سمات تجارب أدبية عربية جديدة

عبدالرحيم مؤدن

 

ليس من السهولة الحديث عن أدب عربي جديد "خاصة أن الجدة مسألة نسبية" و"الله لم يقصر البلاغة على زمن دون زمن" على حد تعبير ابن قتيبة في" الشعر والشعراء". ومن ناحية أخري فصيغة (الأدب العربي الجديد) صيغة إطلاقية في حين يقتضي المقام الحديث عن تجارب أدبية عربية جديدة في الوطن العربي بحكم العوامل التالية:

أ ـ التفاوت التاريخى "والحضاري" بين منطقة عربية وأخرى.(مصر "مثلا" اصطدمت بالحداثة منذ القرن الثامن عشر).

ب ـ لايمنع هذا التفاوت من وجود الاستثناء الإبداعي لصالح مناطق عربية تعيش نوعا من التزاوج بين وضع اجتماعي متدهور و وضع إبداعي متقدم (وجدي الأهدل وعبدالعزيز المقالح في اليمن ـ الطيب صالح في السودان ـ إبراهيم الكوني في ليبيا ـ تجارب خليجية متعددة... الخ).

ج ـ وبالإضافة إلى ذلك "فالتاريخ والجغرافية لعبا" ويلعبان "أدوارا عديدة في تقديم العديد من التجارب المتقدمة في المجال الإبداعي سواء على مستوى الرؤية"، أو الأساليب و "التقنيات". فمنطقة شمال افريقيا، أو الأدب المغاربي، يمتح من مرجعيتين متعارضتين، متداخلتين متفاعلتين هما:المرجعية العربية المشرقية، والمرجعية الغربية بما فيها الأدب المغاربي المكتوب بلغة أجنبية (الطاهر وطار عبد اللطيف اللعبي ـ عبد الحميد بن هدوقة ـ واسيني الأعرج ـ أحلام مستغنامي ـ بشير مفتي ـ عزالدين المدني).

د ـ اغتناء هذا الأدب بمدى تطور مستوى الحراك الإجتماعي في كل بلد عربي من جهة، وبمستوى، من جهة ثانية، تطور ما يوازي الإبداع الأدبي من خطابات موازية،أدبية أو غير أدبية، من علوم إنسانية وفنون بصرية، وخطابات سياسية وحقوقية. ويبرز ذلك، جليا، في انعكاس هذه الدينامية الإجتماعية والثقافية على موضوعات هذا الأدب وطرائقه، دون إهمال رياح الشمال ورهاناته على المنطقة العربية، وهو موضوع له تجلياته في الإبداع العربي بأساليب مختلفة من خلال مقولة الآخر في مواجهة الأنا (الطيب صالح في موسم الهجرة الى الشمال ورؤيته الجديدة للصراع بالقياس الى "قنديل أم هاشم" ليحيي حقي، أو "الحي اللاتيني" سهيل إدريس ـ عبد الرحمان منيف في "سباق المسافات الطويلة" ـ سرود رحلية متعددة، سير ذاتية مستندة إلى النقد المزدوج للذات والآخر سواء كان محليا، أو غيريا..).

غير أن العامل الحاسم في التجديد،على اختلاف مستوياته، يكمن في ظاهرة الأنترنيت سلبا، أو إيجابا.

سلبا:

أ ـ نشر الغث والسمين، وظهور العشرات من مدعي الأدب أو الإبداع.

ب ـ تحول هذه الأداة إلى سلطة تعلي من شأن هذا الإنتاج، على حساب الإنتاج الورقي، وتتحول إلي تكتل يحتكر الساحة الثقافية من جهة، وتصفية، من جهة ثانية، الحسابات الإبداعية وغير الإبداعية بأساليب عديدة.

إيجابا:

أ ـ سرعة الإنتشار لمختلف التجارب الإبداعية شرقا وغربا.

ب ـ التعرف على التجارب الإنسانية في العالم.

ج ـ تطوير التجربة، والإستفادة من طرائق التعبير المختلفة، بل ظهور دعوات لاتخلو من مبالغة مثل "الأدب الإلكتروني" الذي يحتاج الى محددات مفهومية ومعيارية وأجناسية.

أما على مستوى الإنتاج الإ بداعي، فالتفاوت حاصل، أيضا، بين منطقة عربية، وأخرى من جهة. وحاصل أيضا على مستوى الجنس الأدبي ذاته.

