الجائزة (رواية)

محمد القواسمة

(1)

نظرت إلى السقف. الداية التي ساعدت على مجيء أخواتي إلى الحياة فارقت الحياة! أيّ مهزلة نحياها؟! ليتني حجر! لا، بل ذلك الديك! لم تطل كآبتي عندما اقتربت مني رواء.

لا أدري متى اتّصل عثمان مطلق، لكنّ الشمس كانت ساطعة في الخارج، والعرق يتصبب من جبيني. أخبرني بصوت مرتجّ أنّا كسبنا القضيّة. تململ قلبي. أيّ قضية؟! من نحن الذين كسبناها؟ وطلب رؤيتي في مكتبه في أقرب وقت. أنا لا قضية لي غير زوجتي. قبل مدة كانت مقطوعة شعريّة عذبة، أو فراشة ملوّنة. اليوم غدت مثل قطعة نثريّة، ربما مقامة من مقامات الهمذاني، أو ربما مثل بطّة، تتمايل يميناً ويساراً، أرنو إليها، وهي تتحسّس بطنها بقناعة وخيلاء.

ـ ما سر هذا النعيم؟
تجيبني:
ـ كلّه منك!
تنتعش روحي. تعرف من أين تؤكل فحولتي.

وضعت السمّاعة. رأيتها يدها على خصرها، واليد الأخرى ممسكة بالباب. سألت عمّن كلّمني. لا أطيق منها سؤالاً دون غنجة، أو حركة خصر، أو لمسة دافئة، والأفضل قبلة. التقت عيناي بعينيها. انكمشت روحي. عيناها ذابلتان، مثل زهرة أنهكتها الشمس، وأنفاسها تتلاحق في جنبات صدرها، كرياح تتآمر على شجرة وارفة. تقدّمت منها، أشارت بيدها كأنّها تعرّفت قلقي، ثمّ همست أنّها بخير، ورجتني بدلع أن أجيب عن سؤالها. رددت ما قاله عثمان مطلق:

ـ كسبنا القضية!
تسرّبت من بين شفتيها ابتسامة مرهقة، ثمّ ألقت رأسها على كتفي. ثقيلا على غير العادة. قالت لاهثة:

ـ مبارك حبيبي! بعد صبر أيوب. في النهاية... الحمد لله!!
عبق أنفي برائحة شعرها، وسرى في جسدي تيار خفي، تأوّهت، ثم تراجعت قليلاً، ألقيت يديّ على كتفيها، وجذبتها نحوي. هالني شحوب وجهها، كظّت على شفتيها، وهي تضغط على أسفل بطنها، ثم انفلتت متوجّعة:

ـ أخبرني، بالتفصيل، ماذا قال المحامي.
تمنيت ألاّ تهتمّ بشيء خارج جسدها، فتكلّفت الغضب:
ـ لم يخبرني بشيء، ولا يهمّني الآن غير صحتك.

أحسّت ـ كما قالت ـ بسكاكين تعمل في جسدها. بدأ الوجع خفيفاً، ثمّ زحف من الأسفل إلى الظهر، ثم تناسلت منه تشنّجات في الفخذين، تبعتها طقطقة في عنق الرحم. ثم أردفت إنها تخشى أن يسقط منها شيء. ضحكت. أيّ شيء يسقط بعد بغداد؟! أجابتني بدلع خفيف، وقد رفع عنها الألم:

ـ تسخر منّي! لو يحمل الرجال، وتجرّب الطلق.

عاودها الألم. صرخت. رجوتها أن نخرج إلى المستشفى. ارتجفت شفتاي وأنا ألفظ كلمة المستشفى، فليس غير المستشفى العام الذي خبرته رواء في بداية حملها.

أمام بوابة قسم الولادة، قبل أن يسمح لنا بالدخول، صعدت النظر إلى الطابق الثاني، على شرفات الغرف المطلّة على المدخل جماعات من الحوامل يترنحن في مشيتهن، وأيديهن على تلال صغيرة بارزة من بطونهن، بعضهن يمضغن العلكة، وأخريات ينهشن الفطائر، وهن مستندات إلى حافات النوافذ. لا أدري لماذا فكّرت في تلك اللحظة أنّ في الإنسان قوى تجبره على صنع شقائه.

أمّا رواء فاقشعرّ بدنها، كأنّها ستلد في الحال. لا شكّ أنّها استرجعت صوراً متناثرة، ربما صورة القطّ الذي رأته يجري في عنبر الولادة، وفي فمه مشيمة مولود حديث، أو صورة المرأة التي كانت تجرّ مولودها بين فخذيها، وتصرخ في الأطباء والممرضين، أو تلك التي سُرقت طفلتها في أثناء ذهابها إلى دورة المياه، أو مشهد النسوة النائحات على امرأة لم تستيقظ بعد العملية القيصرية، قالوا إنّها ماتت في خطأ طبيّ، مجرد تغيير في نوع الدم الذي احتاجت إليه.

حاولت أن أبعد عنها تلك الصور، ولمّا يزل ذلك الصرصور، الذي رأيته في غرفة الفحص يتجوّل أمام عيني.

في سيّارة الأجرة الصفراء التصقت بي. كان يشتدّ عليها الألم فتزداد التصاقاً، وتغرز أصابعها في فخذي، فأتألّم معها بصمت. قال مذياع السيّارة إنّه احتدّ في المحكمة، لأنّهم جرّدوه من مفكرته وأوراقه، واتّهم الأمريكان بالكذب، وهتف بحياة الأمّة العربيّة وحياة الوطن.

علّق السائق، وهو ينظر إلينا من خلال المرآة التي أمامه:
ـ رجل، ليس مثل رجال اليوم.

ذهب عقلي إلى أن جلستنا معاً لم تعجبه، وأنّه رأى قلقي على رواء ضعفاً في رجولتي. التفت إلى رواء، ربما فهمت ما يدور في خاطري. همست في أذني:

ـ ليس مثل زوجي رجالاً على كلّ حال.
ابتسمت، وسألته:
ـ ما لهم رجال اليوم؟
بدت ابتسامته الكالحة في المرآة.
ـ عندهم المرأة كلّ شيء في الحياة.
ـ اعتراف بالحقيقة، وعدم نكران الجميل.
ـ كلامك يجعل المرأة تطمع فينا.
ـ هذه عقدة الرجل الشرقي، يرى المرأة مخلوقاً ناقصاً، وينظر إليها نظرة أمريكا إلى دول العالم الثالث.
لم يعجبه قولي، أو ربما لم يفهمه. انحرف إلى اليمين، ليتجنّب الارتطام بسيّارة توقّفت أمامه فجأة، همهم:
ـ أمّا يوم!

في المستشفى، أخبرنا الطبيب أنّ جهاز السونار معطّل منذ فترة، وطلب منّاٍ إحضار مخطط لوضع الجنين من مستشفى خاص، وأوصى بمستشفى الكوكب:

ـ الأمر لا يكلّف كثيراً.
كانت السيّارة تصعد الطريق إلى مستشفى الكوكب. النسيم يتسلّل من النوافذ، فيلامس الوجوه ممتزجاً بصوت فيروز: "نسّم علينا الهوى من مفرق الوادي". انتبهت لرواء بدت مسترخية، مغمضة العينين، وتجلّل وجهها بعاطفة رقيقة، كأنّها تخبرني عن هدوء تلك التشنّجات، التي ثارت في أنحاء جسدها قبل خروجنا. وكان السائق منشرح الصدر يستمع إلى المذياع بإحساس السلطان عبد الحميد، أو المنخّل اليشكري عندما كان يغبّ الخمر.

وصلنا إلى المستشفى. بناية متطاولة على الربى المحيطة، صعدت رواء بنظرها إليها، وكانت السيارة تبتعد متهادية في الطريق التي جئنا منها. قالت بمرح طفلة في الثالثة:

ـ ذهب الألم. أرى أن نعود إلى البيت.
اعتدت الخوف من التغيرات التي تثب فجأة.
 ـ يجب أن نطمئن على صحتك، ونتبع ما أوصى به الطبيب..
ـ والمال؟ يبدو أنّنا أخطأنا بالمجيء إلى هذا المستشفى.
ـ نحن أغنياء اليوم، لم أقل لك أنّي مررت بصحيفة الأفق، وحصلت على مستحقّات عمّا نشروه لي في الشهر الماضي.
تأبّطت ذراعي، وهي تهمس غانجة:
ـ يسلّم لي قلمك!

بباب المستشفى وقف في استقبالنا موظّفون بابتسامات عريضة، ورافقنا بعضهم كالأدلاء السياحيّين إلى مكتب الاستعلامات. أبلغنا موظّف شاب بضرورة دفع التكاليف قبل رؤية الطبيب. أدركت أنّي وقعت في الفخّ الذي حذّرتني منه رواء. دفعت ما في جيبي، لم يتبقّ غير ما يكفي لأجرة سيّارة تعيدنا إلى المستشفى العام.

تعترف رواء أنّي كاتب مهمّ وناقد أهمّ. ثمّ جاءت ممرضة، واصطحبت رواء إلى الطابق الثاني.

جلست أنتظر على مقعد مقابل المكتب: طلاء الجدران الأزرق مبهج، والهدوء متراكم في كلّ ركن، الأحذية لا أصوات لها، إلاّ عند مجيء زبون أو زائر. عمال النظافة يدخلون المصعد ويخرجون، يتفوّق عددهم على الموظّفين والمرضى. تخيلت أنّي في منتجع على شاطئ البحر، أو نزل في غابة على بحيرة.

أمّا عن العلاج فهنالك أقوال، ربما إشاعات، عن الإهمال، وقلة خبرة الأطباء. وأنّ عمليات كثيرة تجري من أجل المال، وعمولات يظفر بها الأطباء من زملائهم الذين يحوّلون إليهم المرضى الأصحّاء، كما أنّ هنالك صفقات بين بعض الأطباء والصيدليات القريبة من عياداتهم، كي أبرّئ نفسي، أعترف بأني لا أملك أدلّة على ذلك، وإن كنت على يقين أنّ هنالك اهتماماً قلّ نظيره بالنظافة، وقبول المرضى الميسورين. هذا ما يتوضّح لي الآن.

سألت الموظف عن تكاليف الولادة فأجاب بأنّها تختلف إن كانت الولادة طبيعية أو بعملية قيصرية. "على كل حال سنراعيك إذا جئت بزوجتك إلينا". تمنيت لو أني أملك ما يكفي من المال. فهنا المرض ربما أجمل أو أكثر إثارة منه في المستشفى العام، أو على الأقل هنا اهتمام مثير بالنظافة والتبجيل ربما يتفوّق على العلاج. ماذا جرى لها فوق؟ متى ينتهي عذابنا ونرزق بطفل أو طفلة بجمال رواء! فتح باب المصعد، وهلّت رواء ومن خلفها الممرضة. عندما التقت عينانا أشرق وجهها.

أخبرتني بما قالته الطبيبة: الجنين في صحة وعافية، ولكنّه يأبى الخروج كالمحتل، فما زال رأسه إلى أعلى. قلت وأنا أتحسّس جيبي:

ـ سيخرج، ولكن كيف نخرج نحن من هنا؟
ـ لا يهمّ، يا حبيبي. على أقدامنا. حتّى إنّ المشي مفيد. ولعلّ دولته يغيّر من رأيه، ويعطف على حالنا، ويخرج.

عدنا إلى المستشفى العام في موعد الزيارة، موعد يختفي فيه الأطباء في مكاتبهم. مشينا في الساحة التي تحفّ بها أشجار السرو والكينيا. تهالكت على مقعد متهالك بينما كانت رواء تروح وتجيء أمامي. نسيمات نحيلة تهبّ من وقت لآخر، تحرّك أوراق الشجر، فيختلط حفيفها بزقزقة العصافير، وهي تتقافز من غصن لآخر. كيف تعيش هذه المخلوقات الجميلة هنا؟ كانت رواء تقترب مني وهي تتمايل كالبطة البرية، فأبدأ في فتل شواربي، وأنطلق بالإنشاد:

ـ أنا الديك أنا الديك كو كو ريكو كو كو ريكو.
عندما اقتربت مني في إحدى روحاتها، مالت نحوي مداعبة:
ـ أتسخر مني؟
ـ أنا؟
ـ جعلتني دجاجة، أيّها الديك.
ـ بل أسخر من وظيفة الإنسان في الحياة. لماذا تورطنا؟
ـ تورّطنا! دعنا من الفلسفة. الله يخليك؟

لم أتوقف عن ترنيمتي إلاّ حين أطلّت جنازة: أربعة رجال يحملون نعشاً، وثلاثة عجائز يتراكضن خلفهم. تخيّلت جنازة بدر شاكر السياب التي كان أقطابها نفر من فلاحي جيكور، يتقدّمهم حفار القبور، وتذكّرت ما قرأته عن موت أبي ذر، وقفزت إلى ذهني قصيدة مالك بن الريب:

تذكّرت من يبكي عليّ فلم أجد سوى السيف والرمح الرديني باكياً
لكنّي تحسّرت على أشجار الورد التي جزّت أزهارها، كي تلقى على ضريح ديانا، أميرة ويلز التي ذهبت وعشيقها في حادث مرور. قررت بيني وبين نفسي ألاّ أهتمّ بعدد المشيعين، فليس للعدد أهميّة في قيمة الشخص المنعوش.. وإذا ماتت رواء.. لا.. لا. رواء هي الحياة.. هي أنا. لا أتخيّل أن تموت، وأضنّ أن يضمّها تراب. سأحملها بين ذراعيّ، وأطوف بها الحقول التي تموج بسنابل شعرها، وأعلو بها الروابي الخضر، وأنحدر بها إلى الوديان العميقة. لن يلحق بنا غير نسيمات الطبيعة، والكائنات البريئة، وهناك على ضفة نهر، أو ينبوع ماء سنحترق معاً. صحوت، وأنا أسمع صوتها:

ـ سأرى الطبيب.
ـ ودلفت إلى قسم الولادة.

سئمت الانتظار بين النسوة والأطفال ببوّابة القسم. انتبهت لمقعد وحيد تحت شجرة قريبة، وأنا أتجه نحوه قفزت مرعوباً. سقط بقربي شيء من السماء، لم يكن نيزكاً أو شهاباً. كان ديكاً. أجل ديك شديد الاحمرار، ضخم الجثّة. التفّ حول نفسه كالدائخ، ثم استكان بجانب الرصيف، وبدت رقبته تتحرك على جسده، كالبندول. نظرت إلى الأعلى، شاهدت على سطح بناية الولادة مجموعة من الدجاجات والديوك تطلّ برؤوسها إلى الأسفل، لعلّها تستطلع ما حدث. ثمّ تجمع كثير من العاملين بينهم أطباء وممرضون من مختلف أقسام المستشفى، ثم امتلأ الجوّ بمكالمات خلويّة، تتكلّم على أول حالة من الإنفلونزا.

هدأ الضجيج عندما وصل إلى المكان رجل في ملابس خاصة كأنّه رائد فضاء، أو لاعب سيرك، وبيده كيس نايلون، يحيط به مندوبو الصحف ومراسلو وكالات الأنباء والفضائيّات. أفسح الناس الطريق للرجل، انحنى على الديك واعتقله دون أن يقاوم. وتحركت آلات التصوير، وسُلّطت عدسات بعضها على سطح البناية، فجأة طوّقت الشرطة المكان، ورأيت أحدهم يضرب مراسل إحدى الفضائيات عندما رفض أن يسلّمه الشريط الذي صوّره. وقفت إحدى العجائز تدفع الشرطي بيديها، وتصيح:

ـ حرام عليك قتلته! كلّ هذا من أجل ديك؟!

أعجبت بدفاعها عن المراسل، لكن لم يعجبني التقليل من شأن الديك، فهو عندي رمز الفحولة، إنّه أبو سليمان حين ينقطع الرجال، كذلك حزنت على الديمقراطية عندما تقدّم من المرأة رجال الشرطة، واقتادوها إلى سيارة عسكرية.

استطعت التسلل إلى بوابة قسم الولادة. كانت رواء بانتظاري هذه المرة. تنهّدت عند رؤيتي:

ـ قلقت عليك!
ـ عليّ؟!.
ـ قالوا هناك تظاهرة، والشرطة تدخّلت بالهراوات ووقع قتلى وجرحى..
ـ اطمئني. ديك سقط دائخاً من على سطح بناية الولادة.. لكن، أخبريني عن حال الديك الذي في بطنك..
ـ بخير. بدأ يغيّر من وضعه. ما إن يحين موعد خروجه حتّى يكون في الوضع الطبيعي. اطمئن يوم أو يومان وتصبح أباً.. أمّا الشيء المضحك ما سمعته عن هذا الديك الذي تتحدث عنه.
علا الضجيج من حولنا. فلت بصوت عال:
ـ الحكاية معروفة. ديك مصاب بالإنفلونزا، وفزعت الحكومة حتّى لا ينتقل الفيروس إلى الناس.
ـ لا. هنالك حكاية أخرى سمعتها من الأطباء.
ـ لهذا تأخر خروجك من المستشفى؟
ـ نعم!
ـ يبدو لا حقيقة هنا. ما هي الحكاية؟
ـ قالوا هنالك طبيب يلقبونه سكنر المستشفى العام، يحتفظ بجماعة من الدجاج والديوك في قن على سطح قسم الولادة، وينهمك في تعليم الجماعة الديمقراطية، اليوم حاول إجراء انتخابات عامة بينها، لكنّ الديك القويّ رفض ذلك، فأوحى سكنر إلى الجميع بالتخلص منه، فألقوه من على السطح..
ـ صرت تخترعين الحكايات.
ـ هذا ما سمعته.
ـ والفيروس الأنفلونزي؟
ـ إشاعة ربما أثارها تجّار الأدوية، أو حقيقة جرى تضخيمها لصالحهم.

في الطريق إلى البيت. نسيت حكاية الديك. كنت سعيداً بما تردّده رواء عن حالة طفلنا، وأنه سيأتي دون إكراه، وأبعدت عن ذهني ما قالته طبيبة الكوكب من أنه لن يخرج إلاّ بعملية. ثم دهشت أن رواء كانت تفكّر بالقضية التي كسبناها. توقّفت فجأة:

ـ أنا فخورة بك!
وعانقتني. نظرت إلى وجهها، زادت بهجته. قلت باستسلام لذيذ:
ـ في الشارع؟
ـ في أيّ مكان.
واصلنا السير، وكأنّ حوريّة بجانبي.

في المساء، كنا أمام التلفزيون. أعلن في نشرة الأخبار عمّا جرى في المستشفى العام، فقد اشتبه بإصابة ديك بالإنفلونزا، وهرع إلى المكان كبار الأطباء والمسؤولين في وزارة العافية. وتبين بعد الفحوصات المكثفة أنّ الديك مصاب بمرض نيوكاسل الذي يشبه الإنفلونزا، ثمّ ظهر مسؤول كبير في الوزارة، وصرّح أنّ البلاد خالية من أيّ إصابة بالمرض اللعين، وحذّر من الإشاعات في هذا المجال، ثم جرى لقاء مع مختص بالتغذية، بعد أن أوضح أعراض مرض إنفلونزا الطيور، وضعف الفيروس الذي يسببه في مواجهة الماء الساخن والنظافة، أوصى بالإكثار من أكل لحوم الدجاج لأهميتها الغذائيّة، ثمّ سحب من وعاء على الطاولة التي أمامه فخذ دجاجة، أو ربما ديك ـ فقد تشوشت الصورة قليلاً في أثناء اللقاء ـ وبدأ ينهشها بلذة.

