القصة النسائية المغربية: اشتغال الجسد والذاكرة

إبراهيم أولحيان

(1)

لعل انخراطنا في الاهتمام بالسرد القصصي النسائي، وعزله عن السرد الذي ينتجه الرجل، لا يدخل في إطار اختزالي، تنقيصي، يرى إلى التفوق الذكوري الذي يمارس وصايته على ما تنتجه المرأة إبداعيا، بل نروم من ذلك التركيز على تلك الخصوصية التي ينفرد بها إبداع المرأة على مستوى الرؤية والتصور، الناتجة عن تاريخها ووضعيتها في مجتمع ذكوري مازال يؤمن ـ رغم كثير من التحولات التي عرفها المجتمع المغربي على مستوى الخطاب والواقع أيضا ـ بالتفوق الذكوري وسلطته.. ولهذه الازدواجية التي تعيشها المرأة في الواقع، وما يتربص بداخلها من رواسب تاريخها، ومعيش واقعها، ومأمولها، هو ما حدى بأن تكون كتابتها مختلفة، وذات تمايز لما يكتبه الرجل، فـ"بحكم تكوينها الفيزيقي ووضعيتها الاجتماعية وإرثها التاريخي، تتوفر على عناصر من شأنها أن تخصص تجربتها الحياتية وأن تميز كتابتها الإبداعية وسط طرائق واتجاهات مشتركة بينها وبين الرجل".

فالمرأة حين تبدع تنطلق من هذا الإرث، وهي تمارس فعل الحفر في ذاكرتها وجسدها لتستنطق ذاتها، ولتعيد لها الاعتبار، وتخرجها من العتمة التي تلفها، وبذلك تستعيد صوتها بالبوح والاحتجاج ورؤيتها لذاتها بشكل مغاير، ورغم أن كتابتها تكون ذاتية ف"الذاتية ـ كما يؤكد ذلك كريزنسكي ـ صوت ولكنها أداة نسرب من خلالها كل ما ينتمي للجماعي"، وبذلك فهي تمارس نوعا من الفضح، وهي تكشف عن الزيف والأوهام والتناقض الذي نعيشه في مجتمعنا كل يوم ـ الآن وهنا ـ وتكشف أيضا عن ما وراء الخطابات الإيديولوجية التعميمة المحرفة لكثير من الحقائق، والمضيعة لهويتها، ولما يمكن أن يساعدها على تحقق تحررها.. لذلك فأفق كتابتها ينشد المغايرة بالتركيز على ذاتيتها، وعلى استعداد ما تم تهميشه ونسيانه في كتابة الرجل، وعلى فضح ما عبر عنه هذا الأخير من وجهة نظره الخاصة المكرسة لعقلية ذكورية تمارس سلطتها التفوقية المهيمنة.. وبذلك تضعنا جميعا أمام كتابة مختلفة تعيش قلقها الخاص وهي تؤسس لصورة المرأة الأخرى المأمولة التي استطاعت المرأة أن تحققها عبر كتابة تخييلية، من داخل هواجس إبداعية حافلة بالتميز والتنوع.

وللكشف عن هوية المرأة وصراعها من أجل تحويل كثير من التصورات، وإبدال مفاهيم كثيرة مرتبطة بوجودها وكيانها، كان لجوؤنا إلى النص التخييلي ـ القصة القصيرة ـ للقبض على ذلك التحول في مجراه الحقيقي، لأنه ينقل بنوع من التعقيد تلك المساحة الشاسعة من حياة المرأة في الواقع، حيث يشتبك الواقعي بالاستيهامي، المعيش بالمحلوم، الكائن بالممكن، ويجسد ذلك «الوعي القائم» و «الوعي الممكن»، في لغة مجازية استعارية تشتغل ضمن نسق حكائي له إرغاماته وتخومه، ويتميز، أيضا، بخصوصية الانفتاح على تعدد القراءات والتأويلات، وذلك ما يفرض على كل مقاربة أن تعي كل هذه التعالقات المرتبطة بما هو نصي، وجنسي، (الجنس الأدبي)، ولغوي (اللغة التخييلية)، وذاتي (ذاتية المبدع التي عبرها تتسرب أشياء مهمة)، فعبر هذا التصور تتمكن القراءة النقدية من اجتراح مسلك لدراسة نص المرأة من داخل بيتها الإبداعي، لأنه تسكنه أسرار كينونتها، وعبره يمكن الكشف عن تلك الخصوصية التي يتميز بها نصها، وتعرية لذلك الوهم والزيف المسجل في تاريخها الشخصي، لأن لغة الإبداع هي الوحيدة ـ في نظرنا ـ القادرة على احتواء الكائن الإنساني في "حقيقته"، وعلى امتصاص علاقاته المعقدة مع العالم..