أ ـ ففي الوقت الذي يتراجع فيه النص الشعري عربيا، بعد أن بلغ أوجه في تجارب سابقة تجاوزت مرحلة التأسيس. لتصل إلى تجارب متطورة توزعت بين توظيف اليومي وبين النفس الدرامي، بين تنويع الإيقاع وبين "شعرنة" النثر "ونثر" الشعر. بين قضية الوطن وقضية الإنسان بين بطولة "الخراب" المادي والروحي ـ وكلنا في الخراب عرب بالرفع ـ وبطولة الآتي حلما وأسطورة ومدينة فاضلة.. أقول بعد أن بلغ الشعر العربي المعاصر ما بلغه من خلال تجارب مختلفة (أمل دنقل ـ أحمد المجاطي ـ ممدوح عدوان ـ عبد الله راجع ـ محمد عفيفي مطر ـ محمد علي شمس الدين ـ محمود درويش ـ بلند الحيدري ـ أدونيس..) تحول اخيرا في الكثير من تجاربه الى قضية من قضايا الحداثة ـ والإ ستثناء وارد دائما ـ وطغى التنظير ـ داخل القصيدة ذاتها أحيانا ـ على الإبداع وتحول القصيد إلى "مفاهيم" عديدة تدور حول الحداثة بل هناك من نادى بـ "مابعد الحداثة" فضلا عن "قصيدة النثر" وما خلقته من تكتلات وتجييشات عوص التيارات والإتجاهات.. ويظل صوت "محمود درويش" من بين الأصوات التي أعادت الإعتبار للشعر والشعراء.

ب ـ تراجع المسرح أيضا مشرقا ومغربا بالقياس الى العقود الثلاثة المتأخرة من القرن الماضي. (تجربة المسرح القومي بمصر وما وازاها من تجارب رائدة لمجددي المسرح مثل تجارب يوسف إدريس ونعمان عاشورالتي أسست لمسرح شعبي عبر شخصية الحكواتي والسامر والحلقات في الساحات العامة فضلا عن اللغة المسرحية معجما وحوارا وإخراجا..). و في مغرب الأمة العربية وجدت تجارب "الطيب الصديقي" بالمغرب وعزالدين المدني بتونس دون نسيان تجارب مميزة حفرت في الذاكرة الأدبية أخاديد راسخة مترسخة (تجربة سعد الله ونوس في محاورته للواقع العربي من جهة أو تراث الفرجة والركح العربيين من جهة ثانية).

ج ـ وبالمقابل انتعش التوأمان السرديان (الرواية والقصة القصيرة). وانتعاشهما يعود إلى دور الرواية في إعادة صياغة التاريخ العربي من خلال استيحاء تاريخ المهمشين ضدا على التاريخ الرسمي. فالرواية ـ كما هو معلوم ـ صياغة استعارية للواقع المجتمعي من خلال حيوات ووقائع في سياق استقصاء المسكوت عنه. وحيويتها الحالية هي في الواقع تعود إلى دورها الفاعل في الكشف، من جهة، عن ثوابت الواقع ومتغيراته. وإعادة من جهة ثانية، الإعتبار للذين منعوا من الكلام. فأصبحت الرواية لسان الذين وضعوا في الظل بالرغم عنهم خاصة بعد أن ضعف الخطاب السياسي المباشر. إن لم يكن قد أعلن إفلاسه على مستوى الحزب والنقابة والمؤسسة السياسية الرسمية أو المعارضة. فجاءت الرواية لتقتحم المناطق المحرمة من من خلال النموذج الإنساني في صراعه مع الذات أو مع الواقع بتجلياته المختلفة.

الرواية إذن هي "إيزيس" بأمومتها وخصوبتها بالمعنى الدلالي التي تحاول لملمة أجزاء العالم، كما حاولت "إيزيس" لملمة أطراف "أوزيريس". أو بعبارة أخرى: إنها إعادة تركيب الصورة، صورة الأرض والإنسان المفتتة زمنا طويلا كما يجب أن تكون أو من الممكن أن تكون كما حلم بها الذين وجدوا في الظل.

أما بالنسبة لـ "أوزوريس" أو التشظي المأساوي مجسدا في القصة القصيرة فإن ازدهارها الكمي والكيفي أيضا يعود الى ملاءمتها كما ذكر "عبدالله العروي" ـ في الإديولوجية العربية المعاصرة ـ لحالة تسارع اليومي في تجلياته "الفردانية" بأبعادها المأساوية والتي يعيشها مجتمعنا العربي في مستويات عديدة. ولاشك أن القصة القصيرة هي فن التقاط "اليومي" بدون منازع، الزاخر بالعجيب والغريب مما مكنها من تقديم "صدماتها الكهربائية الكاشفة عن خلل في الواقع والإنسان".

