الكتابة «الجديدة» والمغامرة الإبداعية

محمد عطية محمود

بين التفتت والتشظي، الذي أصاب الواقع، ومس كل شيء، ونفذ إليه، وتغلغل فيه، أتت تيارات الكتابة (الراهنة !!!!)، لتعيد صياغة المشهد الأدبي والحياتي على نحو من الغرائبية والإمعان في معانقة ظلال الأشياء الباهتة، فكل ما حولنا أصبح ظلاً غارقاُ في سديمية تنحو نحو الرمادية الغامقة التي تتشابك فيها كل الأشياء وتتماهى الصور وتتداخل بتعسف، مهدر لقيمة كل ما هو أصيل.. فربما أتى هذا المصطلح/ التسمية كقناع من أقنعة الحداثة، أو بحث عن وجه جديد تتجمل به مستجدات ومستحدثات الواقع المحيط/ المحبط الذي يحاول فرض طقوسه من خلال تيمات جديدة تعانق الواقع الأدبي المكتوب بإلقاء هذه الظلال عليه.. وكمحاولة للتنظير والتأطير لنسق جديد من أنساق مواكبة التحول والتطور، لكن الوعاء ربما لا ينضح بجديد متفرد، ومعبر حقيقي عن وجه الإبداع الخالص.. وما بين تدرجات هذه الرمادية تقع فعاليات تلك الكتابة التي لا يمكننا بأي حال من الأحوال تسميتها بالجديدة، لأن كل أدب وكل إبداع هو على ماهيته جديد، فكل يوم بل كل ساعة، بل كل تفاعل لقلم مع الورق بغرض الكتابة، هو كتابة جديدة.

عندما كتب تشيكوف في أواخر القرن التاسع عشر كان يكتب كتابة جديدة، وعندما كتب يوسف إدريس في منتصف القرن العشرين كان يكتب كتابة جديدة، وعندما لحق به المخزنجي وأصلان والمنسي قنديل، كانت كتابات جديدة، وكل ما كتب في مختلف العصور كان في وقته جديدا، ولكن الواقع هو الذي يختلف ويحسم توجهات الكتابة ومساراتها التي تتلون بتلون مراحل الواقع، ومراسمه المختلفة بكل تأكيد. وعندما يكتب تيار ما بين ألفيتين، فهناك المزيد من الإشكاليات والدروب الفرعية لابد وأن تبدو للمتفحص، في حين لا يراها من يغرق في هذه السديمية الإبداعية، فربما تتوه منه ملامح الإبداع، إلا أن المبدع الذي يكتب من منطلق احساسه بالتصاغر والتفتت، لا ينقذه إلا وعيه الذاتي والإبداعي بما يكتب، ذلك أن الكتابة الإبداعية الجادة مرهونة بالوعي الاستباقي الذي لابد وأن يكون متيقظاً داخل ذات المبدع، ليحرض على التغلغل والنفاذ في الحالة الابداعية المحتدمة، والمتأثرة بتداعيات وفعاليات الواقع الخارجي المتفتت، والذي يلقي بظلال التشظي كما أسلفنا. هذه إشكالية لا نسقطها بكل تأكيد على العموم، عموم المشهد الكتابي الجديد/ الراهن تحديداً، إلا أن التفتت كسمة، صارت تعالج التفتت والتشظي في كثير من الكتابات التي تحاول معانقة التجريب، أو تجاوزه ـ دون مرجعية جديدة ثابتة ـ نحو التجديد الذي هو غاية من الغايات القصوى التي تقع على عاتق الصفوة/ القلة التي لا تتنسم البشرية كلها على كافة مستويات الفكر والفن والإبداع، عبيرها إلا نادرا. فهل ما تحقق لهذا المشهد، من زاوية الكتابة القصصية كرافد من روافد الكتابة الأدبية، يكفي لمعالجة أطراف هذه المعادلة الصعبة للكتابة؟ والتي تتطلب من المتصدي لها التسلح بذخيرة متكئة علي تاريخ من الإبداع والتأصيل معاً، دون هوة عميقة ما بين ما سبقه، وما تمليه عليه الظروف الراهنة/ الواهنة، لإنتاج ثقافة الهشاشة بدعوى التفتت الذي أصاب كل شيء، والتشظى الذي لحق بذاته هو.