(2)

عرفت الساحة الثقافية المغربية، في الآونة الأخيرة، انتشارا ملحوظا لصوت المرأة المبدعة، من خلال ما تكتبه في جل الأجناس الأدبية: الشعر، القصة، الرواية... وقد كان اهتمامها منصبا على الخصوص، على الشعر والقصة القصيرة، حيث نجد إنتاجهما وافرا بالمقارنة مع الرواية، وأما فيما يخص القصة القصيرة فإن التسعينات من القرن الماضي، والسنوات الأولى من القرن الحالي عرفت نشاطا فيما يخص انتشار المجاميع القصصية التي توقعها أصوات نسائية لها حضور في المنابر الثقافية المتعددة. ولقد استطاعت هذه الأصوات المتميزة أن تؤكد وجودها من خلال ممارستها لفعل الكتابة الإبداعية من منطلق الوعي بخصوصية جنس القصة القصيرة الملتبس، الشديد الخصوصية، ذي التخوم الغامضة. المتماسة مع أجناس أدبية أخرى، مما يستلزم كثيرا من الحذر والحيطة.. وهذا الوعي بهذه الخصوصية ساهم في إنتاج نصوص قصصية نسائية متميزة، سواء على مستوى البناء واللغة والسرد. أو على مستوى خصوبة وعيها ومتخيلها السردي.

ومن المعلوم أن القصة النسائية المغربية نشأت مع قاصات ما قبل الاستقلال، ونعني بذلك، على الخصوص، مليكة الفاسي التي نشرت قصة قصيرة بعنوان "ذكريات دار فقيهة" بملحق المغرب الثقافي سنة 1938، وبعد ذلك قصة «الضحية» بـ "الثقافة المغربية" سنة 1941، وآمنة اللوه التي نشرت قصة بعنوان «الملكة خناتة» في مجلة «جوائز المغرب ومرويكوس للآداب» بتطوان سنة 1954. إلا أن البداية الحقيقية للقصة النسائية المغربية، كانت في مرحلة ما بعد الاستقلال، وخصوصا في أواسط الستينيات، وهي ما يسمى على مستوى الكتابة، بمرحلة التجنيس، مع خناتة بنونة التي نشرت سنة 1967 مجموعتها القصصية بعنوان «ليسقط الصمت»، ورفيقة الطبيعة (زينب فهمي) التي نشرت مجموعتها أيضا سنة 1967 بعنوان «رجل وامرأة». إلا أن هذه الأخيرة انسحبت من ميدان الكتابة بعد نشرها لمجموعتين قصصيتين أخرتين. وبقي صوت خناتة بنونة صامدا، حيث استمرت كتابتها في القصة القصيرة والرواية، وكانت الصوت النسائي المغربي الوحيد المسموع على مدار أكثر من عشر سنوات.

أما في مرحلة التسعينيات من القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة فقد عرفت الكتابة القصصية النسائية ظهور عدد من الكاتبات في الإبداع القصصي، وبمجموعات قصصية نذكر منهن: لطيفة باقا، ربيعة ريحان، مليكة نجيب، رجاء الطالبي، لطيفة لبصير، مليكة مستظرف، فاطمة بوزيان، وفاء ملح، زهرة رميج، رشيدة عدناوي، فدوى مساط، ليلى الشافعي، نجاة السرار، ليلى الدردوري، عائشة موقيظ، حنان الدرقاوي، سعاد الرغاي، زهرة الزيراوي، آمنة الشرقي حصري الخ. كتابتهن تنتمي، فعلا إلى القصة المغربية الجديدة، ويمكن أن نستعين بنص للأستاذ أحمد بوزفور ـ مع بعض التصرف ـ حول ما تعنيه صفة «الجديدة» في القصة المغربية، يقول: «إنها إذن نصوص جديدة».