 صحت وأنا أخرس التلفزيون:

ـ لن نراجع المستشفى العام..
تساءلت بدهشة:
ـ من نراجع إذن؟
ـ الداية أم محمد.
نهضت بتثاقل.
ـ أعطاك عمرها!

نظرت إلى السقف. الداية التي ساعدت على مجيء أخواتي إلى الحياة فارقت الحياة! أيّ مهزلة نحياها؟! ليتني حجر! لا، بل ذلك الديك! لم تطل كآبتي عندما اقتربت مني رواء.

(2)

قبل العودة إلى النوم حدّثتها عن جائزة النقد، وأخبرتها أنّ جمعية إرَم سوف ترشّحني لها. باركت فعلتي. عجبت أنّها لم تسألني عن قيمتها الماليّة، لكنّها أكّدت أنّي سوف أنالها، وينتبه المثقفون لي، ويتسابقون على مؤلفاتي.

كيف بدأت القضية؟

لم أفكّر يوماً في جائزة. أنا لا املك غير أن أكتب. في الكتابة حياتي، والجائزة لأمثالي تعني النهاية. لا أريد أن انتهي. أريد أن أكتب وأكتب دون أن أسمع أحدهم يقول: يعطيك العافية، هذه الجائزة لك. كثيرون نالوا الجوائز وانتهوا. ماتوا وهم أحياء. وأنا موتي بين الحروف والفقرات.

لكن، زوجتي قرأت عن جائزة النقد في الصحف. طوّقت عنقي بذراعيها كالعادة، وراحت تلهب خيالاتي عن واجب المجتمع نحو كتّابه ومفكريه، فمن حقي ـ كما تقول ـ أن يعرفني الناس، ويتسابق الكتاب والمبدعون في الاطلاع على مؤلفاتي. من ثمارهم تعرفونهم. حرام عليك أن تبقى في الظلّ! ثم هدّدت بانّها ستدور على المنتديات والمؤسسات، كي ترشح زوجها لجائزة منتدى الأدب. ربما أحسّت بأن ما اكتبه منبثق من عينيها، أو أنه يشفّ عمّا في قلبها، هي ترى الكون في زوجها، وعلى المجتمع أن ينتبه إلى أن هناك نساء يحببن أزواجهن مثلها. ربما لهذا ثارت عندما قلت لها:

ـ لا أرى أهميةّ للجائزة غير تعب البال.

ـ أتمنّى أن يحسّ بك الناس. إنّهم لا يعرفونك إلاّ إذا نلت جائزة. بقدر ما تنال من الجوائز بقدر ما تكون منزلتك. أنت ترى كيف يتزاحم الأدباء والفنانون على الجوائز بدءاً من نوبل وانتهاء بجوائز الحكومة التقديريّة والتشجيعيّة وجوائز المنتدى. إنها تفتح لهم أبواب الشهرة والمجد والمال. قليلاً من الانتباه يا حبيبي يجعلك تحوز جائزة أو اكثر. إن كنت لا ترغب في الجوائز، فأنا أرغب في أن يحصل زوجي على جوائز كثيرة من المنتديات والمؤسسات والدول. من أجل حبيبتك! من أجلي. اطرق هذا الباب!

حدّثتني نفسي أنّها تريد أن تقضي على بساطتي، فأنا أفهمني أقلّ شأناً من حصاة في واد، وأصغر منزلة من ذبابة على نافذة، ثمّ تأكدت أنّ فهمي لنفسي مخروق، وأنّ روح المتنبي تسكنني، فقد استجبت لمداعباتها في تلك الليلة، وتطايرت خيالاتنا، ورحنا نحلم معا ليس في جائزة المنتدى فحسب بل في جائزة نوبل أيضاً.

في ذلك الصباح انهمكت في تقبيل شعر رواء، وتشمم رائحته، التي تحاكي عطر الحقول، أو زهر اللوز. كانت غارقة في النوم، فلم أشأ، على غير العادة، أن ألهب خدّيها بقبلاتي، ثمّ تركت شعرها ليحاول أن يخفي إشراق وجهها.

في الخارج الخضرة تتبعثر بين البنايات العالية، ودفء الشمس يتوزع على السطوح والطرقات، والأطفال يتراكض بعضهم وراء بعض، وبانت الدماء متدفقة في وجوه النساء، فتألّقت عيونهن في وداعة، ورأيت في كل منهن رواء. تذكّرت ما جرى في الليل، وبدت سحب الذاكرة أكثر جمالاً، وطغى جمالها على ما حولي، فلم أعد أحسّ بالمكان، وكأنّي أسير في فضاء غامض، سعيداً بمتاهتي، ثمّ عاد عقلي للحظة، فكّرت في أن أعود، فليس من مكان أفضل من حضنها. لم أستطع، فقدت القدرة على الفعل، فرحت أصرخ في داخلي، وأدعو ربي أن يعيدني إلى البيت!

تصاعدت أمنياتي. التفت ورائي، تراءت امرأة كشجرة سرو، ينسدل شعرها بغزارة، تخيّلتها تسرع للحاق بي، رغبت في الاختفاء في ثناياها، تذكرت رواء فتقلّصت رغبتي، وأسرعت الخطا، وهي تسرع خلفي كأنّها تحاول منعي من السير. من هذه المرأة؟ لماذا تلحق بي؟ كان الشارع خاليا من المارة. هنالك سيّارات جامدة تصطف على الجانبين، وهواء ربيعي ينعش الوجوه ببرودته الركيكة. عندما صرت بباب جمعية إرم استدرت، لم أرها، شعرت كأنّي أفقد شيئاً، ومرة أخرى تذكّرت رواء، فعاودني الإحساس بالامتلاء.

أعرف تفاصيل الجمعيّة. ليست قصراً في مدينة عاد بل مبنى من طابقين صغيرين، على السور الخارجي بجانب الباب الحديديّ لوحة خشبيّة مهترئة، مكتوب عليها: "جمعية إرم للثقافة والمعلومات" ينفتح الباب على درج في نهايته باب يتحرك بزنبرك خاص، ليظهر صالة تحتلها طاولة كبيرة حولها كراسيّ ذات مساند طويلة. أما الطابق الثاني ففيه ملفّات أرشيفيّة، وجهاز حاسوب، وتلفزيون يتّصل بدش ضخم، وكنبات قديمة متلاصقة بحميميّة.

دخلت.

الباب الخارجي مفتوح كالعادة. ارتعشت أذني. توقفت على رأس الدرج. تأوّهات تتهادى من قاعة المحاضرات الصغيرة في الطابق الأرضي، تبادر إلى ذهني أنّها منبعثة من التلفزيون في الطابق الثاني، تصاحب أغنية من الأغاني التي انتشرت في الآونة الأخيرة، ثم تخيّلت أنّ أبا سمير حاجب الجمعية يلصق أذنيه بالمذياع الصغير، يتلذذ بسماع أغنية فاحشة لنانسي عجرم أو هيفاء وهبي. فكّرت في أن ألقي القبض عليه متلبّساً، فدفعت باب القاعة بخفة، وأعدته بحذر.

في الداخل، واجهتني مؤخّرة تلتف حولها ساقان بيضاوان في نهايتهما فردتان من حذاء نسائي. على الأرض قطعة أو قطعتان من الملابس. كانت المؤخّرة تتقدّم وتتراجع وسط لهاث وغنج. لم أتمالك. ربما كنت مخطئاً عندما صرخت:

ـ هذي جمعيّة ثقافيّة أم مبغى؟

تساقطت الساقان على الأرض، ووقف سليمان نائب رئيس الجمعية، يرفع بنطاله إلى أعلى، جمدت في مكاني. أعرف أنه لم يتزوج على الرغم من الأربعين سنة التي ابتلعته. سألته مرة لماذا لا يتزوج. أجابني إنه لن يفكّر في الزواج إلاّ في الخمسين، عندها يتزوج فتاة أو أرملة أو مطلقة لتنجب له ولداً يرعاه في شيخوخته. قيل إنه يصطاد النساء المتزوجات، ويصطحبهن إلى منزل استأجره لهذه الغاية. لا أدري لماذا هذه المرّة جعل ميدانه الطابق الأوّل في الجمعية.

أمّا المرأة فهي إحدى الزميلات. أجل سميحة. كنت أعرف بخلافها مع زوجها لكن لم أفكّر يوماً أنّها تخونه. أيّ خيانة أقسى من خيانة اللحم والدم! أذكر أنًي لقيتها في ندوة معلوماتية، صارحتني أنّها تكره مثاليتي. اليوم أحزن لواقعيتها المريضة، وأعجب من لا مبالاتها، إذ انتفضت واقفة، ومشت بخيلاء نحو النافذة دون أن تكلّمني، أمّا النائب فالتفت إليّ متوسّلاً:

ـ الله يستر عليك استر علينا!

وافقته بهزّة من رأسي. وأظهرت ندمي على فتح الباب، ودخولي دون أن أطرقه، كما اعتذرت على ما تلفّظت به، فأنا في النهاية لست شرطيّ آداب. تناولت زميلتنا حقيبتها عن الكرسيّ الذي كان يحمل رأسها قبل قليل وخرجت، وهي ترمقني باحتقار. جلست على الكرسيّ، وتهالك على مقعد قريب. سألته:

ـ هل أبو سمير في الطابق العلوي؟
ـ خرج إلى الدكان.
ابتسمت.
ـ متواطئ إذن؟
ـ أنا الذي طلبت منه أن يأتي بالصحف.
ـ أنت رجل خطير أعرفك عندما كنّا في الهيئة الإداريّة السابقة.
ـ هي التي تريد. لماذا نرفض؟
وسكت ثم تساءل:
ـ هل ترفض لو طلبت منك ذلك؟
ـ نعم.

وسكت. لم أقل له إنّي لا أستطيع إلاّ مع رواء، فأنا لست بيل كلينتون أو أمير ويلز. أعرف أنّ وراء الخيانة الزوجيّة ندماً يتلبّس الإنسان، مثل الشبح الذي كان يتلبّس السيدة ماكبث.

أعلمته أنّي جئت الجمعية كي يرشّحني الزملاء في الهيئة الإدارية لجائزة منتدى الأدب، وأخبرته أنّ المنتدى أرسل إلى المؤسسات الثقافيّة والجامعات يدعوها إلى ترشيح من تراه مناسباً من أعضائها للجائزة.

رحّب بالفكرة:

ـ أنا لا أمدحك في وجهك. أنت تستحقّ هذه الجائزة.. لا أدري لماذا لا ينتبهون إلى إنتاجك النقديّ. على كل حال نحن في جمعية إرَم ـ كما تعلم ـ نقدّرك بوصفك أحد أعمدة الثقافة في هذا البلد.

أحضر كتاب الترشيح الذي أرسله المنتدى، وطلب إليّ أن أجيب عن أسئلته، وأن أكتب خطاباً إلى الهيئة الإداريّة أعلمها برغبتي.
وأنا أخرج سمعته قبل أن أصفق الباب يتوسّل بأن أنسى ما رأيت هذا الصباح.

في الطريق قابلني أبو سمير. صحيح، أنّه يحرص على علاقات حسنة بأعضاء الهيئة الإدارية للبقاء قي وظيفته، وخصوصاً بعد أن تقاعد من عمله في دائرة الإصلاح الزراعي، فلم يكن يمانع من تقديم بعض الخدمات الخارجة عن الثقافة والمعلومات كتسهيل لقاء عاشقين، أو إعداد سهرة ترفيهيّة لأعضاء الجمعية. لكن لم أكن أعرف أنه يقدّم تسهيلات كهذه التي رأيتها. ضحك عن أسنان صفراء مهشّمة:

ـ هل كمشتهم؟
ـ كماشة تخلع بقية أسنانك. وتقول إنّك زرت البيت الحرام، وصليت في مقام إبراهيم، إبليس يتعوّذ منك، ألا تتقي الله؟! جعلت من الجمعية كرخانة، يا كرخنجي!
قال وهو يهرب مني:
ـ نحن تحت الأمر، يا أستاذ.

توتّرت الدماء في أعصابي، وأنا أعيد في مخيّلتي إنتاج ما حدث مع إضافة بعض الرتوش: شعرها منسدل على الكرسيّ. لا ليس مثل شعر رواء. امتزاج الأصوات في تناسق غريب: لهاث الاثنين وغنجها، وحركة الأعضاء العارية، وارتطام عجلات الكرسيّ ببلاط القاعة. ازدادت الأشياء من حولي توهّجاً، طغى اللون الأحمر على غيره وفاض توتري، تهالكت على سور منزل قريب. ثم حاولت أن أغيّر وجهة عقلي.

تذكرت حرب الأربعين عام بين بكر وتغلب، فلعنت البسوس وأمثالها من النوق، ثم ّ انتقلت لعناتي إلى الخيول، وأنا أتذكر حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان. وبرزت شخصية الزير سالم من بين أبطال الحربين، فاستدعت صورة نائب رئيس جمعية إرَم، ثم ظهرت شخصيّة الجليلة فاستدعت صورة زميلتنا في الجمعيّة، وتبعتها صورة القاعة وما جرى فيها، كما استدعت مكاناً خبرته عندما انجرفت إلى دراسة التربية.

تطوعت عن طلاب الشعبة أن أراجع عميد كلية التربية بشأن البرنامج الدراسي.ّ في باب مكتب العميد اعترض طريقي أحد المراسلين، وأبلغني أنّه ليس في مكتبه. عدت إلى الأستاذ المشرف فأجابني أنّه كان يكلمه بالهاتف منذ قليل. غضبت من المراسل وعجبت من وجوده في ذلك المكان، فهنالك سكرتيرة كما أذكر. عدت. هذه المرة لم أجد المراسل بالباب، فاندفعت إلى المكتب. دخلت. غرفة واسعة. المكتب في الصدر، والسكرتيرة بشعرها القصير وملابسها الأقصر جالسة في حضن عميد التربية، ويدها تعبث بصدره. وقفت أمامهما مدهوشاً. رأيتها تنسلّ بخفّة، وتجلس على مقعد صغير ملاصق المكتب. انتفض العميد واقفاً ثم صرخ:

ـ لم تطرق الباب؟ لماذا دخلت دون إذن؟ أهذا سلوك طالب في كلية التربية؟!

تجاهلت كلامه، ومضيت أحدثه عن المادة التي لم ترد في البرنامج. أجابني وهو يشير إليّ بالخروج:

ـ سأحلّ المشكلة مع المرشد.

في الشارع حاولت أن أجمع في مقاربة جمالية بين زميلتي في الجمعية وسكرتيرة عميد التربية. كلتاهما ذواتا بنية مشذّبة، وملابس زاهية قصيرة، وعيون نجلاء في جرأة نادرة. فجأة. تبادرت إلى عقلي صورة تلك المرأة التي شاهدتها بباب الجمعية. شعرت كأني أفقد قطعة من قلبي، شرعت أطمئن نفسي أنّي سأراها، فلكلّ فراق نهاية. لم أقدر على تغييبها عن تفكيري حتّى ظهرت رواء، كأنّها تتهمني بالخيانة. غرقت في هذه الأفكار حتى بلغت البيت.

ألفيت رواء تحشو الكوسا. هل هذا وقت الكوسا؟ فكّرت في أن أتمارض. تخيّلتها تترك ما في يدها وتسرع نحوي، تلامس يدها جبيني. حرارتك مرتفعة، حبيبي. سلامتك! ماذا جرى لك؟ أتشبّث بها، وأنا أتأمّل عينيها الذابلتين، ثم نرتمي معاً على الفراش. نهضت بحيوية، ساعدتني على الخروج من ملابسي، وأنا أتأوّه:

ـ الصداع يقتلني، يا رواء.

شعرت بارتعاش يدها، وهي تتحسّس جبيني. كرهت أسلوبي في حبّها. نظرت إلى عينيّ.هدأت مخاوفها. ابتسمت:

ـ انتقل على السرير حتّى أعدّ لك كأس عصير.

تلاحقت الصور المثيرة: ساقا سميحة في جمعية إرَم، وفستان سكرتيرة عميد التربية. شعرت بالاشمئزاز. تمنيت لو أنّي ديوجين، أتنقل في برميل وأفعل ما أشاء. جاءت رواء بالعصير، في هذه اللحظة قرع جرس البيت. نظرت إليّ:

ـ من يا ترى؟
كانت شقيقاتي الثلاث. جئن ـ كما قلن ـ ليقضين ليلة معنا. غابت خططي، وربما كذلك ما كانت تفكر فيه رواء. عندما تلاقت نظراتنا همست:
ـ بعد السهرة أتفرغ لك.
تتفرغ لي. نعم أنا مريض، وهي ممرّضتي.

طالت السهرة، أقسمت أنّ أخواتي لم ينمن في النهار حتّى يقلقن راحتنا. بعد منتصف الليل ذهبن للنوم في الحجرة الخالية. لمّا غبنا في الفراش، لم تتفرغ رواء لي، راحت في النوم، لم أدر متى لحقت بها. عشت فيما يشبه الحلم. تسرّب الدفء إلى أوصالي، وتصاعدت ارتعاشات الجسد، وتدفّقت الدماء إلى مراكز اللذة، استيقظت على رواء: جسمي يمتصّ حرارتها اللطيفة، وشعرها ملوّح على صدري ووجهي. اكتشفت أنها كانت نائمة، لم يكتمل صحونا إلاّ عندما تعالت الهمسات، وتكاثرت الضمات، واستعرت القبل.

قبل العودة إلى النوم حدّثتها عن جائزة النقد، وأخبرتها أنّ جمعية إرَم سوف ترشّحني لها. باركت فعلتي. عجبت أنّها لم تسألني عن قيمتها الماليّة، لكنّها أكّدت أنّي سوف أنالها، وينتبه المثقفون لي، ويتسابقون على مؤلفاتي.

(3)

لم نخسر كثيراً، الحمد لله! بقيت رواء على قيد الحياة! لا أدري كم مرّ من الوقت حتّى انشقت بوابة غرفة العمليات، وظهرت ممرضتان تجران بهمة ونشاط سريراُ مرتفعاً، أوقفتهما على ضعفي، ألقيت يدي على رأس رواء، لم تكن قد استيقظت من البنج، لكنها فتحت عينيها، انحنيت أخفي وجهي في شعرها، لم تمهلني الممرضتان، فاندفعتا بالسرير، وتركتاني في حزني وحيرتي.