ثمة كتابات قصصية تعانق العمق، وتغاير المألوف بحرص ووعي، لكن السائد هو الاستسهال المقيت الذي يؤدي بعمل أدبي/ نص مطلوب منه النفاذ إلى العمق، فيخالف المنشود، ويدور في فلك الخفة والنكتة على حساب الرصانة الأدبية واللغوية، ناهيك عن اعتماد قاصر على لغة دارجة لا ترتقي في كثير من الأحوال إلى مقام التعبير الفصيح اللازم للكتابة الأدبية التي تملك مفاتيحها اللغة في المقام الأول والأهم.. "ما العمل الأدبي إلا لغة مشحونة بالفن والدلالة.. عيزرا باوند".. فهل الحداثة هي تشويه اللغة والفن، واعتماد السهل الهين، والخروج عن قاعدة الفن، التي هي أسمى ما في الإبداع؟ وهل السرعة الرهيبة التي يمر بها كل شيء والتحولات الهائلة، والتشتت المقصود وغير المقصود.. تتطلب منا أن نجاريها بغوغاء وتهور، وهوجاء؟ ولنأتِ إلى إشكالية من إشكاليات الواقع الأدبي الراهن، وهي كتابة القصة القصيرة جداً، تلك التي اقتحمت المشهد الأدبي، بعد تسللها الحثيث من خلال الصحف والجرائد، التي اختزلت قيمتها وحجمها في هذه المساحة (الكبسولة) أو (البرشامة)، ثم جاءت على استحياء على هامش متن بعض المجموعات القصصية، حتى جاء الوقت (الراهن) الذي صار لها الوجود الأقوى من خلال إصدارات قصصية كاملة، ومحاور تحتفي بهذا النوع من المغامرة على مستوى الفكر والسرد واللغة، فالوعاء الجديد الذي تسربت إليه الكتابة القصصية لتملأه، وتكتفي بما تسمح به مساحة الومضة/ اللحظة العابرة/ نقطة الكمون العابرة التي تفجر هذا الحدث، «والذي ربما بتر أو اختزل إلى حد الشح والفقر معا بفعل فاعل».

هذا الوعاء هل يتوفر على قدر من الحبكة والدقة؟.. أم يعتمد على الاختصار والتلخيص وإلقاء ما في الجوف دون النظر الى أهمية وجود الفن في هذه المنظومة الصغيرة المتناهية في الصغر، والمطالبة بتفجير هذا الكون كله للخروج بجوهر القضية؟ تلك سمة التباس وتداخل في المفاهيم المتعددة لذاك النوع الأدبي المعتمد على المفارقة والتكثيف والاختزال، والقائم على لغة مشحونة تعتمد منطق التراكيب الهندسية لإحداث هذا النسق المعماري المتماسك على قصره وكثافته ومدى متانتها وتحقيقها للنتيجة القياسية للعمل الأدبي الإبداعي، والتي تتناسب مع معطيات العصر، وتتواكب مع أفكاره الجريئة، وأحداثه المتخطية حدود العقل في غرائبية وتشظٍ.