جديدة الزمان بحكم انتمائها إلى أواخر التسعينيات ( )

جديدة الموضوعات والأساليب، لأنها لا تتحدث عن الكفاح الوطني بأسلوب رومانسي كما كانت القصة المغربية تفعل قبل الاستقلال، ولا حتى تطرح القضايا من منظور بيداغوجي وبأسلوب واقعي كما كانت القصة المغربية تفعل بعيد الاستقلال، ولا حتى تطرح همومها الروحية بأساليب رموزية أو عجائبية من النوع الذي مارسه بعض الكتاب منذ السبعينيات.

إنها نصوص تسخر من الإيديولوجية، وتتجاهل الروح، لتهتم بالجسد أساسا: (تفتته، تضاعفه، تسخر من قصوره) وبالأشياء الصغيرة المحيطة به والمؤثتة لفضاءاته".

هكذا يمكن أن نؤكد أن النص القصصي النسائي، هو أيضا، معني بهذا التحول بحيث أنه:

ـ يبتعد عن الإيديولوجيا.
ـ يهتم بالجسد.
ـ يحتفي بالأشياء الصغيرة والبسيطة.
ـ يعتمد الحكاية ولا يبددها.

إلا أن هذا التحول، لا يمكن أن يعني، بأي شكل من الأشكال، القطيعة مع الإرث القصصي النسائي السابق، بل هناك نوعا من الاستمرارية، وهو ما يؤشر على دينامية نصية، الشيء الذي يعني أن هناك حركية وتغيرا وتطورا، ولهذا فقد نجد مجموعة من الموضوعات التي استمر التطرق إليها في النصوص الجديدة، وخصوصا مسألة علاقة المرأة بالرجل، وعلاقة المرأة بالعالم، وإن استطاعت القاصة أن تنوع، وأن تتناول الموضوع بطرائق مختلفة، فإنها بقيت حبيسة الإحساس بالخيبة والإحباط واللاجدوى، مما أدى إلى استمرار الحوار الداخلي، وتوظيف الأحلام بشكل مكثف، باعتبارهما تقنيتان لتجسيد المأمول، والمرغوب فيه، وفي الوقت نفسه، هي تعبير عن الرفض للواقع، وابتعاد عن مأساويته..

(3)

لقد ولجنا عالم المرأة التخييلي من موقع يعد استراتيجيا في كتابتها بشكل عام، وهو الجسد، والجسد الأنثوي على الخصوص، وكيف تمثلته مجموعة من النصوص القصصية النسائية المغربية، أي كيف تجسد نصيا في كتابات المرأة، التي أصبحت في الآونة الأخيرة توليه كبير عناية، وذلك راجع إلى الرواج الذي يعرفه جسد المرأة في العالم اليوم، وإلى تلك النظرة الأحادية التي تم اختزاله فيها، جسد المتعة واللذة، بل واختزال الأنوثة في هذا الأمر لا غير، وهذه الرؤية هي وليدة تاريخ من التهميش عرفته المرأة، وتجسد أيضا في كتابة الرجل ـ وأحيانا في كتابة المرأة أيضا ـ ولذلك أنتجت المرأة نصوصا إبداعية، تحاول فيها رد الاعتبار لحقيقة تم تزييفها، ولتؤكد «أنه ليس كل ما كتبه الرجال عن المرأة يعكس المرأة حقا، هو يعكس صورة المرأة التي شكلها خيال الرجل الكاتب ( ) وأن هناك تغييبا ( ) للصورة الحقيقية». هكذا فالمرأة حين تكتب تنطلق من جسدها، لتصحيح الصورة ولوضعها في إطارها الحقيقي، ولكن لا مناص من تشوش هذه الصورة، بفعل الاضطراب الذي تعرفه المرأة في واقعها المعيش، في علاقتها بالخطابات المنتجة حولها، وهو تمزق تعيشه يوميا بسبب التحول الذي يعرفه مغرب اليوم، والمسافة التي تفصل سرعة التحول على مستوى الخطاب، وبطؤه على مستوى الواقع