اشتدّ الألم على رواء، وخرجت من الحمام وهي ترتجف، ثم راحت في البكاء. إنّ بعض الدمّ نزل من الرحم. لا بد من العودة إلى المستشفى. ساعدتها على تبديل ملابسها، وأنا أحاول تهدئتها بالقبل والعبارات المرحة التي درجت عليها في الآونة الأخيرة، وأنا يحرقني الألم: قرب الفرج. دقائق ونصل إلى المستشفى. أين عزيمتك القوية؟

أمام قسم الولادة جماعات كبيرة من النساء والأطفال وبعض الرجال. بصعوبة اندفعت رواء أمامي، سمح لها البوّاب بالدخول، وطلب منّي الانتظار بالقرب من الباب حتّى يراها الطبيب. غزا أذني صراخ الأطفال وثرثرة النسوان وأسئلتهن لمن يمرّ من الممرضات وعمال النظافة: هل ولدت فاطمة محمود؟ ماذا أنجبت خديجة طه؟ متى موعد الزيارة؟ لم أطق البقاء في المكان، فابتعدت قليلاً حيث أستطيع سماع البواب إذا ناداني. وقفت أصعد النظر إلى الشرفة الممتدة في الطابق العلوي: نساء يرحن ويجئن، ثم ظهرت امرأة مكتنزة البطن، فجأة علا صوتها تنادي زوجها:

ـ انتبه يا "أبو زيد" للدار. لا تتعب نفسك وتأتي لزيارتي، إن شاء الله الليلة أولد بالسلامة، وأعود إلى الأولاد.

وسألت امرأة أخرى رجلاً ربما كان قريبها أو زوجها عن نتائج الثانوية، فأعلمها أنّها ستعلن في الصباح.

لم أنم تلك الليلة. ماذا لو رسبت؟ ماذا لو لم أحصل على علامات تدخلني الجامعة؟ الشارع ينتظرني. لا، سأنجح، سأدرس الحقوق لأكون محامياً يدافع عن المظلومين. استيقظت في الصباح الباكر، وتسلّلت إلى المدرسة، ووالداي وأخواتي نيام. بعد العاشرة أعلنت النتائج، ونجحت، والتحقت بالجامعة، لكنّي درست الأدب لأنشغل بهموم نقده، وانحرفت بعد تخرّجي بسنوات لأدرس التربية وعلم النفس.

قطع تفكيري صراخ البوّاب، وهو يدفع رجلاً إلى الخارج:

ـ حرام وعيب، هنالك نساء كاشفات الوجوه وعاريات.

سخرت في نفسي. فعند رؤية المرض تختفي كلّ شهوة، ويغدو الإنسان مستحقاً الرثاء. لو أنّ دانتي رأى عذاب الناس في المستشفى العام، لما احتاج إلى رسالة الغفران، أو الكتب المقدّسة لتصوير الجحيم في ملحمته الإلهيّة. ورحت أقارن ما حولي بما في السجن، ففي السجن يتطلّع المسجون إلى أهله ويكلّمهم من بعيد. هنالك قضبان وشرطة، وهنا أوامر مشدّدة، وبوّاب ضخم الجثّة. هناك التحرّي عمن يخرج ويدخل، وهنا التحري عمن يدخل فحسب، ومن الغرابة أن تكون الزيارة كيوم الحشر بخلاف ما يحدث في المستشفيات الخاصّة.

انتبهت للشاعر باسم طالب ورجل آخر لا أعرفه، كانا يتحدثان بجانبي:

ـ في ذهني قصيدة أكتبها.
ـ ما عنوانها؟
ـ تناثر العصافير.
ـ عنوان عذب وخصب.
ـ سأكتبها في الحاسوب.
ـ لا تفعل الكتابة اليدويّة أكثر حميميّة.

ضحكت، انتبها لضحكتي، والتفتا إليّ. صافحني باسم، وهو يبدي أسفه على عدم رؤيتي، بارك لي قرار المحكمة بجائزة النقد، وتمنّى لو أوفّر له من كتبي كتاباً أو كتابين، حتّى يطلّع على أفكاري النقديّة، اعتذرت أنّي لا أملك أيّ نسخة من مؤلّفاتي، فوعد أن يجدّ في الحصول على بعضها، فمن العيب أن يظلّ محروماً من معرفة أفكار ناقد مهم. قلت في نفسي: هذه قيمة الجوائز، تجعلك مهماً"

علمت أنّهما جاءا للتوسّط لدى طبيب في قسم الطوارئ، لإيجاد سرير شاغر لقريب لهما مصاب بالسرطان. ولكنهما لم يجدا الطبيب. تضاءلت مشكلتي أمام مصيبتهما، وتأكّدت من خسارة الإنسان في معركة الحياة، كما خسارة هذين في معركة السرير.

صرخ البوّاب منادياً:
ـ مرافق المريضة رواء!

اندفعت نحوه، وأنا ألوّح بيدي، عندما وصلت إليه قدّم إليّ أوراقاً:

ـ إلى بنك الدم. المريضة تحتاج إلى وحدتين قبل إجراء العملية.
علا صوتي:
ـ عملية!!!

لم يهتمّ بي، تطوّعت امرأة يبدو أنّها على دراية بما يجري في مثل هذه الحالة. قالت:

ـ كالعادة يطلبون الدم ولا يستخدمونه.

كنت طالباً. اجتاحت إسرائيل لبنان، هرعنا إلى مراكز التبرّع بالدم. سحبوا دمنا. سمعنا أنّهم لم يستطيعوا حفظه. قيل إنّهم دلقوه. أين؟ سأل زميل لنا. تعجّبت إحدى الطالبات التي تبرّعت بدمها من السؤال، بينما أجابت أخرى:

ـ في المجاري.

نظرت إلى ساعتي. موعد الزيارة سيحلّ بعد قليل، ذهابي إلى بنك الدم يعني أنّ رواء لن يزورها أحد، سيزداد قلقها، وتضطرب أفكارها، سأراها ثم أذهب إلى بنك الدم، ليأخذوا دمّي كلّه. المهمّ أن تبقى رواء.

كانت وحدها في الغرفة، شاحبة الوجه ذابلة العينين، ترنو إلى أعلى كأنّها تدعو الله. لم تحسّ بدخولي. طوّقتها بذراعي، شعرت بوهنها، سمعتها من خلال بكائها:

ـ لا توسع في الرحم، والجنين قاعد في أعلى البطن. لا بدّ من العملية. هذا ما قاله الطبيب.

لماذا هو قاعد؟ القعود لم نعرفه في عائلتنا. لم تحدثني أمي أو شقيقاتي عن هذه الحالة. بالنسبة إليّ قالت أمّي إنّي كنت أسبح في بطنها، ثم انقلبت على رأسي، وانزلقت منها بسهولة. له العذر في أن يأبى الخروج، لماذا يخرج؟ لماذا يغادر موطنه إلى مواطن مجهولة. هنا الدفء يحيط به، ودقات قلب رواء تهدهده. ماذا ينتظره عندما يخرج؟ في البداية كآبة وقلق وعذاب. وفي طريق العيش تهترئ قدماه، ويتنفس هواء ممزوجاً بعوادم السيّارات، ويشرب ماء يعبق برائحة المجاري، ويأكل من لحم بقر مجنون، أو مشوّه بالديوكسين، وفي النهاية صمت.

تفقّدت ما تحتاج إليه رواء، وخرجت مسرعاً لأعود قبل أن ينتهي موعد الزيارة. بقالات كثيرة مجاورة للمستشفى، وباعة كعك وموز يحتلون الرصيف. لا أرصفة في المدينة. وهي عاصمة العواصم ابتعت من إحدى البقالات مناديل ورق وفواكه وزجاجات عصير، قبل أن أجتاز الطريق عائداً، وقفت أمام محل بيع الكتب، وأنا أتنقل بنظري بين الرفوف، انتهيت إلى عنوان كتاب على رفّ للكتب الصادرة حديثاً، "عدنان الحمد: حياته وشعره". أعرف هذا الشاعر، أين رأيته؟ لا. إنّي أعرف الكتاب. قرأته، لكن، أين؟ وترددت بعض أفكاره في عقلي، فاندفعت لشرائه.

دعاني مدير الثقافة إلى مكتبه في الوزارة. استقبلني، كعادته، مسرفاً في ابتساماته، وقف ثم أحنى قامته الباسقة، وقال وهو يقدّم إليّ مخطوطاً كان أمامه على المكتب:

ـ أحلنا إليك هذا الكتاب. توصّى به خيراً.
ـ ماذا تعني خيراً؟
عاد إلى مكتبه، وكأنه فوجئ بما يسمع.
ـ بصراحة الوزير مهتم بنشره..
ـ حتّى وإن كان سيئاً..
ـ لا يوجد كتاب سيئ. قليل من التصحيحات يصبح أيّ كتاب قابل للنشر أو الدعم.. على كل حال لا تتعجّل الأمر. اقرأه فربّما كان قيّماً..

قرأت المخطوط، وجئت الدائرة، وأنا أحسّ بالسعادة والرضى، بأنّي، على الرغم من عدم توصيتي بنشر الكتاب أو دعمه فقد نهضت بعمل كبير، إذ حللت الكتاب وشرحته وأضفت إليه، واقترحت أفكاراً لتعميقه وتوسيعه، وصححت كثيراً من المعلومات المغلوطة.

لم يكن في مكتبه، صادفتني السكرتيرة، أخبرتني برقة مغناجة أنه ذهب إلى اجتماع وسيعود بعد ساعة أو ساعتين. تركت لها المخطوط، وفي طيه التقرير الذي كتبته. بعد ساعة أو أقلّ اتصلت بي:

ـ المدير مستاء من التقرير، ويدعوك لمقابلته على الفور.

وجدت باب مكتبه مفتوحاً. طرقته ودخلت. كان عنده أديب من بلد شقيق، عرفت فيما بعد أنه يعمل على كتاب حول إنتاجه الفكري، قال باستياء:

ـ انتظرني في مكتب السكرتيرة!

أول مرّة يخاطبني بتلك اللهجة، كثيراً ما كنت أصادف عنده علية القوم، فيقدّمني إليهم، وينادي على أبي جميل بأن يضيفني شاياً أو قهوة. اليوم يغلق مكتبه في وجهي. تدفق الغضب إلى عقلي، فكّرت في أن أغادر الوزارة، وليذهب هو وصاحبه عدنان الحمد إلى الجحيم، عدت مقتنعاً بضرورة السير في التجربة حتّى النهاية.

خرج الضيف ودعاني. بادرني بغضب:

ـ لا يوجد نقاد في البلد إلاّ أنت؟!
ـ يوجد نقاد، ولكن ليس مثلي بالتأكيد..
ـ ما فعلت في الكتاب الذي أوصيتك بإجازته؟ ألا تعرف أنّ هناك توصية بنشره من الوزير؟
ـ تعرف نزاهتي، رأيت لا فائدة من نشره، فهو يحتوي معلومات غير دقيقة، ويقوم على مبالغات لا ضرورة لها، كما أنّ منهجه ضعيف، وأسلوبه ركيك يطفح بالأخطاء الإملائيّة والنحويّة. ماذا تريدني أن أفعل؟
ـ بإمكاني ـ كما تعرف ـ أن أدعو أعظم ناقد في البلد، وأطلب منه أن يمدح الكتاب، ويوافق على نشره. لكني اخترتك كي أرزقك، فأنا أعرف حالتك، وأرثى لها.
ـ الكتاب ضعيف وآرائي فيه صائبة.
ـ أعرف. ماذا تريدني أن أفعل؟ أترغب في طردي من العمل؟ افهم يا بني آدم، ما دام الكتاب عن أحد المتنفذين، وهذا المتنفذ راغب في أن يصدر كتاب عن حضرته، لماذا لا نلبّي له رغبته؟
ـ لا أستطيع أن أغيّر ما كتبت، ولك أن تختار ناقداً غيري، وأنا مسامحك بالمبلغ الذي أستحقّه.
نظر إليّ بحيرة. اخترقت مشاعره وأحاسيسه، كأنّي سمعت ضميره يهمس: "متأكد أن جيبه مخروق، ومع ذلك نفسه كجنرال منتصر، ليت لي مثل هذه الهمة! ليتني أقوى على أن أكون مثله! أين منّي ذلك الرجل الذي كنته قبل هذه الوظيفة!؟" ساد صمت ثقيل قطعه أخيراً:
ـ عندي حلّ وسط.
ـ أسمعه.
ـ أرى أن توصي بالنشر مع اشتراط الأخذ بالملاحظات التي قدّمتها.
ـ هذا يعني إعادة تأليف الكتاب.
ـ لا أدري لماذا تعقد الأمور. يا أخي، نعيد المخطوط لك وتقوم بالتصحيحات اللازمة مقابل مكافأة عن ذلك، نريد أن نرزقك. هل تعرف هذا؟
ـ موافق، وسأجري التصحيحات دون مقابل حتّى يصير الكتاب مقبولاً.

كانت خدعة، وافقت على النشر ولم أر المخطوط بعد ذلك. تصفحت الكتاب. اشتعل الضمير حرقة، ألقيته في سلة المهملات التي أمام قسم التوليد.

وأنا عائد كان النشيج يتصعّد من قلبي: أتخرج رواء من هذه القضية بسهولة أم أنّها مثل جائزة النقد تحتاج إلى عملية وآلام. نحن في رحمة هذا القاعد بلامبالاة.

عندما عدت كان في زيارة رواء أمّي وشقيقتي حنين. لم يبد على أمّي التأثّر كعادتها، كانت تردّد أن الله رؤوف بالعباد، وسيرأف برواء، ويفرج همّها. وتبتسم مهدّدة، وهي تنظر إلى بطن رواء بأنّها ستفرك أذنيه عندما يأتي، لأنه عذّب أمّه هذا العذاب. أما حنين فكانت من وقت لآخر تخرج منديلاً ورقيّاً من حقيبتها، وتجفف عينيها.

أشارت رواء إلى طبيب في الممر، أسرعت إليه. قال إنًهم سينتظرون فربما تكون الولادة طبيعية، لن يلجأوا إلى الجراحة إلاّ عند الضرورة، الوضع مطمئن حتى اللحظة، أما إذا لم يحدث تغيّر في وضع الجنين الليلة، فالتدخّل الجراحي يصبح مطلوباً، حتّى لا يحدث مكروه لا قدّر الله للجنين أو للأم، وطلب توفير وحدتين من الدم في أسرع وقت.

طمأنت رواء بما لم يقله الطبيب:
ـ صبر ساعة أو ساعتين، ويتم الأمر على خير.
هبّت أمّي وحنين للذهاب معي إلى بنك الدم، قلت لأمّي مداعباً:
ـ لا يأخذون الدمّ من الجدات.

اتجهت وحنين إلى طرف المستشفى الجنوبيّ حيث بنك الدم. في الطريق كنّا نقرأ ما كتب على بعض البنايات: قسم العظام. مركز الثلاسيميا. قسم السرطان. كانت تنظر إلى الأقسام التي نمرّ بها بخوف. خمّنت أنّها تقارن بين ما تراه هنا وبين الجامعة التي التحقت بها هذا العام. قلت:

ـ هنا جامعة الألم!
كأنّها كانت تنتظر قولي، فانطلقت:
ـ لماذا لا تقول، يا أخي، جامعة الأمل والتفاؤل؟ لماذا لا نفكّر في الجانب الأبيض من الواقع؟ أكلّ هذا يصنعه بك حمل رواء؟
ـ ربما، لكن أما ترين أننا نأتي الحياة، ثم نبدأ منذ الأيام الأولى في التردّد على المستشفيات، وعادة يكون موتنا في مستشفى، ليقذفنا في الحال إلى المقبرة، ففي هذا المستشفى لا يمرّ يوم من دون أن يزوّد المقابر بالمواد الخام.
ـ ستغيّر هذه الرؤية عندما تخرج رواء من المستشفى، وبين ذراعيها طفل. في بنك الدم ملأ ممرض وحدتين من دمنا. كان المسؤول يوقّع الأوراق التي تشير إلى إيداعنا الوحدتين، رفع رأسه، وهو يعيد إليّ نسختين من الأوراق. تأمّلني. قال، وهو يشير إلى الصحيفة التي أمامه:
ـ صورتك؟
نظرت إلى الصورة إنها صورتي. تتوسّط صفحة داخليّة. تلهّفت لأقرأ ما جاء فيها. قال:
ـ خذها لقد تصفّحتها.

مرت عيناي على العناوين: محكمة الحكومة العالية تصدر حكمها في جائزة النقد. فؤاد توفيق يستحق الجائزة. رئيس منتدى الأدب: ندرس فصل توفيق من المنتدى.

فؤاد توفيق أصبح مهما. الصحف تتناقل أخباره. أعلى سلطة قضائية في البلد تعترف به. لن يستطيع منتدى الأدب أو غيره حجب الحقيقة أنّي ناقد مهمّ، لكن يجب ألاّ يصيبني الغرور، فأنا لست ت. س. إليوت، أو رولان بارث. أنا فؤاد توفيق.

كان وقت الزيارة في نهايته. بقيت حنين بالباب. دخلت عنبر الولادة. ناولت الطبيب إشعار إيداع الدم. قبل أن أغادر ملت على رواء. جلست بجوارها على السرير، وضعت يدي على بطنها، ثم انفصلت عما حولي. أفهم يا بني عدم رغبتك في الخروج، لكن في النهاية لا بدّ أن تخرج. أنصحك أن تفعل، أو تسهل مهمّة الطبيب. حرام عليك ما تفعله بنا يا ابني! تأخّرك عن المجيء إلى عالمنا يضرّك ويضرّ أمّك، وإذا ما استعصى إخراجك في الوقت المناسب فستكون الكارثة. وستحاسب على انتحارك، وعلى قتلك أمّك. ستكون مجرماً. يا ابني، أرجوك من أجل أمّك! إنّها لا تستحقّ منك العذاب. من أجلي! فأنا لم أسئ إليك. أعدك أنّي لن أقسو عليك. سأشتري لك كلّ ما ترغب فيه، وآمل ألاّ تغالي في طلباتك بل أوامرك فميزانية والدك محدودة. أعدك أنّي سأعلّمك في أرقى المدارس الخاصّة. مدارس الحكومة ليست مناسبة هذه الأيام، فمدرسوها فقراء يعتمدون على الله والدروس الخصوصية.
لم أشأ أن أذهب إلى بيت أهلي، أريد أن أخلو بنفسي. تركت حنين تعود وحدها. عندما أصبحت وحيداً في البيت، افتقدت رواء في كلّ زاوية، ولم أفطن إلى الصحيفة وما جاء فيها عنّي وعن جائزة النقد إلاّ بعد أن تلوت في ذهني ما أحفظه من السور القصيرة.

كان فيها استطلاع لأراء رئيس المنتدى وأعضاء من الهيئة الإدارية. قال الرئيس لا يليق بالعضو أن يلجأ إلى القضاء، ونحن نفكّر جدّياً في فصل فؤاد توفيق من الهيئة العامة، بينما أوضح نائبه أنّ توفيقاً يستحقّ الجائزة حسب آلية الترشيح، ولكن المشكلة التي واجهناها أنّ ترشيحه جاء مع الناقد الكبير غسان جابر، إنّ منح توفيق الجائزة يعني الاستهانة بجهود هذا الناقد وأهميته، وهذا يعرض المنتدى لفضيحة ثقافية كبرى.