ما بين الكتابة ومحاولات التنظير والتقنين، ومدى القدرة على التماس مع الواقع المحيط المتغير، تبدو إشكالية القصة القصيرة جداً، في أصعب أوضاعها، كفن يغازل الشعر ويجافي السرد على نحو من التبرأ المذموم ـ أحياناً ـ لكن الواقع غير ذلك فالقصة القصيرة جداً، يمكنها بكثير من الجهد والتركيز والتدقيق أن تكون مبضع جراح يتناسب إلى حد كبير مع هذه المرحلة من التشظي وانعدام الوزن، ذلك أن ما تطرحه من قضايا فلسفية قد يتجاوز ويتخطى ما تطرحه أشكال أدبية أخرى أعرق وأقدم, أكثر قدرة على النفاذ من خلال الواقع الأدبي والثقافي والتواجد الإعلامي، وتحت أضواء الاهتمام المؤسساتي، وربما يُحتفى بها على نطاق واسع من الترويج والإعلام، وإن كان بصورة غير رسمية في بعض حالات المراوغة والتفلت من الأسر. ومن هذا المنطلق.. هل تتوازى إشكالية القصة القصيرة جدا مع إشكالية قصيدة النثر، في كونهما وليدتا مراحل متشابهة من التفكك والانتقال من مرحلة إلى مرحلة وحقبة زمنية إلى أخرى فاصلة على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي؟.. أم أن المشهد قد تخلى عن هذه التقنية من الكتابة، وهي قد صارت جزءاً منه، وتحمل سمات كثيرة من سماته، وتعبر ـ حال نجاحها ـ عن الكثير من نقاطه ودقائقه، وعموميات ملامحه الشائهة..؟ فهل انتقل هذا التشوه إلى القصة القصيرة ذلك الفن المراوغ الذي يعاني أزمة حقيقية على مستوى التلقي، وعلى مستوى النشر، وعلى مستوى المؤتمرات، وعلى مستوى الاهتمام النقدي وعلى مستوى الكتابة نفسها، وإن كانت راهنة تدعي الجدة، وإلى القصة القصيرة جدا التي تعاني مع بعض قصورها من الاغتراب، على الرغم من دعوات الترويج لها وامتهان كتابتها، والتخصص فيها.. قي الوقت الذي تصدرت فيه الرواية المشهد الإبداعي الأدبي بجدارة، على الرغم من انعطافها هي الأخرى منعطفاً خطيراً، نحو كتابة جديدة شكلاً ومضموناً، ولكنها تحمل نفس السمات النفسية للمرحلة، فهل تحل القوالب الجديدة لكتابة الرواية، محل ما استقر في ذاكرة الإبداع الروائي من أعمال عانقت التركيز والثقل الفكري والإبداعي.. ذلك مما تحبل به العقول المؤرقة ـ في اعتقادي ـ في وقت تألقت فيه العديد من الأقلام الواعدة واستطاعت تقديم أعمال روائية تحاول الجمع بين الحالة الراهنة وهذا النسيج المتين المتوارث، والذي حتما يمس شغاف قلب الواقع الشائه، ولكن يلح السؤال:ـ هل ستقاوم الرواية بمفاهيمها الجديدة، وأشكالها، ونماذجها المكرسة لمفهوم التعرية والفضح، والسقوط في دوائر العتمة والحيرة والالتباس، والدوران في فلك الهامش وواقعيته البذيئة، وبتناولها الجديد لكل هذا الراهن، وباعتمادها تقنيات تستقيها من كافة الأنواع الأدبية، وتذيبها لتنحت خصوصيات جديدة تجمع بها كل تلك السمات وتستمر في المواجهة؟

ثمة إشكالية أخرى يطرحها سؤال التعاطي الثقافي والأدبي التفاعلي لوسيلة الشبكة العنكبوتية، كوسيط إعلامي، وكوسيط ينتج مادة حوار ونقاش ومعايير جديدة للحكم على العمل الأدبي من خلال منتدياته وغرف حواره «الشات» أو chatting، ومدى تأثير هذه الشبكة وتلك الفعاليات في ما آل إليه حال الكتابة، والدخول في حالة إبداعية جديدة تتنفس في هذا الحيز (المضروب) أو غير الموثوق فيه. هل توفر هذه الشبكة المناخ الملائم لهذه الكتابات الجديدة؟ أم أنها تقتل مساحات الترقب والقلق الذي ينتاب المبدع/ الكاتب على عمله كي ينجح ويجتاز اختبارات النشر والإجازة التقليدية الورقية؟ ومن ثم الانضباط لمعايير الجدة والتقنية الفنية للكتابة. وخصوصا في مجال القصة القصيرة، والقصيرة جداً، والقصيدة أيضاً، حيث الأسهل والأسرع، مما شكل نوعا من الكتابة الـ (تيك أواى) take away المخصصة للمنتديات والمواقع المتساهلة في انتقاء المادة الإبداعية، دون النظر إلى جديتها وتميزها على كافة مستويات العملية الابداعية، وذلك أيضا مما ينسحب على الشعر، والنقد كمجال لاستنزاف هذه الرؤى الانطباعية التي نتجت من امتهان عمليات الحوار والتعليق على النصوص التي لا يجيزها متابع أو مراجع أو ضابط لإيقاع المنتدى الذي يروم ـ فقط ـ أعلى نسب المشاركة والحضور، وإن كان على حساب الحالة الابداعية.. ذلك بالطبع بعيداً عن المواقع الثقافية المحترمة الجادة التي ربما تحملت عبءً كبيرا في عملية التمحيص والتدقيق والتقصي ومن أجل انتقاء المادة الإبداعية التي تعبر عن الصدق والمعايير الفنية في الكتابة المنشورة بها، إن كانت كتابة تتعاطى التجريب ومحاولات التجديد الحذرة، والمبشرة في ذات الآن.