ولعل النص الإبداعي التخييلي هو القادر على إعطائنا صورة لتمثلات الجسد الأنثوي عند المرأة، لأن عبره تستطيع أن تبوح بنوع من الحرية بأشياء كثيرة، وتفشي أسرارا، وتطلق العنان لأحاسيسها المخبوءة، وتكشف عن الغامض فيها في إطار حركية إبداعية تعتمد الامتلاءات والفراغات، الظهور والاختفاء، الشعور واللاشعور، وبذلك أكد رولان بارط على «أننا عبر صورة الجسد هشون وقابلون للعطب ( ) وهشاشة الجسد البشري، لا يقدر على إبرازه بجدارة إلا الأدب»، لأن الصمت الذي يلف الجسد الأنثوي سميك، ولا تستطيع أن تستنطقه أي لغة، إلا لغة الإبداع والتخييل.. ولتحقيق ذلك كان اشتغالنا على ثلاثة مجموعات قصصية صدرت في بداية الألفية الثالثة، ولعلها مرحلة دالة في تاريخ المغرب، لما عرفته من تحولات على جميع المستويات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية وهو ما دفعنا لاعتماد نصوص هذه المرحلة بالضبط، لنجلي التحول الذي عرفته القصة النسائية على مستوى الرؤية الموجهة لتفاصيل السرد، حيث هناك نوع من الانتقال التدريجي إلى تلك الأشياء الصغرى، والابتعاد عن القضايا الكبرى، مما أوقع المرأة في ملتقى القضايا وهو الاهتمام بالجسد، وتبئيره في كتاباتها، خصوصا في إطار علاقة المرأة بالرجل، وهو ما أثار اهتمامنا وجعلنا نركز عليه في المجاميع القصصية التالية:

«أنين الماء» الزهرة رميج (2003)
«رغبة فقط» لطيفة لبصير (2003)
«اعترافات رجل وقح» وفاء ملح (2004).

في هذه المجاميع الثلاثة نجد احتفاء خاصا بالمرأة من خلال تكثيف السرد حول جسدها، وتركيزها على العلاقات المعقدة والمتشابكة التي تربطه بالعالم وبالآخر.. وما الجسد الأنثوي إلا نافذة نطل منها على عالم المرأة، وطريقة تفكيرها، ونوعية العلاقة التي تربطها بالآخر الذي يسكنها في يقظتها، وفي أحلامها، وفي وعيها ولا وعيها، هذا الآخر الذي لا ينكشف إلا في مرآة جسدها، لذلك كان الجسد محور جل نصوص هذه المجاميع، الجسد الأنثوي بكل تفاصيله المرئية واللامرئية، تكشف تلك الجراح السرية التي تؤثت تفاصيل السرد الأنثوي، عبر أوهام وأحلام شخصيات النصوص القصصية، التي تنبثق من نفس الأجواء، وكأن الشخصية نفسها تنتقل من نص إلى آخر، دون أن تحدث أي وقع بالتغيير، حيث تخالها شخصية واحدة تعيش كل هذه الحكايات، ولذلك دلالاته، وبذلك تقودنا النصوص إلى الكشف عن تمفصلات العلاقة التي تربط المرأة بالرجل في عالم يتأسس على التفاضل واللاتكافؤ، وانهيار القيم، الشيء الذي يجعل المرأة تعيش نوعا من التشظي والتمزق على مستوى وجودها، مما ينعكس سلبا على ممارساتها وعلاقاتها سواء مع ذاتها أو مع الآخر.