وقال أمين الصندوق لا أدري كيف سيوفّر المنتدى قيمة الجائزة بعد أن أعادها إلى الجهة المتبرّعة. فعلى الرغم من أنه مبلغ قليل إلاّ أنه يزيد من عجز المنتدى إذا دفعه من ميزانيته المخروقة، وطالب عدم الانصياع إلى قرار المحكمة فيما يتعلق بالشقّ المالي على الأقل، أو محاولة إرضاء الناقد ليتنازل عن المبلغ للمنتدى.

فيما صرّح مسؤول النشر أنّ فؤاد توفيق لا يستحقّ الجائزة، وأنّه طفل في مدرسة النقد، ونفى أن يكون في البلد نقّاد، ولا حتّى روائيين أو شعراء على مستوى عال ٍ.

أمّا مسؤولة العلاقات العامّة، وهي كاتبة حكايات، فأنكرت أنّها تعرف ناقداً تحت اسم فؤاد توفيق، ولا تدري كيف تسلّل هذا الاسم إلى عالم النقد، وتكمن الكارثة ـ كما قالت ـ في أن الجهة التي رشحته للجائزة لا علاقة لها بالأدب والفن.

أمّا عضو الهيئة المعارض فاتّهم رئيس المنتدى بالمحاباة فلو أن فؤاد توفيق من جماعته لمنح الجائزة، ولكنّ العقليّة العشائريّة هي التي تسيّر المنتدى، إنّها عقليّة مغلفة بأفكار شوفينيّة، وأوضح أنّه بيّن لزملائه في الهيئة الإداريّة خطورة ما يفعلون، ولكن لا حياة لمن تنادي.

أمّا مفكّر الهيئة ومنظّرها، مسؤول الندوات والدراسات، فأبى التعليق على الخبر، وأبدى استهجانه من القضية برمّتها، فلا بدّ من إعادة النظر في جوائز المنتدى، وحصرها في جائزة واحدة، ولعلّ من الخير للأعضاء تجويد أعمالهم دون اهتمام بالجوائز، لأنّها لا تصنع أديباً أو ناقداً.

ولم يتعجّب مسؤول العضويّة من صدور الحكم لصالح فؤاد توفيق، وأوضح أنّ هنالك كثيرين حرموا من جوائز المنتدى منذ تأسيسه، وأقسم لو أنّهم اشتكوا ـ كما فعل توفيق ـ لما استحقّ الجوائز من نالوها، وبيّن أنّ الذين نالوها كانوا أعضاء في الهيئة الإدارية، أو من المقربين إليها لأسباب حزبيّة، أو انتخابيّة "هنيئاً لفؤاد توفيق بالجائزة التي استحقها بجدارة، وإن كنّا نتمنّى لو حصل عليها دون اللجوء إلى القضاء".

لست أدري، ربما في منتصف الليل، أو بعده بدأ النعاس يغزو عيني، وتقطّع نومي. سرت في شارع ضيق كمسلسل طويل، بدا والأشجار تظلّله مثل نفق، قابلتني في نهايته أتان ضخمة، ثم ظهر رئيس المنتدى، وهو يمتطي الأتان، وراح يتلو بياناً عن جائزة النقد، بعد أن انتهى من بيانه تلاشت الأشجار، وبانت الطريق مضاءة بنور الشمس، ولم أرَ الأتان أو رئيس المنتدى بل شاهدت زوجتي تضم إلى صدرها بنتاً كبيرة الجسم، واسعة العينين، طويلة الشعر كأنّها في الخامسة. رأت أن نسميها بلقيس. تذكّرت ملكة سبأ وخضوعها لسليمان، فرجوتها أن تفكّر في اسم آخر.

ما الذي يجري؟ هناك حركة في الصالة، ربما قطّة، لكن أين كانت قبل أن أنام؟ كيف دخلت؟ نهضت. أضأت الصالة. كلّ شيء ساكن. رأيت أن أبقي النور، وعدت إلى السرير. هنالك أحد في الحجرة الأخرى، أسمع همسات إنسان، وتردّد أنفاس. بدأ الخوف يسري في قلبي. من يكون؟ أسرعت إلى الحجرة. لا أحد ولا نأمة. قرأت سورة الإخلاص، ورجعت إلى حجرة النوم. هنالك حركة في المطبخ، هذه المرة حكحكة صحون وملاعق. لعلّهم أكثر من واحد. شددت شعري، وسرت على رؤوس أصابعي إلى المطبخ. لا أحد. توقفت الحركة، وانقطعت الأصوات. رجعت إلى الفراش، وغمرت رأسي بالغطاء، وأنا أرتجف، ثم رحت أبكي. سمعت طرقات واضحة على الباب. سأفتحه، ماذا سيحدث؟ في النهاية لا بدّ أن أموت، ليكن موتي هذه الليلة، رواء تموت في المستشفى، وأنا هنا. سننتهي في وقت واحد. حياتي بعد رواء سحاب خادع، أو صحراء بلقع. ماذا لو خرجت إلى هذا الذي يطرق الباب؟ ماذا يحدث؟ سأفقد أفكاري الجبانة. فجأة انطلقت إلى باب الشقة.

ـ من؟
ـ أنا.

صوت امرأة مرتجف، كأنّها تخاف من شيء، أو تتوسّل لشيء. فتحت الباب. اندفعت إلى الصالة دون أن أتبيّن ملامحها. سألت بغضب:

ـ من أنت؟ ولماذا اقتحمت بيتي؟

استدارت. إنّها المرأة التي رأيتها بباب جمعية إرم. كانت ترتدي فستاناً أزرق فضفاضا،ً وتضع على رأسها منديلاً أسود، تتدلّى من تحته خصلة من الشعر. هدأت نفسي. دعوتها لتجلس، وسألتها إن كانت جائعة. هزّت رأسها، وأشارت بيدها أنّها لا ترغب في شيء. قلت:

ـ تعرفين أنّي متزوج، وزوجتي في المستشفى، أنتظر خروجها مع طفلنا.
ابتسمت ثمّ تعالت ضحكاتها. غضبت.
ـ هل قلت ما يضحك؟
ـ لم تعرفني إذن.
صرخت من قلبي:
ـ رواء! رواء!

وجدت نفسي ملقى عند الباب. كلّ مصابيح البيت مضاءة. وفي المطبخ لا شيء في مكانه. أين رواء؟ أين تلك المرأة؟ أنا أعيش المهزلة. رفضوا منحي الجائزة فأقمت الدنيا. الآن ما الجدوى؟! ليس غير زوجتي أن تتحوّل إلى فراشة، ويزول الجبل الذي يكبس على بطنها. رنّ جرس الهاتف. أدركت ما حولي كان على الطرف الآخر صوت نسائي:

ـ بيت رواء فؤاد؟
ـ نعم!
ـ السيد زوجها؟
ـ نعم!
ـ رواء تحتاج إلى عملية قيصريّة. أرجو حضورك في الحال.
أدخلني البواب بسهولة. قادتني ممرضة إلى حجرة صغيرة. قال لي طبيب شاب:
ـ زوجتك في غرفة العمليات، وضعها لم يحتمل انتظار موافقتك. على كل حال وقّع على هذه الأوراق.
وقّعت، ويداي ترتجفان.
ـ هل ستنجو زوجتي، يا دكتور؟
ـ إن شاء الله أما الجنين ففي خطر.
بقيت أمام غرفة العمليات، ورأسي يترنح من ثقل أفكار ومشاعر لم تتبلور بعد في المصيبة التي تنتظرني. مرّت ممرضة. قالت: دون أن أسألها:
ـ العملية نجحت، ولكن الطفلة توفيت في بطن أمها.

لم نخسر كثيراً، الحمد لله! بقيت رواء على قيد الحياة! لا أدري كم مرّ من الوقت حتّى انشقت بوابة غرفة العمليات، وظهرت ممرضتان تجران بهمة ونشاط سريراُ مرتفعاً، أوقفتهما على ضعفي، ألقيت يدي على رأس رواء، لم تكن قد استيقظت من البنج، لكنها فتحت عينيها، انحنيت أخفي وجهي في شعرها، لم تمهلني الممرضتان، فاندفعتا بالسرير، وتركتاني في حزني وحيرتي.

(4)

ـ سلامة روحك. لا أدري من أين تأتي بهذا الكلام! هل كلام النقاد كلّهم معسول مثل كلامك؟

ابتسمت، وقلت في نفسي: كنت مجنوناً عندما سلّمتك الدفتر.

كانت السماء تهطل، كأنّها تنوي أن تغرق العالم بالماء. في مدخل البناية التي ينزوي فيها مكتب المحامي عثمان مطلق تجمّع عدد من النساء يفركن أيديهن من البرد، وسمعت امرأة تولول، وهي تصعد الدرج:

ـ الله يضربهم! القوي عايب.

خمنت أنها تتكلم على الأمريكان في بغداد، أو على الإسرائيليين، وهم يجتاحون غزة، لكن هنا بناية تجار ومحاميين، وليس ساحة عامة، أيقنت أنّ صراخها لا بدّ أن يكون بسبب جار سطا عليها، أو قريب ظلمها، أو مسؤول هضم حقّها. صرخت في داخلي: أيّتها المرأة مهما تصرخين لن ينتبه أحد لصراخك، كلّنا ندور في حلقة واسعة من الظلم، لكن عليك أن تصرخي، فالصراخ يريح القلب، ثم قد يتحوّل إلى فعل، فكلّ الثورات والتحوّلات التاريخية كانت تبدأ بالصراخ، وتنتهي بالرصاص.

طرقت باب المكتب، لم يجبني أحد، دخلت، واجهتني رفوف من الكتب والوثائق والملفّات، تعلوها على الجدار لوحة تحمل صورة ميزان، تخيّلته مائلاً، في إحدى كفّتيه يلتصق رئيس المنتدى، وفي الكفّة الأخرى ينتصب طائر الفينيق، وأنا أتعلّق بجناحه.

أين ذهب المحامي؟ وقع نظري على تمثال لرأس عجوز خدّاه متكوران إلى الداخل، وعيناه جاحظتان. كيف أتفاءل بكسب قضيتي إذا كان مثل هذا التشوّه في الإنسان، كيف يدافع إنسان مشوّه عن إنسان مثله. أطلت النظر إلى التمثال، وأنا أفكّر، شعرت بالارتياح، التمثال سحب ما فيّ من كآبة وضمّها بين فكّيه، لكنّي استأت وأنا أنتظر المحامي، ثم طغى ذكر رواء على ما حولي. كانت متعبة في هذا الصباح تعانقنا بباب غرفة النوم، وغادرت، وأنا أفتقد حرارة شفتيها بين شفتي، وغصن الريحان الصغير الذي تقصفه من الشجرة التي تراقبنا عند الباب الخارجي، وتضعه في جيبي: هذا يجعلك تذكرني، ويمنعك من التفكير في امرأة أخرى. أما أنا فكنت أتشمّمه، ثم أضعه في جيبي، ويعود معي، وقد استحالت أوراقه مسحوقاً أخضر.

عدت أحدّق إلى التمثال علني أزداد لذة بما في لاوعيي من أفكار. جاء المحامي، وجهه مبلول، وما تبقى من شعره منفوش. صافحني، ثم توارى خلف الباب. لم تناولني رواء ملابسي في الصباح، ولم تساعدني على ارتدائها كما تفعل كلّ يوم. ماذا جرى؟ ربما هو الضيف الذي يسكن في بطنها. شعرت أن روحي بين آلتين حادتين، أو كأنّي أدخل في مكان مظلم. لم تكن تلك اللافتة على المكتب عندما دخلت، ولم يكن هذا المحامي يرتدي روب المحاماة، تخيلته يضع جبة من الشعر الأبيض على رأسه كقاض في محاكم التفتيش. محوت في عقلي ما كان مكتوباً على اللافتة، وكتبت مكانها الاستشارة دون مقابل، ثم انتزعت الروب عن جسد المحامي، وألبسته بذلته السوداء السابقة. إنّي أحبّ الأشياء في ائتلافها الأوّل. قلت:

ـ أنا كاتب..
قاطعني:
ـ أعرف..

انتابني الغرور أن يعرفني محامٍ كبير. سألت:

ـ رأيت صورتي في الصحف؟
ـ لا.

أأنا أمام وليّ من أولياء الله الصالحين، أم أمام أحد من ذوي الكرامات، أم أننّي أمام ضارب رمل أو فاتح فنجان. أجاب عن دهشتي:

ـ رأيتك أمام المحكمة.

ابتسمت. حسبني كاتب استدعاءات. لم يبقَ إلاّ أن يسخر منّي هذا المحامي! بيّنت له أني ناقد أدبي، وليس كاتب عروض الحال والمآل. حكّ رأسه:

ـ الوجوه تتشابه. هنالك كاتب استدعاءات يشبهك تماما.

ومضى يتساءل إن كان في البلد أدب حتى يوجد نقد.. وبحركة من يده أسقط اللافتة على الأرض، اطمأنت نفسي، فلن أطالب بأجرة الاستشارة. قال:

ـ قبل أيام، حاولت أن أقرأ رواية قيل إنها منحت الجائزة الأولى في إحدى الملتقيات المهمة، وطبعت منها آلاف النسخ، كما أن ناقداً مشهوراً كتب على غلافها الأخير: "إنّها الرواية العربيّة بعد روايات نجيب محفوظ التي تستحقّ جائزة نوبل، ولكن للأسف فإن نوبل لا تبالي بأدبنا العربي وروايتنا العربيّة المعاصرة". أصدقك القول إنّي لم أستطع أن أقرأ من هذه الرواية النوبليّة غير صفحات، ونال منّي الغضب كثيراً، فألقيتها في سلة المهملات.

أقسم أنّ أيّ رواية مثلها لا يقرأها بعد صاحبها إلاّ ثلاثة: الطابع، ومراقب المطبوعات، وناقد مثلك يريد أن يترزّق..

ثم صمت:

ـ الأدب الذي لا يلامس الروح ليس أدباً، إنّه كلام لا قيمة له..

وافقته بإعجاب، ورأيت فيه ناقداً في ثوب محام، ثم رحت أشرح له القضية:

ـ رشّحتني جمعية إرم لجائزة منتدى الأدب، وتشكّلت لجنة التحكيم من خمسة نقاد وأدباء مشهورين، أوصى اثنان منهم بمنحي الجائزة، وأوصى عضوان آخران بمنحها لناقدين غيري، بينما امتنع الخامس عن إبداء رأيه، وهكذا أكون أنا من يستحق الجائزة وحدي أو مناصفة، ولكن المنتدى أعلن عن حجبها.

سألني:

ـ لماذا في رأيك؟
ـ لأنّ أحد منافسي ناقد معروف، وفي عدم منحه الجائزة إهانة كبيرة له، وفضيحة للمنتدى.
ـ منطق غريب. وكم قيمة الجائزة؟
ـ خمسمائة دولار.
ـ مبلغ تعيس..
ـ المهم أنّي ظلمت من مؤسسة يفترض أنّها تقاوم الظلم، ولا تقبله لا لأعضائها ولا لأي إنسان.
ـ القضية لا تطعم خبزاً. أنصحك أن تنساها..
ـ كيف؟ هل ترضى بالظلم؟
ـ الظلم في مجتمعنا ظاهرة طبيعية، يحسن أن تتعايش معها كما تتعايش مع الهواء، واللحم البلغاري.
ـ حاولت ولم أقدر.
ـ إذن أنت مصّر على رفع القضيّة.
ـ نعم!
ـ وأتعابي؟
ـ إذا ربحتها لك قيمتها الماليّة.
ـ وإن..
ـ لا أملك مالاً...
ـ على كلّ حال لا أريد شيئاً، ما عليك إلاّ أن تزودني بالنظام الداخلي للمنتدى ونظام الجوائز فيه، وكذلك بما لديك من وثائق ومقتطفات صحفيّة تفيدنا في القضية.

ثمّ طلب مني التوقيع على ورقة توكّله بتولّي القضيّة، إذا كان كلّ ما هنالك توقيعاً فلم لا أفعل.

وأنا خارج لم أكن أتوقع أن أرى تحت درج البناية نجيب محفوظ. تمثّل أمامي وهو يرتدي ملابس رثّة، ويرتجف من البرد، لم تفده جائزة نوبل، لكن جائزة النقد تفيدني. أعلمني أن أحواله ساءت بعد أن وزّع أموال الجائزة على رواد مقهى ريش، وأنه لم يقرأ روايته الأخيرة غير ألف قارئ.

تفاخرت أنّ كتابي الأخير نفدت منه الطبعة الأولى، دهش من ذلك لكن دهشته تلاشت، عندما علم أنّ من تولّى قراءة الكتاب لم يكن غير الفئران والقمل. ولما سألته عن جائزة نوبل أجابني أنّه لم يكن يستحقها، كان من الأفضل منحها لطه حسين أو توفيق الحكيم. منحوني الجائزة في أولاد حارتنا. لماذا لم يقدروا إنتاجي كله؟ لماذا؟ لماذا؟ تدفق الدم في وجهه. خشيت أن يحدث له مكروه، وبخاصة أنّ رقبته لم تشف من الطعنة التي تناولته. رحت أسأله عن الروائيين العرب، فقال بلهجة جازمة: لا ضرورة أن يكتبوا فأنا نلت نوبل، وكأنّ كلّ روائي عربي حصل عليها. ابتسمت ونصحته ألاّ يكرر هذا القول حتّى لا يتعرض للرصاص بدل السكين.

تذكّرت ما قاله المحامي عن جائزة نوبل، وتخيّلت برنارد شو وسارتر وهما يرفضانها، ثم مرت صور بعض من نالوها بعد ذلك: صورتا السادات ورابين وهما يقتلان، ثم تذكّرت ما جرى لأصحاب الجوائز الأخرى، وبرز تيسير سبول منتحراً بعد نيله جائزة النهار عن روايته أنت منذ اليوم. فكّرت في أن أعود إلى المحامي، وأتنازل عن القضية، لكنّي تراجعت، فلا شكّ أن المحامي سيدفنها في مكتبه، ولا بدّ أنّه لعنني، ولعن النقد الذي ألجأني إليه.

استوقفني أمام مطعم الأدب الدكتور الملقّب بالمتعوس، أخبرته عن حرماني الجائزة، وموقف المنتدى من قرار لجنة التحكيم، لم يكترث لكلامي لكن عندما أخبرته بأنّي سأشتكي إلى محكمة الحكومة، انتفض ناصحاً:

ـ لا تفعل وتعلّم من حكايتي.

أعرف أنّه نال الدكتوراه من جامعة وجدت قبل جامعة الدول العربية بأعلى تقدير تمنحه، لكنه فوجئ بوزارة العلم والمعرفة لا تعادل شهادته على الرغم من اعترافها بالجامعة وقيمة أطروحته. استندت إلى تعليمات أصدرتها هذا العام بعدم معادلة الشهادات التي ينالها أصحابها بجريمة عدم الانتظام بالدراسة، اشتكى إلى محكمة الحكومة العالية فلم تنصفه، مع أن بعض أعضائها حصلوا على شهاداتهم من جامعات عربيّة بالانتساب أو بالشراء في أيام الحروب الأهليّة. هكذا ضاعت خمس سنوات من عمره هدرا، ثمّ اتهم باضطراب في السلوك، وفصل من عمله.