هل هذا المشهد من مشاهد الكتابة الإبداعية قادر على اكتساب أرضية جديدة في ظل هذه التشوهات؟.. أم أن جسد الثقافة لم يعد قادرا على تحمل الكثير من التجريب والمحاولة؟ والجراح التي لا يني يستريح منها.. حتى تطفو على سطحه معلنة الحروب الفكرية والإبداعية التي تحاول أن تطغى على الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تطحن الكاتب كإنسان؟ ذاك تساؤل يطرح إجابة في ذات الوقت.. ان لم تعبر الكتابة عن الواقع، فمن يعبَّر إذن؟! في يقيني على الرغم من كل تلك الاعتراضات والعقبات أن الكتابة الراهنة/ الجديدة قد لامست جزءا كبيرا من شجون هذا الوطن، واستطاعت على نحو ما من التشتت أيضا ان ترسم صورة سديمية مشابهة، قد تصل إلى حد النقل والتسجيل المرعب لدقائق الواقع من خلال آليات للكتابة لا تعدم الصدق. من الجائز أنها قد تمثل شهادات ربما غير كاملة، وغير مكتملة المعالم، ولكنها بلا شك تمثل مخاضا قويا لتيارات من الكتابة وآلياتها الراصدة المتفاعلة مع جسد الثقافة، الوطن الذي ربما تشكل من جديد عبر كتابات راهنة تحاول التجدد، ربما صارت يوما ما جديدة في تناولها الصادق لقضايا الهامش والمتن معا ً لرسم المشهد العام، من خلال أصوات وأقلام جادة وإن قلت، وتوارت وسط الركام، إلا أنها قادرة على البزوغ من أجل كتابة جديدة المفاهيم، وأكثر التصاقا بقضايا الثقافة والوطن.. وأكثر تعبيرا عن الذات بصدق، اقترابا من مفاهيم أكثر التصاقا بالواقع العملي، وأكثر اعتمادا على الذات/ الذوات المبدعة في إنتاج ثقافة غير مقولبة ولا موجهة، تتجه نحو عدم الاعتماد على طوابير الثقافة المدجنة، والمقيدة في بعض الأحوال لبعض من حريات الكتابة والانفتاح الفكري على آفاق أرحب من التميز والإبداع.. وبمرجعية فكرية وفنية لا تفقدها القدرة على الانطلاق في معانقة المفهوم المتجدد للفكر والإبداع لتحقيق هذه الكتابة الجديرة بتميز جدتها وراهنيتها الملتصقة بالواقع المعيش، حيث الكتابة الجادة بطبيعتها مغامرة تعانق الإبداع، وتحاول الاصطياد في المناطق الوعرة، والعميقة، والمنذر جوها بالهبوب العاصف، فمَنْ للحياة ومَنْ للمعاناة غير كتابة متجددة ـ ربما لا تكون جديدة ولكنها راهنة ملتصقة بأديم الأرض وزفير الأنفس المهتاجة ومعاناة أبناء تلك المرحلة السديمية بحق ـ تصمد في وجه تلك الأنواء، وتعافر بأقلام حاملي أمانتها.. وبإذعان لسلطة البقاء للأقوى والأصلح والأقدر على المضي في درب الإبداع المضني، ولمصفاة التاريخ؛ فربما تمخضت عن علامات جديدة للإبداع قد تميز هذا الواقع الراهن وتداعياته، وتلتصق به كعلامة تاريخية واجتماعية، كرهان على استمرار المقاومة بسلاحي الإبداع والاستمرار. 

أديب وباحث مصري
Mohamadattia_2003@yahoo.com