تأويل الأحلام

نور الدين محقق

رأيت فيما يرى النائم، أنني كنت أمشي بين بيوت أناس غرباء.كنت أحمل كتبا كثيرة. كل كتاب منها يتألف من عدة كتب، تتآلف إلى ما لا نهاية. كنت أصل إلى بيت منها، أنظر إلى اسم صاحبه، فيتبدى لي وجهه، أضع الكتاب بالقرب منه وأنصرف.

فجأة وجدت نفسي، وقد تحولت إلى كتاب كبير. صرت كتابا بين الكتب. الغريب في الأمر أنني ما زلت بعد أنت تحولت إلى كتاب أحمل شعور البشر.أرى العالم من حولي، وأستطيع أن أقرأ الأوراق المنغرسة في ذاتي.كانت الأوراق تتناثر، كل ورقة منها تحمل قصة من القصة.قرأت القصص كلها.وجدت البعض منها مقبولا، ومستساغا فهمه. وجدت البعض الآخر بسيطا، أو هكذا بدا لي.قررت أن أبعث بهذه القصص إلى احدى الجرائد اليومية لنشرها، ثم تذكرت أن عملية النشر، ليست بهذه السهولة التي تصورتها.فكرت في نشرها في موقع ثقافي الكتروني، كي يقرأها أغلبية الناس في العالم أجمع. وجدت الأمر صعبا هو الآخر، ذلك أني في حالتي هاته، لا أملك جهاز ا الكترونيا.قررت أخيرا أن أجمع هؤلاء الناس الغرباء وأحكي لهم هذه القصص.لكن هؤلاء الناس بدوا في لحظة، وكأنهم موتى.فهم لا يتحركون ولا يتكلمون، ولا ينظرون، ولا يسمعون. أناس وكأنهم سحروا من لدن ساحرة شريرة، حولتهم الى كائنات حجرية، وانصرفت تبحث عن عشيقها الذي طعنه أحدهم طعنة نافذة. بماذا تفيد قصصي مثل هؤلاء الناس؟ حتى وان استطعت بفعل ساحر أن اخترق كياناتهم الغريبة هاته؟ أكيد لا شيء!.

كان علي اذن أن أنتزع هذه القصص من الكتاب الموجودة فيه.هذا الكتاب الذي لم يكن الا أنا. لم يكن الا ذاتي نفسها. تجردت من الأوراق التي تحمل هذه القصص، وبدأت في تعليقها على أغصان الأشجار.كل ورقة تحمل قصة، وكل قصة يجب أن تحتل جذع شجرة. هكذا الأمر كان. لقد أنجزت العملية بنجاح.

فجأة شعرت بأن الجو قد امتلأ نورا، وأن الطيور قد جاءت من كل جانب متجهة صوب الأشجار. كل شجرة منها قد استقبلت ثلاثين طائرا، وكل طائر منها كانت عيناه مركزة على القصة المعلقة على غصن من أغصانها.

كانت الطيور تقرأ وتتجادل فيما بينها حول معاني تلك القصص. لكأنها كانت تريد من خلالها أن تجد فيها صورة السيمورغ، الذي ظلت تبحث عنه طيلة حياتها وضلت السبيل إليه. وحين انتهت من القراءة، بدا على وجوهها عدم الرضا، فالقصص لم تكن تتحدث عن عالم الطيور. القصص كانت تتحدث على عالم الإنسان.تصف حالات إنسانية. حلقت الطيور من جديد نحو الأعلى، ثم غابت في المدى الواسع. شعرت بأن أوراق الأشجار تحولت كلها إلى عيون تبصرني، وتدعوني بقوة الى قراءة قصصي عليها. تقدمت وجلا. أخذت القصة الأولى، وبدأت في القراءة.(...).

اهتزت الأشجار مرحا وطربا، تمايلت أغصانها دلالة على الإعجاب بما سمعت.طالبتني بالمزيد.قال ثعبان لم ألاحظ وجوده من قبل: أفدنا أيها القصاص.ابتسمت لسماع إطرائه، وان لم تعجبني صفة القصاص لغويا. أفضل عليها صفة القاص، وان كان يجتمعان, القصاص والقاص ,معا في الدلالة على القص، بمعنييه الفصيح والعامي المغربي أيضا.

بدأت في قراءة النص القصصي الثاني.كان مثل سابقه قصيرا،من نوع القصص القصيرة جدا،التي يكتبها زكريا تامر،لكنه لم يكن يحمل مثل مضامينها. كانت مضامينه مستقاة من الواقع الذي أعيشه أنا، وتعيشه أنت أيها القارئ المراوغ، كنت ذكرا أو كنت أنثى. ما علينا. بدأت في القراءة وشعرت بالاضطراب يعتورني. من الصعب أن تقرأ نصا جديدا، أو أن تكتبه حتى،حين تتلقى إطراء قويا على النص الذي سبقه. يهيمن عليك الخوف في ألا تقدم الجديد فيه. يصبح النص الأول عائقا أمام طموحك في التغيير والتجديد.