سألته:

ـ ماذا تريدني أن أفعل؟ نحن في أول الطريق الآن.
أجابني، وكان يحك رأسه من وقت لآخر:
ـ ليس غير مجلس الحكومة، فهؤلاء مهمتهم التوسط في القضايا كلّها سواء أكانت مدنية أم حكومية، إنّهم مجلس مصغّر للواسطة، الجأ إليهم ليحلّوا مشكلتك، ولا تنتظر من محكمة الحكومة أن تدين الحكومة، هل تدين مؤسسة ذاتها؟!
ـ لكن المنتدى ليس مؤسسة حكومية.
قال وهو يهزّ رأسه:
ـ من قال ذلك؟! معظمهم كتبة لديها. حتّى ولو كان كلامك صحيحاً فإنّ المجلس قادر على التوسّط في أعقد القضايا. ابن عم لي حصل على شهادة الدكتوراه قبل أسبوعين، توسّط له رئيس المجلس نفسه، وأرسل كتاباً إلى رئيس الجامعة الوطنيّة، فعين مدرساً بسرعة صاروخ، بينما ترك كثيرون ممن يحملون شهادته عاطلين عن العمل.

ثم راح يحدّثني عن رأيه في السلام، وقال إنّه ليس مع قيام الدولة الفلسطينيّة، لأنها ستتحوّل إلى دولة قامعة للشعب الفلسطيني من ناحية، وتابعة لإسرائيل من ناحية أخرى، وترحّم على عبد الناصر. وفي نهاية لقائنا لعن الفقر، وطلب مني خمسة دولارات قرضة حسنة. لم يكن في جيبي غير دولارين، أخذ أحدهما وودعني.

أخبرت رواء بلقائي المحامي، امتدحت فعلتي، ورأت أنّي تأخرت في الذهاب إليه، وطمأنتني بأن قلبها يحدثها أنّي سأنال الجائزة. لم أشأ أن أردّ على قلبها بأن قلبي وعقلي يقولان غير ذلك. وحاولت أن أنسى القضيّة والجائزة معاً.

كنت متمدداً على السرير أشاهد التلفزيون، أيقنت أن الفضاء ملوّث بالفضائيات، وتخيّلت السماء تتمايل بخلاعة، من كثرة ما شاهدت على الشاشة من راقصات ذوات ملابس شفّافة. هممت بإغلاق التلفزيون لأنشغل برواء، توقفت، عندما ظهر برنامج الصحافة في أسبوع على شاشة إحدى الفضائيات. انتهى مقدّمه إلى أقوال الصحافة، فقرأ ما جاء في صفحة الثقافة والفن في صحيفة محليّة: " الناقد فؤاد توفيق يقاضي منتدى الأدب، ويتّهمه بالتلاعب بجائزة النقد. القضيّة الآن أمام محكمة الحكومة العالية" تعجّبت أنّي لم أتّصل بالمحامي كما طلب مني، ولم أزوّده بالوثائق التي طلبها، هرعت رواء من المطبخ وتسمّرت بباب الغرفة، تابعت ما يقوله التلفزيون، ثم صاحت:

ـ ستنال الجائزة!
قلت بيأس:
ـ عندما يجيء الصبي نصلّي على النبي..
ـ قلت صبي.

وابتسمت. ثم قادتني إلى السرير. فجأة، اشتكت من حرقة في حلقها، ثم قفزت ويدها على فمها. لم انتبه لعالم الرموز في مثل هذه الظواهر، ولمتها بأسى على إهمال صحتها حتّى تعرض جسمها للبرد. تمايلت بدلّ وغنج:

ـ الحقّ عليك تكشّفني في الليل.

نقلتني نعومة صوتها إلى فصل الربيع، فشعرت كأنّي أستمع إلى طائر سحريّ، وتلاشت من ذاكرتي جائزة النقد، وحلّ مكانها صورة لقائنا الأول، عندما قرأتها كنصّ روائي مفتوح لا حدود لمعانيه وصوره. طوّقتني بذراعيها، ثم دسّت يدها في صدري. قالت:

ـ هل تغضب إذا أخبرتك.
رميت رأسي إلى الوراء، بدت صور أخرى تسيطر على مخيّلتي، وبرزت صورة النبي إبراهيم، وهو ينظر إلى النار التي سيلقى فيها. أجبتها:
ـ تعرفين أنّي لا أغضب خاصة في وسط هذه المداعبات التي تدوّخني..
خفّت حركة يدها على صدري، وصارت أشبه بحركة نسيم خفيف، ثم انفجرت الكلمات.
ـ أنا حامل، يا حبيبي!
في لقائنا الأول اتفقنا على ابتعاد جسدينا في أيام الإخصاب، وأعددنا دفتراً نحدّد فيه أيام الوصل والفصل. قفزت كالدائخ، وردّدت بفرح على غير وعي:
ـ حامل! حامل!
هدأت انفعالاتنا. سألتها:
ـ والدفتر؟
أجابتني وهي تضحك:
ـ مزّقته..
قبلتها. كلّ جزء فيها قبّلته حتّى قدميها، ولكن عندما استيقظت، قلت:
ـ أخشى أن يتعبك الحمل!
ـ توكّل على الله، يا ابن الحلال. يستحقّ طفل جميل مثل أبيه التعب والوجع.
ـ ستعذبين روحي بحملك!
قبلتني:
ـ سلامة روحك. لا أدري من أين تأتي بهذا الكلام! هل كلام النقاد كلّهم معسول مثل كلامك؟
ابتسمت، وقلت في نفسي: كنت مجنوناً عندما سلّمتك الدفتر.

(5)

ـ الحمد لله حتى تعرف كيف أقف إلى جانبك! لكني لم أخرج من البيت اليوم!
ـ لا أدري. أحتاج إلى طبيب.

الوقت منتصف الخريف، والسماء صافية، والشمس تضيء الأشياء كأننا في تموز، لم يكن أحد غيري في ذلك المكان. القبور تحيط بي من كلّ ناحية. من جاء بي إلى هنا؟ أجيب عن حيرتي بأن حلت العتمة، وتساقط المطر، وهاج السيل ثم هاجمتني الأشباح. أهم الموتى بعثوا من قبورهم أم مخلوقات غريبة نزلت من السماء؟ أحدهم سحبني إلى حافة السيل. غمرني بمعروفه، لكن عندما قلت له لن أنسى صنيعه الذي افتقدنا مثله هذه الأيام: سخر من قولي، وأعلمني أنّه لا يقدّم معروفاً لأحد، أما إنقاذي من الغرق فكان ليبلغني رسالة، وأنا على قيد الحياة بضرورة أن أقنع أهلي بالرحيل إلى بقعة أخرى، ولمّا سألته عن الجائزة نصحني أن أنساها، وأن انتبه لزوجتي الحامل. قلت له: لن أرحل، وتذكرت تأبط شراً وصراعه مع الغولة، وتراءى لي رئيس المنتدى، واقفاً على صخرة ليعلن حجب الجائزة، ثمً غدت يداي جرافة، وتحوًل فمي إلى مغارة جعيتا يبتلع الأشباح مثنى ورباع.

استيقظت على رواء وهي تهزّني، وفي فمي طعم شبح من الذين ابتلعتهم. انتبهت لتلمّظي:

ـ تأكل ولا تطعمني؟
 ابتسمت وأنا أجذبها:
ـ كابوس. يا رواء! كابوس!
 اندست بجانبي:
ـ كأنّه حلم لذيذ.
ـ أقول كابوس وتقول حلم لذيذ!
ـ استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وتوكّل على الله.
حدثتها عن الأشباح، وكيف قهرتهم، وأنا لا أقدر على دجاجة. تضرعت إلى الله:
ـ اللهم اجعله خيراً!

ثم اشتكت أنّها لم تنم من حركة الجنين، فسعادته يفرض عليّ أن أنام على الجانب الذي يريحه. التصقت بي شعرت كأنّه يدغدغني. جذبت أمّه إليّ وقبّلتها. تملّصت شفتاها ونبهتني:

ـ وصيّة الطبيب..
تتابعت قبلاتي:
ـ أيّ طبيب؟!

أوصاها الطبيب في بداية الحمل وصايا كثيرة، تتذكّر منها الرفق في أثناء المداعبة الجنسيّة، وكأننا جهلة في هذا الأمر! أمّا أنا فلم أهتمّ إلاّ بوصية المشي. اعتدنا في الصباح الباكر أن نظهر في الشارع الطويل الذي يخترق الحيّ الذي نسكنه، واعتاد كثيرون أن يرونا في هذا الوقت.

بائع الفلافل تقتحم رائحة فلافله أنف رواء، فتجذبني كي نقف أمامه، ننتظر دورنا في الحصول على الفلافل، في أثناء ذلك نستمتع برؤية مادتها الخام، وهي تتكون في الصحن الأسود، وفي الطريق نتلذذ بأكل أقراصها الساخنة.

المرأة العجوز، التي تسكن وحدها لا أهل لها ولا ولد، كانت رواء تطرح عليها السلام، فتوقفها في بعض الأحيان، لتشكو إليها مضايقات جيرانها: " يريدون منّي الرحيل إلى بيت آخر أو إلى القبر".

صاحب بقالة الربح القليل، الذي تصل إليه سيّارة الصحافة مبكّرة يرانا، فيسحب صحيفة البلد اليوميّة التي اعتدت أن أتناولها منه، يقدّمها إلي وهو يدعو لنا بالسلامة. أتناول الجزء الثاني الذي يتضمن عادة الفن والثقافة، وأترك الأول إلى رواء. أدعوها كي تقرأ فتردّ عليّ:

ـ من العيب أن تقرأ المرأة في الشارع. ماذا يقول عنّا الناس؟

أجيبها متذمّراً:

ـ الناس. الناس! الآن تغير كل شيء يا أميرتي، والبركة بالفضائيات والخلويات..

أشعر بالاشمئزاز عندما أرى ما ينشر في ثقافة البلد: مقالات مسروقة أو ممسوخة عن كتب قديمة، كنت قرأت بعضها وأنا طالب بالجامعة، وقراءات نقدية ينصبّ معظمها على إنتاج المحرر الثقافي في الصحيفة، لتندرج تحت ما أطلق عليه محمد القواسمة في قصة قصيرة من مجموعته التوقيع (لا أذكر عنوانها) نظرية الحك: "حك لي أحك لك"، ومقالات طويلة مملّة لا جديد فيها، ألقي بها تحت نظريّة العلاقات العامّة، يكتبها الدعاة من نقاد ومفكرين، أغلبهم مسؤولون عن مؤسسات ثقافيّة في خارج البلد، تقدّم الجوائز والمكافآت العالية، وهنالك محاولات كتابيّة، يتضح نشرها لأسباب عشائرية، أو لنفع أصحابها، تحت ما أطلقت عليه رواء مرة كتابات التكايا.

يتحوّل الاشمئزاز في نفسي إلى سخط على الصحافة الثقافية، لماذا تصمت عن حجب جائزة المنتدى في النقد؟ عمّا يكتب الصحفيون والأدباء إذا لم يتناولوا قضيتي؟ سحت في شوارع المدينة. أستحق الجائزة. حجبها أشدّ مضاضة من وقع الحسام المهند.

جئت إلى المسؤول الثقافي في صحيفة البلد، اعتذر. إنّه لا يريد الدخول في صراع مع المنتدى: "إنّهم يفضحوننا" وقال المسؤول في صحيفة الناقوس إن صحيفته لا تتدخل في قرارات المنتديات والهيئات الثقافيّة، ولجأت إلى زملائي من أعضاء المنتدى ممن يكتبون في الصحف اليوميّة، أجابني أحدهم أنّه لا يستطيع أن يبدي رأيه في القضيّة، فقد يكون للطرف الآخر مبرره المعقول في حجب الجائزة. يبدو رأيه سليماً لو أنّه لا يريد أن يفسد علاقته برئيس المنتدى وأعضاء هيئته الإدارية، فذلك يحرمه من الترشيح للجوائز المحلية والعربية، بل يهدّده في وظيفته كمسؤول عن مؤسسة ثقافيّة.

أمّا الكاتب الروائي، الذي كان رئيس المنتدى في دورته السابقة فأبلغني بطريقة خفية موافقته على ما تقوله الهيئة الإدارية: "المنتدى مؤسسة شأنها شأن المؤسسات الأخرى لا تكذب، وهي مصدّقة على الأفراد حتّى ولو كانوا من المبشرين بالجنة". اتهمني الملعون بالتجنّي على المنتدى، فصرخت في وجهه:

ـ المؤسسات تكذب كما تفعل أنت.

أذكر، وأنا خارج من مكتبه التقيت الناقد أحمد سحبان. دعاني لنجلس في مقهى الصبر طيب، لننم ـ كما قال ـ على الثقافة والمثقفين.

أمام المقهى تمتد مساحة من الأرض، تناثرت فيها وسط الأعشاب الخضراء أشجار الورد والتين والزيتون. اتجهنا إلى طاولة صغيرة تبصّ أشعة الشمس عليها من بين أوراق شجرة زيتون متهدّلة. جلست وجلس سحبان قبالتي. بجوارنا جلس الروائي أبو نعمة والروائية سميرة، كانا يحتسيان الفودكا.

أذكر مرّة أنّي سألت أبا نعمة مداعباً عن سر معاقرته الخندريس، أجابني: حتّى يرى العالم أكثر جمالاً.

أما الروائيّة سميرة فروي عنها أنها تشرب لتمارس حريتها التي سلبها منها الرجل عشرين عاماً، فكانت متزوجة من موظّف في وزارة العلم والمعرفة، ثم طلّقها. لقد أدمنت الخمر، واعتادت التدخين حتى تثلّمت أسنانها، وتغضّن وجهها، وجفّت شفتاها.

لم ينتبها لنا، كانا منهمكين في موضوع خلافيّ كما يبدو. جاء النادل. ذكرت له رغبتي في القهوة، فصاح سحبان:

ـ قهوة في هذا الجو!
أيّ جو؟ أهنا مقهى ثقافي أم خمّارة البلد. قلت بتقزّز:
ـ أنا لا أشرب غير القهوة والشاي.
ـ لا أدري كيف تكتب أو تعيش وأنت لا خمر ولا سجائر!
وطلب كأساً من البيرة.

حدثته عن الجائزة، اتّهم الهيئة الإدارية بالتلاعب، وتعهّد بأن يتبنى الدفاع عن منحي الجائزة. ثمّ اتجه الحديث إلى ما بدا لي أنّه سبب دعوتي إلى المقهى.

ـ تقرأ الحوارات التي أنشرها من وقت لآخر في الصحف والمجلات.
ـ قرأت بعضها.
ـ ما رأيك في نشرها في كتاب؟
ـ رأيي بصراحة؟
ـ رأيك أحترمه، وفي الحقيقة أتابع ما تكتب من نقد فأجده عميقاً وصادقاً. هكذا يجب أن يكون النقد.. في الصميم.
ـ إذن أنصحك بعدم نشرها، فهي مقابلات صحفيّة انتهت قيمتها بعد نشرها في الصحف. جمعها في كتاب لا يضيف إلى الحياة شيئاً ذا قيمة.
احمرّ وجهه وأذناه. خلته يكاد يضربني، لكنّه تكلّف المرح والسخرية وقال:.
ـ صراحتك مؤلمة، وتريدني أن أتبنّى قضيّتك الخاسرة..

نفرت من كلامه، وقلت في نفسي: لو كان ما قاله صحيحاً لما قبل المحامي أن يترافع في القضية " ولكنّي غرقت في التعاسة مقترباً من حالة زميلي الدكتور المتعوس.

أسرعت إلى البيت كانت رواء تشاهد التلفزيون. هبّت في استقبالي، هالها ما أنا عليه من ضعف، قادتني من يدي كطفل، جلست على كنبة قرب السرير، ودعتني للجلوس على ركبتها، أشرت إلى بطنها. قالت:

ـ لا تخف. في مأمن.

طوّقت عنقها بذراعي. حدّثتها عن تنكّر الأدباء لي كما تنكّر الصحاب لعبد الله بن الزبير في بطن مكّة. رجتني وهي تبتسم، ألاّ أهتمّ بشيء: "أنا أحبك وهذا يكفي" وقالت هنالك فيلم الإلياذة يعرض الليلة وسنشاهده معاً. تذكرت شخصية دينلوب، فقفزت، ثم انحنيت أنظر إلى عينيها. كانت دينلوب، وتمنيت أن أكون أوديسيوس.

جاء المساء، وظهر الفيلم على التلفزيون. قالت عندما استيقظت:

ـ ما إن بدأ الفيلم حتى وضعت رأسك كالعادة على صدري ونمت، هكذا أنت تعدني بأن تشاهد معي فيلماً، وتتركني وتغطّ في النوم. كأنّ صدري منوم. الحق عليّ عودتك هذه العادة، سأبعد رأسك عن صدري، حتّى لا تنام ونشاهد التلفزيون معاً..

ـ يهون عليك؟
ابتهجت شفتاها.

لا أذكر أنّ ما حدث كان قبل هذا اليوم أو بعده، لكن يخيّل إليّ أنّه كان بعد ذلك بأيّام: خرجت من المنتدى. سرت في الطريق المعبّدة التي تنحدر طويلاً نحو الشارع الرئيس. كنت أتأمّل تلك البيوت على الجانبين. بيوتاً واسعة أقرب إلى القصور أو الدارات، يتباعد بعضها عن بعض، وأمام كلّ منها حديقة تطلّ ورودها من خلف الأسوار الحجرية القصيرة، وتتوسّطها أرجوحة عريضة، وبجانب الحديقة معرّش من أشجار العنب تربض تحته سيارةٌ فارهة.

لم يكن أحد في الشارع، رأيت رجلاً يخرج من منزل ليبتلعه زقاق، وهنالك كلب أذناه طويلتان، يقف ببوابة منزل. عجبت أنّه لم ينبح، كان ينظر إليّ بعينيه الحادتين. لعلّه وضعني تحت المراقبة. وكان يتناهى إلى سمعي وقع فأسٍ، لم أسمع صراخ أطفالٍ، أو صوت امرأة تنادي أطفالها، أو حتّى تصرخ في زوجها. أخافني الهدوء، فرحت أتلفت خلفي لعلّ سيارة أجرة تمرّ. وقفت سيّارة صغيرة بجانبي، كان في داخلها ثلاثة رجال، لم أتعرف أيّاً منهم، طلب منّي الرجل الجالس خلف المقود أن أتفضل بالدخول. شعرت بريبة. شكرته، وواصلت السير، قاد السيارة حذائي وصرخ:

ـ قلت لك اركب!
صرخت:
ـ قلت لك شكراً!

ارتجّت السيارة واقفة، وفتّحت الأبواب، وخرج الثلاثة. أمسك بي اثنان وألصقاني بمقدمة السيارة. تقدّم الرجل الثالث.