وإذا كانت هذه المجاميع الثلاثة تلتقي عند مجموعة من النقط، فإن كل واحدة تركز على جانب، وتقوم بتبئيره، إلا أن نقطة الانطلاق هي علاقة الرجل بالمرأة عبر مرآة الجسد، والجسد الأنثوي على الخصوص..

وما جعلنا نركز على الجسد، هو الحضور القوي لهذه الموضوعة وتكرارها في النصوص، فإذا نظرنا إلى الجسد في شكله الفيزيقي، فإننا نجد أن أعضاء الجسد ترد بكثرة في القصص، بالإضافة إلى كلمة «جسد» التي نجد تواترها في القصص، وهذا كله كان يؤثث تلك المقاطع الدالة، التي تكون ركيزة متخيل الحكي، وتشكل المحور الذي من خلاله تترابط عناصر النص الحكائي. هكذا نجد في مجموعة «أنين الماء» أن العنوان يحيل مباشرة على الجسد، فالأنين هو صوت يعبر عن الألم الذي يصيب الجسد، أما الماء فله هنا رمزية المرأة، ولكن ليس أي امرأة، بل تلك الطاهرة، النقية العفيفة هكذا يدل مكون العنوان على الجسد الأنثوي الذي يعيش حالة عذاب، لأنه جسد يئن ويتألم، وبذلك نتوصل إلى ملامسة مجموعة من الأجساد: الجسد المغتصب، والجسد المخدوع، والجسد المقهور، ونحس أن القصص نُسجت بكلمات حادة وعنيفة، حيث اعتبرت الجسد الأنثوي وليمة للرجل، يفعل به ما يشاء خارج إرادة المرأة، فنعتته بالحيوان، جاء في إحدى النصوص «قد يكون قردا من نوع الشمبنزي»، وبذلك يكون الجسد الأنثوي ملكا للرجل، دون اهتمام بأحاسيس المرأة، وبرغباتها، فهي في خدمة الرجل الذي يقاسمها نفس المكان، لكنه يفكر في مكان آخر، في جسد آخر، فهي تقابل في النصوص تلك الدمية التي يمارس عليها الرجل استيهاماته، فهو دائما موجود مع جسد آخر لم يصل إليه.. لذلك نجد الجسد الأنثوي في بعض نصوص مجموعة «أنين الماء» تعيش نوعا من التحليق عبر الحلم وحلم اليقظة، بعيدا عن الأرض التي يعيش فيها نوعا من القهر والقمع، حيث ينتهك، ويختزل إلى المتعة واللذة، والنص التخييلي هنا يرد له الاعتبار بجعله يتعالى على هذا الواقع بفضحه وتعريته، ولم يعثر على كينونته إلا في الهروب إلى الأعالي.. إلى أمكنة أخرى خيالية بحثا عن المفقود والضائع.

أما مجموعة «رغبة فقط»، فتقحمنا في متاهة أخرى للجسد، حين تغوص في أعماقه لتلمس ذلك الشرخ الذي يسكن الأنثى في علاقتها مع ذاتها ومع الآخر، فمن خلال العنوان كعتبة اعتمدناها لفتح آفاق للقراءة، نرى أن الجسد موجود، فالرغبة مرتبطة بشكل صميمي بالجسد، فـ «بالرغبة يتحين الجسد، يهتز، ويدرك نفسه باعتباره نبضا حيا»، والرغبة في نصوص لطيفة لبصير مرتبطة بالجسد الأنثوي، وهي رغبة لا غير، بمعنى أنها تبقى رغبة ولا تستطيع أن تصل إلى التحقق.. وبين الذات والموضوع هناك عوائق تحول دون اكتمال الرغبة، وهو ما يجعل الذات تعيش نوعا من التمزق وازدواجية في الهوية، تؤثر بشكل سلبي على العلاقات في نصوص «رغبة فقط»، فهي فعلا تقف عند حدود الرغبة دون أن تتجاوزها، وهي بؤرة تأزم الشخصية الأنثوية، لأنها تعيش كبتا في الواقع عبر مجموعة من الأفعال، مما يجعلها تعوضها على مستوى الرغبات، دون أن يتحقق أي شيء على مستوى الممارسة الفعلية، وبذلك تكون «الرغبة هي هذه الكثافة الشعورية المشحونة بالصور والأشكال والاستيهامات والتمثلات والمشاريع»، فكل المشاريع التي يتم التخطيط لها تبوء بالفشل، ويؤثث فضاء هذه الأجساد جو مشحون بالحزن والكآبة، وعدم الرضى بالكائن، وبالموجود كما هو موجود، مما يخلق مسافة بين هذا الكائن الأنثوي (المرأة) وجسده وبينه وبين الآخر..

