخيال الابداعى لا يبعدنا عن حديث الواقع، وإنما قد يجعلنا أكثر قدرة على مقاربته بشكل ما، وأتذكر فى هذا المقام تفسير الدكتورة نبيلة ابراهيم لتيمة "أمنا الغولة" المتكررة فى الحواديت، فهذه الغولة هى "أمنا مصر" التى تخيفنا بسطوتها وسلطتها، لكننا نناديها "أمنا"، ونحتمي بها من الأشرار عند الحاجة.

أظن أن ثمة مؤامرة علي الخيال المصري قطباها تردي الأوضاع المعيشية وانعدام الفاعلية الثقافية والسياسية.

اللغة
اللغة إحدى اشكاليات الكتابة عندى، والعربية بالذات متخمة بالمشاكل وأبرزها على الإطلاق ذلك التباعد بين لغة الحياة ولغة الكتابة. فى تأملى للمسألة أرى ثلاثة أنساق للغة، لغة المعاجم، ولغة التراث، ولغة الحياة.

لغة التراث ـ حاملة النصوص ـ لغة حية تختزن في نصوصها نبض الحياة في زمن ما، ولغة الحياة التي تخرج من أفواه الناس هي نفس هذه اللغة الحية لكن في تطورها الدلالي والصوتي في اللحظة الراهنة. أما لغة المعاجم فهي محنطة، إنها خارج النصوص التي حملت نبض الحياة يوما، وخارج لغة الحياة التي تمشي على الأرض الآن. هي هياكل محنطة للغة، تحفظ شكلها العام، وتصون أجروميتها من الضياع، وبالتالي فهي تهم الباحثين أكثر مما تهم الكتّاب. اللغة تتجدد مثل كل كائن حي، لأنها أداة تعبير الإنسان سيد الأحياء عن نفسه، ولا بد أن تحمل نبض تغيراته. الإنسان نفسه يتجدد وتتغير خلاياه باستمرار، بحيث أن خلاياه اليوم ليست نفسها التي كانت تكسوه قبل عشرين عاما. ورغم هذا التغير إلا إن الشكل يظل هو هو تقريبا، هذا الشكل أو الهيكل العام العظمي للإنسان هو ما يوازي لغة المعاجم.

فيما يخصني، أهتم برصد تطور لغة الحياة، وأعطي نفسي متعة تأمل تغير الدلالات والشفرات المعرفية المختزنة في المفردات، واستخدم بلا تردد التراكيب التى أضافها "لسان الحياة" مع حرصي الكامل على أجرومية اللغة، وفى «مقامات عربية» كان اهتمامي بهذا الأمر أكبر وأكثر إفصاحا. الحفاظ على صفاء اللغة لا يمكن أن يعنى تصفية دمها ولا قص لسانها الحى، وإنما يفرض على الكاتب أن ينهل من لغة الحياة ليثرى قاموس الكتابة.

المشهد
المشهد الإبداعي دائما جزء من مشهد عام، هو نسق ضمن أنساق أخرى. ويبدو المشهد العام أحيانا رتيبا وساكنا بفعل مصالح مسيطرة تمتلك آلية فاعلة قادرة على تهميش وإهمال ما لا تريد في كل الأنساق ومنها الثقافي والإبداعي. لكن داخل هذا المشهد العام توجد على الدوام مساحة مكتومة تمور في داخلها عوامل التغيير والضغط، ولا بد أن تنفجر في لحظة ما لتعيد تشكيل القشرة الخارجية لهذا المشهد. تتمدد هذه المساحة المكتومة في كل البني ابتداء من السياسي والاقتصادي مرورا بالثقافي والفني. في هذه المساحة مفكرون وكتاب وفنانون قد لا تلاحظهم العين المتسرعة في نظرتها للمشهد الثقافي العمومي، لكنهم موجودون وتتسع الأرض التي يحتلونها يوما بعد يوم.

أسئلة.. أجوبة
ينتظر القارئ أحيانا موعظة ما، ويتوقع أن يجد بطلا إيجابيا، بالمعنى القاموسى لا الدرامى للبطولة، يملك نظرية تجيب على التساؤلات، وفعلا جسورا يشكل قدوة ومثالا. سئلت كثيرا: "دائما تثير رواياتك أسئلة، فلماذا لا تقدم الحلول؟". اعترف أن السؤال يحرجنى، وأود أن أقول لكل من سألونى: أسمحوا لى أن أدعى أننى أعرف الأسئلة الصعبة فى الإمتحان، ولا أملك غير أن أسرِّبها إليكم لتستعدوا للموقف الصعب. أعرف الأسئلة العشرة، لا الوصايا العشر، أحملها معكم على كتفى، أما الإجابات فهى عند أهلها، الدين والعلم والإقتصاد والمجتمع كل عند أهله، فتعالوا نسألهم لنجبرهم على الأقل على التفكير فيما يشغلنا.

ما رأيكم فى هذه الخدعة؟

*   *   *

الرواية شراكة بين كاتبها والقارئ، "فالفعلان قرأ" و "كتب" متلازمان ولا تكتمل عملية منهما بدون الأخرى.

يتكرر هذا المعنى على ألسنة أبطال رواياتى.

فى رواية (الأفندى) تقول نازك: "كل كلام يلزمه اثنان، لسان يقول وأذن تسمع أما كلام الانسان مع نفسه فهو خيال كلام"،

في (العايقة بنت الزين) يقول سمعان البصير: "المسمع الحلو زينة الكلام"، ويقول أيضا لصديقه: "قلت هذا الكلام مئات المرات، ولم أسمع الحكمة التى تسمعها فيها، ربما أفهمها معك الآن، أقول واسمعنى".

في رواية (لحن الصباح) يقول فانوس: "ليس المهم من يحكي، إنما المهم من يسمع".

*   *   *

أحيانا يخلط القارئ بين ما تقوله شخصيات النص الروائى وبين الكاتب، غير مدرك أن الروائى ليس وصيا عليه، ولا حتى على الشخصيات التى يكتبها بقلمه. أنه يعطينى سلطة لا أريدها، أكره الدكتاتورية بشكل عام، ولا أجبر شخصياتى على تصرف أو قول لا يناسبها ويتجاوز حدودها.

أظن أن علي الكاتب أن يعي دوافع شخصياته، أن يقنع القارئ بوجودها ويشرح ظروفها دون تجريح لإنسانيتها، وذلك لا يعني مطلقاً أنه يتبنى مواقفها وكلامها. كتابة الشخصيات تنطوى على فصام من نوع ما، لكنه فصام حميد. صحيح أن تلك الشخصيات تنبع من مخيلتى وأكتبها بقلمى، لكنها شخصيات مستقلة وقوية، يتصرف كل منها حسب تكوينه وظروفه ودوافعه وثقافتة، وهى تحاورنى بندية أثناء الكتابة، وتشتغلنى كما أشتغلها.

شخصياتى تتفاعل معى وتعيد ابتكارى. طموحى أنا أن أعيد ابتكار قارئى. 

روائى مصرى
mohammednagy@hotmail.com