ـ إذا لم ترغب في المجيء معنا، دعنا نتكلم.
ـ على أيّ شيء؟
ـ بصراحة، نريد أن تسحب ترشيحك لجائزة النقد، لقد أثرت ضجة لا مبرر لها.
قلت وأنا أحاول التملّص من الرجلين:
ـ من أنتم؟ إذا كنتم من رجال الأمن فعلى الأمن السلام، وإن كنتم من أصدقاء منتدى الأدب فالفاتحة على حرية الفكر، أما إذا كنتم من الذين يكفّرون أصحاب القلم للفظة غامضة هنا، وجملة ملتبسة هناك فوداعاً للحياة! سأطالب بالجائزة حتّى لو لم أنلها، إنّها بؤرة مقاومتي الظلم. اقتلوني إذا شئتم.
ـ اتركوه!
ارتخت قبضتا الرجلين، والتفت الثالث إلى مصدر الصوت. كانت رواء بيدها مشرط. صرخت:
ـ أرجوك! ابقي بعيدة! احرصي على طفلنا.
لم يخرج أحد على الصراخ من ساكني البيوت، أمّا الكلب فبدأ بالنباح، ثمّ ظهرت سيارة في بداية الطريق، فأسرع الرجال إلى سيّارتهم، والثالث يتهدد:
ـ نلتقي يا فؤاد !
قلت:
ـ جئت في الوقت المناسب.
ـ الحمد لله!
ـ كيف جئت إلى هنا؟ لماذا خرجت من البيت؟
ـ حدّثني قلبي أنّك في ضيق، فجئت المنتدى، قالوا إنّهم شاهدوك تسلك هذه الطريق... من هؤلاء؟ وماذا يريدون منك؟
ـ لا أعلم.
وصلنا إلى البيت. فتحت الباب، ثم دعتني للدخول. تقدّمتها، وأنا أقول:
ـ سأنام يا رواء. أحتاج إلى ساعات حتى أستفيق مما جرى.

من أنت أيتها النائمة؟ أيّ رواء أنت، أرواء منقذتي أم رواء زوجتي؟ رواء ليست واحدة، رواء مجموعة نساء. أكاد أجنّ. أحتاج إلى طبيب نفسي. يريدون قتلي. ما كان يجب أن أحمل قلماً فقط بل مشرطاً أيضاً لا بل مسدساً أو صاروخ كاتيوشا. استيقظت على تململ رواء، انتفضت من السرير، قالت وهي تتعلق برقبتي:

ـ كنت في انتظارك. انتابني النعاس، قلت أستريح قبل أن تأتي..
ـ لم تخرجي من البيت؟
ـ لا. لماذا أخرج؟

لم أستطع أن أقول لها ما في عقلي. أأنا مريض،ً أم أنّ زوجتي من عالم الجان. لم أستطع التفكير. قامت تعدّ الطعام كالعادة. لا أدري متى جاءت بالطعام لكن أتذكّر أنّها ألقت الغطاء عليّ، وجلست تتحسّس جبيني، وتقرأ آيات من القرآن الكريم. كانت عند رأسي عندما صحوت. قالت:

ـ كنت تهذي. من هؤلاء الذين كنت تصرخ بهم؟ ومن تلك المرأة التي كنت تشكرها، هل تعرف امرأة غيري؟
ـ ثلاثة حاولوا قتلي فأنقذتني أنت منهم.
ـ أنقذتك!
ـ نعم !
ـ الحمد لله حتى تعرف كيف أقف إلى جانبك! لكني لم أخرج من البيت اليوم!
ـ لا أدري. أحتاج إلى طبيب.

(6)

ما كنت أيها الرئيس، ويا أعضاء الهيئة الإدارية المحترمين أن تفعلوا فعلتكم لو كنت غنيّاً من أغنياء المدينة، أو سيداً من سادتها، أو كلباً من كلابكم، أو مسؤولاً ثقافياً في صحيفة أو مجلة.. لو كنت واحداً من هؤلاء لسعت الجوائز إليّ وأنا في مقهى الكسل شابكاً رجلاً برجل، ولأصبحت كاتباً مرموقاً تتكاثر المدائح لكتاباتي، وتسرد الحكايات وتوضع المؤلفات عن حياتي عن.. لم أكن ولا أرغب في أن أكون، لماذا أتحسر على واقع مثل جواربي؟!.. طز!

وصل إليّ كتاب رئيس المنتدى يطلب منّي على وجه السرعة تقديم نماذج من إنتاجي للمدير الإداري والمالي، ويطلب خمس نسخ من كلّ نموذج، لعرضها على لجنة التحكيم الجديدة لتعيين الفائز في جائزة النقد.

لماذا الخمس نسخ؟ لماذا لجنة التحكيم الجديدة؟ هنالك ثلاثة من أعمالي لا أملك نسخاً منها. الناشر يبيعني ما أحتاج إليه منها بنصف الثمن، ويقول إنه يتفضل عليّ، أصبحت كالفلاح يسيح عرقه بين التاجر والسمسار، وإذا ما احتاج إلى أحدهما يغرق بالدين. لماذا لم يذكر الكتاب قرار اللجنة الأولى؟ هل ضاعت النسخ التي أخذوها؟ ماذا جرى؟ كذلك لم أدرِ ما الذي يدور حولي. فرواء نهضت مبكرة، وتركتني مستيقظاً في الفراش، ومضت تسعى في المطبخ. هل هنالك وليمة تعدّ لها ولم تعلمني؟ ما أكثر ما أراها في المطبخ! صرخت:

ـ المطبخ! المطبخ! لو أنه رجل لقتلته!

ألقيت اللحاف على رأسي، وانتزعت عقلي من الضوضاء. وجدتني أمام سرادق كبير، نصب في الصحراء، كانت تتقدّمني فتاة بملابس قصيرة، ووقف في استقبالي ملك السويد وملكة بريطانيا، وبعد أن عزفت الموسيقى سيمفونية كلاسيكية، منحني ملك السويد جائزة نوبل. وفي الخارج صرحت لوسائل الإعلام العربية أني لا أرغب في جائزة النقد، فقيمتها لا تكاد تسدد فواتير الكهرباء والماء والهاتف. قطعت هذا الحلم العذب، وناديت رواء، لم تكد تسألني عمّا أريد حتّى جذبتها نحوي. لكنها تملصت من بين يدي. غضبت، واستعرت من أجواء قصيدة للشاعر الإنجليزيّ اندرو مارفل، يخاطب بها عشيقته الخجول:

ـ لو أنّ لنا من الدنيا والزمان ما يكفي لما عد هذا الصدّ جريمة.
ـ جريمة!؟ حرام عليك! ظلمتني.
ـ أوّل مرّة تعرضين عنّي.
ـ أعرض عنك! كيف تلمسني وأنا على هذه الحالة؟
ـ إنها تثيرني.
ـ هذه الحالة؟! ملابسي القديمة، شعري الفوضويّ، جسمي المنهك! غريب أمر الرجال! على كل حال ساعة وأرضيك.

انتظرت. لم ترضني وجاءت أمي لتطمئن علينا وعلى حفيدها القادم ـ كما قالت، ومضت إلى المطبخ لتساعد كنّتها، كأن ليست لامرأة كنّة حاملاً غير أمي. رن جرس الهاتف. جاءني صوت الصحفيّ عبد الكريم يطلب منّي تصريحاً لصحيفته الأفق وألح في الطلب. فعلا صوتي بالرفض، وخرجت أمّي من المطبخ وهي تسأل:

ـ من كنت تكلم؟
ـ صنيع الراقصة جيجي.
ـ لا تستحي يا ولد!
ـ لا تصدّقين؟
ـ شو جاب الطز لمرحبا..

ضحكت كأنّي لم أضحك منذ سنين. أمّي غزتها ثقافة العولمة، فتستخدم الأمثال في مكانها. أجلستها بجانبي ورحت أحدّثها:

ـ عبد الكريم الذي اتصل بي، لم يكن صحافياً بل كان كاتباً مغموراً، جاء إلى الصحافة من خبرته في التسكّع في الشوارع وملازمة المقاهي، ولمّا تعب من البحث عن عمل أضرب عن الطعام واعتكف في مقر المنتدى، فعطف عليه مدير الدائرة الثقافيّة في صحيفة الأفق، وراح يستعين به في التحرير والتحقيقات حتّى أصبح صحافيّاً مهماً، بل إنّه كما قيل يكتب المقالات التي تنشر باسم مدير الدائرة.

سألت وهي تنهض:
ـ وقصّة الراقصة من أين جئت بها؟
ـ قيل..
قاطعتني:
ـ صرت تحبّ القيل والقال مثل النسوان..

ـ قيل. إنّ عبد الكريم وهو طالب في الجامعة لم يستطع أن يتابع دراسته، فكما تعلمين الجامعات عندنا صارت دكاكين. طلب المساعدة من وزارة العلم والمعرفة ومن جامعته نفسها، واستنجد بالبنوك. قال له المدير العام لأحد البنوك إنّهم أوقفوا التسهيلات، وبعد مدة قبض على المدير نفسه في قضية اختلاس بملايين الدولارات.. أقفلت الأبواب في وجهه، فماذا يصنع؟ كتب رسالة إلى الفنانة جيجي يخبرها بحاجته إلى المال كي يدفع ما تراكب عليه من رسوم جامعيّة وديون. فوجئ بعد مدّة قصيرة برسالة من جيجي فيها شيك بالمبلغ الذي طلبه مع تمنياتها له بالتوفيق والنجاح. تظنين أني أعيب الرجل بقولي إنّه صنيع جيجي، والحقيقة أنه يتباهى بذلك، ويعلنه فوق الأشهاد.

جئت المنتدى ألفيت المدير الإداريّ نائماً على كنبة طويلة في حجرة المكتبة. الكتب متناثرة من حوله، وفي كل مكان.. على الأرض. على الرفوف. على طاولة الحاسوب. ناديته. فتح عينيه، ثمّ نهض، وهو يتثاءب. قال إنّه لم ينم في الليل، وليس هناك ما يقوم به في هذا الجو الكئيب غير النوم. رنّ جرس الهاتف، رجاني أن أردّ، فذهبت إلى الحجرة الأخرى. كانت هنالك ورقة ناسوخ قرأت ما كتب عليها:

"بعد التحية
فأرشّح الناقد العربي الكبير غسان جابر لجائزة النقد. وشكراً على هذه الثقة بي.
                                                             عدنان عاصم"

لم أكن أتوقع أن ينتقل الروائي عدنان عاصم من الزاوية التي هو فيها إلى أخرى، يرشحني في اللجنة الأولى ويتراجع في هذه اللجنة، التي لا اعلم عنها شيئاً. يا إلهي، كيف نتعايش بين الزوايا القائمة والمنحرفة؟

على الهاتف صوت نسائي فيه خشونة. لم يتسع صدري لاحتمالها، عدوت إلى المدير الإداري والمالي، دعوته ليردّ، نظر إلى ساعته، وهو يتمطّى ثم همس:

ـ إنّها حبيبتي.
ـ زوجتك.
ـ هذي احتياط.

تداخلت الصور في ذهني: صورتا نائب رئيس جمعية إرم وسميحة، وصورتا عميد كلية التربية والسكرتيرة، والصورة التي ترتسم الآن، صورة المدير الإداري وتلك المرأة ذات الصوت المجرشة. شعرت أن الفضاء ضيق، وملوث بالنساء العاريات. تمنيت أن يعود للناس فضاؤهم. ضحكت من سذاجتي بينما كان المدير الإداري مع حبيبته أو احتياطه، وبقيت في المكتبة مع أفكاري وهواجسي: إذن إنّهم لا يريدوني للجائزة، يريدونها لغسان جابر. ما هذه المهزلة؟ لماذا اللجان والنسخ ما دام الفائز معروفاً، ليتهم منحوها لجابر دون أن أعلم! من أوحى له أن يترشّح معنا نحن النقاد الضعفاء؟

اتصلت برئيس المنتدى. طلب أن أمهله حتى يعود من سفره، وطمأنني أنه سيعمل ما بوسعه لمنحي الجائزة، فأنا كما قال استحقّها، والحمد لله أنّ عندنا نقاداً يتفوقون على نقاد كبار في الوطن العربيّ.

هدأت بأسلوب الرجل، ولمت نفسي أنّي لم أثق به، إنه أديب والأدباء لا يكذبون، ولا يخدعون، أليسوا بمنزلة الأنبياء؟ الجائزة أستحقّها. يجب أن تمنح لي لا في سرادق بالصحراء بل في احتفال مهيب.

أذكر، كان الوقت ليلاً. لكن لا أدري كيف نشبت تلك الخيالات في عقلي. كنت أنظر إلى رواء وهي نائمة. رحت ألقي الغطاء على وجهها، وأضغط وأضغط وتموت، ثم رأيت رأسي يتدلّى من عمود الكهرباء الذي على باب المنزل، ثم سقطت على الأرض، ونهضت لألقي جسمي من النافذة، وفي النهاية تطاولت يدي لتصفع رواء عدة صفعات. هل أجرؤ؟ تقدمت منها هويت فمي على فمها، وأنا أبكي، فتحت ذراعيها ولما تستيقظ، فارتميت في حضنها، وهدأت.

في طريقي لمقابلة رئيس المنتدى بعد مجيئه من السفر، قفزت صورته أمامي كجنرال بلباسه العسكريّ، صدره مزين بالأوسمة والنياشين، وبيده عصا مثل عصا الجنرال ديغول، وفي حزامه خنجر كالجزرة لكنه طويل. كيف اجتمعت العصا والخنجر؟ قهقهت. التفتّ حولي، حمدت الله، لم يكن أحد في الشارع غير طفلة صغيرة. توارت في منزل قريب، وهي تهتف:

ـ المجنون! المجنون!

استقبلني بابتسامة بيضاء، وهو يفتح ذراعيه " أنحني لحضورك البهيّ " وتعانقنا. جاءت لنا بالشاي خادمة فلبينية، على رشفاته حدثني عن زيارته لثلاثة بلدان عربية، وأطنب في مدح مقالاته اليومية التي يحثّ فيها على الاهتمام بالكاتب المحليّ وتشجيعه، إلى جانب مقالاته في الهمّ القوميّ، ثم أكّد أنّ الجائزة ستمنح لي، فالجائزة ـ كما قال ـ من حقّي، وسيدفع بهذا الاتجاه في الاجتماع الذي سيعقد الليلة.

رافقني جان بول سارتر إلى البيت، أطلعني على المبادئ الأولى للوجوديّة، ثمّ وبّخني ونعتني بالحمار، لأنّي أرغب في جائزة نحيلة، ونظر إليّ بعينه الحولاء، ثم دفعني أمام سيارة كانت تمر مسرعة، قفزت على الرصيف، ولم يستطع أن يتخلص مني.

كانت رواء تنتظرني، قالت إن البيت موحش من دوني، والساعات تمر كالمرض، وهي تترقب مجيئي. نظرت إليها في أثناء تناولنا العشاء، ثم استلقينا على الفراش. سألتها وأنا أشير إلى بطنها:

ـ ماذا نسميه؟
ـ أنت أدرى منّي بذلك.
داعبتها:
ـ تأبّط شرّاً أو الشمقمق.
ـ ماذا إذا كان بنتاً؟
ـ نسمّيها التفكيكيّة أو البنيويّة.

نامت رواء، ولم أنم. صارت الساعة العاشرة. لا شك أن الهيئة الإدارية ما زالت مجتمعة، وتخيلت الرئيس، يقترح الرجوع إلى قرار اللجنة الأولى، واعتماد قرارها بمنحي الجائزة. رواء هنيئاً لنا الخمسمائة دولار، اشترِ بها ما شئت. سوارا.ً خاتماً. سلسالاً، أو فساتين سهرة، أو ملابس داخليّة تمرحين بها في غرفتنا الضيقة، وإذا لم أمنح الجائزة؟ مستحيل. الجائزة لي ما دامت الأمور تسير حسب السنة الطبيعيّة، وما دام النهر ينبع من مصبه، ويجري إلى نهايته، ما دامت الشمس تشرق وتغرب والليل يتلوه النهار. الجائزة لي، قرار لجنة التحكيم واضح، ورئيس المنتدى في صفّ الحق، في صفّي.

ما زالت رواء نائمة لم يحن استيقاظها بعد. اتصلت بالرئيس. أبلغني أنّهم تناقشوا الأمر طويلاً، ثم تشاجروا، ولوحت منفضات السجائر في الهواء ممزوجة بالشتائم. في النهاية اتفقنا على حجب الجائزة. وقال قبل أن يغلق الهاتف:

ـ نعرف أنّ في هذا ظلماً كبيراً لك، ولكن تخطّي اسم كبير في النقد يكون فضيحة على مستوى العالم العربيّ.

الفضيحة إجراءاتكم الإداريّة وظلمكم، لماذا فعلتم كلّ هذا؟! لماذا لم تمنحوا ذلك الناقد الجائزة دون هذه الدوامات الإداريّة؟ لماذا تقترفون هذه الجريمة، وتخدعون غيركم وأنتم في مقالاتكم أنبياء الأخلاق، وفلاسفة العدل والحق؟!

ما كنت أيها الرئيس، ويا أعضاء الهيئة الإدارية المحترمين أن تفعلوا فعلتكم لو كنت غنيّاً من أغنياء المدينة، أو سيداً من سادتها، أو كلباً من كلابكم، أو مسؤولاً ثقافياً في صحيفة أو مجلة.. لو كنت واحداً من هؤلاء لسعت الجوائز إليّ وأنا في مقهى الكسل شابكاً رجلاً برجل، ولأصبحت كاتباً مرموقاً تتكاثر المدائح لكتاباتي، وتسرد الحكايات وتوضع المؤلفات عن حياتي عن.. لم أكن ولا أرغب في أن أكون، لماذا أتحسر على واقع مثل جواربي؟!.. طز!

(7)

ـ العدالة غائبة عن كل مكان.
أشرت إلى حضنها، وقلت:
ـ إلاّ هنا.
 تدلّهت:
ـ ما أقواك!

لا أنسى أنّ صديقي الفنان غازي سالم لقيني، لكن لا أذكر مكان اللقاء. الأمكنة تفلت من ذهني عندما تكون خالية، أو على هامش القلب. دعاني لحضور معرضه في منتدى الأدب. الحمد لله عاد إلى نشاطه بعد فترة اكتئاب طويلة! أما المكان، المنتدى فاستدعى تلك الندوة التي كنت المشارك الوحيد فيها.

كانت لتكريم الروائي مفيد الحارث. لم يأت من المشاركين الثلاثة غيري، ولم يكن الحاضرون غير الحارث نفسه، وزوجته، واثنين من معارفهما، وفتاة أخرى تعرفت إليها بعد الندوة. لعلّ سكرتير المنتدى أحسّ بأن العدد لا يليق بتكريم روائي، فخرج إلى الشارع يدعو الناس للحضور، لكنّه لم ينجح إلاّ في جلب ثلاثة من عمال البناء المغتربين، كانوا يبحثون عن مقاول في المنطقة. وعدهم بالعثور على معلمهم بعد الندوة.