إن الشخصيات النسائية في مجموعة "رغبة فقط" تعيش في جسد، وتريد أن تغادره إلى جسد آخر، فهي تتوق إلى التحرر، لكنها تحاصر بأشياء كثيرة، وسبيلها في ذلك هو تفهم الآخر/ الرجل، وفي ذلك تحقيق لكينونتها، لعل ذلك يضيء لها الطريق.. وخلاصة القول فهذه المجموعة القصصية تضعنا أمام جسد أنثوي مكبل ومقيد، وحامل لأعباء كثيرة.. وتفتح المشهد على جسد أنثوي آخر مفكر فيه، ومحلوم به، جعلته هدفا تحاول مجموعة من الشخصيات القصصية الوصول إليه دون جدوى..

أما بالنسبة لمجموعة وفاء ملح «اعترافات رجل وقح»، فإنها تضعنا مباشرة أمام الجسد الأنثوي المشتعل رغبة، والذي يمارس طقوسه بشكل تلقائي، وكأن القارئ يتلصص عليه، وهو جسد يدفع بالأمور شيئا ما إلى الأمام، بجرأة، وإن كان يصطدم بخيبة تُوقِفُ اندفاعاته في واقع لا يستطيع أن يتحمل كل هذه الجرأة، وعنوان المجموعة الذي لا يمكن أن يكون متلفظه إلا امرأة يبين ذلك، لأن تصرفات الرجل مع المرأة يجعلها غير قادرة على الذهاب إلى أبعد الحدود.. لقد استطاعت وفاء ملح في كل نصوص مجموعتها أن تخلع عن الجسد الأنثوي تلك الأوهام التي تلفه، وجعلته مكشوفا أمام الكل، جاء في بداية أول نص بالمجموعة «كيف لي أن أوقف شلال عواطفي! كيف لي أن اقول لجسدي أن يصمت؟! وكيف للغة الصمت أن تضع حدا لهدر الحواس ؟» (ص 5). إنها تقرر أن تبوح بكل الأسرار التي تسكن جسدها، وتطلق العنان لممارسة رغباتها وبشكل مكشوف، وتضعنا أمام الجسد الأنثوي في لحظاته العشقية والشبقية لنراه يعيش المتعة واللذة كما كان يرغب فيها، فهي تحاول أن تسمي الأشياء بأسمائها دون تزويق، إلا أنها لا تستطيع أن تذهب بالأمور إلى أقصاها، مما يجعلها تبتعد عن اللغة المباشرة، وتقترب من اللغة الشاعرية، وتهرب إلى توظيف الحلم حيث تلامس التخوم.. إن شخصيات «اعترافات رجل وقح» الأنثوية، ذات أجساد ملتهبة، أكثر شبقية، لكنها تصطدم بالرجل الذي لا يستطيع أن يقدر فيها هذه الجرأة، وبالتالي لا يتحمل هذه الأنثى الشفافة، وبذلك جاءت في هذه النصوص مثل تلك الفراشة كلما اقتربت من الضوء احترقت.