انساب قراءتي للنص القصصي بشكل جميل. كان النص القصصي يعلن عن ذاته انطلاقا من صوتي على الشكل التالي: (...).

لاحظت كيف تحولت عينا الثعبان من الخمول إلى اليقظة، من السهو إلى التركيز. أسعدني ذلك كثيرا، وشجعني على إتمام قراءة قصتي تلك. بدأت الأغصان تتمايل من جديد وهي تناقش ما ورد في هذه القصة من أفكار. سعدت لذلك، وأنا أستمع لهذه التعاليق. كانت التعاليق كلها تنصب على النص. لم يشر أي تعليق منها إلي. لا بالخير ولا بالشر. حين انتهت التعاليق، خرج الثعبان من جديد من مكانه، وطالبني بقراءة القصة الثالثة. كانت القصة الثالثة واقعية بالفعل، لا أدري متى وقعت، لكني كنت أشعر بالصدق المنبثق منها. إنها قصة واقعية سواء وقعت أم لم تقع.حدسي أخبرني بذلك.

نظرت إلى أعلى الشجرة حيث كان الغصن الذي علقت فيه هذه القصة، يبدو منتشيا باحتوائها.شعرت وكأنه معتز بها، معتز بكونها كانت من نصيبه. طلبت منه السماح لي بقراءتها.أومأ برأسه موافقا.تقدمت منه أكثر، ووضعت نظارتي، وبدأت أقرأ بصوت جهوري عميق (...).

انتهت قراءتي للقصة بسلام. لما انتهيت من القراءة، شعرت كأن جنيا قد خطفني ورماني بعيدا، في الثلث الخالي من الدنيا. كان المكان فارغا. لا طير يطير ولا وحش يسير.التفت يمينا ويسارا. خيل لي أنني أسمع أنينا.شعرت بالخوف، لكنني تشجعت. رأيت كأن هناك حجرة تئن. اقتربت منها. وجدت لها وجه فتاة آية في الحسن والجمال. نظرت إليها مستغربا، فابتسمت لي رغم ألمها الشديد.

سألتها عن حالها، فأخبرتني به. قالت والعهدة عليها طبعا: "لقد خطفني جني عملاق ليلة زفافي، وأراد اغتصابي، فلما استعصيت عليه، حولني إلى هذا الشكل الذي ترى..".

تذكرت قصيدة للأطفال قرأتها وأنا صغير اسمها، عفريت نفريت، كنا نحفظها عن ظهر قلب، كان كل طفل منا يتمنى أن يكون هو العفريت النفريت. ابتسمت لحضور هذه الذكرى الطفولية. ظنت الفتاة الحجرية أنني أشجعها على إتمام حكايتها، فتابعت حديثها قائلة: "أخبرني هذا الجني أن خلاصي سيكون على يد شاعر". ما أن يتغزل في جمالي بقصيدة عمودية، على بحر الطويل، حتى أعود الى أصلي الأول.

أخبرتها أني شاعر بالفعل، لكنني لا أكتب إلا قصائد نثر. ولي ثلاث دواوين في مديح النساء. الأول عنوانه "أوراق العشق" والثاني عنوانه "ترجمان الأشواق" والثالث عنوانه "كتاب المحبة" وقد تشقق قلبي على حد تعبير أحد الكتاب المعروفين وهو يعلق عليها، ولم يعد ثمة من مزيد.

بدأت الآنسة الفاتنة في البكاء من جديد، امتد ألمها الي عميقا، فبدأت الكلمات تنساب من فمي تلقائيا: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن. لحظتها شعرت بأن الفتاة الحجرية بدأت تأخذ شكلها الطبيعي شيئا فشيئا.بدأ العرق يتصبب منها ومني.هي من فعل التحول، وأنا من فعل النظر إليها.

لقد كانت جميلة جمالا لا عهد لي بمثله. حين اكتمل التحول، هرعت مسرعة تبحث لها عن غطاء. تملكها الخجل الجميل مني. تبعتها مسرعا، أحاول اللحاق بها وضمها الي بكل عنفوان.

اهتز كياني فجأة، وجاءني صوت المنبه ينبهني الى أن وقت الاستيقاظ قد حان، وبأن علي الإسراع إذا لم أرد التأخر في الذهاب إلى عملي.. آه لم يكن الأمر إلا أضغاث أحلام...

لكني حين استيقظت وذهبت إلى عملي، وجدت أن حلمي اللعين ما زال مستمرااااااا. 

كاتب من المغرب