رأيت أن أجمع أوراقي وأذهب، ولكن رئيس المنتدى دخل في الوقت المناسب، رجاني أن أقرأ بعض ما كتبت، لأن الصحف أحيطت علماً بالندوة، وستنشر عنها في صباح الغد. يجب أن نتحلىّ بالمصداقية، كما قال.

قرأت مقتطفات من البحث الذي أعددته عن رواية الحارث معارج البحر، وأخذت عليها غرائبيتها التي تبتعد عن الواقع، وشخصيّاتها الخشبية التي نشاهد أمثالها في برامج space toon الفضائيّة.

أعجب الرجل بهذه الأفكار، وشكرني إذ أطرحها بصدق، وقال هذا ما نريده من النقاد، أن يقرؤونا بعمق، أما زوجته فلم تخف إعجابها بالتحليل، وما توصلت إليه من نتائج، ولكنها انتقدت أن أقول ما قلت في ندوة تكريميّة على قدّ الحال.

جلست تلك الفتاة بجانبي ونحن نحتسي الشاي. هل يخيب ظني أنّها تريد شيئاً، ما سرّ تلك النظرات التي تخترق الحجب، وتمسح الحياء. لا أؤمن ببراءة العيون. ما الذي تريده؟ حاولت أن أنتهي من الشاي بسرعة. ربما أدركت ما أفكّر فيه، قالت:

ـ أستاذ.
التفت إليها. صوّبت نظراتها إليّ:
ـ أنت لا تعرفني.
ـ لم أتشرف..
ـ هبة حسن. طالبة في مرحلة الدكتوراه. أقرأ ما تكتبه في الصحف والمجلات. فتشدّني آراؤك ومنهجيتك، والآن أعجبت كثيراً بما قلت. صراحتك مدهشة..
استقرّ رأيي أنّ نصفها مصنوع، والآخر في طريقه إلى التصنّع، ليس هناك ما يجذب لا في عقلها ولا في جسمها. قلت:
ـ لم أقل شيئاً خارج النصّ.
وتحركت لأنهض. رجت أن أبقى:
ـ أحتاج إلى مساعدتك..
ـ مساعدتي؟
ـ نعم.
ـ هل أستطيع..؟
ـ أنا تائهة في اختيار موضوع الدكتوراه.
ـ هذا يعتمد على رغبتك وقدراتك..
ضحكت بغنج:
ـ ليس لدي رغبة. ومن أين المقدرة؟
إذن إنّها لا تريد مساعدتي على الطبخ بل ترغب في أن أقدّم لها الطعام مهضوماً.
ـ كيف أساعدك إذن..؟
ـ بصراحة أريدك أن تتولىّ الأمر من بدايته إلى نهايته، واطلب المبلغ الذي تريده.

نظرت إليها برثاء. أعجب أنّ الأغنياء يريدون أن يحصلوا على كل شيء بأموالهم. قلت بصوت متهدج:

ـ أنا حزين عليك.
ـ أفهم من هذا أنك ترفض ما طلبته. أتظن أنّي لن أجد غيرك؟ هناك كثيرون يمكن أن يعدّوا ما شئت بدءاً من التقارير الفصليّة إلى رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه، وهذا أمر مباح حتى إن أستاذي المشرف ألمح أنّه لا يمانع في أن يساعدني بعض الباحثين على كتابة بعض الفصول. لماذا تغمض عينيك عما يجري؟ إذا مررت بالجامعة الوطنية فستجد أمامها وحولها مراكز تحمل لافتات تعلن أنها مراكز مميزة في الترجمة والنشر وإعداد البحوث العلميّة. إنهم جاهزون لتقديم أي رسالة أو أطروحة في أي موضوع تشاء، ولا تظن أنّ خدماتهم مقتصرة على الطلاب بل تمتد إلى مدرسي الجامعات أنفسهم، فهي توفّر لهم الأبحاث، وتجد لهم المجلات المحكمة لينشروا فيها، فيحصلوا على الترقيات الجامعية بسهولة، هكذا هناك كثيرون في جامعاتنا لم يحصلوا على درجة أستاذ بعرقهم بل بعرق الباحثين في تلك المراكز أو غيرها.

ـ صحيح ما تقولين. أعرف جامعة أنشئت قبل سنوات، ترقّى، بسرعة الصاروخ، كثيرون من مدرسيها إلى رتبة أستاذ مشارك وأستاذ. لكن اسمحي لي، أنا لا أكتب شيئاً إلاّ وأرسم توقيعي في نهايته.

خلتها تهينني: من تحسب نفسك أيّها المعتوه؟! وخلتني أردّ عليها: أسعد حفظه الله هو الذي أرشدني إلى ذلك. أسعد صاحب الحكايات التي منح عليها جوائز كثيرة بوصفها قصصاً متميّزة. جاءني البيت أعلمني أنّه مسافر في الصباح إلى خارج البلاد، وقال إنّ دائرة المناهج في وزارة التعلم والمعلومات كلّفته بتقويم ثلاثة مخطوطات في أدب الأطفال، وهم يريدون في أقرب وقت أن يصل إليهم التقرير عن مدى ملاءمتها لطلاب الابتدائية، ولمّا كان لا يستطيع أن يعدها بسبب السفر، ولم يفصح بأنه لم يمارس النقد في حياته، وإنّما قدّمت إليه هذه الكتب لأنّه رئيس تحرير مجلة سالم للأطفال، لجأ إليّ كي أعدّ التقرير، وأسلمّه إلى الدائرة في غيابه. واطمئن، المكافأة ستكون لك. اكتشفت بعد تسليم التقويم إلى دائرة المناهج أنّه لم يسافر، وعندما تسلم المكافأة لم يخبرني عنها.
لا أدري كيف وقعت في الخطأ. أحسّ بالذنب، لقد اشتركت في الغشّ، كنت من غزية فغويت، ربما لو كنت مع رواء لما اقترفت هذه الجريمة، لكنّي ما زلت أحتفظ برسائل التكليف الموجهة لأسعد، لتذكرني بخطيئتي. هذا ما أقدر عليه الآن.

قالت بجرأة دهشت منها:

ـ أنت حر. كنت أرغب في أن أرزقك.
ـ الرزق الذي يأتي من هذا الباب لا أريده..

في الصباح حملت الصحف في صدر صفحاتها الثقافيّة مقتطفات مما قلته في الندوة، وظهرت في صحيفة البلد صورة قديمة لي بجانب صورة الروائي الحارث، ولم تشر أيّ من الصحف إلى قلة الجمهور الذي حضر، ولا إلى المشتركين الذين غابوا.

حضرت بعد الموعد بقليل. لم أرَ غير صديقي غازي وزوجته وامرأتين. فضلاً عن سكرتير المنتدى. تبادر إلى ذهني أنّ المعرض قد انتهى وحفل الافتتاح قد تمّ، والمشاهدين أنهوا مهمتهم. دهشت أنّ المعرض لم يبدأ، وأنّ المسؤول الذي سيتولّى الافتتاح لم يأتِ.

حدثني صديقي بمرارة: ماذا أفعل؟ حظّي سيئ أن ينتدب هذا المسؤول لافتتاح معرضي، إنّهم يلقبونه بالوزارة صاحب الذاكرة المخروقة، انتدب مرة لافتتاح معرض الفنان الإسباني غويا. جاء متأخراً، ثمّ فقع تصريحه المشهور للصحفيين ووكالات الأنباء بحضور السفير الإسبانيّ وأعضاء من السفارة: إنّه يأسف لأنّ المعرض أقيم على عجل، فلم يتسنّ لهم في الوزارة دعوة غويا نفسه لحضور معرضه. نبهه نائبه بأنّ غويا مات منذ سنوات، وأصبحت عظامه مكاحل، فابتسم وقال إنّها نكتة جاءت عفو الخاطر، فضجّ الحاضرون بالضحك.

توافدت بعض النسوة إلى المكان، ثمّ جاء مقرّر الشعر، تداول الحديث مع سكرتير المنتدى ومع الفنان غازي. لحظات حتّى هيّئ المكان، وظهر على المنصّة مقرّر الشعر، وبجانبه امرأة في الأربعين، فجلسنا وجلس صديقي وزوجته، ولم يكن عدد الحاضرين يتجاوز العشرة.

بدأ مقرر الشعر: موعدنا هذا المساء مع شاعرة مميزة، بدأت متأخرة في قول الشعر، وأصدرت مجموعتين من أرقّ الشعر وأعذبه. تذكرت تلك الشاعرة، اسمها نبيلة، لقيتها في أمسية شعرية. عرفتني إلى نفسها. جامعية تشدو الشعر وتكتبه، وقدّمت إليّ مخطوطة تحتوي محاولات شعريّة كما قالت، ورجتني أن أقرأها، وأقول رأيي فيها بصراحة، وهل يمكن أن تكون شاعرة يوماً.

رأيت فيها قصائد تتفوق على كثير مما يلقى من شعر في الأمسيات الكئيبة، وعلى ما تتكفّن به الملاحق الثقافية تحت ما يسمى قصيدة نثر. أعلمتها بذلك عندما اتصلت بي، في اليوم التالي، وعرضت أن أساعدها على نشر قصائدها في صحيفة القافية التي أكتب فيها. نشرت القصيدة الأولى. فوجئت بأنّها ترجوني وهي تكلمني بالهاتف النقال ألاّ أقدّم القصائد الأخرى للنشر، لأنّ خطيبها ـ كما قالت ـ لا يرغب في أن يرى اسمها في أيّ صحيفة أو مجلة، وهدَّدها بفك الخطوبة. لا يريد أن تكتب الشعر إلاّ له.

تخيّلت، وأنا استمع إلى ما تقرؤه هذه المرأة بأنّي أمام مراهقة في يدها وردة، تردد وهي تنزع أوراقها ورقة ورقة: يحبّني لا يحبني، وتذكرت هدى شعراوي وقاسم أمين، وحزنت لجهودهما في تحرير المرأة. أما نبيلة فأجزم بأنها ربة شعرية قتلتها الذكورة. الحمد لله ما إن بدأت شاعرتنا بقصيدتها الثانية حتّى أطل راعي الافتتاح محاطاً بموظفين من الوزارة. انتفض الحاضرون واقفين، ووقف تدفق القصيدة بين شفتي الشاعرة.

في أثناء جولته في المعرض سحبني سكرتير المنتدى جانباً، وأخبرني بانفعال أنّ رئيس المنتدى طلب منّي أن أزفّ إليك الفوز بجائزة النقد، وأعلمني أنَّ هذا الأمر لم يعلن رسميّاً بعد، وشرح أنّي حصلت على صوتين بينما حصل الناقدان: غسان جابر، وناقد آخر على صوت لكلّ منهما، وبذلك تكون أنت الفائز لأنّ المحكم الخامس امتنع عن التصويت، ثم فتح خزانة بالجدار، أخرج منها صورة عن تقويم أبرز أعضاء لجنة التحكيم، ناولها إليّ، وهو يقول:

ـ أخيراً اعترفوا بك ناقداً.

دمعت عيناي. هذه أول مرة أسمع رأياً محايداً في نتاجي النقدي، وتأثرت وأنا أقرأ: "لقد نجح فؤاد توفيق في مقاربة الخطاب الأدبي بعيداً عن الأحكام المسبقة، والتطبيق الأعمى للنظريات الغربيّة".

لم أجد رواء بالبيت، قرأت ورقة أمام المرآة في غرفة النوم: "أنا في السوق.. حبيبتك". الجائزة تعمل في عقلي، أحتاج إلى رواء لتحمل عنّي بعض انفعالاتي المتلاحقة. لحقت بها، تمنّيت أن تقابلني في الطريق، لمحتها في محل بيع للصحف والكتب، لمست يدها. كانت تدفع للصبيّ ثمن الصحيفة، جفلت بذعر، ثم التقت عينانا. ابتسمت:

ـ اشتريت جريدتك.
همست، ونحن نبتعد نحو الباب:
ـ أنت لا الجريدة.
ـ نحن في السوق.
خطفت من يدها كيس النايلون المنتفخ:
ـ ماذا فيه؟
ـ كالعادة، خضراوات وفاكهة.

الطريق تتدفق بالمارّة. كانت تتقدمني أحياناً، اكتسح جسمها بنظراتي، تدب اللذة في أوصالي: متى تكون في البيت، وتكون بين يدي! اتسعت الطريق. سرت بجانبها. أمسكت بيدها:

ـ عندي خبر مثل عينيك.
هزّت يدي:
ـ أرجوك.
ـ في البيت.
ـ لا أقدر على الصبر. لا تلعب بأعصابي.
ـ ربحت جائزة النقد.
صمتت ثم صاحت:
ـ أنت تستحق كلّ الجوائز، يا حبيبي!

اقتربت منّي شعرت بأنفاسها، اصطدمت شفتاها بشفتي بخفّة وعلى حياء، زادت عندي قيمة الجائزة، ولم أهتمّ بقول عجوز:

ـ قلّة أدب. نسوان لا تستحي.
صادفنا طفل خرج فجأة من أحد البيوت. كان حافي القدمين، عاري العجيزة صاحت بإعجاب:
ـ ما أحلاه!
جرى الطفل نحوها، وهو يفتح يده، ناولته بعض النقود. قلت:
ـ الحنين إلى الطفولة!
وقفت صامتة يدها على بطنها، ووقفت أنظر إليها بقلق، لكنّها واصلت السير. سألت لتبعدني عن حالتها:
ـ ومتى أعلن عن الجائزة؟
حدّثتها عمّا أعلمني به سكرتير المنتدى، وأريتها ما كتبه عضو لجنة التحكيم وقلت:
ـ الأمر المؤكّد أنّي حصلت على الجائزة، وحتّى لو اختير عضو آخر مكان العضو الذي امتنع عن التصويت، فأنا سأحصل على الجائزة مع ذلك الناقد العربي الكبير. وهذا اعتراف كبير بأهميّتي كناقد.
ـ أنت ناقد كبير رغم أنوفهم..
فرحت لاستخدامها تعبير رغم أنوفهم، وحدّقت بوجهها بافتنان، وقلت برغبة:
ـ أما أستحقّ عن الجائزة جائزة أخرى؟
ضحكت.
ـ في البيت.

في البيت، لا أدري كيف، أو لماذا خطر ببالي أن أشاهد التلفزيون، ربما حظي السيئ، أو أنّه خطئي في رسم جو الرغبة. في أسفل شاشة القناة التي ابتليت باختيارها خبر عاجل عن قوات الاحتلال الإسرائيلي، وهي تقتحم أرض السلطة الفلسطينيّة، وتطوق سجن أريحا، وتدعو جميع السجناء وحراسهم إلى الاستسلام، وظهرت الجرافات، وهي تهدم السجن.

تسمرنا أمام التلفزيون تتلاحق أنفاسنا. ماذا يجري؟ كيف ستنتهي هذه المأساة؟ أيدفن الناس تحت الأنقاض؟ أيتحرك العالم لوقف الموت الذي يتقدم نحو ثلاثمائة رجل ما بين سجين ضعيف، وشرطيّ عاجز. هناك نداءات واستغاثات من داخل السجن، لكن لا أحد يسمعها غير القنوات الإخبارية. من يقف وراء الحادث؟ أمريكا وبريطانيا اللتان تخلّتا فجأة عن حماية السجن، وداستا اتفاقهما مع السلطة؟ أم أنها السلطة نفسها تخلت عن أبناء جلدتها؟ أم هي قوات الاحتلال التي تسرح وتمرح، وتتعامل مع الشعب الفلسطيني كأنه في حظيرة. هذه الأفكار نخرت عقلي، فلم تعد لي شهوة في الحياة، أما رواء فلم تكتم مشاعرها، فتجسّدت في صرخات وتأوهات:

ـ حسبي الله ونعم الوكيل على أمريكا وبريطانيا وإسرائيل! من يصدق أمريكا بعد ما حدث! دائماً "الطس" على الشعب الفلسطيني.

انتهت العملية بخروج الجميع رافعي الأيدي والقمصان، ثمّ حمّلوا في ناقلات مغلقة، ليتوزعوا على السجون الإسرائيليّة. اقتحم بهجتنا ما حدث، وتركني مشتت الخيال، وتراءت أمام عيني المجازر التي واجهت أجدادي. شعرت كأني على حدّ الموت. أحسّت رواء بحالتي. احتضنتني بين ذراعيها كطفل أفزعته الأشباح.

ظلام. ليس سوى الظلام. فجأة تنبثق تظاهرة. هذا هو الدكتور المتعوس يتقدم أسرته الصغيرة، وهو يرفع لافتة كتب عليها:" لا يا وزارة العلم والمعرفة"، ومن خلفه تظهر طفلته بضفيرتيها المجدولتين، وتحمل مسطرة خشبيّة ألصقت بها ورقة، ربما قدّتها من دفترها ذي الاثنتين والثلاثين ورقة، كتبت عليها: "والله بابا مظلوووووم". وتبعتها أمها حاملة لوحا خشبياً مكتوب عليه:" النوع لا الكم يا وزارة العلم والمعرفة". ثم تظهر رواء. أجل رواء. ترتدي قميصاً أبيض نقش عليه:"أنصفوا فؤاد توفيق".

الجميع يسيرون بهدوء في وسط الشارع. تحيط بهم كتيبة من قوات حفظ الأمن ومكافحة الشغب. وفجأة، يتجمهر الناس، ثمّ يحملون رجلاً فوق الأكتاف، وتنطلق الهتافات:

ـ العدالة يا حكومة!
ـ الحرية للسجناء!
ـ الموت ليوشع!
ـ اتركوا مدينة القمر!

ثم ينطلق الرصاص، وتتفجّر القنابل المسيلة للدموع، وتبدأ سيّارات الإسعاف تدوّي في المكان. أيقظتني رواء وأنا أصرخ:

ـ العدالة.. العدالة..
قالت:
ـ أخفتني.. أيّ عدالة تحلم بها؟
ـ حتّى في النوم يلاحقني ما يجري.
ـ العدالة غائبة عن كل مكان.
أشرت إلى حضنها، وقلت:
ـ إلاّ هنا.
 تدلّهت:
ـ ما أقواك!

(8)

ـ ستعودين فراشة.
ـ صحيح؟! وأنت يا زوج الفراشة؟
ـ أنا الديك. أنا الديك.

اتجهنا إلى الشارع الرئيس. نسائم مبتلّة بالغبار تحتك بوجهينا. كنت أفكّر: هل من الضرورة أن أتسلم الجائزة؟ نعم، يجب أن أتسلمها بعد هذا التعب. محاكمة وصحافة وإشاعات. لم أنتبه إلاّ وحنين تجرّني إليها، وهي تصرخ:

ـ السيارة! السيارة!