(4)

إضافة إلى الجسد باعتباره عنصرا بارزا، أولته كتابة المرأة أهمية كبيرة، وشغلته تخييليا في مستويات متعددة، وهو ما رأينا نماذج منه مع مجموعة من النصوص، ووقفنا عند بعض لحظات اشتغاله، وتبين لنا كيف هيمن في نصوص التسعينيات، ولم يعد ممكنا التغاضي عنه، وتناسيه، فإن هناك عنصرا آخر، لا يقل أهمية، وهو الذاكرة، الذاكرة باعتبارها محفزا للحكي، ولكن في تفاعلها مع الجسد، خصوصا أن الهدف من توظيفهما في المحكي القصصي، هو واحد: إدانة المجتمع، والتركيز على استرجاع لحظات بارزة من تاريخ المرأة، من خلال معيشها اليومي المحكوم بترسبات عميقة من التهميش والنسيان.. وبذلك نرى أن توظيف الذاكرة في الإبداع القصصي النسائي، يختلف من قاصة إلى أخرى، ويمكن أن نحدده فيما يلي:

1 ـ توظيف الذاكرة كاسترجاع لمجموعة من الأحداث، وهذا نجده في جل النصوص القصصية النسائية وغيرها. ونستشهد بذلك بالمقطع التالي: «اتركوني أحكي عن الحلقة المنسية وأتساءل معكم من أين تبتدئ الحكاية؟» (هنا تعود الساردة لتبدأ حكاية أخرى): حضر الجابي إلى المقصورة ليتحقق من توفر التذاكر، ويتفرس في الوجوه والأمتعة والحقائب «(لنبدأ الحكاية» ص60/ مليكة نجيب). هكذا فالذاكرة هنا توظف كاسترجاع لمجموعة من الذكريات التي تخدم الحكي أثناء استرسال الأحداث، وهو هنا يوازي الفلاش باك في السينما، حيث أن الرجوع إلى أحداث أخرى عبر التذكر، يملأ الفراغات التي تتركها الحكاية، ويساهم في اكتمال دلالاتها..

2 ـ توظيف الذاكرة باستعمال الحوار الداخلي والتداعي الحر، وهو ما تؤكده نصوص كل من رجاء الطالبي في مجموعتها: «شموس الهاوية» «و» وعند عائشة موقيظ في مجموعتها «ألبوم»، وفي بعض نصوصها مثل «قصيدة تحت الدش». ونستدل بما يلي: «هاجر، أحسك قريبة رغم بعد المسافة، يكفي أن تشتم الروح عبق خليلتها لترتعش وتحيا وتنبعث فيها الأحاسيس المعذبة، خلتك هذه الليلة بقربي، أحدثك، أنا التي هجرتني شهوة الكلام، حيث صفعتني الرداءة المتفشية » («شموس الهاوي» ص 7/ رجاء الطالبي). وفي نص آخر: «لكنني اشتقت إلى أمي بلا حدود تذكر، ليس هناك شيء أجمل من تخرج امرأة من رحم امرأة أخرى لتصبح أجمل منها داخل نفس البيت فجأة مضت هذه الشهور بسرعة، لم أرها بعد، وأعتقد أننا اشتقنا إلى بعضنا أكثر على الأقل، هذا ما تشعر به وحدها الآن. كانت تبكي حين الوداع، أنا لا أثق بدموع امرأة أخرى غير الأم ». (قصيدة تحت الدش" ص 17/ عائشة موقيظ). والذاكرة في هذا المستوى لها توظيف آخر، حيث استطاعت من خلاله مجموعة من القاصات كشف المخفي وتعريته، والاقتراب من المسكوت عنه، وهو غالبا ما يرتبط بالحكي الحميمي، الذي يبحث عن استنطاق الجسد، عبر لغة شاعرية، تتوسل الاستعارات والمجاز

3 ـ اشتغال الذاكرة كبنية أساسية في دينامية النص القصصي، وتنفرد بذلك، في نظري، القاصة لطيفة باقا في مجموعتيها: «ما الذي نفعله؟» و«منذ تلك الحياة». ينبثق الحكي في الكتابة القصصية للطيفة باقا من الذاكرة، ويعتمدها كمرجعية وكمنطق لتوالي الأحداث، وبالتالي فهي توظفها كتيمة مهيمنة في نصوصها، وأيضا كتقنية معتمدة لتوليد الحكي وتناسله، وفاعلة في انسجامه، ومنطق الذاكرة هذا يوفر للحكي مسائل أساسية:

أ ـ اللعب بعنصر الزمن: الذهاب والإياب ما بين الحاضر والماضي والمستقبل.
ب ـ الانتقال من موضوع إلى موضوع عبر لعبة التماهي.
د ـ الاقتراب من تخوم الأشياء، والنفاذ إلى العمق النفسي للشخصيات.
ج ـ إعادة اكتشاف العالم، والوعي به من لدن الشخصية القصصية.