أسماء روائية وقصصية عديدة عبر الوطن العربي اختلفت عمرا وتجربة في الرؤية والأساليب أو التقنيات وزاوج معظمها بين القصة القصيرة والرواية بين التكثيف والتحليل بين "إيزيس" و "أوزوريس". مما سمح للمتابع بوضع اليد على ملامح التجديد في الكتابة القصصية والروائية العربية المعاصرة عبر محطات عديدة. وتجربة نجيب محفوظ وهي من أهم المحطات المبكرة في هذا السياق ذاتها فتحت في بعض تجاربها أفق التجديد من خلال تنويع طرائق التعبير والتحليل. فـ "ثرثرة فوق النيل" 66 اقتراب من الواقع عبر رؤية جديدة قامت على التداعي والإسترجاع (شخصية أنيس أفندي) متنبئا بهزيمة 67. أما بالنسبة لمجموعة "تحت المظلة" فإنها قامت على الحوار والجدل بين الذوات المختلفة من جهة وبين النصوص ذاتها من جهة ثانية التي تداخلت فيها البنية المسرحية بالحوار القصصي.

ولاأحتاج إلى التذكير بأن الرواية العربية الحديثة والمعاصرة قد خرجت من جبة نجيب محفوظ التي واكبت تحولات المجتمع العربي من جهة، ووضعت من جهة ثانية، بذور التجديد في الكتابة القصصية والروائية. ويمكن إجمال أهم هذه التجارب في:

أ ـ تجربة تقرأ التاريخ المحلي والوطني والقومي والإنساني في سياق تحولات الواقع العربي بتداعياته المختلفة.( جمال الغيطاني ـ بنسالم حميش ـ إميل حبيبي ـ الطاهر وطار ـ إبراهيم الكوني ـ عبد الله العروي ـ الطيب صالح ـ ألياس خوري ـ رضوى عاشور ـ نبيل سليمان ـ علوية صبح ـ هدي بركات...).

ب ـ تجربة تقرأ الواقع عبر تفكيكه وتحليله وتأويله عبر محطات أساسية تداخل فيها التاريخ السياسي بالتاريخ الإجتماعي والعلني بالسري، والواقعي بالمتخيل، والتذكر بالحلم، والجدي بالهزلي (محمد البساطي ـ محمد برادة ـ خيري الذهبي ـ وجدي الأهدل ـ بشير مفتي ـ حيدر حيدر ـ محمد زفزاف ـ يحيي الطاهر عبدالله ـ يوسف القعيد).

أما على مستوي القصة القصيرة فإن معظم كتابها مارسوا كتابة الرواية أيضا ـ الأسماء أعلاه ما عدا بعض الأسماء التي أخلصت للفن القصصي. (سعيد الكفراوي على سبيل المثال).

ومظاهر التجديد في هذه التجارب تجسدت في الإبتعاد عن السرد الهادئ الخاضع لهندسة دقيقة تضع كل شئ في مكانه ـ بعض تجارب نجيب محفوظ المبكرة بواقعيتها الكلاسيكية. دون أن يعني ذلك حكم قيمة أو مفاضلة ما ـ وهذا يساوق في هذه المرحلة المشروع القومي المفتوح على الأحلام العريضة خاصة قبل هزيمة 1967. في حين انطاقت هذه التجارب المشار إليها أعلاه من انهيار هذا المشروع ودخول العالم العربي في مرحلة جديدة من التبعية بل الإحتلال المباشر مرة أخرى بصيغ عجائبية مضحكة إلى حد البكاء ومبكية إلى حد الضحك. وهذا ما سجلته تجارب روائية وقصصية عربية معاصرة عن طريق السخرية وأشكال "الباروديا" فضل عن الأسلوب المباشر ذي البنيات الأسلوبية العارية والصرفية المستوحاة من اليومي ببلاغته وأبعاده.. كل ذلك بهدف فهم تحولات المسخ اليومي على امتداد الأرض العربية. (واسيني الأعرج، إبراهيم الكوني، منتصر القفاش...).