تكوّمنا على الرصيف. اجتمع الناس، راح بعضهم يلعن الشباب الطائش، وطلب أحدهم أن نشتكي، وتحسّر آخر أنه لم يعرف رقم السيارة، كانت مثل الريح. ما الذي جرى؟ مددت يدي لحنين، نهضت تنفض ملابسها، وتسوّي شعرها. أصيبت بخدوش في راحتيها، وتغبّرت ملابسها، أما أنا فلم أنل غير قليل من الرضوض. أخبرتني أن سيارة زرقاء انحرفت نحونا كأنّها تتعمّد أن تدهسني، ثم انفجرت بغضب:

ـ ماذا يحدث في هذا البلد؟ أيّ جريمة اقترفتها حتّى يحاولوا قتلك؟! هل مطالبتك بجائزة جريمة؟

تلبّسني اليأس كعادته في مثل هذه الأحوال قلت:

ـ تعالي نرجع إلى البيت، وننس الجائزة والاحتفال.
ـ أرجوك لا تفكّر في هذا، إنّهم يريدون أن يصلوا بك إلى التخلًي عن حقك.
ـ كأنّي أمام رواء الآن.

أخيراّ كنا هناك.

هل بدأ الاحتفال لعلّه لم يبدأ بعد متى ينتهي الحفل وأعود إلى المستشفى أقدّم نفسي إلى حارس البوابة أنا الناقد الذي كرّمه منتدى الأدب ومنحه جائزته ألم تشاهدني في التلفزيون أريد أن أرى زوجتي لم أعد أيّها الحارس أنتظر رواية فلم يستطع الطب أن ينقذها والجائزة لا أريدها الآن أكتفي بأن تبقى لي رواء لماذا يتسلل الموت بهدوء إلى كل شيء لماذا تسلل إلى رواية وانتزعها من بطن أمّها لا أستطع البكاء الذين يبكون يحرقون آلامهم في دموعهم أنا محرقتي قلبي كم أحس الآن بالوحدة هل يعلم هؤلاء الناس بما أحسّ على الرغم من شقيقتي حنين التي تطوعت للمجيء معي لماذا يدمرني الحزن كلّ ما رأيته كتلة من لحم كانت ملتفة بقطعة قماش بيضاء ناولتني إياها الممرضة وهي عابسة، ثمّ ابتعدت وأنا أسمعها تغني دلعني يا ولد أضحك لتسمعني حنين وليسمعني من حولي هناك أو هنا يمتزج الألم و الفرح تمتزج الحياة والموت قلت لها لا أرغب في الذهاب من دونك لا أحب أن أرى الفرح أو أناله وحدي قالت حنين أنا أذهب معك أريد أن أتعرف إلى المثقفين وحياتهم هل حقاً يصنعون الوجدان أي وجدان أين رواء المرأة التي رأيتها أمام جمعية إرم لقد تخلّت عنّي أنا ليس لي غير رواء واحدة زوجتي التي تنتظرني في المستشفى العام القاعة غابة من البشر وجوه النساء تعلوها حمرة خفيفة حفلة على شرفي أنا الذي نلت الجائزة رواية نالت الموت الحمد لله رواء نهضت كالعنقاء اليوم أو بعده نلتقي في البيت.

وكزتني حنين. تذمّرت. عنّفتني:
ـ إنّهم يحيّونك. لم لا تردّ عليهم؟

لماذا لا أصحو؟ إذا استمرت حالتي من الأفضل أن أخرج. ناولتني حنين منديلاً منعشاً. لا بدّ أن أستيقظ. عليّ أن أتعايش مع ما أرى. هنا احتفال. هنا جائزة. انتبهت لحنين، وهي تقول الرجل يناديك. نظرت إلى حيث أشارت، كان المحامي عثمان مطلق، تعانقنا:

ـ أشكرك على هذه النتيجة!
ـ حظك قوي.
ـ لماذا لا نقول: الحق قويّ وجهدك الذي أوصلني إليه؟
ـ لا قوة للحق هنا، بل القوة تصنع الحق.

مضى يشرح لي كيف أنّ المنتدى على خلاف مع الحكومة، والمحكمة كما هو معروف تقف دائماً إلى جانب الحكومة التي أنشأتها، ولهذا كان القرار لصالحك ليتناسب ورؤية الحكومة للمنتدى في هذه الظروف. لم أستطيع أن أوضح له، ربما لعدم قناعتي بما فكّرت فيه أنّ قضيتي ليست سياسيّة، ولا أرغب في تسييسها، وأنا لست لاعباً سياسياً بل لاعباً لغوياً، ارتفع صوت عريف الحفل يدعو الجميع إلى الجلوس في أماكنهم.

غصّت القاعة بالحاضرين، اللون الكحلي هو السائد على بذلات الرجال وملابس النساء، وانتشرت روائح العطور ممزوجة بعرق الأجساد، وعبقة بالرموز والأسرار. عرفت شقيقتي حنين إلى الأدباء والنقاد، لم أقل لها أنّي رأيت ذلك الكاتب في بيت شعر، وذاك يحكّ جلد مسؤول كبير وفق نظرية الحك، وأنّ ذلك الكاتب يجمع بين النشر والكتابة، فلم ينجح لا كاتباً ولا ناشراً، ولكنه نجح في شراء شهادة دكتوراه من أمريكا، وينتظر الظفر بجائزة الحكومة التقديرية بعد حصوله على التشجيعيّة، ولم أخبرها عن ذلك الناقد صاحب المقال الوحيد الذي يكيّفه حسب المقام، أو ذلك الملقب بالبلدوزر، الذي يتعامل مع النصّ على ضوء نظريّة سلق البيض.

استوى على المنصّة رئيس المنتدى وبجانبه مسؤول ثقافيّ كبير. قال عريف الحفل:

ـ نحتفي اليوم بعرس من أعراس منتدى الأدب.

كان عرسنا أنا ورواء نحيلاً. دقت أختها الكبيرة دقات متناغمة على طاولة قصيرة، ورقصت أمّي وهي مشمّرة ثوبها عن سروال أسود، وشاركت بالغناء نسوان الجيران والأطفال، ونثرت فوق الرؤوس قطع الشوكولاتة.

في كلمة مسؤول الثقافة تحدث عن الديمقراطيّة، وذكريات والده عندما كان أميناً عاماً لحزب الانبثاق، وعن مشاهداته في لندن، وأخفى أنّه كان يتردد على تلك المدينة في أثناء إعداده الدكتوراه وهو على رأس عمله، وطالب المنتدى بالنزاهة، وأثنى على منجزاتي النقديّة:" يحق لبلدنا أن يفتخر بما لديه من نقاد ومفكرين، مثل الناقد فؤاد توفيق الذي نكرّمه اليوم".

وقف رئيس المنتدى أمام الميكروفون، وصوب نظراته نحوي. انتبهت لقوله: إنّ المنتدى كان له موقف من جائزة النقد، هذا الموقف نابع من تقديرنا لجهود الناقد العربي الكبير غسان جابر، فأيّ ناقد من نقادنا لم يصل إلى قامته، ولكن المنتدى ينحني أمام محكمة الحكومة بمنح الجائزة إلى الناقد فؤاد توفيق، ونعده أنّا سنعيد النظر في هذه الجائزة وشروطها.

لا شكّ في أنّ رواء في المستشفى لم تسمع كلام رئيس المنتدى. ما زلت لا أستحقّ الجائزة، وعليّ أن أعتذر للناقد العربيّ الكبير كما فعل الرئيس. لا يحقّ لي منافسة ناقد مثله، إنّه ديناصور أو سمك القرش يبتلعني.

تسّرب إلى نفسي صمت القاعة، ووجوم الوجوه، وتكثّف في قلبي الاستياء والهمّ، لو أنّ رواء بجانبي لانحنيت على صدرها. لا يهمّني الناس. إشعاع جسدها يهدئ أعصابي، ويجفف توتر روحي. لمسة من يدها تساوي جائزة نوبل وجوائز الحكومة التشجيعيّة والتقديريّة وجوائز المنتدى. ما الجائزة إذا لم تتكلل بحبّ رواء وحنانها؟!

الآن كلمة المحتفى به الناقد فؤاد توفيق.

علا التصفيق، ثم ساد الصمت. تفقدت الوجوه، لم أرَ رواء ورأيت شقيقتي ترنو إليّ بإشفاق. أسرعت تجفف العرق عن جبيني. علا التصفيق مرّة أخرى. ترسّخت قدماي بالأرض. ازدادت قوّتي:

ـ أيّتها السيدات وأيها السادة

تحدث السيّد مسؤول الثقافة عن إنجازات والده، ورئيس المنتدى عن الإشكالات التي سببها فوزي بجائزة النقد. اسمحوا لي التحدّث عن همّ خاص عن زوجتي رواء التي ترقد الآن في المستشفى العام. كنّا ننتظر مجيء ابنتنا رواية. أجل، رواية اسمها الذي كان سيلازمها في الحياة، لكنّها لم تشأ أن تأتي، ربما أحسّت بما في الخارج من ظلم، كهذا الذي يعانيه والدها. ماتت رواية في أثناء محاولة الأطباء إخراجها بالقوة لتحيي حسرة في قلبي، وقلب أمّها. ماذا يهمّنا من الجائزة التي نلتقي من أجلها اليوم.

لم أكن أرغب في المجيء هنا دون زوجتي، لأنّها كانت تردّد: كم أحبّ أن أكون بجانبك! لكنّها بعدما استيقظت من رحلتها المؤلمة أدركت أنّها لا تقدر أن تكون معي، فرجتني أن أجيء وحدي، لأنّ الوصول إلى هنا جائزة بحدّ ذاته، إنّه جائزتها، فهي الوحيدة التي عرفت قيمة ما أكتب، لهذا كانت مرشّحتي الأولى، وعندما حدث الإرباك والتردد في منحي الجائزة دعتني إلى التظلّم: كلّ ما تكتب على المحكّ. إنك تدعو إلى رفض الظلم وعدم الإذعان له. الآن عليك أن تنتقل من مرحلة القول إلى الفعل. هكذا بدأت القضية، فكان هناك محام، وقضاة، وقرار، وإشاعات، وأقوال لا تنتهي.

إنّ نظرة إلى جائزة المنتدى في الماضي تثير أسئلة حول كثير ممن نالوها: لماذا نالها فلان، وهو في الهيئة الإدارية، ولم ينل أي جائزة وهو خارجها؟ لماذا نالت فلانة الجائزة عندما تبرعت للمنتدى بقيمتها الماليّة؟ لماذا يركض بعض أعضاء الهيئة الإدارية وراء كاتب لترشيح نفسه للجائزة؟ إنّ الظروف، التي تحيط بالجائزة كل عام تجعلنا نأسى على واقعنا الثقافي، الذي تتحكم فيه قيم السوق والعشيرة.

اسمحوا لي الآن بعد أن حكم القضاء بحقّي في جائزة النقد أن أعلن رفضي لهذه الجائزة. لم يعد لها قيمة عندي، وفي قبولها إساءة لتاريخي النقديّ، أمّا زوجتي فأرى فرحها بهذا الموقف لأنّه هو الجائزة بعينها.

اغفروا لي ما تحمّلتم من مشقّة في هذا الاحتفال، أمّا أنت أيّها الرئيس فلك أن تمنح الجائزة من تشاء إنّها ليست جائزتي، جائزتي هي رؤية زوجتي، وهي تنتظرني بباب المستشفى العام لنعود إلى بيتنا.

سرى الضجيج في نهاية القاعة، تأوّهت سيدة في المقعد الأمامي:

ـ سلامة زوجتك!

أسرعت إلى القول:

ـ أكرّر شكري للحاضرين، وأكرّر اعتذاري عن أيّ ضرر ألحقته بغيري.

وقف الجميع في القاعة، واشتدّ التصفيق. علا صوت رئيس المنتدى يدعو إلى الهدوء، والاستماع إلى ردّ المسؤول الثقافي على كلمة فؤاد توفيق، لكن الجميع اندفعوا نحو المنصّة، ودبّت الفوضى، ثمّ انطلقت الهتافات:

ـ الديمقراطيّة هي العدالة!
ـ نريد جوائز دون محكمة.
ـ عيب يا منتدى الأدب!
وصرخ شاعر:
ـ اتركونا نواجه الحياة يا سادة!
وأنا أنسلّ مع شقيقتي من بين الناس، سمعت كلاما بين سيدتين:
ـ هل يوجد رجل يحبّ زوجته؟
تجيبها الأخرى:
ـ لا، لو كانت أفروديت..
أوقفني المحامي بالباب، صافحني بحرارة، قلت له إنّ أتعابه محفوظة، أجابني وهو يبتسم:
ـ أتعابي حصلت عليها برفضك الجائزة.

في المستشفى العام لم تكن حنين تنتظرني بباب قسم الولادة كما قالت، ولم يسمح لي الحارس بالدخول، ولم يهتمّ بالمعلومات التي ذكرتها عن نفسي، ربّما لم يفهم منها شيئاً: نقد وثقافة. رحت أمشي ذهاباً وإياباً أمام القسم. لمحت في الطريق المنحدر إلى قسم العظام الدكتور المتعوس. لم أرغب في أن أحدّثه عمًّا جرى في احتفال المنتدى. كان يضمّ يده إلى صدره. قال إنها انكسرت عندما سقط، وهو يقلّم الدالية التي أمام البيت "المتعوس متعوس ولو علقوا في رقبته فانوس".

سألته عن شهادته.

ـ ما يجري هنا يخالف المنطق بدءاً من منطق أرسطو حتى منطق برتراند رسل: يعترفون بالجامعة ولا يعادلون شهادتها، يحضّون على التميّز ويهتمون بنظام الدراسة. ذكّرتني..

ـ ذكّرتك؟
ـ هنالك قصة كتبتها زوجتي. صارت تكتب القصص من شدة إحساسها بمعاناة زوجها.

ومدّ يده السليمة إلى جيبه، وأخرج ورقة مثنيّة بإحكام، وطلب أن أقرأها. هذا وقت القصص. ما يجري أبلغ من كلّ شئ. تناولتها.

ـ حجاب أم قصة؟
ابتسم.
ـ أرجوك اقرأها، وقل رأيك... ولكن هاتها.
وسحبها من يدي وراح يقرأ:
حُلُم

أخبره المركز القومي لحقوق العباد أنّه لا حول ولا قوة إلاّ بالله. انتهى الأمر. أكّدت الوزارة رفضها معادلة شهادته. لماذا كان المركز إذا لم ينصفه؟! ما زال يحسّ بالظلم، شهادته لم ينل مثلها الوزير نفسه..

أعياه التعب، جلس على سور المركز، جالت عيناه في حديقته الغناء. لم يقو على النهوض. حلم أنه يأخذ أوراقه إلى رجل مهم. سحبه الرجل المهم إلى الوزارة. قابلا أمينها العام بالباب. خاض المهم مع الأمين معركة خفيفة من التقبيل والعناق، ثمّ قدّم إليه الأوراق. كتب الأمين على الورقة الأولى: لا مانع من تجاوز شرط الانتظام. وطلب إليهما الجلوس لاحتساء القهوة. رفض المهم الدعوة حتى يطمئن على إتمام المعاملة بسلام.

لا يعلم متى صحا من حلمه. كانت الأوراق لما تزل في حضنه. تركها تتطاير في الحديقة الغناء، ونهض بقوة".

ـ رائعة. التقطت مأساتك بإحساس إنساني راق.
ـ هذي مهمة الفنان كما أرى.
ـ نعم. وكذلك التعبير عن أحلام الناس.
ـ لولا الحلم لنموت.. هل حقاً رائعة كما قلت؟
ـ زوجتك قاصّة ناجحة، كما يبدو.
ـ سأنقل إليها رأيك.
ـ قل لها أيضاً إني سأساعدها على نشرها إذا شاءت.

بعد ذهابه، تسمّرت بالبوّابة. حان موعد الزيارة، فاندفعتُ مع الزائرين إلى عنابر الوالدات، أمام غرفة رواء زادت خفقات قلبي، وشعرت بارتعاشة في قدمي اليمنى، لماذا اليمنى؟ لا أدري، لا بدّ من رؤية طبيب قلب أو أعصاب. كانت مستلقية على السرير، وجهها مشرق وعيناها ملتمعتان، انحنيت أقبّلها. قالت، وهي تبكي:

ـ كانت رواية، يا فؤاد!
قلت بنشيج:
ـ لا تبك، أرجوك! المهم أنت بخير!
ـ العملية تؤلمني!
ـ أنا لا أنت!
ابتسمت. سألتها:
ـ متى تخرجين؟
ـ اليوم بعد أن يأتي الطبيب.
ـ ستعودين فراشة.
ـ صحيح؟! وأنت يا زوج الفراشة؟
ـ أنا الديك. أنا الديك.

للمؤلف:
ـ الكنزة الخضراء، (قصّة) عمّان: المؤلف، 1971.
ـ عبد الله بن الزبير في بيروت، (شعر) عمان: مؤسسة جمعة، 1986.
ـ أصوات في المخيم ـ النشور، (رواية) ج1، اربد: قدسية للنشر والتوزيع، 1991.
ـ واقع مكتبات كليات المجتمع (دراسة مسحيّة)، عدد خاص، مجلة رسالة المكتبة(جمعيّة المكتبات الأردنيّة) م6، ع4 (كانون أول 1991).
ـ أصوات في المخيم ـ الحشر، (رواية) ج2 ـ عمّان: دار الينابيع، 1993.‏‏
ـ التوقيع، (قصص قصيرة) عمّان: المؤلف، 1994.
ـ شارع الثلاثين، (رواية) عمّان: بدعم من وزارة الثقافة، 1994.
ـ كراسات السينما والفن: دراسة وتكشيف، عمّان، النادي السينمائي، 1995.
ـ دليل المكتبيّين في الأردن، عمّان: جمعية المكتبات الأردنيّة، 1996.
ـ البنية الروائية في رواية الأخدود (مدن الملح) لعبد الرحمن منيف، (دراسة، وهي رسالة ماجستير) ط 2 عمّان: مكتبة المجتمع العربي، 2008.
ـ الغياب، (رواية) بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 1999.
ـ معالم في اللغة العربيّة، ط 3، عمّان: مكتبة المجتمع العربي، 2006.
ـ الخطاب الروائيّ في الأردن، (نقد) بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر،2000.
ـ مقدّمة في الكتابة العربيّة، ط2 عمّان: مكتبة المجتمع العربي، 2006.
ـ آفاق نقديّة (دراسات في الرواية والقصّة القصيرة والشعر وأدب الأطفال)، عمّان: بدعم من وزارة الثقافة، 2002.
ـ خطوات، (قصص قصيرة) عمّان: بدعم من أمانة عمان الكبرى، 2003.
ـ جماليات القصة القصيرة (قراءات نقدية)، عمان: مكتبة المجتمع العربي، 2005.
ـ تجليات التجربة (أبحاث وقراءات في الأدب والنقد)، عمان: مكتبة المجتمع العربي، 2005.
ـ البنية الزمنية في روايات غالب هلسا من النظرية إلى التطبيق، عمان وزارة الثقافة، 2006
ـ عبد الله رضوان: الذات والآخر ( تقديم وإعداد ومشاركة) عمان: دار اليازوري، 2008
ـ الكشاف التراكمي لمجلة تايكي، عمان: أمانة عمان الكبرى، 2006
ـ في البيت المهجور، (قصص للأطفال)، عمان: فضاءات، 2006.
ـ أبحاث في مدونات روائية (نقد روائي) عمان: أمانة عمان الكبرى، 2007.