إن اشتغال الذاكرة في نصوص باقا، يضعنا أمام الحالات الإنسانية الحقيقية وما يعيشه الإنسان في أكثر لحظات حياته حميمية، من خلال شخصيات يأتي صوتها من الداخل، من الأعماق، شخصيات تعيش زمنها الحاضر وهي مسكونة بالماضي، وتفكر في المستقبل.. جاء في إحدى النصوص المبنية على التذكر: «أتذكر كل ذلك.. لا أنسى أي شيء أبدا» (منذ تلك الحياة، ص 25).

هكذا نرى أن النص القصصي النسائي قد هيمنت فيه مسألتين أساسيتين: الجسد والذاكرة (وهل يمكن فصلهما؟) وقد أخذا نوعا من الحرية في القصة التي تبدعها المرأة، وبذلك فقد حاولنا رصد هذين العنصرين كإضافة جديدة في القصة النسائية، وتبين فعلا بأن بروزهما بالشكل الذي تحدثنا عنه قد أغنى هذا المنحى في الكتابة، بل وقام بتعرية مجموعة من العلاقات التي تربط الإنسان، والمرأة على الخصوص بالعالم..

وأخيرا نقول إن القصة النسائية المغربية، بمجهودات جبارة من المرأة، قد استطاعت أن تنوع في هذا الجنس الأدبي، وتفتحه على آفاق جديدة سواء على مستوى التخييل أو المتخيل الحكائي.. 

ناقد ومترجم من المغرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ محمد برادة: «المرأة والإبداع: في مواجهة الدونية والسيطرة الذكورية» مجلة العربي، العدد 534، مايو 2003.
(2) ـ مصطفى يعلى: «القصة النسائية المغربية القصيرة: الريادة ونوعية التلقي» عن كتاب: «تلقي القصة القصيرة» مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، ط1، 2002.
(3) ـ أحمد بوزفور: «مختارات من القصة المغربية الحديثة» عن مقدمة الكتاب، الهيئة المصرية لقصور الثقافة، ط1، القاهرة 1998.
(4) ـ أحمد اليابوري: «دينامية النص الروائي« منشورات اتحاد كتاب المغرب، 1992.
(5) ـ عبد الله إبراهيم.
(6) ـ رولان بارط: «الجسد ايضا وأيضا» مجلة «العرب والفكر العالمي»، العدد السابع، صيف 1989.
(7) ـ الزهرة رميج: «أنين الماء» منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، ط1 ـ 2003.
(8) ـ لطيفة لبصير: «رغبة فقط» منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، ط1 ـ 2003.
(9) ـ وفاء مليح: «اعترافات رجل وقح»، أفريقيا الشرق، ط1 ـ 2004.
(10) ـ روجي دادون: «الرغبة والجسد» مجلة «علامات» العدد4، 1999، ص 71.
(11) ـ نفس المرجع، ص 71.
(12) ـ مليكة نجيب: «لنبدأ الحكاية» مطبعة فردوس، الرباط، ط1 ـ 2000.
(13) ـ رجاء الطالبي: «شموس الهاوية» منشورات وزارة الشؤون الثقافية، ط1، 2000.
(14) ـ رجاء الطالبي: «عين هاجر» دار الثقافة، الدار البيضاء، 2004.
(15) ـ عائشة موقيظ: «البوم» منشورات الرابطة، ط1، 1996.
(16) ـ عائشة موقيظ: «مختارات القصة المغربية الحديثة»، مرجع مذكور.
(17) ـ لطيفة باقا «ما الذي نفعله؟» منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط1، 1992.
(18) ـ لطيفة باقا: «..منذ تلك الحياة» دار الأمان، ط1، 2004.