التجديد إذن في الكتابة الروائية والقصصية من خلال هذه التجارب ينبع من الوعي باللحظة التاريخية التي تمنح للكاتب أدوات الصياغة الفنية لهذه "الميلودراما" المعاصرة. إنه علي حد تعبير المتنبي كما سبقت الإشارة ضحك كالبكاء. ومن ثم فتغييرالأداة ناتج عن تغير الوظائف النصية وتغير الوظائف يؤدي بالضرورة إلى تغيرالأجناس والأشكال. فالتجارب المعاصرة التي ابتعدت عن السرد التقليدي أو الخطي انطلقت من إحساس خاص لدى الكاتب يقوم على ما يمور به واقعه من خراب المكان والزمان خراب الروح والوجدان وهذا أدى بالضرورة إلى "تدمير" السرد المطمئن لأوهام الوحدة والقوة والتضامن وكلها ذابت لحظة الهزيمة سياسيا (هزيمة 67) والإنتصار إبداعيا (تقويض الخطاب المطمئن وضمنه الخطاب القصصي) من خلال السرد القصصي، رواية وقصة قصيرة الذي رجع فيه الكاتب إلى الذات الفردية (القصة القصيرة) والجماعية (الرواية) وهما معا شكلا رهان المعرفة والمتعة في أن واحد. ولم يعد السرد مجرد تطبيق لقوانين أجناسية محددة بل إنه أصبح أداة لفهم أوضاع الذات في جدلها مع ذاتها أولا ومع الذوات الأخرى ثانيا.

غير أن هذه التجارب المتجددة على أهميتها لم ترتق إلى مستوى التيار المؤثر في الكتابة القصصية والرولئية. فهي تجارب مفردة ما زالت أسيرة التجربة ذاتها كما أنها تقتقد المقروئية الواسعة بالقياس الى الكتابة "التقليدية" دون إصدار حكم قيمة أو ماشابه ذلك. وبالإضافة إلي هذا وذاك فالتجربة الروائية والقصصية في العالم العربي لم تبلور خصوصيتها الجمالية بالقياس مثلا إلى تجربة أمريكا اللاتينية أو الأسيوية. ومن ثم فالحديث في هذا السياق يرتبط بالرواية والقصة في العالم العربي عوض الحديث عن رواية عربية أو قصة عربية. ومن المؤكد أن بعض التجارب التجديدية في الرواية والقصة تؤشر على هاجس الخصوصية( الطيب صالح ـ إميل حبيبي ـ جمال الغيطاني).

أما الغائب الأكبر فهو النقد القصصي أو الروائي دون أن يمنع ذلك من وجود متابعات نقدية جادة ظلت حبيسة الإطار الأكاديمى من جهة واقتصر معظمها على النص المفرد أو الكاتب المفرد دون أن تعالج الظاهرة الروائية في امتدادها التاريخي والجمالى. وضعف الممارسة النقدية لايبتعد عن ضعف النقد كممارسة اجتماعية وفكرية في واقعنا العربي الذى ما زال يتوجس من النقد والنقاد. فازدهار النقد في المجتمع يعكس ازدهار لعبةالصراع القائمة على الإيمان بالإختلاف وضرورة تدبير الصراع من قبل المنتسبين إلى فضاء مشترك. ولعل هذا ما مكن السرد، خاصة السرد الروائي من ممارسة النقد إبداعيا من خلال الشخصية الروائية والحدث التاريخي والإشكال الإجتماعي أقول: لعبت الرواية هذا الدور النقدي بعد أن تحولت أدوات النقد المؤسساتية من حزب ونقابة مع بداية تكون وعي حقوقي ومدني متصاعد إلى أدوات مفلولة علاها الصدأ من تقادم ونمطية... الرواية إذن أصبحت مؤهلة لكشف المسكوت عنه أو من ناحية أخرى صياغة التاريخ والواقع بشكل استعاري يطرح ما يجب أن يكون دون الإكتفاء بما هم كائن مدعمة ببوادر مخاض اجتماعي من جهة ومخاض فكري وفني (تجارب في التشكيل والسينما، تجارب الوسائط الإلكترونية...) مواز ومتقاطع مع السرد القصصي والروائي في مواقع عديدة. ويبدو أن هذا المخاض مؤشر على تحولات السرد القصصى والروائي بعد أن تعددت مناطقه عربيا مشرقا ومغربا مسلحا بجرأة النقد والسخرية والتحليل من جهة وإعادة اكتشاف الذات من جهة ثانية.  

كاتب وباحث من المغرب